مـبـاحـث الإمـامـة
قال المصنّـف ـ قـدّس الله نفسه ـ(1):
المسألة الخامسة في الإمامة
وجوب عصمة الإمام
وفيها مباحث:
[المبحث] الأوّل
في أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً
ذهبت الإمامية إلى أنّ الأئمّة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت، عمداً وسهواً.
لأنّهم حفظة الشرع والقوّامون به، حالهم في ذلك كحال النبيّ، ولأنّ الحاجة إلى الإمام إنّما هي للانـتصاف للمظلوم من الظالم، ورفع الفساد،
____________
(1) نهج الحقّ: 164.
وخالفت السُـنّة في ذلك، وذهبوا إلى جواز إمامة الفسّاق والعصاة والسُـرّاق(2)، كـما قـال الزمخـشـري ـ وهـو مـن أفـضـل عـلمـائـهـم ـ: " لا كالدوانيقي المتلصّص "(3)! يشـير به إلى المنصور(4).
فأيُّ عاقل يرضى لنفسه الانقياد الديني والتقرّب إلى الله تعالى بامتثال أوامر مَن كان يفسق طول وقته وهو غائص في القيادة وأنواع الفواحش، ويُعرِض عن المطيعين المبالغين في الزهد والعبادة؟! وقد أنكر الله تعالى بقوله: ( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون إنّما يتذكّر
____________
(1) الذخيرة في علم الكلام: 429 ـ 431، شرح جمل العلم والعمل: 192، المنقذ من التقليد 2 / 278، تجريد الاعتقاد: 221 ـ 222.
(2) انظر: أُصول السُـنّة ـ لأحمد بن حنبل ـ: 80، الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ: 24، الإرشاد ـ للجويني ـ: 358، شرح المقاصد 5 / 257، شرح العقائد النسفية: 239 ـ 241، إتحاف السادة المتّقين 2 / 233.
(3) تفسير الكـشّاف 1 / 309.
(4) هو: أبو جعفر عبـد الله بن محمّـد بن علي بن العبّـاس، الملقّب بالمنصور، وُلد سنة 95 هـ، وكان يلقّب في صغره بمدرك التراب وبالطويل كذلك، ثمّ لقّب في أيّام حكومته بأبي الدوانيـق والدوانيقي، لبخله ومحاسـبته الصُّـنّـاع على الدوانيق والحبّات.. وأُمّه سلاّمة البربريّة ; أباد جماعة كباراً حتّى توطّد له الملك ودانت له الأُمم على ظلمه، توفّي سنة 158 هـ.
انظر: مروج الذهب 3 / 281، تاريخ بغداد 10 / 53 رقم 5179، سير أعلام النبلاء 7 / 83 رقم 37، تاريخ الخميس 2 / 324.
فالأشاعرة لا يتمشّى هذا على قواعدهم، حيث جوّزوا صدور القبائح عنه تعالى ومن جملتها الكذب، فجاز الكذب في هذا القول، تعالى الله عـن ذلك علـوّاً كبيراً.
وأمّـا الباقـون فإنّـهم جـوّزوا تـقديم المفـضول على الفاضـل(2)، فـلا يتمشّى هذا الإنكار على قولهم أيضاً..
فقد ظهر أنّ الفريقين خالفوا الكتاب العـزيـز!
____________
(1) سورة الزمر 39: 9.
(2) المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 20 ق 1 / 215، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 3.
وقد قال جمع من متكلّمي الأشاعرة وعلمائهم بذلك أيضاً وإن اشـتُهر أنّه من مختصّات المعتزلة، فانظر: غياث الأُمم: 140، تفسير القرطبي 1 / 187 المسألة 12 من الآية الكريمة (وإذ قال ربّـك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة)سورة البقرة 2: 30، شرح المقاصد 5 / 246 ـ 247، شرح العقـائد النسفية: 238، شرح المواقف 8 / 372 ـ 373.
وقال الفضـل(1):
إعلم أنّ مبحث الإمامـة عند الأشاعرة ليسـت من أُصول الديانات والعقائد، بل هي عند الأشاعرة من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين(2).
والإمامة عند الأشاعرة: هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملّة، بحيث يجب اتّباعه على كافّـة الأُمّـة(3).
