قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ(1):
ومنها: إنّه لو جاز أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبرّي منه ; لأنّه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن الله تعالى قد نصَّ على تحريم إيذاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ( إنّ الّذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة )(2).
____________
(1) نهج الحقّ: 157.
(2) سورة الأحزاب 33: 57.
وقال الفضـل(1):
قد ذكرنا هذا الدليل من قبل الأشاعرة(2)، وهو حجّة على من يجوّز الكـبائر..
وأمّـا الصغـائر، فمن لم يباشر الكبيـرة، فهو معفـوٌّ عنه، فلا زجـر ولا تعنيف ولا إيـذاء.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 270.
(2) انظر الصفحة 21 ـ 22 من هذا الجزء.
وأقـول:
أدلّة النهي عن المنكَر عامّة للكبائر والصغائر بلا فرق، ومجرّد العفو عن الصغيرة مع اجتناب الكبائر لا يخرجها عن كونها منكَراً يجب النهي عنه، ولا يجعلها بحكم المباح، كما يجب نهي فاعل الكبيرة وإنْ علمنا أنّه يتوب بالأثر.
فإن قلت: النبيّ لا يتأذّى بشيء يعود إلى النهي عن المنكَر.
قلـت: كيف لا يتأذّى وقد منع عمّا رغب فيه ولا سيّما بالقسر، وإنْ كان ربّما يرتفع الأذى في ما بعد لكنّه لا يجدي بعد أن كان الناهي فاعلا للإيـذاء.
ثـمّ إنّهم أجازوا على الأنبياء فعل الكبائر سهواً، وهذا الدليل يبطله، إذ إنّ المنكَرات لا يراد وقوعها حتّى سهواً، غاية الأمر أنّ الساهي غير معاقب في الآخرة، وهو أمر آخر، مع أنّه لا يعلم السهو غالباً إلاّ بعد أن يعتذر الساهي به.
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
ومنها: سقوط محلّه ورتبته عند العوامّ فلا ينقادون إلى طاعته، فتنـتفي فائدة البعثة.
ومنها: إنّه يلزم أن يكونوا أدون حالا من آحاد الأُمّة ; لأنّ درجات الأنبياء في غاية الشرف، وكلّ مَن كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش، كما قال تعالى: ( يا نساء النبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين )(2)، والمحصن يُرجم وغيره يُحدّ، وحدّ العبد نصف حدّ الحـرّ.
والأصل فيه أنّ علمهم بالله أكثر وأتـمّ، وهم مهبط وحيه ومنازل ملائكته، ومن المعلوم أنّ كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع فينا في صدور الذنب، لكنّ الإجماع دلّ على أنّ النبيّ لا يجوز أن يكون أقلّ حالا من آحاد الأُمّـة.
ومنها: إنّه يلزم أن يكون مردود الشهادة ; لقوله تعالى: ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّـنوا )(3)، فكيف تقبل شهادته في الوحي؟!
ويلزم أن يكون أدنى حالا من عدول الأُمّة، وهو باطل بالإجماع!
ومنها: إنّه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به ; لقوله تعالى:
____________
(1) نهج الحقّ: 157.
(2) سورة الأحزاب 33: 30.
(3) سورة الحجرات 49: 6.
____________
(1) سورة المائدة 5: 92.
(2) سورة الأحزاب 33: 21.
(3) سورة آل عمران 3: 31، وسورة طـه 20: 90.
وقال الفضـل(1):
قد سبق أنّ هذه الدلائل حجّة على من قال بجواز صدور الكبائر عنهم، والإكثار من الصغائر حتّى يصير سبباً لحطّ منزلتهم عند الناس، وموجباً للإيذاء والتعنيف، وترجيح الأُمّـة عليه(2).
