الصفحة 131
التمنّيات والوساوس الشيطانية؟!

وروي في (الكنز) أيضاً بعد الحديث المذكور: " إنّ عمر صلّى بالناس العشاء الآخرة، فلم يقرأ بها... فاعتذر بأنّي سهوت، جهّزت عِيراً من الشام حتّى قدمت المدينة، فأمر المؤذّن فأقام الصلاة، ثمّ عاد وصلّى بالناس العشاء "(1).

وهذا من الجهل ; لأنّ نسيان القراءة لا يوجب الإعادة!..

.. إلى غير ذلك ممّا رووه عن أشياخهم، من السهو والإعراض عن الصلاة، حتّى روى البخاري في: " باب يُفْـكِرُ الرجلُ الشيءَ في الصلاة "، عن عمر أنّه قال: " إنّي لأُجهّز جيشي وأنا في الصلاة "(2).

وأمّا قوله: " شرّع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلّق بالصلاة في أثناء الصلاة "..

فـفيه: إنّ المشي إلى الخشبة ليس ممّا يتعلّق بها، وكذا الدخول إلى الحجرة والخروج منها كما في حديث مسلم(3)، بل الدخول والخروج مسـتلزمان للانحـراف عن القِبلة، ولو إلى المغرب والمشرق ; لأنّ بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في يسار المسجد، ومثل هذا الانحـراف مبطل للصلاة وإنْ وقع سهواً..

على أنّ تلك الأفعال كثيرة عرفاً، والكثير مبطل للصلاة عند

____________

(1) كنز العمّال 8 / 133 ـ 134 ح 22258، وانظر: مصنّف عبـد الرزّاق 2 / 123 ـ 124 ح 2752.

(2) صحيح البخاري 2 / 148، مصنّف ابن أبي شيبة 2 / 314 ب 261 ح 2، كنز العمّال 8 / 216 ح 22629.

(3) صحيح مسلم 2 / 88.


الصفحة 132
جمهورهم كما نقله السيّد السعيد (رحمه الله) عن كتاب " الينابيع "(1) وشرحها، ونقل عنهما: إنّ الخطوات الثلاث المتوالية من الكثير(2).

هـذا، مضافاً إلى أنّ عادة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المكث بعد الصلاة إلى أن تنصرف النساء ويدخلن بـيوتهنّ، كما رواه البخاري في أواخر كتاب الأذان، في باب مكث الإمام في مصلاّه بعد الصلاة(3)، وهذا موجب للفصل الطويل بين أجزاء الصلاة مضافاً إلى الفصل الحاصل من الكلام والدخول والخروج وغيرها، فتتغيّر هيئة الصلاة، فتبطل.

وأمّا ما زعمه من تشريع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للكلام القليل في أثناء الصـلاة..

فـفيه: إنّ السـلام الواقـع على الركعتيـن مع الكلام المتكـّرر من النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكثير عرفاً، فيبطل الصلاة وإنْ وقع سهواً عنها.

على أنّ بعض ما رووه من كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من الكلام العمدي، فيبطل الصلاة وإنْ قلّ!

____________

(1) كـتاب " ينابيـع الأحكام في معرفـة الحلال والحرام " فـقه على المذاهب الأربعة، لا يزال مخطوطاً، وهو لصدر الدين أبي عبـد الله محمّـد بن محمّـد بن زنـكي الشعيبي الساوي الأَسفراييني الشافعي (677 ـ 747 هـ).

انظر: كشف الظنون 2 / 2050، هديّة العارفين 2 / 153، معجم المؤلّفين 3 / 679 رقم 15790.

هـذا، ولم نهتدِ إلى اسم الشرح المشار إليه في المتن!

(2) إحقاق الحقّ 2 / 262.

وانـظر: المهـذّب 1 / 88، المجمـوع شرح المهذّب 4 / 92 ـ 94، فتح العزيـز ـ حاشية المجموع ـ 4 / 118، فتح العلاّم 2 / 447 ـ 448، حاشية ردّ المحتار 1 / 677.

(3) صحيح البخاري 2 / 19 ح 231.


الصفحة 133
روى الحاكم(1): " إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سها في المغرب فسلّم في ركعتين، فأمر بلالا فأقام الصلاة، ثمّ أتمّ تلك الركعة ".

