قال المصنّـف ـ رفع الله في الجنّـة مقامه ـ(1):
ونسـبوا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً من النقص..
روى الحميدي في " الجمع بين الصحيحين " عن عائشة، قالت:
كنت ألعب بالبنات عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت لي صواحب يلعبن معي، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل تقمّعن(2) منه، فيشير إليهنّ فيلعبن معـي(3).
وفي حديث الحميدي أيضاً: كنت ألعب بالبنات في بيته ـ وهي اللُـعَب ـ(4).
مع أنّهم رووا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في صحاح الأحاديث أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صور مجسّمة أو تماثيل، وتواتر النقل عنه بإنكار عمل الصور والتماثيل(5)..
____________
(1) نهج الحقّ: 147.
(2) أي: تَـغَـيَّـبْـنَ ودخلن في بيت أو من وراء سِتر ; انظر: لسان العرب 11 / 304 مادّة " قمع ".
(3) الجمع بين الصحيحين 4 / 113 ح 3225، وانظر: صحيح البخاري 8 / 56 ح 154، صحيح مسلم 7 / 135، سنن أبي داود 4 / 284 ح 4931، سنن ابن ماجة 1 / 637 ح 1982، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 305 ح 8946.
(4) الجمع بين الصحيحين 4 / 113 ح 3225، وانظر: صحيح مسلم 7 / 135، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 306 ح 8948.
(5) انظر: صحيح البخاري 4 / 235 ح 34 ـ 37 و ص 263 ح 126 و ج 7 / 307 ح 160 و ص 309 ح 167 و 168 و ص 310 ح 171، صحيح مسلم 6 / 156 ـ 162، سنن أبي داود 4 / 71 ـ 73 ح 4152 ـ 4158، سنن الترمذي 4 / 202 ـ 203 ح 1749 ـ 1751 و ج 5 / 106 ح 2804 ـ 2806، سنن ابن ماجة 2 / 1203 ـ 1204 ح 3649 ـ 3653، سنن النسائي 1 / 141 و ج 7 / 185 و ج 8 / 212، مسند أحمد 4 / 28 و 29.
ولمّا رأى النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصور في الكعبة لم يدخلها حتّى محيت(1)، مع أنّ الكعبة بيت الله تعالى، فإذا امتنع من دخوله مع شرفه وعلوّ مرتبته، فكيف يتّخذ في بيته ـ وهو أدون من الكعبة ـ صوراً، ويجعله محلاًّ له؟!
____________
(1) انظر: صحيح البخاري 4 / 278 ح 154، سنن أبي داود 4 / 72 ح 4156، مسند أحمد 1 / 365.
وقال الفضـل(1):
قد صـحّ أنّ عائشة كانت تلعب باللُـعَب، وكان هذا لكونها صغيرة غير مكلّفة.. فقد صحّ أنّه دخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي بنت تسع سنين، وهذه اللُعَب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان، بل كانت على صورة الفرس، لِما روي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى عند عائشة أفراساً لها أجنحة.. فقال: الفرس يكون له جناحان؟! قالت عائشة: أما سمعت أنّ خيل سـليمان كانت لها أجنحة؟! فتبسّـم رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).
وهيئة الفرس لا تسمّى صورة ; لأنّ الأطفال لا يقدرون على تصوير الصورة، وإنّما يكون مشابهاً للصورة، ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل، بل هذا في الإنسان، وقيل: في ما عُبد من الحيوانات والملائكة والإنسان.
وأيضاً: يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصور، فإنّ تحريم الصور كان عام الفتح على ما ثبت(3)، ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة(4).
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 235.
(2) انظر: سنن أبي داود 4 / 284 ـ 285 ح 4932، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 306 ح 8950.
(3) لم نجد لادّعائه هذا ما يثبته، بل الثابت خلاف ذلك، فإنّ تحريم التماثيل جاء في الآية 52 من سورة الأنبياء، وهي سورة مكّـيّة بلا خلاف ; انظر مثلا: الإتقان في علوم القرآن 1 / 45.