وأمّـا صدور الصغائر التي عفا الله عنـها إذا كان على سـبيل الندرة فغير ممتنع، ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها، وكلّ هذه الدلائل قد ذكرناها في ما سلف(3)، وأنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاسـتدلال على من يقول بجواز الكبائر، وقد قدّمنا أنّ بعض تلك الأدلّة يـدلّ على وجوب نفي الذنب عن الأنبياء مطلقاً ; والله أعلم.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 271.
(2) انظر الصفحتين 21 و 22 من هذا الجزء.
(3) انظر الصفحة 22 وما بعدها من هذا الجزء.
وأقـول:
لا ريب أنّ الدليل الأوّل يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر، حال النبوّة وقبلها، عمداً وسهواً ; لأنّ الذنب وإن قلّ وصغر يُسقط محلّ المذنب ولو في الجملة، ويمنع من الوثوق التامّ به والانقياد الكامل إليه حتّى مع العلم بسهوه ; لأنّ السهو يقع غالباً من التساهل ويجهل الناس سببه فتنتفي فائدة البعثة.
وبالجملـة: النبيّ منار الدعوة إلى الله تعالى، وباب طاعته، فيجب أن يكون بريئاً من كلّ عيب يمسّ مقام الدعوة، ونقيّاً من كلّ حُزونة(1) لا تسهّل سبيل الطاعة، فلا يجوز أن يصدر عنه ذنب أصلا.
وأمّا الدليل الثاني: فهو أيضاً يثبت عصمتهم عن الذنوب مطلقاً حتّى قبل النبوّة ; لأنّ معصية الكبير أكبر، فلو عصوا كانوا أدون حالا من أداني الأُمم ; لأنّ أصغر الصغائر من أعلى المكلّفين أكبر الكبائر من أدناهم حتّى مع السهو ; لأنّ التمييز بالمعرفة يستدعي المحافظة التامّة، وبدونها يكون أدنى من الأداني ولو في الجملة، وهو خلاف ضرورة العقل والملِّـيّـيـن.
وأمّا الدليل الثالث: فهو يثبت عصمتهم عمّا ينافي العدالة حال النبوّة وقبلها عمداً وسهواً، مع عدم العلم بسهوه ; لأنّ صدورها حينـئذ
____________
(1) الحُزونة: الخشونة في النفْس لِما يحصل فيها من الغمّ على المجاز هنا ; انظر مادّة " حزن " في: لسان العرب 3 / 159، تاج العروس 18 / 137.
وأمّا الدليل الرابع: فهو يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر عمداً وسهواً، لكن حال النبوّة، وإنّما جعل المصنّف هذا الدليل مستقلاًّ مع أنّه أحد شقَّي الترديد في الدليل الذي ذكره سابقاً بقوله: " ومنها: إنّه إذا فعل المعصية فإمّا أن يجب علينا اتّباعه " ; لأنّ الكتاب العزيز يقتضي تعيينه، فذكره هنا معيّناً لذلك، وذكره سابقاً بنحو الترديد ; لأنّ المراد هناك بيان وجوه الاحتمال.
فثبتت من الأدلّة المذكورة عصمتهم عن الذنوب مطلقاً، وفي جميع الأحوال حتّى قبل النبوّة وإنِ اختصّ بعض تلك الأدلّة ببعض الذنوب، وحينئذ فيبطل ما زعمه القوم جميعاً من أنّه يجوز عقلا صدور الصغائر والكبائر عنهم عمداً وسهواً، حال النبوّة وقبلها سوى الكذب في دعوى النبوّة وفي التبليغ كما سـبق.
غاية الأمر أنّ أكثر الأشاعرة ـ على ما ادّعاه في " المواقف " ـ قالوا بعدم جواز تعمّدهم الكبائر للدليل السمعي في حال النبوّة خاصّة وإن جاز وقوعها عقلا(2).
هـذا، ولا نحتاج في مطلوبنا بعد هذه الأدلّة إلى دلالة المعجزة حتّى يقول الخصم: " ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ".
وأمّا قوله: " إنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال "..
