الصفحة 259

وقال الفضـل(1):

إعلم أنّ الشخص بمجرّد صلوحه للإمامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماماً، بل لا بُـدّ مع ذلك من أمر آخر، وإنّما تثبت بالنصّ من الرسول، ومن الإمام السابق بالإجماع.

وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد عند أهل السُـنّة والجماعة والمعتزلة والصالحية من الزيدية(2)، خلافاً للإمامية من الشـيعة، فإنّهم قالوا: لا طريق إلاّ النصّ(3).

لنـا: ثبوتُ إمامة أبي بكر ببيعة أهل الحلّ والعقد، كما سيأتي بعد هـذا مفصّـلا في محالّـه.

وأمّا ما ذكر: أنّ خلافة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ورضا أربعة..

فهذا أمرٌ باطل، يكذّبه النقول المتواترة وإجماع الأُمّة، فإنّ خلافة أبي بكر انعقدت يوم السقيفة بمحضر من أرباب الحلّ والعقد، وهم كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار سيّما(4) الخزرج ; لأنّ المراد من أهل الحلّ والعقد أُمراء العساكر ومن لم يتمّ أمر الإمارة والخلافة بغير رضاهم، وكانوا في ذلك الوقت جماعة الأنصار أهل الحلّ والعقد بهذا المعنى.

____________

(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 336.

(2) شرح المواقف 8 / 351.

(3) راجع ما مرّ آنفاً في الصفحة 241.

(4) سِـيّ: اسمٌ بمنزلة " مثل " وزناً ومعنىً، وتـثـنيته سِـيّان، ومن الخطأ استخدامها بدون تقدّم " لا " عليها، والغالب تقدّم " الواو " أيضاً، هكذا: " ولا سـيّما ".

انظر: مغني اللبيب: 186.


الصفحة 260
وهل اختلف رجل واحد من زمان الصحابة إلى اليوم من أرباب التواريخ أنّ أبا بكر لم يفارق السقيفة حتّى بايعه جميع الأنصار، إلاّ سعد بن عبادة(1)، وهو كان مريضاً، ومات بعد سـبعة أيّام(2)؟! فكيف يقول: إنّ خلافته انعقدت ببيعة عمر ورضا أربعة من الصحابة؟!

وهل هذا إلاّ افتراء باطل يكذّبه جميع التواريخ المثبّتة في الإسلام؟!

نعم، البادئ بالبيعة كان عمر بن الخطّاب، وتتابع الأنصار وبايعوه بعد تلجلج وتردّد ومباحثة.

ولو كان الأنصار سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النصّ على خلافة عليّ، فلِـمَ لَـمْ يجعلوه حجّة على أبي بكر، ولِـمَ لَـمْ يدفعوا خلافته بهذه الحجّـة؟!

أكانوا يخافون من أبي بكر وعمر وهم كانوا في عقر دارهم وقد اجتمعوا لنصب الإمام من قومهم وكانوا زهاء ألف أو زيادة؟!..

____________

(1) هذا ادّعـاء باطل، فهناك عدد كبير من أكابر الصحابة لم يبايعوا أبا بكر، منهم: أُبَيّ بن كعب، فروة بن عمرو بن ودقة الأنصاري البياضي ـ وكان ممّن جاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد العقبة وبدراً وما بعدها من المشاهد ـ، أبان وخالد وعمرو أبناء سعيد بن العاص، البراء بن عازب، أبو ذرّ الغفاري، سلمان الفارسي، عمّار ابن ياسر، المقداد بن عمرو، الزبير بن العوّام، بريدة الأسلمي، خزيمة بن ثابت، ابن التيّهان، سهل وعثمان ابنا حنيف، حذيفة بن اليمان، أبو أيّوب الأنصاري، أبو سفيان بن حرب الأُموي، مالك ومتمّم ابنا نويرة وقومهما، علاوة على سعد بن عبادة ورهطه، وطائفة من الخزرج، وفرقة من قريش ; انظر: الاستيعاب 3 / 973، روضة المناظر ـ لابن الشحنة ـ 11 / 112 ـ 113.

