الصفحة 88

قالت: " كنت أدخل بيتي الذي دُفن فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي، فأضع ثوبي فأقول: إنّما هو زوجي وأبي، فلمّا دُفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلاّ وأنا مشدودة علَيَّ ثيابي حياءً من عمر ".

ولا أدري أين ذهب هذا الحياء من الأموات عنها يوم الجمل، وهي تلفّ الأُلوف بالأُلوف من الأحياء؟!

الرابع: إنّ اللهو والصياح منافيان لحرمة المساجد ووضعها، فكيف يرضى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بهما، ويمكّـن منهما فيها أهلَ اللهو والطرب؟! قال الله تعالى: ( إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر )(1).

فهل كان من عمرانها اللعب والغناء؟!

وروى القوم في صحاحهم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك ; فإنّ المساجد لم تبنَ لهذا "(2)..

وإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن تناشد الأشعار في المسجد(3)، وأن تقام فيه الحدود(4)، وأن ترفع فيه الأصوات، فكيف يرضى بإعلان اللهو والغناء في

____________

(1) سورة التوبة 9: 18.

(2) صحيح مسلم 2 / 82، سنن ابن ماجة 1 / 252 ح 767، سـنن أبي داود 1 / 125 ح 473، مسند أحمد 2 / 349، صحيح ابن خزيمة 2 / 273 ح 1302، مسند أبي عوانة 1 / 339 ح 1212 و 1213، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 2 / 447 و ج 6 / 196 و ج 10 / 102.

(3) انظر: سنن الترمذي 2 / 139 ح 322، سنن ابن ماجة 1 / 247 ح 749، سنن النسائي 2 / 48، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 1 / 262 ح 794، صحيح ابن خزيمة 2 / 274 ح 1304.

(4) انـظـر: سـنـن التـرمـذي 4 / 12 ح 1401، سـنـن ابـن مـاجـة 2 / 867 ح 2599 و 2600، مسند أحمد 3 / 434، المعجم الكبير 2 / 139 ـ 140 ح 1590 و ج 3 / 204 ح 3131.


الصفحة 89

الصفحة 90
المسجد الأعظم؟!

والعجب أنّهم يروون أنّه يحثّ على اللهو في مسجده!!..

ويروي البخاري في باب رفع الصوت في المساجد، من كتاب الصلاة، عن السائب، قال: " كنت قائماً في المسجد فَحَصَبَني رجلٌ، فإذا عمر بن الخطّاب، فقال: اذهب فأتني بهذين ; فجئته بهما.

قال: من أنتما؟ ـ أو: من أين أنتما؟ ـ.

قالا: من أهل الطائف.

قال: لو كنتما من أهل هذا البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! "(1).

ولكن لا عجب، فإنّهم ينسبون تلك الخلاعة القبيحة إلى صفوة الله من خلقه، ويزعمون أنّ عمر في منتهى الغيرة، حتّى إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدخل في المنام قصر عمر في الجنّة رعاية منه لغيرة عمر(2)!

وذلك كلّه ممّا يكشف عن حال رجالهم وأخبارهم.. فانظر وتبصّر!

الخامس: إنّ راوي تلك الأخبار ـ التي زعموا دلالتها على إباحـة اللهو ـ هو: عائشة، إلاّ ما قلَّ عن غيرها، ومن الواضح أنّها متّهمة بإرادة

____________

(1) صحيح البخاري 1 / 203 ح 129، وانظر: السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 2 / 447 ـ 448.

(2) صحيح البخاري 5 / 75 ذ ح 176 و ج 7 / 64 ح 155 و 156 و ج 9 / 70 ـ 71 ح 40 و 41، صحيح مسـلم 7 / 114، مسند أحمد 3 / 372 و ص 389 ـ 390، مسند أبي يعلى 3 / 467 ح 1976 و ج 4 / 13 ح 2014 و ص 51 ح 2063، مسـند الطيالسـي: 238 ح 1715، المصنّـف ـ لابن أبي شيبة ـ 7 / 481 ح 25 و 26.


الصفحة 91
الافتخار وإظهار حبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لها، وبيان فضل أبيها وخليله، كما هو ظاهر على صفحات تلك الروايات!

وما اكتفت بذلك حتّى جعلت تحرّض الناس على إعطاء بناتهم زمام اللهو واللعب، وما خصّته بوقت، فقالت ـ كما في كثير من روايات البخاري وغيره ـ: " فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ، الحريصة على اللهو "(1).