____________
(1) المراد هنا هو إخباره بالوحي، فلن يُقبل إخباره بالوحي مثلما لم تُقبل شهادة الفاسق.
(2) المواقف: 359.
والظاهر أنّ منشأه عدم التدبّر من وجه ; لأنّهم إنّما ذكروها تبعاً، والتعصّب لمذهب الأسلاف من وجه آخر، كما يشهد له إقرار الخصم بدلالة بعضها على العصمة عن الذنوب مطلقاً ومخالفـته له في باقي كلماتـه.
ثـمّ إنّه يدلّ على المطلوب أُمور أُخر، يغني عن تطويل الكلام فيها ما عرفت، وسـيأتي بعضها في عصمة الإمام إن شاء الله تعالى، كقوله تعالى: ( لا ينال عهدي الظالمين )(1)، وقوله تعالى: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم )(2).
____________
(1) سورة البقرة 2: 124.
(2) سورة النساء 4: 59.
نزاهـة النبـيّ
عن دناءة الآباء وعهر الأُمّهات
قال المصنّـف ـ قـدّس الله نفسه ـ(1):
المبحث الثالث
في أنّه يجب أن يكون منـزَّهاً
عن دناءة الآباء وعهر الأُمّهات
ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يجب أن يكون منزّهاً عن دناءة الآباء وعهر الأُمّـهات، بريئاً من الرذائل والأفعال الدالّـة على الخسّة، كالاستهزاء به والسخرية والضحك عليه(2) ; لأنّ ذلك يُسقط محلّه من القلوب، وينفّر الناس عن الانـقياد إليه، فإنّـه من المعلوم بالضـرورة الذي لا يقبل الشكّ والارتيـاب.
وخالفت السُـنّة فيه..
أمّا الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح(3)، فلزمهم أن يذهبوا إلى
____________
(1) نهج الحقّ: 158.
(2) تجريد الاعتقاد: 213 ـ 214، قواعد المرام: 127.
(3) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 293، شرح المقاصد 4 / 282 و 283.
وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع الفواحش وأبلغ أصناف الشرك، وهو ممّن يُسخر به ويُضحك عليه ويُصفع في الأسواق ويُسـتهزأ به، ويكون قد ليط به دائماً لأُبْـنَـة فيه، قـوّاداً.
وتكون أُمّه في غاية الزنا والقيادة والافتضاح بذلك، لا تردّ يد لامـس..
ويكون هو في غاية الدناءة والسفالة ممّن قد ليط به طول عمره، حال النبوّة وقبلها، ويُصفع في الأسواق، ويعتمد المناكير، ويكون قوّاداً بصّـاصاً(1).
فهؤلاء يلزمهم القول بذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقلـيَّين، وأنّ ذلك ممكن، فيجوز من الله وقوعه، وليس هذا بأبلغ من تعذيب الله من لا يسـتحقّ العذاب، بل يسـتحقّ الثواب طول الأبـد(2)!
____________
(1) الـبَـصّاصةُ: العَينُ، واسـتعيرت هنا لمن لا يغضّ بصره عن الحرمات ; انظر: لسان العرب 1 / 421 مادّة " بصص ".
(2) انظر ج 2 / 356 من هذا الكتاب.
وقال الفضـل(1):
نعوذ بالله من هذه الخرافات والهذيانات وذِكر الفواحش عند ذِكر الأنبياء، والدخول في زمرة: ( إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة )(2).
وكفى به إساءة الأدب أن يذكر عند ذِكر الأنبياء أمثال هذه الترّهات، ثمّ يفتري على مشايخ السُـنّة وعلماء الإسلام ما لا يلزم من قولهم شيء منـه.
وقد علمت أنّ الحسن والقبح يكون بمعان ثلاثة:
أحدها: وصف النقص والكمال.
والثاني: الملاءمة والمنافرة.