وقبل كلّ هؤلاء الإمام عليّ (عليه السلام) والعبّـاس وبنو هاشم ; انظر: تاريخ اليعقوبي 2 / 9، الأخبار الموفّـقـيّـات: 471.

(2) بل اتّفاق أهل العلم والمؤرّخين على أنّه قُتل في إمارة عمر، بحوران من أعمال دمشق، وسـيأتي بيان المصنّف (قدس سره) بصدد ذلك في الصفحة 265 من هذا الجزء.


الصفحة 261
وقالوا بعد المباحثة: " منّا أمير ومنكم أمير " فلِـمَ لَـمْ يقولوا: يا أبا بكر! يا عمر! إنّ العهد لم يطلْ، وإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خُمّ نصّ بخلافة عليّ، فلِـمَ تبطلون قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! ولِـمَ لا تنقادون بقوله؟!

وكان أقلّ فائدة هذه المباحثة دفع البيعة عن أنفسهم؟!

ولم يجترئ أحدٌ من الإمامية أن يدّعيَ أنّ الأنصار قالوا يوم السقيفة هذا القول(1).

فيا معشر العقلاء! هل يمكن وجود النصّ في محضر جميع الناس ولم يحضر الأنصار؟!

وهـل يمكـن أنّ الأنصـار، الّـذين نصـروا الله ورسـوله وتبـوّأُوا الـدار والإيمـان، وارتـكبوا عـداوة العـرب وقـتل الأشـراف في نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانوا ساكتين في وقت المعارضة ولم يذكروا النصّ أصلا، مع أنّ عُمر وأبا عبـيدة ألزموهم بقوله: " الأئمّـة من قريـش "(2)؟!

فلِـمَ لمْ يقولوا: الإمامة لعليّ بنصّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم غدير خُـمّ؟!

____________

(1) سـيأتي عن الطبري وابن الأثير، أنّ الأنصار ـ أو بعض الأنصار ـ قالوا: لا نبايع إلاّ عليّـاً.

(2) تاريخ دمشق 30 / 286.

وانظر: مسند أحمد 3 / 183، مسند أبي يعلى 6 / 321 ح 3644 و ج 7 / 94 ح 4032 و 4033، مسند أبي داود الطيالسي: 125 ح 926 و ص 284 ح 2133، الفـتن ـ لـنعيـم بـن حمّـاد ـ: 67، الـسُـنّـة ـ لابـن أبـي عاصـم ـ: 517 ح 1120 و 1125، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 8 / 143 ـ 144، تاريخ دمشق 20 / 205 و ج 61 / 11 ـ 14.


الصفحة 262
والعاقل المسلم المنصف لو تأمّل في ما قلنا من سكوت الأنصار، وعدم الاستدلال في دفع بيعة أبي بكر بالنصّ على عليّ، لجزم بعدم النصّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أحد، ويعلم أنّ خلافة أبي بكر ثبتَتْ ببيعة أرباب الحلّ والعقد.

ثمّ ما ذكر هذا الرجل من أنّ الأشاعرة لا يقدرون على هذا المبحث، وتعجّب من بحثهم في الإمامة لقولهم: " بأنّ الله خالقُ كلّ شيء "(1)، فهذا شيء ذكره مراراً، وهو لا يعرف غير هذا وتصوير المحالات على رأيه الباطل الفاسد.

وقد بيّـنّا لك أنّ شيئاً ممّا ذكره لا يلزم الأشاعرة، وكثرة التكرار من شأن الكُوزيّـيـن(2) وأمثاله.


*    *    *

____________

(1) المواقف: 320 ـ 321.

(2) الكُوز: إناء للشرب، وجمعه: أَكْواز وكِيزان وكِـوَزَة ; انظر: لسان العرب 12 / 186 مادّة " كوز ".

ومراد الفضل هنا أنّ العلاّمة الحلّي مَـثَـلُه مَـثَـلُ صانعِ الكيزان، الذي من دأبـه أن يكون عمله مكـرَّراً على شاكلة واحدة، من الصباح إلى المساء وعلى مدار الأيّام، فلا يأتي بجديد، ولمّا كان هذا العمل من الصنائع الدنيئة في المجتـمع، أراد ابن روزبهان إهانة العلاّمة فمثّله بهذا المَثَل!