وشروط الإمام الذي هو أهل للإمامة ومستحقّها أن يكون:
مجتهداً في الأُصول والفروع ; ليقوم بأمر الدين..
ذا رأي وبصارة بتدبير الحرب وترتيب الجيوش..
شجاعاً قويّ القلب ; ليقوى على الذبّ عن الحوزة..
عدلا ; لئلاّ يجور، فإنّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه، والعدل عندنا من لم يباشر الكبائر ولم يصرّ على الصغائر..
عاقلا ; ليصلح للتصرّفات الشرعية..
بالغاً ; لقصور عقل الصبي..
ذَكَراً ; إذ النساء ناقصات العقل والدين..
حُـرّاً..
قُـرشـيّـاً.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 294.
(2) الإرشاد ـ للجويني ـ: 345، المواقف: 395، شرح المواقف 8 / 344.
(3) غياث الأُمم في التياث الظلم: 55 و 59، المواقف: 395، شرح المواقف 8 / 345.
وأمّا العصمة فقد شرطها الشيعة الإمامية والإسماعيلية، واستدلّ عليها هذا الرجل بأنّ الحاجة إلى الإمام بالأُمور المذكورة، ولو جازت المعصية عليه وصدرت عنه، انتفت هذه الفوائد.
ونقول: ماذا يريد من العصمـة؟! إنْ أراد وجوب الاجتناب في جميع أحواله عن الصغائر والكبائر، فلا نسـلّم لزوم ذلك ; لأنّ صدور بعض الصغائر المعفوّ عنها لاجتنابه عن الكبائر لا يوجب أن لا يكون منتصِفاً من الظالم للمظلوم وباقي الأُمور المذكورة.
وإنْ أراد وجود مَلَـكة مانعة من الفجور، فنحن أيضاً نقول بهذه العصمة ووجوبها للإمام ; لأنّا شرطنا أن يكون عدلا، والعدل مَن له ملَـكة العصمة المانعة من الفجور..
وصدور بعض الصغائر عنه في بعض الأوقات لا يبطل ملَـكة العصمة ; لأنّ الملَـكة كيفية راسخة في النفس، متى يراد صدور الفعل عنه صدر بلا مشقّة ورويّة وكلفة، وصدور خلاف مقتضى الملَـكة لا ينفي وجود الملَـكة لعوارض لا يخلو الإنسان عنها، كصاحب الملَـكة الخُلقـيّة من العفّة والشجاعة قد يعرض له ما يعرّضه إلى إصدار خلاف الملَـكة ومع ذلك لا تزول عنه الملَـكة.
فالعصمة بمعنى الملَـكة حاصلة للمجتنب عن الكبائر المصرّ في تركها وإن صدر عنه نادراً بعض الصغائر، فاندفع الإشكال، ولم يلزم التسلسل، كما ذكره.
____________
(1) انظر: تمهيد الأوائل: 471، أُصول الإيمان ـ للبغدادي ـ: 220 ـ 221، الإرشاد ـ للجويني ـ: 358 ـ 359، المواقف: 398، شرح المواقف 8 / 349.
فأنت تعلم أنّ هذا من مفترياته ; لأنّ كتب أهل السُـنّة مشحونة بالقول بوجوب عدالة الأئمّة، فالفاسق كيف يجوز أن يكون عندهم إماماً؟! والحال أنّه ضدّ العدل، فعُلم أنّه مفتر كـذّاب، ونِعمَ ما قلت فيه شعراً [من المتقارب] :
إذا ما رأى طـيّباً في الكلام | بقاذورة الكذبِ قد دنّـسَهْ |
يخلِّـطُ بالطهرِ أنجاسَه | فابن المطـهَّرِ ما أنجسَـهْ |
وأقـول:
لا يخفى أنّ أصل الشيء أساسه وما يبتنى عليه، فأُصول الدين هي التي يبتنى عليها الدين، وبالضرورة أنّ الشهادتين كذلك، إذ لا يكون الشخص مسلماً إلاّ بهما، وكذلك الاعتراف بالإمام ; للكتاب والسُـنّة..