(4) بل صريح الرواية السابقة المخرّجة عن سنن أبي داود والسنن الكبرى للنسائي ورواية البغوي في " مصابيح السُـنّة " الآتية بعد صفحتين أنّ لَعب عائشة باللُّعب كان بعد إحدى غزوات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبوك أو خيبر أو حنين ; وسـيأتي ما يخصّ هذا المطلب في ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره)، فراجـع!
وليس أخبار الصحاح السـتّة مثل أخبار الروافض، فقد وقع إجماع الأئمّـة على صحّـتها.
وأقـول:
من الغريب استدلاله على صغرها وعدم تكليفها حين اللعب بدخول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهـا وهي بنت تسع، فإنّ بناءه بها وهي بهذا السنّ ـ كما يزعمون(1) ـ لا يقتضي أن يكون لعبها في أوّل زمن الدخول، بل أخبارهم تدلّ على لعبها في أواخر أيّام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
ففي مصابيـح البغوي من الحسـان، في باب عِشْـرة النسـاء، من كتاب النكاح، عن عائشة، قالت: " قَدِمَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك أو حُنين، وفي بَـهْـوَتها(2) سـتر، فهبّت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب بها.
فقال: ما هذه يا عائشة؟!
قالت: بناتي.
____________
(1) رُبّ مشـهور لا أصـل له، ومن ذلك القول بأنّ سـنّ عائشة عند زواجها من رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تسع سنين ; إذ إنّها تصغر أُختها أسماء بعشر سنين ـ كما في: البداية والنهاية 8 / 276 ـ، وقد كانت ولادة أُختها أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة ـ كما في: معرفة الصحابة لأبي نعيم 6 / 3253 رقم 3769، وأُسد الغابة 6 / 9 رقم 6698، والإصابة 7 / 488 رقم 10798 ـ، فتكون ولادة عائشة قبل الهجرة بسـبعة عشرة سنة، وهذا عمرها عنـد زواجها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ; فلاحـظ!
(2) الـبَـهْـوُ: البيت المقـدَّم أمام البيوت ; انظر: لسان العرب 1 / 528 مادّة " بها ".
وفي المصدر: " سهوتها " وفي نسخة منه كما في المتن، والسَهْوَة: حائـط صغير يُبنى بين حائطَي البيت ويُجعل السقف على الجميع، فما كان وسَط البيت فهو سَهْوة، وما كان داخله فهو المُخْدَع، وقيل: هي صُفّة بين بيتين، وقيل غير ذلك ; انظر: لسان العرب 6 / 415 مادّة " سها".
قالت: فرس.
قال: وما هذا الذي عليه؟!
قالت: جناحان.
قال: الفرس يكون له جناحان؟!
قالت: أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة؟!
قالت: فضحك حتّى رأيت نواجذه "(1)..
فإنّها صريحة في لعبها بعد إحدى الغزاتين، وهما كانتا بعد فتح مكّة، ومنه يُعلم ما في قوله أخيراً: " ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة ".
ولو سُلّم أنّ لعبها كان في أوّل بناء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بها، وأنّها بنت تسـع، فبنت التسع التي تصلح للتزويج ولأحكامه مكلّفة على الأحقّ.
ولو سُلّم أنّها غير مكلّفة، فإشكال المصنّف (رحمه الله) ليس في لعبها حتّى يجاب بأنّها غير مكلّفة، بل في إبقاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصور في بيته وهو محلّ هبوط الملائكة التي لا تدخل بيتاً فيه صور، وفي عدم إنكاره على عمل الصور، وقد تواتر عنه النهي عنه.
وأمّا قوله: " وهذه اللعب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان "..
فمناف لِما تضافرت به أخبارهم من لعبها بالبنات، التي هي عبارة
____________
(1) مصابيح السُـنّة 2 / 452 ح 2442، وقد تقـدّم تخريجه في الصفحة 66 هـ 2 عن أبي داود والنسائي.
