الصفحة 234
أن يقال: فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام(1).

وفيـه: إنّ الردّ إلى أُولي الأمر أيضاً مأمـور به، لكن اكـتفى عن ذِكرهم في آخر الآية بما ذكره في أوّلها من مساواة طاعتهم لطاعة الله ورسـوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فإذا عرفت معنى العصمة وأدلّة وجوبها، عرفت أنّ الفضل قد خلط في معناها، وأخطأ في تجويز الصغائر على الإمام حتّى بلحاظ خصوص الدليل الثاني الذي اختصّ كلامه فيه، إذ من جملة فوائد الإمام وجهات الحاجة إليه منع المحرّمات، فلو فعلها هو احتاج إلى إمام آخر يمنعه ويتسلسل وإنْ فُرض حصول الفوائد الأُخر منه، من الانتصاف للمظلوم ونحـوه.

على أنّ خلاف الانتصاف ربّما يكون من الصغائر، فلا تحصل هذه الفائدة، وكذا جملة من غيرها من الفوائد.

ودعوى أنّ ترك الصغائر ليس من محلّ الحاجة إلى الإمام، باطلة، ضرورة أنّ تركها مطلوب للشارع، ومن نظامه الشرعي المطلوب تـنفيذه كما عرفت.

بقي الكلام في ما ذكره الخصم من شروط الإمام، فنقول:

إشـتـرَطَها جماعة منهم وخالف آخرون، كما يدلّ عليه ما ذكره صاحب " المواقف " وشارحها، فإنّهما بعدما ذكرا اشتراط الاجتهاد في الأُصول والفروع، والشجاعة، والبصارة بتدبير الحرب والسلم، قالا:

" وقيل: لا يشترط هذه [الصفات] الثلاثة ; لأنّها لا توجد الآن

____________

(1) تفسير الفخر الرازي 10 / 151.


الصفحة 235
مجتمعة، وإذا لم توجد كذلك، فإمّا أن يجب نصب فاقدها، فيكون اشتراطها عبثاً، أو يجب نصب واجـدها، فيكون تكليفـاً بما لا يطـاق، أو لا يجب هذا ولا ذاك، فيكون اشتراطها مستلزماً للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها "(1) انتهى ملخّصاً.

وبمقتضى سكوت صاحب " المواقف " عن الردّ على هذا الكلام يُسـتفاد موافقته عليه، وأنّه ممّن لا يشترط هذه الثلاثة.

نعم، أجاب عنه الشارح بـ: " أنّا نختار عدم الوجوب مطلقاً، لكن للأُمّة أن ينصبوا فاقدها دفعاً للمفاسد "(2).

وفيـه: إنّهم إذا نصبوه فإمّا أن يجب ترتيـب آثار الإمامة عليه، فحينـئذ لم يكن وجهٌ لاشتراطها، وإن لم يجب فلا فائدة فيه.

هذا، ويمكن إجراء نحو هذا الكلام في جميع الشروط فتنتفي شرطـيّـتها جميعاً.

ونقل السيّد السعيد (رحمه الله) عن الإسفراييني الشافعي، في كتاب " الجنايات "، أنّه قال: " وتنعقد الإمامة ببيعة أهل الحـلّ والعقد ـ إلى أن قال: ـ وبالقهر والاسـتيلاء ولو كان فاسقاً أو جاهلا أو أعجمياً "(3).

ونـقل أيضاً عن صاحب " الوقـاية في فـقه الحنفية "(4)، أنّـه قـال:

____________

(1) المواقف: 398، شرح المواقف 8 / 349.

(2) شرح المواقف 8 / 350.

(3) إحقاق الحقّ 2 / 316.

(4) لم نظفر بنسخة من " الوقاية " أو شرحه أو مختصره.

وكتاب " وقاية الرواية في مسائل الهداية "، لبرهان الشريعة ـ أو: تاج الشريعة ـ محمود بن عبـيد الله بن إبراهيم المحبوبي البخاري الحنفي، المتوفّى في شرع آباد ببخارى نحو سـنة 673 هـ.

وهو متن مشهور في فروع الفقه الحنفي، وقد عُني العلماء بشأنه قراءةً وتدريساً وحفظاً، وعليه شروح كثيرة، أشهرها شرح حفيده صدر الشريعة عبيـد الله بن مسعود بن محمود، المتوفّى سنة 747 هـ، وللكتاب مختصر لحفيده هذا اسمه " النقاية ".

طُبـع الكتاب في قازان سـنة 1888 م، وطُـبع شرح حفيده في لكهنو سـنة 1290 هـ طبعة حجرية، وكذا في مطبعة الإمبراطورية القازانية سنة 1318 هـ.

انظر: كشف الظنون 2 / 2020، هديّة العارفين 2 / 406، اكتفاء القنوع بما هو مطبوع: 144، معجم المطبوعات العربية والمعرّبة 2 / 1199 ـ 1200، معجم المؤلّفين 3 / 818 رقم 16641.


الصفحة 236

الصفحة 237
" لا يُحدّ الإمام حدَّ الشرب ; لأنّه نائب من الله تعالى "(1).