ولعلّ هذه التتمّة تشهد بأنّ تلك الأخبار من وضع الكذّابين الّذين يريدون التقرّب إلى ملوك الجهل والفساد، من الأُمويّين والعبّـاسـيّين وأُمرائهم!

فإذا عرفت هذه الأُمور، ظهر لك أنّه لا يستبيح ذو عقل وذو دين الاستدلال بتلك الأخبار على إباحة اللهو في شيء من الأوقات، لا سيّما والكتاب العزيز ناطق بحرمته(2).

وأيّ عاقل يشكّ بكذب تلك الأخبار التي تحطّ من قدر النبيّ والنبوّة؟!

وبذلك يظهر لك حال من نسب إليهم الخصم الاتّفاق على جواز اللهو استناداً إليها!

وأمّا ما ذكره من تتمّة الحديث، فمن إضافاته، على أنّها لا تنفعه بالنظر إلى تلك الأُمور السابقة..

ومن أحبَّ الاطّلاع على كذبه في هذه الإضافة ـ أعني قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

____________

(1) صحيح البخاري 7 / 50 ح 120، صحيح مسلم 3 / 22، سنن النسائي 3 / 195 ـ 196، مسند أحمد 6 / 84 و 85 و 166 و 270.

(2) في قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله)سورة لقمان 31: 6.


الصفحة 92
" فإنّها أيّام عيد " تعليلا لقوله لأبي بكر: " دعها " ـ فليراجع الباب الثاني من كتاب العيدين من صحيح البخاري(1)، وآخر كتاب العيدين من صحيح مسلم(2)(3).

وأمّـا ما ذكره من أنّ ذلك من خصال نساء المدينة، فمحلّ تأمّل ; لأنّه مسـتفاد من روايات عائشة، وفيها ما سـبق.

وأمّا ما ذكره من إظهارهنّ السرور، وأنّه عبادة ; ففيه: إنّ إظهار السرور وإنْ كان عبادة، لكن إذا لم يكن باللهو، فإنّه يُحرّم حينئذ كما لو أظهر بشرب الخمر ونحوه.

وأمّا ما أجاب به عن رقص النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأكمامه ـ وحاشاه ـ، فمن قول الهجر ; لأنّ الرقص سفه ظاهر وخلاعة بيّنة، ومن أكبر النقص بالرئيس، وأعظم منافيات الحياء والمروءة في تلك الأوقات، وأشدّ المباينات للرسالة لإرشاد الخلق بتهذيبهم عن السفه والنقائص وتذكيرهم بمقـرّبات الآخـرة، لا سـيّما بالمـلأ العـامّ مـع حضور النقّـاد والأضـداد، فلا يمكن أن يلتزم بتسويغه لطلب الأُلفة وتطييب الخواطر ; لأنّ حفظ شرف الرسالة وفخامتها ودفع نقد النقّاد والمشكّـكين أهمّ، بل لا يحسن

____________

(1) صحيح البخاري 2 / 54 ح 2.

(2) صحيح مسلم 3 / 22.

(3) إنّ جملة " فإنّها أيّام عيد " التي زعم ابن روزبهان أنّها تتمّة للحديث الذي استدلّ به العلاّمة الحلّي (قدس سره) غير موجودة فيه! ولذلك تمسّك الشيخ المظفّر (قدس سره) بتكذيبه.. إلاّ أنّ هذه الجملة مذكورة بعينها في حديث آخر من صحيح البخاري، وإنّما ألحقها الفضل منه، وهو غير محلّ النزاع، فلم يكُ أميناً في ما نقله!.. فانظر: صحيح البخاري 2 / 68 ح 34!

وانظر: صحيح البخاري 2 / 54 ح 2، صحيح مسلم 3 / 22، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ 4 / 53 ح 3168.


الصفحة 93
لذلك أقلّ منافيات المروءة فضلا عن مثل الرقص مع النساء!

وأمّا التشريع، فلا يصلح أن يكون داعياً لفعل المنافي مع إمكان البيان اللفظي، كما لا يصلح أن يكون داعياً له إرادة إيمان الناس ; لأنّ فعل المنافي مبعِّد عنه لا مقرِّب له، حتّى لو أوجب الأُلفة، فإنّ الأُلفة لا توجب الاعتقاد، ولو سُلّم إيجابها له في الجملة فخطرُ المُنافي للمروءة أعظم.