وأمّا قوله: " وهيئة الفرس لا تسمّى صورة ; لأنّ الأطفال... " إلى آخـره..
ففيه: إنّ الصورة هي: الشكل، كما في القاموس(1)، فتكون الهيئة منها، وتعليله لا وجه له ; لأنّ عائشة لم تكن صغيرة حين اللعب بالأفراس، بل كانت بنت سبع عشرة تقريباً على رأيهم، لِما سبق من تصريح رواية البغوي بلعبها بها بعد إحدى الغزاتين.
ولو سُلّم أنّها كانت ـ حينئذ ـ صغيرة، فمن الإزراء بحقّها أن ينسب إليها العجز عن تصوير الصورة ; لِما زعموا أنّها في غاية الذكاء، ومن تقدر في كبرها على قيادة الحرب العظيمة لا تعجز في صغرها عن تصوير الصـورة!!
ولو سُـلّم عجزها، فهو لا يقتـضي عدم كمال هيئـة الفرس، بحيـث لا تسمّى صورة ; لجواز أن يكون غيرها قد صنعها لها.
ولا تخفى ظرافة تسميته لها طفلا وقد تزوّجت وبلغت سـنّ النساء!
وأمّا قوله: " ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل "..
فباطل ; لإطلاق أخبارهم المستفيضة(2) في حرمة تصوير ذوات
____________
(1) القاموس المحيط 2 / 75 مادّة " صور ".
(2) وعدم وجود ما يصلح أن يكون مخصِّصاً أو مقـيِّداً لتلك الأخبار، سوى ما ورد في رواية أبي طلحة ـ المروية في صحاحهم، وقد تقـدّم تخريجها في الصفحة 64 هـ 5 ـ من اسـتثناء الـرَّقْم، وهي لا تصلح لتخصيص أو تقيـيد محلّ البحـث والنـزاع!
والرَّقْمُ هو الصورة والرسم على الثوب والستر، ورَقَمَ الثوبَ رَقْماً: وَشّاهُ وخَـطَّـطَـهُ وعَـلَّـمَـهُ ; انظر: تاج العروس 16 / 297 مادّة " رقم ".
وقد رواها البخاري في مقامات لا تحصى، منها في آخر صحيحه، ومنها في أواخر كتاب البيع..
وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعضها: " من صوّر صورة فإنّ الله معـذّبه بها حتّى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً "(2)..
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعضها: " إنّ أصحاب هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة، ويقال لهم: أَحـيُوا ما خلقتم "(3).
وروى مسلم طرفاً منها في كتاب " اللباس والزينة " من صحيحه، في باب: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة "(4)، وبعضها صريح في صور الخيل ذوات الأجنحة..
فـقد أخرج عن عائشة، قالـت: " قَـدِمَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سفر وقد سـترتُ على بابي دُرْنُـوكاً(5) فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني
____________
(1) راجع هـ 5 من الصفحة 64.
(2) صحيح البخاري 3 / 169 ح 168.
(3) صحيح البخاري 7 / 310 ح 171.
(4) انظر: صحيح مسلم 6 / 155 ـ 162.
(5) الدُرْنُوك: ضربٌ من الثياب أو البُسْط، له خمل قصير كخمل المناديل، وبه تُشـبّه فروة البعير والأسد، وجمعه: دَرانِك.
انظر مادّة " درنك " في: الصحاح 4 / 1583، لسان العرب 4 / 340، تاج العروس 13 / 557.
ويا هل ترى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرضى بصورة الخيل على الدُرنُوك ويرضى بصورها المجسّمة ويبقيها في بيته؟!
وأمّا قوله: " وأيضاً يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصور، فإنّ تحريم الصور كان عام الفتح ـ على ما ثبت ـ ولعب عائشة كان في أوائل الهجـرة "..
ففيـه: إنّ رواية البغـوي السابقة(2) صريحـة في لعبـها بعد الفتـح، فلا يصحّ هذا الاحتمال، ولا أعلم من أين ثبت عنده أنّ التحريـم عام الفتح؟! والظاهر أنّه مستند إلى الهوى ونصرة المذهب!