فإنّ الاستفهام فيه ليس على حقيقته ; لاستلزامه الجهل، فلا بُـدّ أن يراد به الإنكار أو التوبيخ، وكلٌّ منهما لا يكون إلاّ على أمر محقَّـق بالضرورة، فيكون انقلابهم بعد موت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) محقَّـقاً، ولذا قال: ( انـقلبتم ) بصيغة الماضي تنبـيـهاً على تحقّـقه.
ومن المعلوم أنّ الصحابة بعد موت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعدلوا عن الشـهادتين، فيتعيّن أن يراد به أمر آخر، وما هو إلاّ إنكار إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ لم يصدر منهم ما يكون وجهاً لانقلابهم عموماً غيره بالإجماع.
فإذا كان إنكار إمامته (عليه السلام) انقلاباً عن الدين، كانت الإمامة أصلا من أُصوله..
ولا ينافيه أنّ الآية نزلت يوم أُحد، حيث أراد بعض المسلمين الارتداد، فإنّ سـببية نزولها في ذلك لا تمنع صراحتها في وقوع الانقلاب
____________
(1) سورة آل عمران 3: 144.
وقد فهم ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في ما رواه الحاكم(1)، عن ابن عبّـاس، قـال:
" كان عليّ (عليه السلام) يقول في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الله تعالى يقول: ( أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأُقاتلنّ على ما قاتل عليه حتّى أموت، والله إنّي لأخوه، وولـيّه، وابن عمّه، ووارث علمه ; فمن أحقّ به منّـي؟! ".
فمنهـا: ما هو كالآية الشـريفة في الدلالـة على ارتداد الأُمّـة بعـد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كروايات الحـوض، ولنذكر منها ما هو صريح بارتداد الأُمّة إلاّ النادر، كرواية البخاري في (كتاب الحوض)، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال:
" بينما أنا قائم، فإذا زمرة، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هَـلُمّ!
فقلت: أين؟!
قال: إلى النار والله!
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 3 / 126 كتاب معرفة الصحابة [3 / 136 ح 4635] . منـه (قدس سره).
وانظر: فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 810 ح 1110، المعجم الكبير 1 / 107 ح 176، ذخائر العقبى: 178، الرياض النضرة 3 / 206، مجمع الزوائد 9 / 134، الدرّ المنثور 2 / 338.
قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.
ثمّ إذا زمرة، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هَـلُمّ!
فقلت: أين؟!
قال: إلى النار والله!
قلت: ما شأنهم؟!
قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.
فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم "(1).
فهذه الرواية قد دلّت على ارتداد الصحابة إلاّ القليل الذي هو في القلّة كالنَعم المهملة المتروكة سدىً(2).
وقد عرفت أنّ الصحابة لم يرتكبوا ما يمكن أن يكون سبباً للارتداد غيرَ إنكار إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلا بُـدّ أن تكون الإمامة أصلا من أُصول الدين.
ومنهـا: الأخبار المسـتفيضة الدالّة على أنّ من مات بلا إمام مات ميتـةً جاهليّة، ونحو ذلك، فتكون أصلا للدين ألبتّة، كرواية مسلم في باب: (الأمر بلزوم الجماعة، من كتاب الإمارة)، عن ابن عمر، قال:
____________
(1) صحيح البخاري 8 / 217 ح 166 باب في الحوض، وانظر: الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ 3 / 194 ح 2434، الترغيب والترهيب 4 / 192 ح 75 وقال: " رواه البخاري ومسلم "، فتح الباري 11 / 568 ح 6587، كنز العمّال 11 / 132 ح 30918.
(2) الـسُّـدى والـسَّـدى: المهمَـل، الواحد والجمع فيه سواء ; انظر مادّة " سدا " في: النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 356، لسان العرب 6 / 223.
وكرواية مسلم أيضاً في الباب المذكور، والبخاري في ثاني أبواب (كتاب الفتن)، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنّه من خرج من السلطان شبراً مات ميتةً جاهليّـة "(2).
وكرواية أحمد(3)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من مات بغير إمام مات ميتةً جاهليّة ".
.. إلى نحو ذلك ممّا لا يحصى(4).
ومنها: الأخبار الكثيرة التي ناطت الإيمان بحبّ آل محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)
____________
(1) صحيح مسلم 6 / 22، وانظر: مسند أبي عوانة 4 / 416 ح 7153 ـ 7157، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 8 / 156، مصابيح السُـنّة 3 / 9 ح 2765.