ونحوه في كنز العمّال(2)، عن ابن أبي شيبة.

فإنّ أَمْـرَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لبلال بالإقامة بعدما تبيّن له السهو، كلامٌ عمدي.

وروي في (الكنز) قبل الحديث المذكور بقليل، عن الدارقطني وعبـد الرزّاق: " إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما قال: أصدق ذو اليدين؟! وقال الناس: نعم ; قال: حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، ثمّ صلّى بهم... "(3).

فإنّ إقامة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد انكشاف السهوِ لهُ، كلام عمدي، وهو مبطل للصلاة بالسُـنّة والإجماع.

كما إنّه بمقتضى أخبارهم أنّ الناس أيضاً سلّموا على ركعتين، وصدرت منهم الأفعال والأقوال الكثيرة عمداً، فكان اللازم عليهم إعادة الصلاة لمجرّد السلام فضلا عن غيره!

وكان اللازم أيضاً على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) البيان، ولم ينقل شيء من ذلك، بل نقلوا في بعض أخبارهم أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أتمّ بهم الناقص فقط، حتّى إنّهم لم ينقلوا أنّه أمرهم بسجود السهو مثله، أو أنّ أحداً منهم سجد، وهذا من شواهد الكذب..

____________

(1) المستدرك على الصحيحين 1 / 261 [1 / 469 ح 1206] . منـه (قدس سره).

(2) كنز العمّال 4 / 215 [8 / 139 ـ 140 ح 22286] . منـه (قدس سره).

وانظر: المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 1 / 488 ب 252 ح 1.

(3) كنز العمّال 8 / 138 ح 22280، وانظر: سنن الدارقطني 1 / 287 ـ 288 ح 1363 و 1364، المصنّف ـ لعبـد الرزّاق ـ 2 / 298 ح 3444.


الصفحة 134
وإنّ قصد الرواة مجرّد نسبة السهو إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعاً للطعن عن أنفسهم وأوليائهم، وإرضاء لأئمّة جماعاتهم، كما يعرفه من سبر أحوالهم.

وأمّا قوله: " والعجب أنّه قال: كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر "..

فـفيه: إنّ المصنّف لم ينكر على حفظهما، بل على مَن روى حفظهما وأثبته لهما، والحال أنّهما لم يذكرا ذلك للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

فإنّ قول الراوي: " فهاباه أن يكلّماه " دالٌّ على أنّهما حافظان لِما نسيه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنعتهما هيبته عن بيان سهوه له، وهذا أمر تشهد الضرورة بكذبه، إذ كيف يترك عمر بيانه له ـ لو كان حافظاً ـ وهو خلاف ما يروونه من أحواله معه وجرأته عليه؟!

وكفاك ما رووه من حصبه للحبـشـة بحضرته(1)..

ومعارضته له في الصلاة على ابن أُبَيّ(2)..

وجرأته عليه يوم الحديبـية(3)..

وقوله في وجهه المبارك: " إنّ النبيّ ليهجر "(4)..

فإنّ من يواجهه بالهجر لا يهاب من مواجهته بالسهو!

____________

(1) راجع الصفحة 111 هـ 2.

(2) انظر: صحيح البخاري 6 / 129 ـ 130 ح 190 ـ 192 و ج 7 / 262 ح 15، صحيح مسلم 8 / 120، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ 1 / 124 ح 52، سنن الترمذي 5 / 260 ـ 261 ح 3097 و 3098، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 6 / 357 ح 11224 و 11225، مسند أحمد 1 / 16.

(3) انظر: صحيح البخاري 4 / 36 ـ 43 ح 18، صحيح مسلم 5 / 175، مسند أحمد 4 / 330.

(4) راجع الصفحة 93 هـ 2.


الصفحة 135
وكذلك أبو بكر، فإنّه قد مارى عمر في تأمير الأقرع بن حابس حتّى ارتفعت أصواتهما بحضرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)..

وقد زعموا أنّه أخذ بيد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال له: حسبك! فقد ألححتَ على ربّك! لمّا ناشد النبيّ ربّه عهده يوم بدر(2).

ولعمري لو كان لقصّة سهو النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أصل، لكان أبو بكر وعمر أوّل من يلاقيه بها كما هو ظاهر لكلّ منصف.