وأمّا قوله: " وللصور شرائط إنّما تحرّم عند وجودها "..
فـفيـه: إنّه إنْ أراد أنّ لـتحريم الصـور شـرائط، فباطل ; إذ لا يعتبر فيه أكثر من صـدق تصـوير الحيـوان كما تـدلّ عليه الأخبار السابقة وغيـرها.
وإنْ أراد أنّ لتحريم اللعب بالصور شرائط، فممنوع حتّى بمذهبه..
فقد نقل هو في آخر الكتاب ـ في القضاء وتوابعه ـ عن الشافعي أنّ عدم حرمة اللعب بالشطرنج مشروط بأربعة شروط، رابعها: أنْ لا تكون أسبابه مصوّرة بصورة الحيوانات(3) ; ولم يقيّد هناك الصور بقيد، ولم يعتبر فيها شروطاً.
____________
(1) صحيح مسلم 6 / 158.
(2) تقدّمت في الصفحة 68 ـ 69.
(3) راجع: إحقاق الحقّ: 1176 الطبعة الحجرية.
وهو دالٌّ على أنّ اللعب بصور الخيل كالعكوف على الأصنام فيحرم، فكيف تلعب بها عائشة ولم يمنعها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لم تظهر منه الكراهة حتّى يرتدع الغير؟!
ولا يخفى أنّ أجوبة الخصم كلّها لا تصلح جواباً عمّا ذكره المصنّف من إشكال إبقاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للصور في بيته، والحال أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصور، إلاّ ما زعمه من عجز الأطفال عن تصوير الصور، فإنّه يمكن جعله جواباً ولكن قد عرفت ما فيه.
وأمّا قوله: " وليس أخبار الصحاح السـتّة مثل أخبار الروافض "..
فقـد صدق فيه ; لأنّ من يرفض الباطل لا يروي مثل تلك الخـرافات، ولا يعتمد على روايات من عرفتَ بعض أحوالهم في المقدّمة وأشـباههم!(4).
____________
(1) سورة الأنبياء 21: 52.
(2) انظر: السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 10 / 212، الحاوي الكبير 21 / 192.
(3) نهج الحقّ: 568.
(4) راجع الجزء الأوّل من هذا الكتاب.
قال المصنّـف ـ أسـبغ الله عليه رحمته ـ(1):
وروى الحميدي في " الجمع بين الصحيحين ": قالت عائشة: " رأيت النبيّ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر "(2).
وروى الحميدي، عن عائشة، قالت: " دخل علَيَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بُعاث(3)، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: دعها ; فلمّا غفل غمزتُهما، فخرجتـا "(4).
وكيف يجوز للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصبر على هذا مع أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نصَّ على تحريم اللعب واللهو(5)، والقرآن مملوء منه(6) وبالخصوص مع زوجته؟!
____________
(1) نهج الحقّ: 149.
(2) الجمع بين الصحيحين 4 / 52 ح 3168.
(3) بُـعاث: هو اسم حصن للأوس، وبه سمّي يوم كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية ; انظر: لسان العرب 1 / 439 مادّة " بعث ".
(4) الجمع بين الصحيحين 4 / 53 ح 3168 وفيه: " دعهما " بدل " دعها ".
(5) انظر: سنن ابن ماجة 2 / 733 ح 2168، سنن الترمذي 3 / 579 ح 1282، الأدب المفرد: 216 ح 805 ـ 809 باب الغناء واللهو، المعجم الكبير 19 / 343 ـ 344 ح 794، مسند أبي يعلى 1 / 402 ح 527، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 10 / 221، مجمع الزوائد 3 / 13 عن مسـند البزّار.
(6) كقوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله) سورة لقمان 31: 6.
وكيف أنكر أبو بكر وعمر ومنعهما؟! فهل كانا أفضل منه؟!