وأمّا استشهاده بالبيت، ففي محلّه ; لأنّا سخطنا على أخبارهم لكذب رواتها واشتمالها على المناكير والأضاليل فأبدينا بعض مساويها، وأمّا هم فرضوا بها على علاّتها، فعميت عيون قلوبهم عن معايبها وإنْ أوهنت مقام النبوّة، بل ومقام الربوبية! كما سـتعرف إن شاء الله تعالى.


*    *    *


الصفحة 94

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

وفي الصحيحين: إنّ مَلَك الموت لمّا جاء لقبض روح موسى لطمه موسى ففقـأ عينـه(2).

فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسى ـ مع عظمته، وشرف منزلته، وطلب قربه من الله تعالى والفوز بمجاورة عالم القدس ـ إلى هذه الكراهة؟!

وكيف يجوز منه أن يوقِـع بمَلَك الموت ذلك، وهو مأمور من قِبل الله تعالى؟!


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 152.

(2) صحيح البخاري 2 / 191 ح 95 و ج 4 / 306 ح 207، صحيح مسلم 7 / 100 ; وانظر: سنن النسائي 4 / 118 ـ 119، مسند أحمد 2 / 269 و 315 و 351، المصنّف ـ لعبـد الرزّاق ـ 11 / 274 ح 20530، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ 1 / 266 ذ ح 599، مسند أبي عوانة 1 / 160 ح 464، مصابيح السُـنّة 4 / 23 ـ 24 ح 4440.


الصفحة 95

وقال الفضـل(1):

الموت بالطبع مكروه للإنسان، وكان موسى رجلا حادّاً كما جاء في الأخبار والآثار، فلمّا صحّ الحديث وجب أن يُحمل على كراهته للموت، وبعثته الحدّة على أن لطم ملك الموت، كما أنّه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وهذا الاعتراض وارد على ضرب هارون وكسر ألواح التوراة التي أعطاه الله إيّاها هدىً ورحمةً، ويمكن أن يقال: كيف يجوز أن ينسب إلى موسى إلقاء الألواح، وطرح كتاب الله، وكسر لوحه، إهانة لكتاب الله؟! وكيف يجوز له أن يضرب هارون وهو نبيٌّ مرسل؟!

وكلّ هذه عند أهل الحقّ محمول على ما يعرض البشر من صفات البشرية، وليس فيه قدح في ملَـكَة عصمة الأنبياء.

وأمّا عند ابن المطهّر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء..

ولو لم يكن القرآن متواتراً، ونُقل لابن المطهّر الحلّي أنّ موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه الاعتراضات، فلو أنّه أنصف من نفسه يعلم ما نقوله في تعصّبه حقّ.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 243.


الصفحة 96

وأقـول:

كان موسى (عليه السلام) شديد الغضب لله تعالى، ولم يكن حادّاً تخرجه الحدّة إلى غضب الله عليه.

وقوله: " فلمّا صحّ الحديث... " إلى آخره، باطل..

إذ كيف يصحّ حديث يرويه الكذبة عن أبي هريرة الخرافي الكذوب، وهو يشتمل على ما يحيله العقل؟! فإنّ الأنبياء (عليهم السلام) معصومون عن الذنوب، لا سيّما الكبائر بإقرار الخصم، ولا سيّما مثل هذه الجناية الكبرى على أحد عظماء الملائكة، ورسول الله العامل بأمره، إنْ صحّ عقلا أنْ يقع مثلها على الملائكة الروحانيّين.

ولو سُلّم جواز وقوع مثل هذه الكبيرة منهم، فأيّ عاقل يجوّز على موسى ـ مع عظم شأنه ـ أن يكره الانتقال إلى عالم الكرامة والرحمة، وهو الهادي والداعي إليه، والعالم بما أعدّ الله فيه لأوليائه؟!

ولو سُلّم خوفه من الموت وكراهته له، فأيّ عاقل يجوّز قلع عين مَـلَك الموت مع روحانيّته وشفافـيّته بلطمة بشر؟!

ولو سُلّم أنّه تصوّر له بصورة شخص تؤثّر فيه اللطمة، فكيف يقدر موسى عليه وهو على شفا جرف الموت، ومَلَك الموت بقوّته العظمى مؤيّداً بالقدرة الربّانية التي يتسلّط بها على نفوس العالمين بلا كلفة ومقاومة؟!

ويا للعجب! كيف ضيّع الله حقّ الملَكِ المرسَل بأمره ولم يقاصّه من

الصفحة 97
موسى، والقصاص حقّ ثابت في القرآن والتوراة، بل لم يعاقبه أصلا، وأكرمه حيث خيّره بين الموت والحياة؟! فهل عند الله هوادة، أو يختلف حكمه في بريّـته؟!