ونقل عن شارح " العقائد النسفية "، أنّه قال: " لا ينعزل الإمام بالفسق والجور ; لأنّه قد ظهر الفسق والجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء والسلف، وكانوا ينقادون لهم ويقيمون الجُمع والأعياد بإذنهم "(2).

فظهر من هذه الكلمات ونحوها أنّه لا يُشترط عند كثير منهم تلك الشروط، بل يظهر من كلام شارح " العقائد النسفية " دعوى الإجماع على عدم اعتبار العدالة في الإمام دواماً(3).

والظاهر أنّه لا خصوصيّة للعدالة ولا للدوام، بل كلّ الشرائط كذلك ابتداءً ودواماً ; لأنّهم ينقادون لمن فقد أيّ شرط كان، ويخاطبونه بإمرة المؤمنين، ويحرّمون الخروج عليه، ويقتلون النفوس بأمره، ويقيمون الجُمع والأعياد بإذنه، فلا بُـدّ أن تكون الشروط التي اشترطوها شروطاً صناعية جدلية لا عملية.

____________

(1) إحقاق الحقّ 2 / 318.

(2) إحقاق الحقّ 2 / 317، وانظر: شرح العقائد النسفية: 239.

(3) شرح العقائد النسفية: 241.


الصفحة 238
فما نسبه المصنّف إليهم من جواز إمامة السرّاق والفسّاق صحيحٌ ألبتّـة، ولا سيّما انعقاد البيعة، وهو الذي يقتضيه إنكار الحُسن والقبح العقلـيَّين، كما اقتضى أيضاً نفي وجوب أن يكون الإمام أفضل من رعيّته، كما سـتعرف.

ويُصدّق ذلك ـ بحيث لا يبقى به ريبٌ أصلا ـ أخبارُهم الصحيحة عندهم، التي عليها المعوّل بينهم، الآمرة بالسماع والطاعة لسلاطين الجور والضلالة، وقد سـبق بعضها في صدر المبحث(1)..

التي منها: ما رواه مسلم، عن ابن عمر، أنّه قال بعد حادثة الحرّة، وفعل يزيد فيها الأفعال الشـنيعة:

سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " من خلع يداً من طاعة لقيَ الله يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتةً جاهليّـة "(2).

ومنها: ما رواه البخاري، في الباب الثاني من (كتاب الفتن)، ومسلم، في باب وجوب طاعة الأُمراء من (كتاب الإمارة)، عن عبادة بن الصامت، قال: " دعانا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فبايعناه، فكان في ما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة، ولا ننازع الأمر أهله، إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان "(3).

____________

(1) راجع الصفحتين 213 ـ 214.

(2) صحيح مسلم 6 / 22.

(3) صحيح البخاري 9 / 85 ح 7، صحيح مسلم 6 / 17، وانظر: سنن النسائي 7 / 138 ـ 139، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 4 / 421 ـ 422 ح 7770 ـ 7776، سـنن ابـن مـاجـة 2 / 957 ح 2866، الموطّـأ: 392 ح 5، مسـند أحمـد 5 / 314 و 319، مسـند الحميدي 1 / 192 ح 389، مصنّف ابن أبي شـيبة 8 / 614 ح 149 و 150، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 480 ح 1029 و ص 482 ح 1035، مسند أبي عوانة 4 / 406 ـ 407 ح 7119 ـ 7123، مسند الشاشي 3 / 119 ـ 123 ح 1180 ـ 1190، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّـان 7 / 39 ـ 40 ح 4530.


الصفحة 239

الصفحة 240
ومنها: ما رواه مسلم، في باب الأمر بلزوم الجماعة من (كتاب الإمارة)، عن حذيفة، من حديث قال فيه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم):

" يكون بعدي أئمّةٌ لا يهتدون بهداي ولا يسـتنّون بسُـنّـتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس ".

قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله [إن أدركت ذلك] ؟

قال: " تسمع وتطيع للأمير وإنْ ضرب ظهرك وبطنك(1) وأخذ مالك "(2).

ومنها: ما رواه مسلم، في باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء، الأوّل فالأوّل، من (كتاب الإمارة)، عن عبـد الرحمن، عن عبـد الله بن عمرو بن العاص، من حديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيه:

" من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليُطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ".

.. إلى أن قال عبـد الرحمن: فقلت له: هذا ابن عمّك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن

____________

(1) لم ترد في المصدر.

(2) صحيح مسلم 6 / 20، وانظر: السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 8 / 157، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ 1 / 283 ح 398.


الصفحة 241
تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم )(1)؟!

قال: فسكت ساعة، ثمّ قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله "(2).

.. إلى غير ذلك من أخبارهم المستفيضة المصرّحة بأنّ من الأئمّة أئمّة جَـوْر، وتجب طاعتهم وإقرارهم على إمرتهم، ومن خرج عن طاعتهم شبراً مات ميتةً جاهليّـة.

وما ألطف ما شهد به عبـد الرحمن، وأقرّ به عبـد الله، في حقّ معاوية، وهو خيرة أئمّتهم بعد الثلاثة، فيا بُشراهم به وبابنه يزيد!!