وقد رووا عنه (عليه السلام)، أنّه لمّا قدم المدينة من سفر خرجن إليه نساء المدينة يلعبن بالدفّ فرحاً بقدومه، وهو يرقّص بأكمامه!(1).
هل يصدر [مثل] هذا عن رئيس أو من له أدنى وقار؟!
نعوذ بالله من هذه السقطات..
مع أنّه لو نُسب أحدهم إلى مثل هذا قابله بالسبّ والشتم وتبرّأ منه، فكيف يجوز نسبة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مثل هذه الأشياء التي يتبرّأ منها؟!
____________
(1) انظر مؤدّاه في: سنن الترمذي 5 / 579 ح 3690، مسند أحمد 5 / 353، مسند أبي يعلى 6 / 134 ح 3409، المعجم الصغير 1 / 32 ـ 33.
وقال الفضـل(1):
ضربُ الدفّ ليس بحرام مطلقاً، وكذا اللهو كما ذُكر في موضعه..
وما ذكر من ضرب الجاريتيـن بالدفّ عند عائشة كان يوم عيد، واتّفق العلماء على جواز اللهو وضرب الدفّ في أوقات السرور، كالأعياد والختان والإملاك.
وأمّا منع أبي بكر عنه، فإنّه كان لا يعلم جوازه في أيّام العيد.
وتتمّة الحديث أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبي بكر: " دعهما، فإنّها أيّام عيـد "، فلذلك منعه أبو بكر، فعلّمه رسول الله أنّ ضرب الدفّ والغناء ليس بحرام في أيّـام العيـد.
وما ذكر أنّ نساء المدينة خرجن إليه من عوده من السفر، فذلك كان من خصال نساء المدينة، ولم يمنعهنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ; لأنّها كانت قبل نزول الحجاب، ولأنّهنّ كنّ يظهرنّ السرور بمقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو عبادة..
وإنّ ترك المروءة في أمثال هذه الأُمور ـ التي توجب الأُلفة، والموافقة، وتطييب الخاطر، وتشريع المسائل ـ جائز..
ولكـنّه نِعمَ ما قيل شعراً:
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 240.
وعينُ الرضا عن كلّ عيب كليلةٌ | ولكنّ عينَ السخطِ تُبدي المَساويا(1) |
____________
(1) البيت من شعر عبـد الله بن معاوية بن عبـد الله الجعفري، قاله في صديق له يقال له: قصيّ بن ذكوان، وكان قد عتب عليه، وهو من أبيات مطلعها:
رأيتُ قصيّـاً كان شيئاً مُـلَـفَّـفاً | فكَـشّفه التمحيصُ حتّى بدا لِيا |
انظر: الأغاني 12 / 250.
وأقـول:
ما اسـتدلّوا به لإباحة اللهو غير صالح له ; لأُمور:
الأوّل: إنّ كثيراً منها أدلّ على الحرمة، كرواية الغزّالي التي سينقلها المصنّف(1)، ورواية أحمد التي سنذكرها بعدها إن شاء الله تعالى(2)، فإنّـهما أطلقتا الباطل على اللعب والغنـاء.
وكروايـة الترمـذي في منـاقب عمر، عن عائشة، قالت: " كـان رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالساً في المسجد، فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا حبشـيّة تَـزْفِـنُ(3) والصبيان حولها.
فقال: يا عائشة! تعالي وانظري.
فجئت فوضعت لحيَيَّ على منكب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه..
فقال: أمَا شـبعتِ؟! [أمَا شـبعتِ؟!] .
فجعلت أقول: لا ; لأنظرَ منزلتي عنده، إذ طلع عمر، فارفَضّ(4)الناس عنها..
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي لأنظرُ إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا
____________
(1) سـتأتي في الصفحة 111 هـ 3 من هذا الجزء.
(2) سـتأتي في الصفحة 115 هـ 1 من هذا الجزء.
(3) الـزَّفْـنُ: الـرَّقْـصُ ; انظر: لسان العرب 6 / 58 مادّة " زفن ".