*    *    *

____________

(1) انظر: صحيح البخاري 5 / 333 ح 364 و ج 6 / 243 ح 339، سنن الترمذي 5 / 361 ح 3266، سنن النسائي 8 / 226، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 6 / 466 ح 11514، الاستيعاب 3 / 1284 رقم 2122، تفسير ابن كثير 4 / 207.

(2) انظر: صحيح البخاري 4 / 111 ح 126 و ج 5 / 180 ح 5 و ج 6 / 254 ـ 255 ح 369 و 371، مسند أحمد 1 / 329، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 3 / 50.


الصفحة 136

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

وفي الصحيحيـن، عن عبـدالله بن عمر أنّـه كـان يحـدّث عن رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنّه دعا زيد بن عمرو بن نفيل(2)، وذلك قبل أن ينزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقدّم إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثمّ قال: إنّي لا آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه "(3).

فلينظر العاقل، هل يجوز له أن ينسب نبيّه إلى عبادة الأصنام والذبح على الأنصاب ويأكل منه، وأنّ زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف بالله منه، وأتمّ حفظاً ورعاية لجانب الله تعالى؟!

نعوذ بالله من هذه الاعتـقادات الفاسدة!


*    *    *

____________

(1) نهج الحقّ: 155.

(2) هو: زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، والد سعيد بن زيد، وابن عمّ عمر بن الخطّاب، قيل: كان يتعبّـد في الجاهلية، ومات قبل مبعث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

انظر: أُسد الغابة 2 / 143 رقم 1860، الإصابة 2 / 613 رقم 2925.

(3) صحيـح البخـاري 5 / 124 ح 312 و ج 7 / 165 ح 31، الجمـع بـيـن الصحيحيـن ـ للحميدي ـ 2 / 275 ح 1424، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 55 ح 8189، مسند أحمد 2 / 69 و 89 و 127، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 2 / 121 ـ 122.


الصفحة 137

وقال الفضـل(1):

من غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل، وعدم الاعتماد والوثوق على نقله، رواية هذا الحديث..

فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطلوبه، وهو الطعن في رواية الصحاح، وما ذكر تمامه!

وتمام الحديث: " إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام، قال: وأنا أيضاً لا آكل من ذبيحتهم وممّا لم يذكر اسم الله عليه، فأكلا معاً "(2).

وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية، نسأل الله العصمة من التعصّب، فإنّه بئـس الضجيـع.


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 263.

(2) لو نظرت إلى صحاحهم لبطل ادّعاء الفضل هذا، إذ لا توجد تتمّة للحديث، انظر: صحيح البخاري 7 / 165 ح 31، كتاب الذبائح والصيد، باب ما ذبح على النصب والأصنام.


الصفحة 138

وأقـول:

قد راجعنا صحيح البخاري فوجدنا الحديث إثر أبواب المناقب، وفي باب ما ذُبح على النصب والأصنام من كتاب الذبائح، وما رأينا لهذه التتمّة أثـراً!(1).

وقد رواه أحمد في مسنده(2)، ولم يذكر ما أضافه الخصم!

وليست هذه أوّل كلمة وضعها، بل سبق له مثلها قريباً في روايات اللهو(3)، وسـيأتي له أمثالها!

ولا عجب فإنّها سُـنّة لهم في غالب أخبارهم، ومنها أصل هذا الحديث، ولكنّي أعجب من إرعاده وإبراقه وسؤاله العصمة عن التعصّب ونسـبته إلى المصنّف عدم الأمانة! وكأنّه يريد بذلك أن يدعو قومه إلى إضافة هذه التتمّـة!!


*    *    *

____________

(1) انظر: صحيح البخاري 7 / 165 ح 31.

(2) مسند أحمد 2 / 69 و 89 و 127. منه (قدس سره).

(3) راجع ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في الصفحة 78 وما بعدها.


الصفحة 139

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

وفي الصحيحين، عن حذيفة بن اليمان، قال: " كنت مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً، فتنحّيت، فقال: ادنه ; فدنوت حتّى قمت عند عقبيه، فتوضّأ ومسح على خفّيه "(2).

فكيف يجوز أن ينسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البول قائماً، مع أنّ أرذل الناس لو نُسب هذا إليه تبرّأ منه؟!