فمع هذه الأخبار ونحوها من الأخبار المعتبرة المعمول بها عندهم، كيف تصحّ دعوى أنّهم يشترطون واقعاً تلك الشروط في الإمام؟!

فالظاهر أنّ من يشترطها إنّما يريد بها دفع الاستبشاع والمحافظة على الخلفاء الثلاثة، ببيان أنّهم ممّن جمع هذه الشروط، وإلاّ فما فائدة شروط لا يتّبعونها في سلاطينهم، ولا تنطبق عندهم على خليفة سوى الثلاثة، إلاّ النزْر الأندر؟!

ولذا عجزوا عن تطبيق حديث الاثني عشر خليفةً على سلاطينهم(3).

____________

(1) سورة النساء 4: 29.

(2) صحيح مسلم 6 / 18، وانظر: سنن أبي داود 4 / 94 ح 4248، سنن النسائي 7 / 152 ـ 153، سـنـن ابـن مـاجـة 2 / 1306 ح 3956، مسـنـد أحـمـد 2 / 161 و 191، مسـند أبـي عـوانـة 4 / 413 ـ 414 ح 7147 و 7148، السـنـن الـكـبـرى ـ للبيهقي ـ 8 / 169.

(3) انـظر: تفسير ابن كثير 2 / 31 ـ 32، الحاوي للفتاوي 2 / 85، عون المعبـود شرح سنن أبي داود 11 / 362 ـ 364.


الصفحة 242
وروَوْا أنّ ما بعد الثلاثين سنة مُـلْـكٌ عضوض لا خلافة(1).

ولو سُـلّم أنّهم يشـترطونها واقعاً، فأكـثرها لاغ، إمّا لعدم اعـتباره، أو لعدم كفايته في الإمام.

فمن الأوّل: البلوغ، فإنّ الحقّ عدم اعتباره، إذ ليسـت الإمامة بأعظم من النبوّة، وقد أرسل الله عيسى ونَـبّـأَ يحيى طفلين، لكن لمّا جعلـوا الإمامة بالاختيار كان لاشتراطهم البلوغَ وجـهٌ.

ومن الثاني: العدالة، لِما عرفت من عدم كفايتها عن العصمة، وكذا الشجاعة، والعقل، والبصارة في تدبير الحرب والسلم، لِما سيأتي في المبحث الآتي من اعتبار أفضلـيّـة الإمام في جميع صفات الكمال، فلا بُـدّ أن يكون أشجع الناس وأعقلهم وأبصرهم في الأُمور، ولا يكفي ثبوت أصل الشجاعة والعقل والبصارة فقط.

وكـذا الاجتـهاد، ضـرورة أنّـه لا يكفي في النيـابة عن الرسـول، بل لا بُـدّ أن يكون عالمـاً بجميـع أحكـام الشريعـة علماً يقينـيّـاً ; لأنّ الله سبحانـه قد بلّغ نبيّـه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحكاماً أتمّها وأجراها على أُمّـته إلى يوم الدين، ولا شـكّ أنّ الاجتـهاد لا يوصل إليها دائماً، لوقوع الخطأ فيه..

فـلا يمكن أن لا يجعل الله لنا إماماً عالماً بجميع الأحكام ويحيلنا على من لا طريق له إلاّ الظنّ، والظنّ لا يغني من الحقّ شـيئاً.

____________

(1) انظر: سنن أبي داود 4 / 210 ح 4646 و 4647، سنن الترمذي 4 / 436 ح 2226، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 47 ح 8155، مسند أحمد 5 / 221، مسند أبي يعلى 2 / 177 ح 873، المعجم الكبير 1 / 55 ح 13 و ص 89 ح 136 و ج 7 / 83 ـ 84 ح 6442 ـ 6444، مشكل الآثار 4 / 215 ح 3657، المستدرك على الصحيحين 3 / 75 ح 4438 و ص 156 ح 4697، تخريـج أحاديث العقائد النسـفية ـ للسيوطي ـ: 231.


الصفحة 243
على أنّه إذا أخطأ الإمام في حكم أو موضوع، فإمّا أن يلزم الناس السكوت عن خطئه، فيلزم الإغضاء على القبيح، وربّما يجتهد في تحليل الحرام وما يوجب الضرر والفساد، فلا تحصل به الفائدة المطلوبة في الإمـام.. وإمّا أن يلزم ردّه، وهو ربّما يُوقِـع في الشقاق.

نعم، بقـيّـة الشروط التي ذكرها صحيحـة..

أمّا الحـرّية ; فلأنّ المملوكية نقص في الشأن والتصرّف.

وأمّـا القُرشية ; فلأنّها وإنْ لم يحكم بها العقل إلاّ أنّه لمّا اتّفق أنّ الأئمّة من قريش ومن آل رسـول الله، صحّ جعلها شرطاً بهذا الاعتبار، كما أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه لا يزال هذا الأمر في قريش، وأنّ الأئمّة اثنا عشر(1)، وأوجب التمسّـك بعترته كما سـتعرف إن شاء الله تعـالى.

وقد خالف عمر هذا الشرط وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: " لو كان سالم حيّـاً ما جعلتها شورى "(2)..