(4) ارْفَـضَّ: تَفَـرّق ; انظر مادّة " رفض " في: لسان العرب 5 / 266، تاج العروس 10 / 62.
فإنّ تعبير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشياطين دليل على حرمة عملها وعملهم، وإنّ ذلك اللهو مَجمع للشياطين فيحرم.
وكرواية الترمذي أيضاً عن بريدة، وصحّحها ـ كالرواية الأُولى ـ هو والبغوي في (مصابيحه)..
قال بريدة: " خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض مغازيه، فلمّا انصرف جاءت جاريةٌ سوداء، فقالت: يا رسول الله! إنّي كنت نذرت إنْ ردّك الله صالحاً أنْ أضربَ بين يديك بالدفّ وأتغنّى.
فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنْ كنتِ نذرت فاضربي، وإلاّ فلا.
فجعلت تضربُ، فدخل أبو بكر وهي تضربُ، ثمّ دخل عليٌّ وهي تضربُ، ثمّ دخل عثمانُ وهي تضربُ، ثمّ دخل عمرُ فألقت الدفّ تحت إسـتها، ثمّ قعدت عليه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الشيطان ليخافُ منكَ يا عمرُ، إنّي كنت جالساً وهي تضربُ، فدخل أبو بكر وهي تضربُ، ثمّ دخل عليٌّ وهي تضربُ، ثمّ دخل عثمانُ وهي تضربُ، فلمّا دخلت أنت [يا عمرُ] ألقت الدفّ "(2).
فإنّ تعبير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها بالشيطان دليل على حرمة فعلها، إذ لو
____________
(1) سنن الترمذي 5 / 580 ح 3691، وانظر: السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 309 ح 8957، الكامل في الضعفاء 3 / 51 رقم 608، مصابيح السُـنّة 4 / 159 ح 4737، تاريخ دمشق 44 / 82 و 84.
(2) سنن الترمذي 5 / 579 ـ 580 ح 3690، مصابيح السُـنّة 4 / 158 ـ 159 ح 4736، وانظر: مسند أحمد 5 / 353، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 10 / 77.
كما إنّه لو كان مباحاً لم يصحّ نهيها عنه بلا قرينة على إرادة الإباحة من النهي، لو فرض أنّها لم تكن قد نذرت ; لظهور النهي في الحرمة وهي في وقت الحاجة والعمل.
الثـاني: إنّ أخبار حلّـيّة اللهـو قد اشتملت جملـةً منها على إرادة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من عائشة أنْ تنظر إلى اللعب وأهله، وعلى أنّه يسترها وهي تنظر إلى الحبشة، وهذا كذب صريح ; لأنّه مناف لسُـنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..
روى البغوي في (مصابيحه)، من الحسان، في باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات، من كتاب النكاح، عن أُمّ سلمة رضي الله عنها: " أنّها كانت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وميمونة، إذ أقبل ابن أُمّ مكتوم فدخل عليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): احتجبا عنه!
فقلت: يا رسول الله! أليس هو أعمى لا يبصرنا؟!
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أفعمياوان أنتما؟! ألسـتما تبصرانه؟! "(1).
ونحوه في الجزء السادس من مسند أحمد، ص 296(2).
فإذا كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يأبى من نظر أزواجه إلى الأعمى، فكيف يرضى لعائشة أنْ تنظر إلى أهل اللهو حال اللعب والخلاعة؟!
الثالث: إنّها منافية للغيرة والحياء، بل بعضها مشتمل على التهتّـك
____________
(1) مصابيح السُـنّة 2 / 408 ح 2316، وانظر: السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 393 ـ 394 ح 9242.
(2) وانظر: سنن أبي داود 4 / 62 ح 4112، سنن الترمذي 5 / 94 ح 2778، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 393 ح 9241.
كرواية البخاري في الباب الثاني من كتاب العيدين(1)..