ثمّ المسح على الخفّين والله تعالى يقول: ( وأرجلكم )(3)؟!

فانظروا إلى هؤلاء القوم كيف جوّزوا الخطأ والغلط على الأنبياء، وأنّ النبيّ يجوز أن يسرق درهماً(4)، ويكذب في أخسّ الأشياء وأحقرها(5)!

____________

(1) نهج الحقّ: 156.

(2) صحيـح البخاري 1 / 110 ح 87 و 88 و ج 3 / 270 ح 44، صحيـح مسلم 1 / 157 ; وانظر: سنن أبي داود 1 / 6 ح 23، سنن الترمذي 1 / 19 ح 13، سنن النسائي 1 / 19 و 25، سنن ابن ماجة 1 / 111 ح 305 و 306، سنن الدارمي 1 / 123 ب 9 ح 671، مسند أحمد 4 / 246 و ج 5 / 382 و 394 و 402.

(3) سورة المائدة 5: 6.

(4) وقد اتّـهموه (صلى الله عليه وآله وسلم) بسلّ قطيفة من مغانم بدر! انظر:

سنن الترمذي 5 / 214 ح 3009 وقال: " حديث حسن غريب "، سنن أبي داود 4 / 30 ح 3971، مسند أبي يعلى 4 / 327 ح 2438 و ج 5 / 60 ح 2651، المعجم الكبير 11 / 288 ح 12028 و 12029، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 2 / 62 ـ 63، أسباب النزول ـ للواحدي ـ: 70، تفسير الطبري 3 / 498 و 500، شرح نهج البـلاغة 14 / 168.

(5) بناءً على قولهم بعدم عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير التبليغ.


الصفحة 140

وقال الفضـل(1):

اختُلِف في جواز البول قائماً، فالذي يجوّزه يستدلّ بهذا الحديث، وعن الأطبّاء: إنّ البول قائماً ينفع الكلية والمخصر ; فالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل هكذا ليشرّع جواز البول قائماً.

وأيّ منقصة يتصوّر من البول قائماً، سيّما إذا كان متضمّناً للتشريع؟!

وطلب الدنوّ من حذيفة ربّما يكون لتشريع جواز البول قائماً بقرب من الناس، بخلاف الغائط، لغلظته، ولهذا كان يبعد من الناس في الغائط دون البول.

وأمّا المسح على الخفّ، فهو جائز بالإجماع من أهل السُـنّة، كما سـيأتي في مباحث الفقه، والله أعلم.

ثمّ ما ذكر أنّهم جوّزوا الخطأ والغلط على الأنبياء، والنبيّ يجوز أن يسرق درهماً، فقد ذكرنا أنّ هذا افتراء محض، ووجب تنزيه الأنبياء من الصغيرة الدالّـة على الخسّـة(2).


*    *    *

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 265.

(2) انظر الصفحة 20 وما بعدها من هذا الجزء.


الصفحة 141

وأقـول:

يدلّ على كذب الحديث أُمور:

الأوّل: ما رواه أحمد في مسنده، عن عائشة(1)، قالت: " من حدّثك أنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بال قائماً فلا تصـدّقه، ما بال رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائماً منذ أُنزل عليه القرآن ".

ونحوه في كتاب الطهارة من مستدرك الحاكم(2)، وصحّحه هو والذهبي في (التلخيص) على شرط البخاري ومسلم.

الثاني: ما نقله البغوي في باب أدب الخلاء، من (مصابيحه)، من الحسان، عن عمر، قال: " رآني النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أبول قائمـاً، فقال: يا عمر! لا تبل قائماً "(3).

الثـالث: إنّ البول قائماً يسـتلزم بحسـب العادة وصوله إلى البائل، ولا سيّما عند قرب انقطاعه، ولا ريب أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَوْلى بتجنّب موارد احتمال الإصابة، فضلا عن موارد القطع العادي..

____________

(1) مسند أحمد 6 / 136 و 192 و 213. منـه (قدس سره).

وانظر: سنن الترمذي 1 / 17 ح 12 وقال: " حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصحّ "، سنن النسائي 1 / 26، سنن ابن ماجة 1 / 112 ح 307، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 1 / 102.