هذا، وقد حمل بعضهم الحديث على المدافعة عن نفسه، بدعوى أنّ الملَك تصوّر له بصورة إنسان معتد عليه يريد إهلاكه، فلا معصية منه!(1)..

وفيـه: إنّه لا يلائم ما في تمام الحديث: فقال: " أرسلتني إلى عبـد لا يريد الموت وقد فقأ عيني "(2)، فإنّه يدلّ على شكايته منه والتعريض بذمّه بعدم إرادته للموت، وهو لا يصحّ إذا كان مدافعاً عن نفسه ; لوجوب المدافعة وإنْ أحبّ الموت.

على أنّه لا وجه لتصوّر مَلك الموت بصورة معتد، فإنّه من الحمق والجهل.

ودعوى الامتحان لا وجه لها(3) ; لأنّه إنْ أُريد الامتحان في حبّه للموت فهو لا يناسب تصوّره بصورة مَن تجب مدافعته، وإنْ أُريد الامتحان في مخالفة الواجب من المدافعة فهو لا يجامع القول بعصمته، بل لا معنى لهذا الامتحان ; لأنّ كلّ إنسان يدافع بمقتضى طبعه عن نفسه حيث يمكن، وإنْ لم تجب عليه المدافعة، على أنّه لا يلائم التعبير بكراهة الموت إلى تمام الحديث..

ويدلّ على معرفة موسى بملك الموت، فلا يصحّ الحمل المذكور،

____________

(1) انظر: فتح الباري 6 / 546، إرشاد الساري 7 / 396.

(2) تقدّم تخريج الحديث عن صحاح القوم، فراجع الصفحة 88 هـ 2.

(3) فتح الباري 6 / 546 ـ 547.


الصفحة 98
ما رواه مسلم بإحدى روايتيه عن أبي هريرة، قال:

" جاء ملك الموت إلى موسى (عليه السلام) فقال: أجب ربّـك.

فلطم موسى عين مَلَك الموت ففقأها!

قال: فرجع الملك إلى الله عزّ وجلّ، فقال: إنّك أرسلتني إلى عبـد لك لا يُريد الموت، وقد فقأ عيني.

قال: فردّ الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي فقُل له: الحياةَ تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعره فإنّك تعيش بها سنةً.

قال: ثمّ مه؟

قال: ثمّ الموت.

قال: فالآن يا ربّ من قريب "(1).

فإنّ قوله: " أجب ربّك " دالٌّ على معرفة موسى بملك الموت، وإنّه ليس من المعتدين.

وأصرح من هذه الرواية ما رواه أحمد عن أبي هريرة(2)، قال:

" كان ملك الموت يأتي الناس عياناً، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه، فأتى ربّه فقال: يا ربّ! عبـدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك

____________

(1) ونحوه في مسند أحمد 2 / 269 و 315 و 351. منه (قدس سره).

وانظر: صحيح مسلم 7 / 100، وقد تقدّم تخريجه مفصّلا في الصفحة 88 هـ 2، فراجـع.

(2) مسند أحمد 2 / 533. منه (قدس سره).

وانظر: مجمع الزوائد 8 / 204 ـ 205 عن أحمد والبزّار.


الصفحة 99
لَـعَـنُـفْـتُ بـه(1) ".. الحديث.

ثمّ إنّهم ذكروا في توجيه الحديث أُموراً أُخر تشـبه الخرافة..

منها: إنّ موسى أراد إظهار وجاهته عند الملائكة ; فإنّ فعل الحرام مناف لدعوى الوجاهة عند الله تعالى، وهذه الإرادة بهذا الفعل الخاسر أَوْلى أن تقع من الحمقاء السافلين، لا من الأنبياء والمرسلين!

ومنها: إنّه وقع من غير اختياره ; لأنّ للموت سكرات ; وكأنّ هذا التوجيه مأخوذ من قول عمر: " إنّ النبيّ ليهجر "(2)!

____________

(1) عَـنُـفَ به وعليه: إذا لم يكن رفيقاً في أمره ; انظر: لسان العرب 9 / 429 مادّة " عنف ".

(2) روى الجمهور هذا القول بألفاظ متعدّدة، وعمّوا على اسم قائله في بعضها، والهدف من ذلك غير خاف..

  • فقد روي بلفظ: " قالوا: هَجَرَ رسول الله! " كما في صحيح البخاري 4 / 162 ح 251..