وفي باب الدرق، من كتاب الجهاد والسير، عن عائشة، قالت: " كان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإمّا سألتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإمّا قال: تشـتهين تـنظرين؟
فقلت: نعم!
فأقامني وراءه، خدّي على خدّه، وهو يقول: دونكم يا بني أرفَدة(2).
حتّى إذا مللتُ قال: حسـبُكِ؟
قلت: نعم.
قال: فاذهبي "(3).
فليت شعري كيف حال من يجعل نفسه وزوجته منظراً لأهل الفساد واللهو، وهو يحثّهم على اللعب، ويحرّكهم إلى النظر إليهما ملتصقَي الخدَّين، وخدّها على خدّه؟!
فهل ترى فوق هذا خلاعة؟!
لعَمر الله ما من أحد يؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرضى بهذه النسبة إلى سيّد المرسلين، الذي كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها(4)، وقال:
____________
(1) صحيح البخاري 2 / 54 ح 2 و ص 68 ح 34.
(2) جنس من الحبشة، أو لقب لهم، أو اسم أبيهم الأكبر ; انظر: تاج العروس 4 / 460 مادّة " رفد ".
(3) صحيح البخاري 4 / 108 ح 118، وانظر: صحيح مسلم 3 / 22.
(4) انظر: صحيح البخاري 5 / 31 ح 69 و 70 و ج 8 / 48 ح 126، صحيح مسلم 7 / 78، سنن ابن ماجة 2 / 1399 ح 4180، مسند أحمد 3 / 71 و 79 و 88 و 91 و 92، المعجم الكبير 18 / 206 ح 508، مصنّف ابن أبي شيبة 6 / 92 ح 8.
وكان أشدّ الخَلق غيرة ومروءة، وقال: " من لا مروءة له لا إيمان لـه "(2)..
وكان أعظم الناس وقاراً، حتّى إنّ ضحكه التبسّـم(3)..
فكيف ينقاد إلى هوى عائشة هذا الانقياد ولا يلتفت إلى ما فيه من النقص والهوان؟!
ويا عجباً! كيف يجتمع هذا التهتّك من عائشة مع ما رواه أحمد(4)عنـها؟!..
____________
(1) صحيح البخاري 1 / 21 ح 23، صحيح مسلم 1 / 46، سـنن ابن ماجة 2 / 1400 ح 4184، سنن أبي داود 4 / 253 ح 4795، سنن الترمذي 4 / 321 ح 2009، سنن النسائي 8 / 121، الموطّـأ: 790 ح 10، مسند أحمد 2 / 56 و 147، مسند أبي يعلى 9 / 302 ح 5424 و ج 13 / 488 ح 7501، المعجم الكبير 10 / 196 ح 10442 و ج 18 / 178 ح 409 و ج 22 / 413 ح 1024، المصنّف ـ لعبـد الرزّاق ـ 11 / 142 ح 20146، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 6 / 92 ح 13.
(2) لم نعثر عليه بهذا اللفظ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلفظ: " كرم المرء تقواه، ومروءته خلقه، وحسـبه دينه " و " كرم المرء دينـه، ومروءته عقله، وحسـبه خُلقه " وما يؤدّي هذا المعنى.
انظر: كتاب المروءة ـ لابن المرزبان ـ: 23 ـ 34 ح 1 ـ 11.
هـذا، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنيـن عليّ (عليه السلام) حديثٌ بلفظين قريبين ممّا في المتن، هما: " من لا دين له لا مروءة له " و " من لا مروءة له لا همّة له " ; انظر: غرر الحكم ودرر الكلم ـ للآمدي ـ 2 / 163 رقم 285 و 286.
(3) انـظر: سـنن الترمـذي 5 / 561 ـ 562 ح 3642 و 3645، مسـند أحمـد 5 / 97 و 105، مسند أبي يعلى 13 / 450 ح 7455 و ص 453 ح 7458، المعجم الكبير 2 / 244 ح 2024، شرح السُـنّة 7 / 425 ح 3642.
(4) مسند أحمد 6 / 202. منه (قدس سره).