ونحوه في حقّ معاذ، كما سـيأتي في مطاعن الصحابة.

وأمّا الذكورة ; فلأنّ النفوس لا تنقاد غالباً إلى المرأة فلا يحصل منها

____________

(1) انظر: صحيح البخاري 9 / 147 ح 79، صحيح مسلم 6 / 3 ـ 4، سنن أبي داود 4 / 103 ح 4279 4280، سـنن الترمذي 4 / 434 ح 2223، مسند أحمد 1 / 398 و ج 5 / 86، مسند أبي يعلى 13 / 456 ح 7463، المعجم الكبير 2 / 223 ح 1923، مسند الطيالسي: 105 ح 767 و ص 180 ح 1278، الفتن ـ لنعيم بن حمّاد ـ: 52 ـ 53، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 518 ح 1123 و ص 534 ح 1152، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 8 / 230 ح 6626 ـ 6628، المستدرك على الصحيحين 4 / 496 ح 8388، مصابيح السُـنّة 4 / 137 ح 4680.

(2) أنساب الأشراف 10 / 421، تاريخ الطبري 2 / 580، الاستيعاب 2 / 568، أُسد الغابة 2 / 156، الكامل في التاريخ 2 / 459.


الصفحة 244
الغرض من الإمامة، لكنّ بعض القوم ـ كابن حزم(1) ـ اختار نبوّة أُمّ موسى ومريم وأُمّ إسحاق! فيلزمه عدم اشتراط الذكورية في الإمام للأولوية.

وتعليل الفضل بأنّ النساء ناقصات العقل والدين، باطل ; إذ كم امرأة أعقل من أكثر الرجال، بل بعضهنّ بالغات مرتبة العصمة والكمال كما ورد في أخبارنا في حقّ الزهراء وخديجة ومريم وآسـية(2).

وروى مسلم في فضائل خديجة، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون "(3).

والظاهر أنّه قد سقط ذِكْـرُ خديجة من الحديث، وإلاّ فلا معنى لروايتـه في فضـائلها، ولا بُـدّ أن تكون الزهـراء أكمل من هذه الثـلاث ; لِما رواه البخاري وغيره أنّها سـيّدة نساء أهل الجنّـة(4) كـما سـتعرف، بل لا يبعد سقوط ذِكر الزهـراء كخديجـة من الحديث(5).

____________

(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 11 [2 / 296] . منـه (قدس سره).

وقال القرطبي بنبوّة مريم (عليها السلام) في تفسـيره الجامع لأحكام القرآن 4 / 53!!

كما نقل العسقلاني في فتح الباري 6 / 553 أنّ الأشعري قال بنبوّة سـتّ من النساء، هنّ: حوّاء وسارة وأُمّ موسى وهاجر وآسية ومريم، والضابط عنده أنّ من جاءه الملَك عن الله بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام ممّا سيأتي فهو نبيّ!! ونقل كذلك ما مـرّ آنفاً ـ في المتن والهامش ـ عن ابن حزم والقرطبي.

(2) انظر: الخصال: 205 ـ 206 ح 22 و 23، إعلام الورى 1 / 295 ـ 296.

(3) صحيح مسلم 7 / 133.

(4) صحيح البخاري 5 / 91 و 105، سنن الترمذي 5 / 619 ح 3781، وسـيأتي مزيد تفصيل له في محلّه.

(5) والحقّ مع الشيخ المظفّر (قدس سره)، إذ لو اسـتقصينا موارد الحديث بألفاظه المختلفة في مصادر الجمهور المعتمَدة، فسنجد كيف تلاعبت يد التحريف والخيانة بنصّ الحديث، فتارة نجده كاملا مشتملا على اسمَي السـيّدتين الزهراء وخديجـة عليهما السلام، كما في: سنن الترمذي 5 / 660 ح 3878، مسند أحمد 1 / 316 و ج 3 / 135، مسند أبي يعلى 5 / 110 ح 2722 و ص 380 ح 3039، المعجم الكبير 11 / 266 ح 11928 و ج 22 / 402 ح 1003 و ص 407 ح 1019 و ج 23 / 7 ح 1 ـ 3، مصنّف عبـد الرزّاق 11 / 430 ح 20919، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 530 ب 35 ح 5، تفسير الطبري 3 / 262 ح 7023 و 7025 و 7026، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 71 ح 6964، المستدرك على الصحيحين 2 / 650 ح 4160 و ج 3 / 172 ح 4746 و ص 174 ح 4754 و ص 205 ح 4852 و 4853 ووافقه الذهبي عليها كلّها، تاريخ بغداد 7 / 185 رقم 3636 و ج 9 / 404 رقم 5008، مصابيح السُـنّة 4 / 202 ح 4850، تاريخ دمشق 70 / 107 ـ 112، كنز العمّال 12 / 143 ح 34402 ـ 34404 و ص 144 ح 34406 و ص 145 ح 34409 و 34411.