(2) صحيح مسلم 6 / 21، صحيح البخاري 9 / 84 ح 5 و 6 و ص 113 ح 7، وانظر: سنن الدارمي 2 / 166 ـ 167 ح 2515، مسند أحمد 1 / 275 و 297 و 310، المعجم الكبير 12 / 124 ح 12759، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 8 / 157، شرح السُـنّة 6 / 38 ح 2458.
(3) مسند أحمد 4 / 96. منـه (قدس سره).
وانظر: مسند أبي يعلى 13 / 366 ح 7375، المعجم الكبير 19 / 388 ح 910، المعجم الأوسط 6 / 128 ح 5820، مسند الشاميّين ـ للطبراني ـ 2 / 437 ـ 438 ح 1654، مسند الطيالسي: 259 ح 1913، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 489 ح 1057، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 7 / 49 ح 4554، حلية الأولياء 3 / 224 وقال: " هذا حديث صحيح ثابت ".
(4) وقد مرّ تخريج حديث " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية "، الذي هو موضـع البحث هنا، وبألفاظه المختـلفة، مفصّلا، في مقـدّمة السـيّد عليّ الحسيني الميلاني ـ حفظه الله ـ لهذا الكتاب، أجلى البرهان في نقد كتاب ابن روزبهان: 31 هـ 1 ـ 4 ; فراجـع!
فمن هذه الأخبار ما رواه في " الكشّاف " في تفسـير قوله تعالى: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القربى )(1)، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)في حديث طويل قال فيه:
" ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد مات مؤمناً،... ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد مات على السُـنّـة والجماعة،... ألا ومن مات على بغض آل محمّـد مات كافراً "(2).
ومثله عن تفسير الثعلبي(3).
وروى في " كنز العمّال "(4)، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " أساس الإسلام: حبّي وحبّ أهل بـيتي ".
وروى أيضاً(5)، عن ابن عبّـاس: " أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعليّ يوم
____________
(1) سورة الشورى 42: 23.
(2) تفسير الكـشّاف 3 / 467.
(3) تفسير الثعلبي 8 / 314.
وانـظر: تفسـير الفخر الرازي 27 / 167، تفسير القرطبي 16 / 16، فرائد السمطين 2 / 255 ح 524، الفصول المهمّة ـ لابن الصبّاغ ـ: 128، نزهة المجالس ـ للصفوري ـ 2 / 222، الصواعق المحرقة: 348.
(4) كنز العمّال 7 / 103 [12 / 105 ح 34206 و ج 13 / 645 ح 37631] . منه (قدس سره).
(5) كنز العمّال 6 / 154 [11 / 607 ح 32935] ، ونحـوه عـن ابـن عمر 6 / 155 [11 / 610 ـ 611 ح 32955] . منـه (قدس سره).
وانظر: المعجم الكبير 11 / 62 ـ 63 ح 11092، المعجم الأوسط 8 / 73 ـ 74، مجمع الزوائد 9 / 111.
وروى أيضاً(2) عن الطبراني والحاكم في " المستدرك "(3) وأبي نعيم، عن زيد بن أرقم، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتي، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي، فليتولّ عليّ بن أبي طالب، فإنّه لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ضلالة ".
وروى بعده نحوه عن جماعة، إلاّ أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " فليتولّ عليّـاً وذرّيّته من بعده، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة "(4).
ويُحتمل أن يريد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه بتولّي عليّ الالتزام بولايته، أي: إمامته، فيكون دالاًّ على المطلوب بالصراحة، ومثله تولّي أولاده في الحديث الأخير.
.. إلى غير ذلك من الأحاديث المسـتفيضة.
____________
(1) نسخة بدل: حُـفَّ. منه (قدس سره).
(2) كنز العمّال 6 / 155 [11 / 611 ح 32959] . منه (قدس سره).
(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 128 [3 / 139 ح 4642] . منه (قدس سره).
وانظر: المعجم الكبير 5 / 194 ح 5067، فضائل الصحابة ـ لأبي نعيم ـ: 91 ح 88.
(4) كنز العمّال 11 / 611 ـ 612 ح 32960، وانظر: حلية الأولياء 1 / 86 و ج 4 / 349، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 75 ح 55، مجمع الزوائد 9 / 108.