  • وبلفظ: " وقالوا: ما شأنه؟! أَهَجَر؟! " و " فقالوا: إنّ رسول الله يهجر! " كما في: صحيح مسلم 5 / 75 ـ 76، مسند أحمد 1 / 222 و 355، مصنّف عبد الرزّاق 6 / 57 ح 9992، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 187 ـ 188، تاريخ الطبري 2 / 228..

  • وبلفظ: " قال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " كما في شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6 / 51..

  • وبلفظ: " قال عمر: إنّ النبيّ غلبه الوجع " و " فقال عمر: إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع " كما في صحيح البخاري 1 / 65 ـ 66 ح 55 و ج 7 / 219 ح 30، صحيح مسلم 5 / 76، مسند أحمد 1 / 324 ـ 325، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 188، الإحسـان بترتيـب صحيـح ابن حبّـان 8 / 201 ح 6563، الملـل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 12..

  • وبلفظ: " قال عمر: دعوا الرجل فإنّه ليهجر " كما في سرّ العالمين ـ المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزّالي ـ: 453.

    وسـيأتي تفصيل ذلك في محلّـه.


    الصفحة 100
    وكيف يناسب ذلك تمام الحديث وشكاية ملَك الموت منه؟!

    وهل هذا الموجِّـه أعرف بحال موسى من ملَك الموت؟!

    ومنها: إنّ المراد صكّه بالحجّة وفقأ عين حجّته(1) ; ولا أعلم أيّ مباحثة وقعت بينهما ضلّ فيها ملك الموت؟!

    وكيف يجتمع هذا مع قوله: " فردّ الله عليه عينه "(2)... إلى آخر الفقرات؟!

    وأمّا ما ذكره من النقض بقصّة الألواح ; فهو وارد عليه أيضاً ; لأنّ إلقاءها وكسرها إهانة لكتاب الله [و] كفر لا يقوله الخصم، بل لو لم يقصد به الإهانة كان كبيرة كضرب النبيّ، وهو يقول بعصمتهم عن الكبائر!

    وأمّا ما حمله عليه ; فإنْ أراد به ما يعرض البشرَ من دون شعور، فهو من أعظم النقص، وتجويزه على الأنبياء رافع للثقة بهم، وهل هذا إلاّ كما ذمّ الله عليه الكافرين إذ قالوا: ( إنّك لمجنون )(3)؟! فإنّ سلب الشعور إنْ لم يكن جنوناً فهو بمنزلته، ولو جاز، لجاز الجنون عليهم ; لأنّه ممّا يعرض البشرَ أيضاً!

    وإنْ أراد به ما لا يُسلب معه الشعور، فتلك الأفعال كبيرة، والأنبياء معصومون عنها، بل إذا كان الإلقاء بقصد الإهانة يكون كفراً!

    ومن الغريب أنّ الخصم بظاهر كلامه خصّ الحمل عند أصحابه بذلك، مع أنّه في كلّ ما سبق من المباحث عيال على " المواقف " وشرحها، وهما لم يذكرا هذا! وإنّما ذكرا وجوهاً أُخر:

    ____________

    (1) فتح الباري 6 / 547.

    (2) انظر: صحيح مسلم 7 / 100.

    (3) سورة الحجر 15: 6.


    الصفحة 101
    منها: ما اختاره صاحب " المواقف "، وهو أنّ فعل موسى بأخيه لم يكن على سبيل الإيذاء، بل أراد أن يدنيه لنفسه ليتفحّص منه عن حقيقة الحال، فخاف هارون أن يعتقد بنو إسرائيل خلافه(1)، فقال: ( لا تأخذ بلحيتي... )(2).. الآية.

    وهذا الحمل منقول عن السيّد المرتضى(3) وأنّ الرازي استحسنه(4).

    ومنها: إنّ موسى لمّا رأى جزع أخيه واضطرابه من قومه أخذه ليسكِّن من قلقه(5).

    ومنها: إنّ موسى لمّا غلب عليه الهمّ [واستيلاء الفكر] أخذ برأس أخيه لا على طريق الإيذاء، بل كما يفعل الإنسان بنفسه من عضّ يده وشفته وقبض لحيته، إلاّ أنّه نزّل أخاه منزلة نفسه، لأنّه شريكه في ما يناله من خير أو شـرّ(6).

    ثمّ قال الشارح: " قال الآمدي: لا يخفى بعد هذه التأويلات وخروجها عن مذاق العقل "(7).