(2) المستدرك على الصحيحين 1 / 181 [1 / 290 ح 644] . منـه (قدس سره).

(3) مصابيح السُـنّة 1 / 200 ح 255، وانظر: سنن الترمذي 1 / 17 ح 12، سنن ابن ماجة 1 / 112 ح 308، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 1 / 102.


الصفحة 142
كيف؟! وقد روى مسلم في آخر كتاب الطهارة: " إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بقبرين، فقال: أما إنّهما يعذّبان وما يعذّبان في كبير، أمّا أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وكان الآخر لا يسـتنزه عن البول "(1).

ونحوه في موارد كثيرة من صحيح البخاري(2).

ونقل البغوي في باب أدب الخلاء من الحسـان: " إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أراد أن يبول، فأتى دَمِثاً(3) في أصل جدار فبال، ثمّ قال: إذا أراد أحدكم أن يبول فَـلْـيَـرْتَـدْ لبوله "(4).

فمع هذه الأخبار، وأضعافهـا من أخبارنا(5)، كيف نصدّقهم على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه بال قائماً؟! ولا سيّما مع دعوى طلب دنوّ حذيفة منه، وهو مناف للحياء وسُـنّته، فإنّه كان يبعد المذهب، ولم ير على بول أو غـائط.

ودعوى التشريع واضحة البطلان، إذ ليس لإباحة البول قائماً بقرب الناس من الأهمّية ما يحتاج إلى التشريع بالفعل، وقد كان التشريع بالقول ممكناً، وأظهر بياناً!

____________

(1) صحيح مسلم 1 / 166.

(2) صحيح البخاري 1 / 107 ح 79 و ص 108 ح 81 و ج 8 / 31 ح 83، وانظر: سنن أبي داود 1 / 5 ح 20، سنن ابن ماجة 1 / 125 ح 349.

(3) الدَمِثُ: المكان الليّن ذو رَمْل، والأرض الليّنة السهلة الرِّخْوة ; انظر: الصحاح 1 / 282، لسان العرب 4 / 400، مادّة " دمث ".

(4) مصابيح السُـنّة 1 / 194 ح 237، وانظر: سنن أبي داود 1 / 1 ح 3، مسند أحمد 4 / 396 و 414.

(5) انظر مثلا: كتاب من لا يحضره الفقيه 1 / 16 ح 36 و ج 2 / 195 ح 884، تهذيب الأحكام 1 / 33 ح 87، وراجع: تفصيل وسائل الشـيعة 1 / 305 ـ 306 ح 800 ـ 804 و ص 338 ـ 340 ح 889 ـ 895.


الصفحة 143
وليس البول قائماً في الجواز إلاّ كالتغوّط قائماً، وإرسال الريح جالساً بين الناس، فهل ترى يحسن فعلهما للتشريع؟!

وأمّا قوله: " وأيّ منقصة تتصوّر من البول قائماً؟! "..

فمن مكابرة الضرورة، ولكن يحقّ له نفي المنقصة، فقد كان إمامهم عمر يفعل ذلك كما عرفت، وكذلك ابنه عبـد الله!

روى مالك في موطّئه تحت عنوان: " ما جاء في البول قائماً "، عن عبـد الله بن دينار، قال: " رأيت عبـد الله بن عمر يبول قائماً "(1).

وعن النووي: " إنّ عمر كان يقول: البول قائماً أحصن للدبر "(2).

ولعلّه لهذه الحكمة كان يفعله ويفعله أصحابه!

وأمّا ما ذكره من أنّ نسبة تجويز الخطأ والغلط افتراء عليهم ; فمكابرة ظاهرة ; لأنّه بنفسه في ما سبق ذكر الخلاف بينهم في عصمة الأنبياء عن الكذب سهواً في ما يبلّغونه عن الله تعالى(3)، فإذا جاز الخطأ في التبليغ، فـفي العمل أَوْلى..

ولذا أجازوا سهو النبيّ في الصلاة، فكما يجوز أن يصلّي الظهر ركعتين سهواً وخطأً، فليجز أن يخطأ في مسح الخفّ والمطلوب المسح على الرِجل.

وأمّا إنكاره لتجويز سرقة الدرهم على الأنبياء ; فمبنيُّ على أنّها من

____________

(1) الموطّـأ: 58 ح 115.