وهذان المعنيان عقلـيّان لا شكّ فيه، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنّهما عقلـيّان، فأيّ نقص أتمّ من أن يكون صاحب الدعوة موصوفاً بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرجل السوء الفحّاش، وكأنّه حسب أنّ الأنبياء أمثاله من رعاع الحلّة، الّذين يفسدون على شاطئ الفرات بكلّ ما ذكره!
نعوذ بالله من التعصّب، فإنّـه أورده النار!
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 278.
(2) سورة النور 24: 19.
وأقـول:
لا يخفى أنّ كون المعنى الأوّل عقليّاً عندهم لا دخل له بالمقام ; لأنّ الكلام في جواز بعث الله سبحانه لصاحب الصفات المذكورة، والبعث من أفعال الله تعالى لا صفاته حتّى يكون وصف نقص أو كمال، وكون تلك الأُمور نقصاً في صاحب الدعوة مسلّم، إلاّ أنّ الكلام في جواز بعث الله للناقص، الذي هو من أفعال الله تعالى التي لا تتّصف عندهم بالقبح أصلا كخلقه لسائر القبائح والفواحش.
وأمّا المعنى الثاني، فهو وإن ثبت في الأفعال إلاّ أنّ أفعال الله تعالى عندهم لا تعلّل بالأغراض، فلا ملاءمة ولا منافرة فيها مع ما عرفت من الكلام في كونه عقليّـاً، فراجـع(1).
وبالجملـة: لو سُلّم قولهم بالحسن والقبح العقلـيَّين بهذين المعنيَين لم يلزم عدم جواز بعث الله تعالى صاحب الأوصاف المذكورة، بل يجوز عندهم بعث مثله، إذ لا يقبح عندهم من الله سبحانه شيء وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وقد سبق أنّهم جوّزوا بعض المعاصي على الأنبياء، بحجّة عدم دلالة المعجزة على امتناعه(2)، وهو آت في المنفّرات المذكورة.
ويدلّ على تجويزهم إرسال صاحب هذه الأوصاف أنّ صاحب
____________
(1) راجع ج 2 / 413 من هذا الكتاب.
(2) انظر الصفحات 17 و 28 وما بعدها من هذا الجزء.
فإنّ قولهمـا: " بل الله يختصّ... " إلى آخره، دالٌّ على جواز بعث أيّ شخص كان، فيجوز أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف إذا تعلّقت بإرساله المشـيئة.
ومن العجب استدلال صاحب " المواقف " على عدم اشتراط الإرسالِ بشرط بقوله تعالى: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته )(3)، فإنّ الآية ظاهرة الدلالة أو صريحتها في أنّ صاحب الدعوة أهلٌ في نفسه فيبعثه الله تعالى ; لعلمه بأهلـيّته وأنّه مسـتعدّ الذات.
ولذا أورد عليه الشارح بقوله: " وفي دلالة هذه الآية على المطلوب نوع خفـاء "(4).
ويدلّ أيضاً على تجويزهم إرسال صاحب النقائص المذكورة قول صاحب " المواقف "، وشارحها أيضاً، في مقام عصمة الأنبياء، قال:
" وأمّا قبله ـ أي قبل الوحي ـ فقال الجمهور ـ أي أكـثر أصحابنا وجمع من المعتزلة ـ: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة، إذ لا دلالة للمعجزة
____________
(1) كذا في المطبوع، وفي المخطوط والمصدر: الأعراض.
(2) المواقف: 337، شرح المواقف 8 / 218.
(3) سورة الأنعام 6: 124.
(4) شرح المواقف 8 / 218.
وقال أكثر المعتزلة: تمتنع الكبيرة وإن تاب عنها ; لأنّه ـ أي صدور الكبيرة ـ يوجب النفرة، وهي تمنع عن اتّباعه فتفوت مصلحة البعثة، ومنهم من منع عمّا ينفّر مطلقاً، أي سواء لم يكن ذنباً [لهم، أو كان] (1) كعهر الأُمهات والفجور في الآباء ودناءتهم واسـترذالهم "(2).