    ولم يذكر الشارح لنفسه شيئاً وكأنّه على مذاق الآمدي، وهو في محلّه لـبُعد هذه الوجوه جدّاً، مع أنّها لا ترفع إشكال إلقاء الألواح..

    ____________

    (1) المواقف: 363، وانظر: شرح المواقف 8 / 272.

    (2) سورة طـه 20: 94.

    (3) تنزيه الأنبياء: 117.

    (4) تفسير الفخر الرازي 22 / 109، الأربعين في أُصول الدين 2 / 146، عصمة الأنبياء: 84.

    (5) شرح المواقف 8 / 272، وانظر: تنزيه الأنبياء ـ للمرتضى ـ: 117.

    (6) شرح المواقف 8 / 272، وانظر: تنزيه الأنبياء ـ للمرتضى ـ: 116.

    (7) شرح المواقف 8 / 272.


    الصفحة 102
    والأَوْلى في الجواب أنّ بني إسرائيل لمّا كفروا واتّخذوا العجل، أراد موسى (عليه السلام) أن يبيّن لهم عظيم جرمهم وشديد سخطه عليهم، فألقى الألواح الكريمة إظهاراً للضجر من فعلهم، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه مع علمه ببراءة ساحته، تفظيعاً لعملهم، وتنبيهاً لهم على سوء ما أتوا به، وعلى مساءته منهم من باب: إيّاك أعني واسمعي يا جارَة(1)، كما هو في القرآن كثير، قال تعالى: ( لئن أشركت ليحبطنّ عملك )(2)، مع علمه سبحانه بأنّه معصوم عن الشرك.. وقال تعالى: ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل... )(3) الآية..

    فيكون فِعل موسى لمصلحة انزجارهم عن الكفر حتّى أظهر لأخيه أنّـه ينبـغي مفارقـتهم واتّبـاعه له لعظيم ما جاءوا به، فيكون فِعله راجحـاً لا حراماً، بخلاف فقء عين ملَك الموت، فإنّه لا مصلحة فيه البتّة!

    واعلم أنّه ليس في الآية الكريمة أنّ موسى كسر الألواح وضرب أخاه كما ادّعاه الخصم، ولكن حمله على ذلك هضم الحقّ والتهويل على الغافلين.

    وأمّا قوله: " وأمّا عند ابن المطهّر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء "..

    فـفيه: إنّ الطاهر ابن المطهّر لا ينكر إلاّ ما هو صريح بالذنب والجهل، كرواية فقء عين ملك الموت، لا على ما يقرّب فيه التوجيه ويتّضح فيه الحمل كالآية الشريفة، فتدبّر واسـتقم!

    ____________

    (1) مجمع الأمثال 1 / 80 رقم 187.

    (2) سورة الزمر 39: 65.

    (3) سورة الحاقّـة 69: 44.


    الصفحة 103

    قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):

    وفي " الجمع بين الصحيحين " أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في صفة الخلق يوم القيامة: " وإنّهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر إليهم، فيأتون نوحاً فيعتذر إليهم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبيّ الله وخليله، اشفع لنا إلى ربّك، أما ترى ما نحن فيه؟! فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله، وإنّي قد كذبت ثلاث كذبات، نفسي.. نفسي، إذهبوا إلى غيري "(2).

    وفي " الجمع بين الصحيحين " أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لم يكذب إبراهيم النبيّ إلاّ ثلاث كذبات "(3).

    كيف يحلّ لهؤلاء نسـبة الكذب إلى الأنبياء؟!

    وكيف الوثوق بشرائعهم مع الاعتراف بتعمّد كذبهم؟!

    ____________

    (1) نهج الحقّ: 152.

    (2) الجمع بين الصحيحين 3 / 164 ـ 166 ح 2388 ; وانظر: صحيح البخاري 4 / 270 ح 143 و ص 281 ح 164 و ج 6 / 157 ـ 159 ح 233، صحيح مسلم 1 / 127 ـ 128، سـنن الترمذي 5 / 288 ح 3148، مسـند أحمـد 2 / 435 ـ 436 و ج 3 / 244، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 415 ح 36، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 365 ـ 366 ح 811، التوحيد ـ لابن خزيمة ـ: 242 ـ 243، مسند أبي عوانة 1 / 147 ـ 150 ح 437 ـ 440.