(2) شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 135 ح 273، وانظر: كنز العمّال 9 / 520 ح 27244.

(3) انظر الصفحة 20 وما بعدها من هذا الجزء.


الصفحة 144
الصغائر الدالّة على الخسّة، وهو من محدَثات بعض المتأخّرين منهم، كصاحب " المواقف "(1)، وقد ذهبوا إليه ـ مع مخالفته لقواعدهم ـ فراراً من بعض الشناعات!


*    *    *

____________

(1) المواقف: 359.


الصفحة 145

تـتـمّـة
الأحاديث الموضوعة في توهين الأنبياء والخالق

تشـتمل على أخبار لهم معتبرة عندهم، نسـبوا فيها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى ما لا يليـق!..

[1 ـ حديث بدء الوحي]

فمنها: ما رواه البخاري في أوّل صحيحه، ومسلم في باب بدء الوحي من كتاب الإيمان، عن عائشة، قالت في أثناء حديثها:

" حتّى فاجـأه الوحي وهو في غار حِراء، فجاءه الملَـك، فـقال: إقـرأ!

قال: ما أنا بقارئ.

قال: فأخذني فغَطَّني(1) حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فـقال: إقرأ!

فقلت: ما أنا بقارئ.

فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: إقرأ!

فقلت: ما أنا بقارئ.

فأخذني فغطّني الثالثة، ثمّ أرسلني فقال: ( إقرأ باسمِ ربّكَ الذي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسانَ من علق * إقرأ وربُّكَ الأكرمُ )(2).

____________

(1) الـغَـطُّ: العصر الشديد والكبس ; انظر: لسان العرب 10 / 88 مادّة " غطط ".

(2) سورة العلق 96: 1 ـ 3.


الصفحة 146
فرجع بها رسول الله يرجفُ فؤاده، فدخل على خديجة، فقال: زمّلوني زمّلوني(1)، فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشـيت على نفسي.

فقالت خديجة: كلاّ! ما يخزيك الله أبداً، إنّك لتَصِلُ الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحـقّ.

فانطلقت به خديجـة حتّـى أتـت به ورقـة بن نوفـل بن أسـد بن عبـد العزّى، ابن عمّ خديجة، وكان امرأً قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.

فقالت له خديجة: يابن عمّ! اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة: يابن أخي! ماذا ترى؟

فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خبر ما رأى.

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل اللهُ على موسى "(2).. الحـديث.

ورواه البخاري أيضاً في باب التعبير بعد أبواب كتاب الحيل، وزاد فيه قوله:

" وفتر الوحي فترة حتّى حزن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في ما بلغنا ـ حزناً غدا منه مراراً كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلّما أوفى بذروة جبل

____________

(1) تَـزَمَّـلَ فلان: إذا تَـلَـفَّـفَ بثيابه وتدثَّر ; انظر: لسان العرب 6 / 83 مادّة " زمل ".

(2) صحيـح البخاري 1 / 4 ـ 5 ح 3 و ج 6 / 300 ـ 302 ح 450، صحيح مسلم 1 / 97 ـ 98، وانظر: المصنّف ـ لعبـد الرزّاق ـ 5 / 321 ـ 323 ح 9719، مسند أبي عوانة 1 / 102 ح 328، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7 / 51 و ج 9 / 6، مصابيح السُـنّة 4 / 63 ـ 66 ح 4556.


الصفحة 147
لكي يلقي منه نفسه تبدّى له جبرئيل فقال: يا محمّـد! إنّك رسول الله حقّـاً ; فيسكن لذلك جأشه، وتـقـرّ نفسـه.

فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرئيل فقال له مثل ذلك "(1).

ورواه أحمـد في (مسـنده) في مقـامات عديـدة، وفي بعضها أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لخديجة: " خشيت أن يكون بي جنن "(2).

وروى ابن الأثير في (كامله) نحو ما سـبق(3)، وزاد فيه:

" وقالت خديجة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما تثـبّته في ما أكرمه الله به من نبوّته: يابن عمّ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟

قال: نعم.

فجاءه جبرئيل، فأعلمها، فقالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى.

فقام فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟

قال: نعم.

قالت: فتحوّل فاقعد على فخذي اليمنى.

فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟

قال: نعم.

فتحسّرت، فألقت خِمارَها ورسول الله في حِجرها، ثمّ قالت: هل تراه؟

____________

(1) صحيح البخاري 9 / 54 ح 1.

(2) مسند أحمد 1 / 312 و ج 6 / 223 و 232 ـ 233.

(3) الكامل في التاريخ 2 / 21 [1 / 576] . منـه (قدس سره).


الصفحة 148
قال: لا.

قالت: يابن عمّ! اثبت وأبشِر، فوالله إنّه مَلَك وما هو بشيطان ".

ورواه الطبري أيضاً في تاريخه مع هذر كثير(1).

ورواه في " الاستيعاب " بترجمة خديجـة(2).

وهذا الحديث أحقّ بأن يجعل مسخرة للناظرين لا رواية للراوين! وذلك لأُمور:

الأوّل: إنّه كيف يقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً: " ما أنا بقارئ " ويتحمّل المشاقّ، ولم يسأل جبرئيل عمّا يراد قراءته؟! وهل هو من كتاب أو غيـره؟! فلعلّ له بأحد الوجوه علماً أو عذراً!

ثمّ كيف يجوز لجبرئيل إيذاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وترويعه وهو يراه عاجزاً عن إتيان ما أمره به، فهل جاء معنّفاً أو معلّماً؟!

وليت شعري ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستسلم بين يديه مراراً ويرجف فؤاده؟! ألم تكن له عند القوم شجاعة موسى فيلطم جبرئيـل كما لطم موسى ملك الموت؟!

الثاني: إنّه لا يمكن أن يجهل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه رسول الله وقد علم برسالته قبل وقتها الكهّان والرهبان، ولو جهل بها لكان غيره أَوْلى بالجهل بها في تلك الحال، فيلغو فيها إرساله.

أيجوز أن يبعث الله من لا يدري برسالة نفسه ولا يعلم ما هو؟! وهو سبحانه قد بعث عيسى وهو في المهد وعرّفه أنّه نبيّه وأنطقه برسالته!

____________

(1) تاريخ الطبري 1 / 533.

(2) الاستيعاب 4 / 1820 رقم 3311.


الصفحة 149
ولا أدري أيّ نبوّة لمن يخشى على نفسه من رسول الله إليه؟!..

وأيّ رسالة لمن يحقّقها بقول نصراني، ويتعرّفها بقول امرأة، حتّى تثـبّته عليها بذلك الطريق الوحشي؟!

ولعمري إنّ امرأة تثـبّت نبيّـاً نبوّتَه وتعلّمه بها لأحقّ منه بالنبوّة! وعلى ذلك يكون ورقة وخديجة أوّل الناس إسلاماً والسابقين فيه حتّى على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا بالخرافات والكفر أشـبه!

الثالث: إنّه كيف يريد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلقاء نفسه من شواهق الجبال وهو فِعل مَن لا عقل له، وقد حرّمه الشرع كتاباً وسُـنّة! حتّى روى أحمد(1)، عن أبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: " من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يردى في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها ".

فيا حسرة لسـيّد النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم)! ويا أسفاً على شأنه من شانئيه! مرّة ينسبونه إلى الهجر في القول، ومرّة إلى الهجر في العمل، لعَمر الله لقد فضحنا هؤلاء المتّـسِـمون بالمسلمين عند الملل الخارجة!

فيا هل ترى إذا جاء الرجل منهم وفتح أصحّ كتاب بعد كتاب الله بزعمِ جمهورِ مَن يدّعي الإسلام، ونظر إلى أوّل صفحة منه، ورأى فيها هذه الخرافة والشناعة، كيف يقع في ذهنه الإسلام؟! وفي أيّ محلّ يجعل النبيّ الأطيب من الصدق والمعرفة والعقل؟!

وممّا يكـذّب هذا الحديث ما رواه البخاري في تفسير سورة المدّثّر، عن أبي سلمة، قال: سألت جابر بن عبـد الله: أيّ القرآن أُنزل أوّل؟

فقال: ( يا أيّها المدّثّـر )(2).

____________

(1) مسند أحمد 2 / 254 و 435 و 478 و 488. منه (قدس سره).

(2) سورة المدّثّر 74: 1.