وتارة أسقطت اسم الزهراء البتول (عليها السلام) فقط! فانظر: صحيح البخاري 4 / 318 ح 230، صحيح مسلم 7 / 132، سنن الترمذي 5 / 659 ـ 660 ح 3877، مسند أحمد 1 / 84 و 132 و 143، مسند أبي يعلى 1 / 399 ح 522 و ص 450 ح 612، تفسير الطبري 3 / 262 ح 7021 و 7022 و ص 263 ح 7028، المستدرك على الصحيحين 3 / 203 ح 4847، تاريخ دمشق 70 / 101 ـ 106 و 114.

وتارة اسم السـيّدة خديجـة (عليها السلام) فقط! انظر مثلا: تاريخ دمشق 70 / 113.

وأسقطت اسـميهما عليهما السلام تارة أُخرى!! فانظر مثـلا: صحيح مسلم 7 / 133، تاريخ دمشق 70 / 116 ـ 117.


الصفحة 245

الصفحة 246
وإنّما جُعلت شهادة المرأتين عن شهادة رجل واحد جرياً على الغالب من نقصان عقل المرأة.

وأمّـا ما ذكره من أنّهنّ ناقصاتُ الدين، فلا ينافي إمامتهنّ ; لأنّـه مفسَّرٌ في الأخبار بقعودهنّ عن الصلاة والصوم أيّام المحيض والنفـاس، كما رواه البخاري في (كتاب الحيض)، في باب ترك الحائض الصوم(1).

فقد ظهر أنّ جملةً من كلمات القوم وصحاح أخبارهم تقتضي جواز إمامة الفسّاق والسرّاق كما ذكره المصنّـف (رحمه الله).

____________

(1) صحيح البخاري 1 / 136 ـ 137 ح 9.


الصفحة 247

الإمـام أفضل من رعـيّـتـه

قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):

المبحث الثاني
في أنّ الإمـام يجـب أن يكـون أفضل من رعيّـته

اتّفقت الإمامية على ذلك، وخالف فيه الجمهور فجوّزوا تقديم المفضول على الفاضل(2)، وخالفوا مقتضى العقل ونصّ الكتاب(3)، فإنّ العقل يُقبّح تقديم المفضول وإهانة الفاضل، ورفع مرتبة المفضول وخفض

____________

(1) نهج الحقّ: 168.

(2) هذا القول من معتقدات الجمهور من المعتزلة والأشاعرة، وإن اشتهر به المعتزلة دون الأشاعرة..

فانظر للمعتزلة: المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 20 ق 1 / 215، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 3.

وانظر للأشاعرة في ذلك أيضاً: غياث الأُمم: 140، تفسير القرطبي 1 / 187 المسألة 12 من الآية الكريمة (وإذ قال ربّـك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة) سورة البقرة 2: 30، شرح المقاصد 5 / 246 ـ 247، شرح العقائد النسفية: 238، شرح المواقف 8 / 372 ـ 373.

وانظر الصفحة 207 من هذا الجزء.

(3) انظر مثلا: تفسير القرطبي 1 / 182 في تفسير آية (إنّي جاعل في الأرض خليفة) سورة البقرة 2: 30 ; وانظر كذلك تفسير قوله تعالى: (إنّي جاعلك للناس إماماً) سورة البقرة 2: 124، وقوله تعالى: (يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض) سورة ص 38: 26.


الصفحة 248
مرتبة الفاضل، والقرآن نصَّ على إنكار ذلك فقال تعالى:

( أفمَن يَهدي إلى الحقّ أحقّ أن يُتّبع أمّن لا يَهِدّي إلاّ أن يُهدى فَما لكُم كيفَ تَحكُمُون )(1)..

وقال تعالى: ( هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أُولو الألباب )(2).

وكيف ينقاد الأعلم الأزهد، الأشرف حسباً ونسباً، للأدون في ذلك كلّـه؟!


*    *    *

____________

(1) سورة يونس 10: 35.

(2) سورة الزمر 39: 9.


الصفحة 249

وقال الفضـل(1):

المراد من كون الإمام أفضل من الرعيّة: إن كان كونه أحسب، وأنسب، وأشرف، وأعرف، وأعفّ، وأشجع، وأعلم ; فلا يلزم وجوبه عقلا ـ كما ادّعاه ـ على تقدير القول بالوجوب العقلي ; لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الإمامة على حفظ الحوزة والعلم بالرئاسة وطريق التعيّش مع الرعيّة، بحيث لا يكون فظّـاً غليظاً منفِّراً، ولا سهلا ضعيفاً يسـتولي عليه الرعيّة، ويكون حاميَ الذمار..

ويكفيه من العلم ما يشترط القوم من الاجتهاد، وكذا الشجاعة والقُرشـية في الحسب والنسـب..

وإنْ وُجِد في رعيّته من كان في هذه الخصال أتمّ ولا يكون مثله في حفظ الحوزة، فالذي يكون أعلم بتدبير حفظ الحوزة، فالعقل يحكم بأنّه هو الأَوْلى بالإمامـة.

وكثير من المفضولين يكونون أصلح للإمامة من الفاضلين، إذ المعتبر في ولاية كلّ أمر والقيام به معرفة مصالحه ومفاسده وقوّة القيام بلوازمه، ورُبّ مفضول في علمه وعمله وهو بالزعامة والرئاسة أعرف، وبشرائطها أقوم، وعلى تحمّل أعبائها أقـدر.