فإنّ هذا الكلام دالٌّ على اختصاص بعض المعتزلة بمنع المنفّرات المذكورة، فيكون الأشاعرة وبعض المعتزلة مجوّزين لها.
فتحقّق أنّ ما نسبه المصنّف إليهم حقّ وصدق، وأنّ القوم أَوْلى بحبّ إشاعة الفاحشة فـي الّذين آمنوا ; لأنّهم أجازوا أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف رحمه الله تعالى، بل نسبوا إليهم فواحش الأعمال وأشاعوها في كتبهم على ممرّ الأيام، كرقص النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأكمامه، وحضوره مجالس المغـنّين والمغنّيات، وضرب الدفوف(3)، وقوله في مدح الأصنام: تلك الغرانيق العُلا(4).. إلى غير ذلك من المخزيات.
وأمّا المصنّف (قدس سره) فلم يقصد بذِكر تلك الأوصاف الشنيعة إلاّ الإنكار على القوم واسـتفظاع آرائهم، ليرتدع من له قلب، وناقل الكفر ليس بكافر، فإساءة الأدب مع الأنبياء إنّما هي ممّن يجوّز فيهم أن يكونوا على تلك الفضائح، لا ممّن يريد الردع عنه والإنكار عليه!
لكن الخصم لعجزه وحيرته يلوذ بهذه التهمة للمصنّـف، ويشهد
____________
(1) أثبتـناه من شرح المواقف.
(2) شرح الأُصول الخمسة: 573، المواقف: 359، شرح المواقف 8 / 265.
(3) انظر الصفحتين 74 و 75 من هذا الجزء.
(4) انظر الصفحة 18 من هذا الجزء.
____________
(1) انظر ج 2 / 391 من هذا الكتاب.
قال المصنّـف ـ طـيّب الله رمسه ـ(1):
وأمّا المعتزلة، فلأنّهم حيث جوّزوا صدور الذنب عنهم(2)، لزمهم القول بجواز ذلك أيضاً، واتّـفقوا على وقوع الكبائر منهم كما في قصّة إخوة يوسـف(3).
فلينظر العاقل بعين الإنصاف، هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة والآراء الرديئة؟!
وهل يبقى مكلّف ينقاد إلى قبول قول مَن كان يُفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوّته، وأنّه يُصفع ويُستهزأ به حال النبوّة؟!
وهل يثبت بقول هذا حجّة على الخلق؟!
واعلم أنّ البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط، وأنّهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول ; لأنّهم يجوّزون تعذيب المكلّف على أنّه لم يفعل ما أمره الله تعالى به من غير أن يعلم ما أمر به، ولا أرسل إليه رسولا ألبتّـة، بل وعلى امتثال ما أمره به..
وأنّ جميع القبائح من عنده تعالى، وأنّ كلّ ما وقع في الوجود فإنّه فِعله تعالى وهو حسن ; لأنّ الحسن هو الواقع والقبيح هو الذي لم يقع.
____________
(1) نهج الحقّ: 162.
(2) شرح المواقف 8 / 265.
(3) شرح الأُصول الخمسة: 573، وانظر: الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 2 / 116 ـ 117، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين: 320 ـ 321، شرح المواقف 8 / 265.
فكيف يمكن الأشاعرة منع كفر النبيّ وهو من الله تعالى، وكلّ ما يفعله فهو حسن؟! وكذا أنواع المعاصي!
وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء؟!
نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى تحسين الكفر وتقبيح الإيمان وجواز بعثة من اجتمع فيه كلّ الرذائل والسقطات!
وقد عرفت من هذا أنّ الأشاعرة في هذا الباب قد أنكروا الضروريات.