    (3) الجمع بين الصحيحين 3 / 184 ح 2415 ; وانظر: صحيح البخاري 4 / 280 ح 161 و ج 7 / 9 ح 22، صحيح مسلم 7 / 98، سنن أبي داود 2 / 272 ح 2212، سنن الترمذي 5 / 300 ـ 301 ح 3166، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 98 ح 8374 و 8375، مسند أحمد 2 / 403، مسند أبي يعلى 10 / 426 ـ 428 ح 6039، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7 / 366.


    الصفحة 104

    وقال الفضـل(1):

    قد عرفت في ما مضى أنّ الإجماع واقع على وجوب عصمة الأنبياء عن الكذب(2).

    وأمّا الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم لِما صحّ الحديث، فالمراد منه صورة الكذب لا حقيقته، كما قال: ( بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون )(3)..

    وكان مراده إلزامهم ونسبة الفعل إلى كبيرهم ; لأنّ الفأس الذي كسّر به الأصنام وضعه على رقبة كبير الأصنام، فالكذب المؤوَّل ليس كذباً في الحقيقة، بل هو صورة الكذب إذا كان التأويل ظاهراً، وهذا لا بأس به عند وقوع الضرورة.


    *    *    *

    ____________

    (1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 248.

    (2) تـقـدّم في الصفحة 20 من هذا الجزء.

    (3) سورة الأنبياء 21: 63.


    الصفحة 105

    وأقـول:

    سبق أنّ أكثرهم أجازوا صدور الكبائر عن الأنبياء سهواً قبل النبوّة وبعدها، وعمداً قبلها، وأنّ بعضهم أجاز صدورها عمداً بعدها، ومنها الكذب في غير التبليغ، بل أجاز بعضهم صدور الكفر عنهم(1)..

    وقد نقل الخصم هناك بعض ذلك(2)، فكيف يزعم هنا الإجماع على عصمتهم عن الكـذب؟!

    وأمّا ما زعمه من أنّ المراد صورة الكذب، فلا يلائم الحديث، ولنذكره لتـتّضح الحال..

    روى البخاري في كتاب تفسير القرآن، في سورة بني إسرائيل، عن أبي هريرة ما ملخّصه:

    إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أنا سيّد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذلك؟! يجمع الله الناس الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع إلى ربّـكم؟!

    فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم ; فيأتونه، فيعتذر بأنّ الله سبحانه نهاه عن الشجرة فعصاه..

    ويأتون نوحاً بأمر آدم، فيعتذر بأنّ له دعوة على قومه..

    ____________

    (1) راجع الصفحتين 17 و 30 من هذا الجزء.

    (2) راجع الصفحتين 20 ـ 21.


    الصفحة 106
    ويأتون إبراهيم بأمر نوح، فيعتذر بأنّه كذب ثلاث كذبات..

    ويأتون موسى بأمر إبراهيم، فيعتذر بأنّه قتل نفساً لم يؤمر بقتلها..

    ويأتون عيسى بأمر موسى، فيعتذر..

    ثمّ قال: ولم يذكر ذنباً "(1).

    وهذا صريح بأنّ تلك الأُمور الواقعة من الأنبياء الأُوَل ذنوب، وبعضها من الكبائر، كالكذب وقتل النفس.

    ومن المعلوم أنّ صورة الكذب ليست ذنباً إذا أدّت إليها الضرورة الدينية، بل هي طاعة عظمى.

    وقد صرّح أيضاً بأنّ إبراهيم صاحبُ خطيئة حديثٌ آخر رواه البخاري عن أنس في أواخر " كتاب الرقاق "، وحديثٌ رواه عنه أيضاً في " كتاب التوحيد " في باب قول الله تعالى: ( وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة )(2).. قال فيهما ما حاصله:

    " يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا؟... فيأتون آدم، ثمّ نوحاً، ثمّ إبراهيم، ثمّ موسى، فيقول كلٌّ منهم: لسـتُ هناك ; ويذكر خطيئـته "(3).

    ____________

    (1) تقدّم تخريجه في الصفحة 97 هـ 2 و 3.

    (2) سورة القيامة 75: 22 و 23.

    (3) صحيح البخاري 8 / 209 ح 149 و ج 9 / 217 ح 39 باب قول الله تعالى: (لِما خلقـتُ بيـدَي)، صحيـح مسـلم 1 / 124 ـ 126، مسـند أحمـد 3 / 116 و 244 و 247، مسند أبي يعلى 5 / 396 ـ 398 ح 3064، المصنّـف ـ لابن أبي شـيبة ـ 7 / 416 ـ 418 ح 37 و 39، السُـنّـة ـ لابن أبي عاصم ـ: 360 ـ 365 ح 804 ـ 810 و ص 367 ـ 374 ح 812 ـ 817، التـوحيـد ـ لابـن خزيمـة ـ: 248 ـ 250 و 253 ـ 254، مسند أبي عوانة 1 / 151 ـ 154 ح 443 ـ 447، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ 2 / 545 ح 1902.