وإنْ أراد بالأفضل أن يكون أكثر ثواباً عند الله تعالى، فهذا أمر يحصل له الشرف والسعادة، ولا تعلّق له بالزعامة والرئاسة.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 320.


الصفحة 250
وإنْ أراد بالأفضل الأصلح للإمامة ; لكونه أعلم بحفظ الحوزة وتدبير المملكة، فلا شكّ أنّه أَوْلى، ولا يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون، بل الأَوْلى والأنسب تقديم هذا إذا لم يسبق عقد بيعة، فإن سبق وكان في تغييره مظـنّـة فتنة فلا يجوز التغيير.

هذا جواب ما استدلّ به على هذا المطلب من لزوم القبح العقلي، مع إنّـا غيرُ قائلين به.

وأمّـا ما اسـتدلّ به من الآية، فهو يدلّ على عدم استواء العالم والجاهل، وعدم استواء الهادي والمُضلّ والمهتدي والضالّ، وهذا أمر مسلّم، فذاك الفاضل الذي لم يَصِرْ إماماً وصار المفضول إماماً يترجّح على المفضول بالعلم والشرف، ولكن المفضول إذا كان أحفظ لمصالح الحوزة وأصلح للإمامة فهو أحقّ بالإمامة، والفاضل على فضله وشرفه، ولا محذور في هـذا.

ومن الأشاعرة من فصّل في هذه المسألة وقال: نصبُ الأفضل إن أثار فتنةً لم يجب، كما إذا فُرض أنّ العسكر والرعايا لا ينقادون للفاضل بل للمفضول، وإلاّ وجب(1).


*    *    *

____________

(1) غياث الأُمم: 140، تفسير القرطبي 1 / 187، المواقف: 413، شرح المواقف 8 / 373.


الصفحة 251

وأقـول:

لا يخفى أنّ رئاسة الإمام رئاسة دينية، وزعامة إلهـيّـة، ونيابة عن الرسول في أداء وظائفه، فلا تكون الغاية منها مجرّد حفـظ الحوزة وتحصيل الأمن في الرعية، وإلاّ لجاز أن يكون الإمام كافراً، أو منافقاً، أو أفسق الفاسقين إذا حصلت به هذه الغاية.

بل لا بُـدّ أن تكون الغاية منها تحصيل ما به سعادة الدارين كالغاية من رسالة الرسول، وهي لا تتمّ إلاّ أن يكون الإمام كالنبيّ معصوماً، وأحرص الناس على الهداية، وأقربهم للاتّباع والانتفاع به في أُمور الشريعة والآخرة، وأحفظهم للحوزة وحقوق الرعية وسياستها على النهج الشرعي.

فلا بُـدّ أن يكون فاضلا في صفات الكمال كلّها، من الفهم، والرأي، والعلم، والحزم، والكرم، والشجاعة، وحسن الخلق، والعفّـة، والزهد، والعدل، والتقوى، والسياسة الشرعية، ونحوها ; ليكون أقرب للاتّباع، وتسليم النفوس له، والاقتفاء لآثاره، فيحصل لهم ـ مع حفظ الحوزة ـ السعادة بكمال الإيمان وشرف الفضائل، وخير الدارين، وهي الغاية من رسالة الرسـول.

فاتّضح أنّه يجب أن يكون الإمام أفضل من الرعية في جميع المحامد كـما هـو مـراد المصنّـف (رحمه الله) ولعلّـه مراد الفضل بالوجـه الأوّل، وحينـئذ فلا يصحّ ردّه على المصنّف بقوله: " لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الإمامة على حفظ الحوزة... " إلى آخره.


الصفحة 252
فإنّ هذا وحده لا يكفي في نيابة الرسول، ولا سيّما إذا رأى الأمير ارتفاع ملكه ونفوذ أمره بسحق الدين وقتل المؤمنين وإخافتهم وتقريب الطالحين، كما وقع في العصر الأوّل، وعلى نحوه توالت العصور.

ومنه يُعلم أنّ فرض كون المفضول في العلم والعمل أحفظ للحوزة خطأٌ ; لأنّ المطلوب هو الأحفظية على الوجه الشرعي، وهي فرع الأعلمية والأعملية بوجوه الحفظ الشرعية.

هـذا، والأَوْلى أن لا يذكـر الفضل شـرط أن لا يكون فظّـاً غليظـاً، ولا شرط أن لا يكون سهلا ضعيفاً يستولي عليه الرعية، فإنّ الأوّل مضرٌّ بإمامة عمر(1)، والثاني بإمامة عثمان(2).

وبما ذكرنا من وجوب كون الإمام فاضلا في جميع صفات الكمال، يُعلم أنّه لا يصحّ فرض كونه فاضلا في صفة دون أُخرى حتّى تتصوّر المعارضة ويقال بتقديم صاحب الصفة التي هي أمسُّ بالإمامة، كما فعل الفضـل.