وقد وافَـقَنا على أنّها أصل من أُصول الدين جماعةٌ من مخالفينا، كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار(1)، وجمع من شارحي كلامه، كما حكاه عنهم السـيّد السعيد (رحمه الله)(2).
واعلم أنّ العصمة مَلَـكةٌ تقتـضي عدم مخالفة التكاليف اللزومية عمداً و خطأً مع القدرة على الخلاف، وهي واجبة الثبوت للإمام لأُمور:
وحاصله: إنّ الإمام حافظٌ للشرع كالنبيّ ; لأنّ حِفظه من أظهر فوائد إمامته، فتجب عصمته لذلك ; لأنّ المراد حفظه علماً وعملا، وبالضـرورة لا يقدر على حفظه بتمامه إلاّ معصوم، إذ لا أقلّ من خطأ غيره، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر مُلغىً بنظر الشارع، وهو خلاف الضرورة، فإنّ النبيّ قد جاء لتعليم الأحكام كلّها وعمل الناس بها على مرور الأيّام، وهذا الأمر لم يتعرّض الخصم لجوابه.
وتوضيحه: إنّ الحاجة إلى الإمام في تلك الفوائد توجب عصمته، وإلاّ لافتقر إلى إمام آخر وتسلسل ; لأنّ غير المعصوم إمّا فاسق أو عادل، وبالضرورة أنّ الفاسق لا تحصل منه تلك الفوائد ولو بالنسبة إلى نفسه،
____________
(1) منهاج الوصول في معرفة علم الأُصول ـ المطبوع بهامش الابتهاج بتخريـج أحاديث المنهاج ـ: 167.
(2) إحقاق الحقّ 2 / 307.
كما إنّ الخطأ غير مأمون عليه، فيحتاج إلى إمام آخر يمنعه عمّا يخطأ به وإن كان معذوراً، فإنّ معذوريّـته لا تصحّح تفويت تلك الفوائد، وإلاّ لَما كانت موجبة للحاجة إلى الإمام.
فإن قلت: الصغائر مع ترك الكبائر معفوٌّ عنها، فلا يلزم المنع عنها، والكبائر لا تقع من العادل عمداً حتّى يجب منعه، ولو فرض وقوعها عمداً وجب عزله ونصب غيره، وأمّا وقوعها خطأً، فهو وإن لم يكن مأموناً منه لكن ربّما لا يوجد فلا يلزم نصب آخر، ولو وقعت نبّـهه من يرفع خطأه وإن لم يكن إماماً.
قلـت: العفو عن الصغائر لا يرفع حرمتها، وإلاّ لَما احتاجت إلى العفو، كما إنّ السهو عن الكبائر إنّما يرفع العقاب، فلا بُـدّ من الحاجة إلى من يردّ فاعلهما.
وأمّا الكبائر مع العمد، فلا يمتنع وقوعها من العادل، إذ ربّما تعرض له الكبيرة نادراً من دون أن تزول ملَـكته، كما إنّه قد يفسق، وهو كثير، والالتزام بوجوب عزله حينئذ غير متّجه ; للأخبار الكثيرة الآتية، ولإمكان أن لا يثبت فسقه عند كلّ أهل الحلّ والعقد، أو يثبت ولكنّهم مثله في الفسق، أو لا يمكنهم عزله، أو يحصل من عزله ضرر أعظم، فتبتلي الأُمّة بإمام فاسق لا يحصل منه محلّ الحاجة إلى الإمام، وهو ناشئ من عدم اعتبار العصمة والاكتفاء بالعدالة، ولا سيّما مع كون العدالة الواقعية عَسِرَة الإحراز، وإنّما تثبت ظاهراً، إذ ربّما كان العادل في الظاهر فاسقاً في الواقع، فتبتلي
وأمّا دعوى أنّ الخطـأ ربّمـا لا يقـع، فخـلاف المقـطوع به عـادة، ولا ينكر المخالفون خطأ أئمّتهم الثلاثة الأُوَل، فضلا عن غيرهم، ولو سُلّم عدم القطع به، فمع فرض إمكانه عادة يجب نصب إمام آخر يحترز به عن الخطأ المتوقّع، لئلاّ تفوت تلك الفوائد التي لا تُتدارك مع الخطأ، ولو تسامحنا فيها لَما وجب نصب الإمام لأجلها.