    الصفحة 107
    وما أدري كيف تُتصوّر الخطيئة من نوح في دعائه، وهو إنّما دعا على الكافرين الّذين لا يلدون إلاّ فاجراً كـفّاراً؟!

    ودعوى أنّ خطيئته لنسبته ذلك إليهم كذباً، باطلة، إذ لو سُلّم عدم إضلالهم وأنّهم يلدون مؤمناً، فنسبة ذلك إنْ صدرت منه خطأ فلا خطيئة لـه، وإنْ صـدرت عمـداً كانـت له خطيئـتان: الكـذب والدعـوة على مَـن لا يسـتحقّ، لا خطيئة واحدة كما يظهر من الأخبار هذه!

    وممّا ينكره العقل على هذه الأحاديث:

    أوّلا: إعراض المسلمين عن طلب الشفاعة من نبيّهم وهم يعتقدون أنّه سيّد الأنبياء، وعدول مَن عدا عيسى من هؤلاء الأنبياء عن نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)وهم يعلمون أنّه أَوْلى بالشفاعة.

    كما ينكر العقل عليها ثانياً: مخاطبة الناس بعضهم بعضاً، وطلبهم الرأي وهم في حال الشدّة وقد دنت الشمس منهم، والله سبحانه يقول: ( يوم ترونها تذهلُ كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضعُ كلّ ذات حمل حملها وترى الناس سُكارى وما هم بسُكارى ولكنّ عذابَ الله شديد )(1).

    وأيضاً فقد نُسب في حديثَي أنس إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤية الله(2)، وقد عرفتَ امتـناعها(3).

    ونُسب إليه في حديث أنس بكـتاب التوحيد، أنّه قال: " فأستأذنُ

    ____________

    (1) سورة الحجّ 22: 2.

    (2) انظر الهامش رقم 3 من الصفحة السابقة، عن البخاري وغيره.

    (3) راجع ج 2 / 47 و 110 فما بعدها من هذا الكتاب.


    الصفحة 108
    على ربّي في داره "(1) فأثبَتَ له المكان، وهو يوجب الإمكان.

    واعلم أنّا نعتقد أنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يكذب قطّ حتّى بقوله: ( بل فعله كبيرهم )(2)..

    إمّا لكونه ليس من باب الإخبار الحقيقي، بل من باب التبكيت والإلزام لهم بالحجّة على بطلان مذهبهم وعبادتهم لِما لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرّاً، كما يشهد له قوله: ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون )(3).

    وإمّا للاشتراط بقوله: ( إنْ كانوا ينطقون ) ; لدلالته على أنّ إخباره مقيّد به بناءً على كونه شرطاً لقوله: ( فعله كبيرُهم ).

    ولكنّ الكلام في أحاديث القوم الدالّة على الكذب الحقيقي من إبراهيم (عليه السلام)، وأنّ خطيئـته تمنعه من الشفاعة.

    نعم، للبخاري في " كتاب بدء الخلق "، ولمسلم في " باب فضائل إبراهيم "، رواية تدلّ على أنّ كذبتين من الثلاث حقيقيّتان، إلاّ أنّهما في ذات الله! والثالثة بصورة الكذب لمصلحة شرعية(4)!..

    وهذه الرواية لا توجب صرف روايات الشفاعة عن ظاهرها من الخطيئة، بل تنافيها وتضادّها، وإلاّ فما معنى اعتذار إبراهيم عن الشفاعة بالكذب والخطيئة إذا كان كذبه في ذات الله، أو صوريّاً لمصلحة شرعية؟!

    ____________

    (1) الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ 2 / 548 ذ ح 1902، وانظر: صحيح البخاري 9 / 217 ـ 218 ح 39، مسند أحمد 3 / 244، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 360 ح 804، التوحيد ـ لابن خزيمة ـ: 248.

    (2 و 3) سورة الأنبياء 21: 63.

    (4) صحيح البخاري 4 / 280 ح 161 كتاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، صحيح مسلم 7 / 98 ; وقد تقدّم ذلك عنهما وعن غيرهما في الصفحة 97 من هذا الجزء.