____________

(1) فإنّه كان يوصف بأنّه فظٌّ، غليظٌ شديدُ الغلظة، وعر الجانب، خشن الملمس، دائم العبوس، سريعٌ إلى المساءة، كثيرُ الجبه والشتم والسـبّ، وكان الناس يقولون لأبي بكر: ماذا تقول لربّك إذا لقيته وقد ولّيت علينا فظّـاً غليظاً؟!

انظر: تاريخ المدينة المنوّرة ـ لابن شبّة ـ 2 / 671، غياث الأُمم: 125، الكامل في التاريخ 2 / 272 ـ 273، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 164.

(2) كان عثمان في أيّامه الأخيرة كثيراً ما يعطي العهود والمواثيق من نفسه ويعلن توبته، ولكنّ مروان وغيره من بني أُميّة يحيدونه عن رأيه وينقاد حسب هواهم.. وقد روي أنّ زوجته نائلة بنت الفرافصة قالت له: قد أطعتَ مروان يقودك حيث شـاء!

انظر: أنساب الأشراف 6 / 180 ـ 181، تاريخ الطبري 2 / 659.


الصفحة 253
واعلم أنّ الإمام إذا كان فاضلا في صفات الكمال، يلزم أن يكون أطوع لله وأكثر عملا بالبرّ والخير، فلا بُـدّ أن يكون أكثر ثواباً.

فحينئذ لو أُريد بالأفضل الأكثر ثواباً من حيث لزومه للأفضل في صفات الكمال، كان متّجهاً.

ولم يرد عليه ما ذكره الفضل، على أنّه غير مراد المصنّـف.

كما لا يريد ما احتمله الفضل ثالثاً ; لِما عرفت من أنّ الصلوح للإمامة عنـد المصنّـف إنّـما يكـون بالعصمـة والفضل بسـائر الصفـات الحميـدة، لا بالأعلمية بحفظ الحوزة فقط.

على أنّ قوله: " لا يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون "..

ظاهر البطلان ; لأنّ العقل يقبّح تقديم المفضول بالصلوح للإمامة على الأفضل فيه، فلا يصحّ حينئذ سبق العقد للمفضول حتّى يكون في تغييره مظـنّـة فتنة.

لكنّ القوم أنكروا الحسن والقبح العقلـيَّين، وعليه: فما معنى اشتراطهم اجتهاد الإمام، وعدالته، إلى غيرهما من الشروط المتقدّمة سوى القُرشية التي قالوا بورود الشرع بها.

وأمّا ما أجاب به عن الآيتين.. فخطأٌ ظاهر ; إذ لا يُراد بهما مجرّد نفي المساواة بين العالم والجاهل، أو بين الهادي وغيره، كما تخيّـله الفضل، فإنّ نفيَ المساواة بينها ضروري غيرُ محتاج إلى البيان، ولا يمكن أن يقول عاقل بالمساواة حتّى ينكر عليه، بل المراد هو الإنكار على عدم ترتيب أثر الفرق بينها وعدم اتّباع الأفضل كما هو صريح الآية الأُولى، إذ أنكرت على مَنْ لا يقول بأنّ الهادي أحقّ بالاتّباع ممّن لا يهتدي إلاّ أن يُـهـدى.


الصفحة 254
ولا يخفى أنّ القوم لم يُوجبوا تقديم الأعلم مع المساواة في الحفظ، وكفاهم فيه مخالفة للكتاب العزيز!

هـذا، ولا يُعتبر أن يكون الإمام أشرف الناس في الجهات الدنيوية، من الجاه والمال والسلطان وإنْ كانت مقـرِّبةً للأتباع ; لأنّ المطلوب هو الاتّباع والإيمان الحقيقي، لا مجرّد الطاعة الظاهرية.

كما لا يُعتبر أن لا يسـاويه أحد في صحّـة النسـب، وإنّما يُعـتبر أن لا يفضلَه فيه أحد ; إذ لا تُنافي المساواةُ فيه حسنَ التبعة إذا كان أشرفَ حسـباً، ولذا جاز أن يكون للإمام إخوةٌ من أُمّـه وأبـيه!

فـتدبّـر! وعلى الله التوفيق.


*    *    *


الصفحة 255

طريـق تعيـيـن الإمـام

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

المبحث الثالث
في طريق تعيـيـن الإمام

ذهبت الإمامية كافّـةً إلى أنّ الطريق إلى تعيـين الإمام أمران:

الأوّل: النصّ من الله تعالى، أو نبـيّه، أو إمام ثبتتْ إمامتُه بالنصّ عليـه..

أو(2): ظهور المعجزة على يده ; لأنّ شرط الإمامة العصمة، وهي من الأُمور الخفـيّة الباطنة التي لا يعلمها إلاّ الله تعالى(3).

وخالفـت السُـنّـة في ذلـك، وأوجبوا إطاعة أبي بكر على جميع الخلـق فـي شـرق الأرض وغربهـا، باعـتبـار مبـايعـة عمـر بـن الخطّـاب لـه برضـا أربعـة: أبي عبـيدة بـن الجـرّاح(4)، وسـالم مـولى أبـي

____________

(1) نهج الحقّ: 168.

(2) هذا هو الأمر الثاني من طريق تعيين الإمام.