قولكم: ولو وقع نـبّهه من يرفع خطأه.
قلـنا: إذا فات محلّ التدارك لم يبق محلٌّ للتنبيه، وكذا لو لم يحضر من يصلح للتنبيه أو لم يصوّب الإمام رأيه، فلا بُـدّ من إمام آخر ويتسلسل.
____________
(1) سورة النساء 4: 59.
وروى السيوطي في " الدرّ المنثور " بتفسير هذه الآية، عن ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عبّـاس، قال:
" معناها: إنّه كائن لا ينال عهده من هو في رتبة ظالم، ولا ينبغي أن يولّيه شـيئاً من أمره "(3).
وروى أيضاً، عن وكيع، وعبـد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد، قال: " المعنى: لا أجعل إماماً ظالماً يُـقتدى به "(4).
فإن قلـت: إنّمـا تدلّ الآية على العصمة حين تولّي العهد، وأمّا قبله ـ كما ادّعيتموه أيضاً ـ فلا ; لأنّ الظالم مشـتقّ، والمشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ بالحال.
قلـت: المراد بالحال حال ثبوت مبدأ المشتقّ للذات وتلبّسها به، والمبدأ هو الظلم لا نيل العهد، فيكون الظالم عبارة عن الذات في حين الظلم وإنْ كان زمانه ماضياً، وهذا لا دخل له بحال ثبوت العهد.
____________
(1) سورة البقرة 2: 124.
(2) سورة البقرة 2: 229.
(3) الدرّ المنثور 1 / 288.
(4) الدرّ المنثور 1 / 288.
ولا يصحّ حمل الآية على إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات، إذ ـ مع منافاته لإطلاقها ـ لا يجامع ظاهرها من إفادة تعظيم الرسول وأُولي الأمر بمسـاواتهم لله تعالى في وجوب الطاعـة، إذ يقبـح تعظيم العاصي، ولا سـيّما المنغمس بأنواع الفواحش.
على أنّ وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خوّاص الرسول وأُولي الأمر، بل تجب طاعة كلّ آمر بالمعروف، فلا بُـدّ أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول وأُولي الأمر، وأنّهم لا يأمرون ولا ينهون إلاّ بحقّ.
وقد أقرّ الرازي في تفسيره بدلالة الآية على عصمة أُولي الأمر، لكنّه زعم أنّ المراد بهم أهل الإجماع(2)!
وفيـه ـ مع أنّ المنصرف من أُولي الأمر مَن له الزعامة ـ: إنّ ظاهر الآية إفادةُ عصمة كلّ واحد منهم لا مجموعهم ; لأنّ ظاهرها إيجاب طاعة كلّ واحد منهم، على أنّ العمل بمقتضى الإجماع ليس من باب الطاعة لهم ; لأنّ الإجماع من قبيل الخبر الحاكي.
وأشكل الرازي على إرادة أئـمّتنا الأطهار من أُولي الأمر بأُمور:
____________
(1) سورة النساء 4: 59.
(2) تفسير الفخر الرازي 10 / 149.
وفيه أوّلا: النقض بطاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطاعة أهل الإجماع، بناءً على أنّهم المراد من أُولي الأمر.
وثانياً: الحلّ بأن نقول: إنّ وجوب طاعة الأئمّة ليس مشروطاً بمعرفتهم، وقدرة الوصول إليهم، بل مطلقاً كطاعة الله ورسوله، فيجب تحصيل معرفتهم ومذهبهم، مقدّمةً لطاعتهم، فلا يلزم ما ذكره من تكليف ما لا يطاق ولا صيرورة الإيجاب مشروطاً.
ومعرفة الأئمّة ممكنة لوجود الأدلّة على إمامتهم، كما يمكن أخذ الأحكام عنهم كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، لوجود الرواة عنهم وإنْ لم يصل المكلّف إلى شخص الإمام والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفيـه: إنّ المـراد هـو الجمـع ولكن بلحـاظ التوزيـع في الأزمنـة، ولا منافاة فيه للظاهر.
____________
(1) تفسير الفخر الرازي 10 / 151.
(2) تفسير الفخر الرازي 10 / 151.
(3) سورة النساء 4: 59.