وقال الفضـل(1):
استدلال المعتزلة على وقوع الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف استدلال قويّ ; لأنّ الإجماع واقع على أنّ إخوة يوسف صاروا أنبياء بعد إلقاء يوسف في الجبّ، وغيره من الذنوب التي لا شكّ أنّها كبائر.
وهذا الرجل ما تعرّض بجوابه إلاّ بالفحش والخُزَعْبِلـية(2)واللَّـوْذَعِـية(3) كالرعاع والأجلاف السوقية، والمعتزلة يثبتون الوقوع(4)، وهو لا يقدر على الدفع ويبحث معهم في الجواز، وهذا من غرائب أطواره في البحث.
ثمّ ما ذكر أنّ البحث مع الأشاعرة ساقط لأنّهم يجوّزون تعذيب الكفّار(5) وغيره من الطامّات.. قد عرفت في ما سبق جواب كلّ ما ذكر، وأنّ الحسن والقبح شرعيّان بمعنىً، وعقلـيّان بمعنيَين(6)..
وعلمت أنّ كلّ ما ذكره ليس من مذهبهم ولا يرد عليهم شيء، وأنّهم لا يخالفون ضرورة العقل.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 282.
(2) الـخُـزَعْبِـلُ: الباطل، والـخَـزَعْـبَـلُ: الأحاديث المسـتطـرَفة التي يُضحَك منها ; انظر مادّة " خزعبل " في: لسان العرب 4 / 83، تاج العروس 14 / 198.
(3) الـلَّـوْذَعِـي: الحديدُ الفؤاد والنفس واللسان، اللسِن الفصيح، الظريف الذهن، الذكيّ، كأنّه يلذع من ذكائه ; انظر مادّة " لذع " في: لسان العرب 12 / 268 ـ 269، تاج العروس 11 / 432.
(4) أثبته الجبّائي ومنعه القاضي عبـد الجبّار ; انظر: شرح الأُصول الخمسة: 573.
(5) كذا في الأصل، وفي " إحقاق الحقّ ": " المكلّف "، وهو المناسـب.
(6) انظر ج 2 / 330 و 411 من هذا الكتاب.
وأقـول:
لمّا كان الاستدلال على صدور الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف ساقط جدّاً، اكتفى المصنّف (رحمه الله) في الجواب عنه بإثبات المحاليّة، ولم يتعرّض لكلمة القائلين بنبوّتهم ودليلهم، إذ لم يقل بها إلاّ من لا عبرة به وبرأيه.
لكنّ الخصم على عادته وعادة أصحابه في التسامح بدعاوي الإجماعات، قال: الإجماع على نبوّتهم واقع.
ويشهد لعدم الإجماع ما ذكره ابن حزم(1) إذ قال: " إنّ إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء، ولا جاء قطّ في أنّهم أنبياء نصٌّ، لا من قرآن ولا من سُـنّة صحيحة، ولا من إجماع، ولا من قول أحد من الصحابة ".
وقال القاضي عياض في " الشفاء ": " وأمّا قصّة يوسف وإخوته فليس على يوسف منها تعقّب، وأمّا إخوته فلم تثبت نبوّتهم "(2).
ونقل ابن أبي الحديد(3) عن المعتزلة: " إنّهم قالوا: يجب أن يُنـزّه النبيّ قبل البعثة عن الكفر والفسـق ".
ثمّ نقل عن أبي محمّـد بن متّويه(4) أنّه قال: في كتاب " الكفاية ":
____________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 9 [2 / 294] . منه (قدس سره).
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 164.
(3) شرح النهج 2 / 162 [7 / 8 ـ 10] . منه (قدس سره).
(4) هو أبو محمّـد الحسن بن أحمد بن متّويه، أخذ عن القاضي عبـد الجبّار، وله كـتب، منها: المحيط في أُصول الدين، التذكرة في لطيف الكلام.
انظر: طبقات المعتزلة ـ لابن المرتضى ـ: 119.