(3) انظر: أوائل المقالات: 65، الذخيرة في علم الكلام: 436 ـ 437، شرح جمل العلم والعمل: 199، المقنع في الإمامة: 145، المنقذ من التقليد 2 / 296، تجـريد الاعتقاد: 221 ـ 223.

(4) هو: عامر بن عبـد الله الجرّاح بن هلال بن أهيب الفهري القُرشي، كان يعمل حفّاراً للقبور، استخلفه عمر على الشام بعد تولّيه الخلافة، وعزل خالد بن الوليد عنها، توفّي بالطاعون سنة 18 هـ وله 58 عاماً.

انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 228، تاريخ الطبري 2 / 239، الاستيعاب 2 / 792 رقم 1332، أُسد الغابة 3 / 24 رقم 2705، سير أعلام النبلاء 1 / 5 رقم 1.


الصفحة 256

الصفحة 257
حـذيفـة(1)، وبشير بن سعد(2)، وأُسيد بن حُضير(3)، لا غيـر(4).

فكيف [يحلّ] لمن يؤمن بالله واليوم الآخر إيجاب اتّباع مَنْ لم ينـصّ الله عليه ولا رسوله، ولا اجتمعت الأُمّة عليه، على جميع الخلق لأجل مبايعة أربعة نفر؟!

بـل ذهب الجويني، وكان من أكثرهم علماً وأشدّهم عناداً لأهل

____________

(1) هو: سالم بن عتبة، وقيل: عبيـد بن ربيعة، وقيل: ابن معقل، أصله من إصطخر فارس، كان مولىً لامرأة من الأنصار، اختلف في اسمها، قتل في اليمامة.

انظر: أُسد الغابة 2 / 155 رقم 1892، سير أعلام النبلاء 1 / 167 رقم 14، الإصابة 3 / 13 رقم 3054.

(2) هو: بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس، وقيل: جُلاس ـ بضمّ الجيم ـ، الأنصاري الخزرجي، يكنّى أبا النعمان، هو أوّل أنصاري بايع أبا بكر في السقيفة، قتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة عام 12 أو 13 هـ.

انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 402 رقم 211، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 1 / 397 رقم 294، أُسد الغابة 1 / 231 رقم 459، الكامل في التاريخ 2 / 247 حوادث سنة 12، تهذيب الكمال 3 / 108 رقم 706، الإصابة 1 / 311 رقم 694.

(3) هو: أُسيد بن حُضير بن سِماك بن عَتيك بن نافع بن امرئ القيس، الأنصاري الأوسي الأشهلي، أسلم بعد العقبة الأُولى، وقيل: الثانية، ولم يشهد بدراً، كان أبوه يلـفّ حصير الكتائب ; توفّي سنة 20 أو 21 هـ.

انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 453 رقم 326، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 1 / 258 رقم 116، الاستيعاب 1 / 92 رقم 54، أُسد الغابة 1 / 111 رقم 170، سير أعلام النبلاء 1 / 340 رقم 74، الإصابة 1 / 83 رقم 185.

(4) انظر: تمهيد الأوائل: 480 ـ 481، الأحكام السلطانية ـ للماوردي ـ: 7، المواقف: 400، شرح العقائد النسفية: 229.


الصفحة 258
البـيت (عليهم السلام) إلى أنّ البيعة تنعقد لشخص واحد من بني هاشـم إذا بايعه رجلٌ واحد لا غير(1).

فهل يرضى العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب، وأن يجب على نفسه الانقياد وبذل الطاعة لمن لا يعرف عدالته، ولا يدري حاله من الإيمـان وعدمه، ولا عاشره ليعرف جيّده من رديّه، وحقّه من باطله، لأجل أنّ شخصاً لا يعرف عدالته بايعه؟!

وهل هذا إلاّ محض الجهل والحمق والضلال عن سبيل الرشاد؟!

نعوذ بالله من اتّباع الهوى وغلبة حبّ الدنيا.

ومن أغرب الأشياء وأعجبها: بحث الأشاعرة عن الإمامة وفروعها وعن الفقه وتفاصيله، مع تجويز أن يكون جميع الخلق على الخطأ والزلل، وأن يكون الله تعالى قد قصد إضلال العبيد بهذه الشرائع والأديان، فإنّهم غير جازمين بصدقها ولا ظانّـين.

فإنّه مع غلبة الضلال والكفر وأنواع العصيان الصادرة منه تعالى، كيف يظنّ العاقل أو يشكّ في صحّة الشرائع؟! بل يظنّ بطلانها عندهم حملا على الغالب، إذ الصلاح في العالم أقلّ القليل.

ثمّ مع تجويزهم أن يحرّم الله علينا التنفّس في الهواء مع الضرورة والحاجة إليه وعدم الغناء عنه من كلّ وجه، ويحرّم علينا شرب الماء السائغ مع شدّة العطش والانتفاع بذلك الماء وعدم التضرّر به وانتفاء المفاسـد كـلّها.. كيف يحصل الجزم بأنّه يفعل اللطف بالعبد والمصلحة في إيجاب اتّباع هذا الإمام؟!

____________

(1) انظر: غياث الأُمم: 88.