ثمّ قال: " وقال قوم من الأشعرية ومن أهل الظاهر وأرباب الحديث: إنّ ذلك جائز واقع، واستدلّوا بأحوال إخوة يوسف، ومنع المانعون من ذلك من ثبوت نبوّة إخوة يوسف "(2).
ويشهد لذلك أيضاً كلام صاحب " المواقف " المتقدّم في المبحث السابق ; لنقله فيه عن أكثر المعتزلة المنع من صدور الكبيرة على الأنبـياء قبل الوحي(3).
ونقله القوشجي عن كثير منهم، وهو يستلزم القول بعدم نبوّة إخوة يوسـف(4).
فأين الإجماع الذي ادّعاه الخصم؟!
على أنّ سادة الأُمّة وأئمّتها الّذين أُمرنا بالتمسّك بهم قد أنكروا نبوّة إخوة يوسف (عليه السلام)(5)، وكذلك شـيعتهم.
واعلم أنّ ظاهر كلام " المواقف " السابق أنّ بعض المعتزلة قائلون بجواز عهر أُمهات الأنبياء، وفجور آبائهم ودناءتهم واسترذالهم، فيكون شاهداً لِما قاله المصنّـف (رحمه الله) من تجويز المعتزلة لذلك.
____________
(1) شرح نهج البلاغة 7 / 10.
(2) شرح نهج البلاغة 7 / 10.
(3) تقدّم في الصفحتين 193 و 194.
(4) شرح التجريد: 464.
(5) الغَيبة ـ للنعماني ـ: 163 ح 4، إكمال الدين: 144 ح 11 و ص 341 ح 21، علل الشرائع 1 / 285 ب 179 ح 3، دلائل الإمامة: 290، تفسير العيّاشي 2 / 206 ح 74 ـ 77، مجمع البيان 5 / 328، إعلام الورى 2 / 236.
قال الرازي في تفسيرها: " اختلفوا في الاجتباء، فقال الحسن: يجتبيك ربّـك بالنبـوّة، وقال آخرون: المراد به إعلاء الدرجة وتعظيم الرتبـة ".
.. إلى أنّ قال: " واعلم أنّا لمّا فسّرنا الآية بالنبوّة لزم الحكم بأنّ أولاد يعقوب كلّهم كانوا أنبياء ; وذلك لأنّه قال: ( ويتمّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب )، وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، فلمّا كان المراد من تمام النعمة النبوّة لزم حصولها لآل يعقوب وترك العمل به في حقّ مَن عدا أبنائه، فوجب أن يبقى معمولا به في حقّ أولاده "(2)..
وفيه نظر ظاهر ; حتّى إذا أُريد بالاجتباء الاصطفاء للنبوّة، كما هو الأقرب ; لأنّ عطف إتمام النعمة على الاجتباء دليل على المغايرة بينهما، ولهذا خصّ يوسف (عليه السلام) بالاجتباء، وعمّه وغيره من آل يعقوب بإتمام النعمـة.
على أنّه لو أُريد بإتمام النعمة النبوّة، فلا بُـدّ أن يكون إتمامها عليهم بلحاظ ثبوتها لبعضهم لا لمطلق آل يعقوب، وإلاّ لزم خروج الأكثر، وهو غير صحيح في العربية، فكيف يثبت بالآية نبوّة إخوة يوسف (عليه السلام)؟!
هـذا، وأمّا ما أشار إليه الخصم من أجوبته السابقة، فقد عرفت أنّها
____________
(1) سورة يوسف 12: 6.
(2) تفسير الفخر الرازي 18 / 91 ـ 92.
وقد عرفت أنّ كلّ ما نسـبه المصنّف إليهم حقّ بلا ارتياب..
وأنّ القول بالحسن والقبح العقلـيَّين بالمعنيَين المذكورَين لا ينفع في منع بعثة من يوصف بتلك القبائح(1)، فلاحظ واسـتقم!
____________
(1) راجع ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) في ج 2 / 413 من هذا الكتاب.