الصفحة 263

وأقـول:

ينبغي هنا بسط المقال لتتّضح الحال، فنقول: استمرّ النزاع في أنّ تعيين الإمام من الله تعالى أو باختيار الناس؟ ذهبت الإمامية إلى الأوّل، وأهل السُـنّة إلى الثاني، والحقّ هو الأوّل ; لأُمور:

الأوّل: قوله تعالى: ( وربّـك يخلـق ما يشـاء ويختار ما كان لهم الخِـيَرة... )(1).

الثـاني: إنّ الرجـوع إلى الاخـتيار مُفسـدٌ للإمامـة والأُمّـة والدين، ولا سيّما إذا اكتفينا باختيار الواحد كما هو مذهب القوم(2)، كما ستعرف إن شاء الله تعالى ; لأنّ الاختيار ربّما يؤدّي إلى اختيار فاسق فعلا أو استقبالا فتفسد الإمامة، وتفسد الأُمّة والدين بفساد الإمام، ولو من أجل أنّ الناس على دين ملوكهم وتبعٌ لأهوائهم كما هو المُشاهَد.

الثالث: إنّ الأُمّة قد تختلف باختيار الإمام ولو لزعم كلّ طائفة أنّ إمامة صاحبهم متعيّنة لاختلال شروطها في الغير، أو لعدم معرفتهم به ولو لبعد الأماكن وكثرة المسلمين، فيؤدّي إلى إمامة إمامين أو أكثر، وإلى الحرب وفساد البلاد وضعف الإسلام.

ودعوى تعيّن المتقدّم كما زعمه في " المواقف "(3)، باطلةٌ إذا فرض قولُ كلّ طائفة بعدم صلوح غير صاحبهم للإمامة، مع أنّه قد يقع الاختلاف

____________

(1) سورة القصص 28: 68.

(2) تمهيد الأوائل: 467، غياث الأُمم: 86 ـ 89.

(3) المواقف: 400، شرح المواقف 8 / 353.


الصفحة 264
في المتقدّم.

كما إنّ دعوى وجوب الانتظار إلى الاتّفاق باطلةٌ أيضاً ; لأنّ الانتظار يوجب إهمال أمر الأُمّة زماناً أو أزمنة طويلة أو دائماً.

على أنّ إيجاب الانتظار مناف لاختيار عمر وأصحابه لأبي بكر، وبيعتهم له قبل اتّفاق مَنْ في السقيفة فضلا عن غيرهم، بل مع تصريح الكثير أو الأكثر من أهل السقيفة بالخلاف(1).

الرابع: إنّ تعيين الإمام باختيار واحد ـ إماماً كان أو غيره ـ، أو باختيار جماعة ـ وإن كانوا جميعَ أهلِ الحلّ والعقـد ـ، حيْـفٌ بحقـوق بقيّـة المسـلمين بلا سـلطان جعلـه الله لأُولئك عليهم.

ودعوى الإجماع ساقطة ; لأنّها ناشئة من فِعل عمر ومَن وافقه، وهم ـ مع عدم تحقّق الإجماع بهم ـ محلّ الكلام.

وكيف يمكن دعوى الإجماع على اعتبار اختيار الناس وقد خالف أمير المؤمنين، الذي يدور معه الحقّ حيث دار(2)، وجماعةٌ من الصحابة في بيعة أبي بكر، وما حفلوا باختيار من اختاره إلى أن بايعوا بعد مدّة طويلة بالاضطرار، وبقيَ بعضهم على المخالفة حتّى لحق بالملك القهّار؟!

____________

(1) السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 6 / 77، تاريخ الطبري 2 / 234 وما بعدها، الكامل في التاريخ 2 / 189 وما بعدها، تاريخ ابن خلدون 2 / 467 و 468.

(2) انظر: مسند أبي يعلى 1 / 419 ح 550، المعجم الكبير 23 / 329 ح 758 و ص 395 ح 946، الإمامة والسياسة 1 / 98، الكنى والأسماء ـ للدولابي ـ 2 / 89، المحاسن والمساوئ ـ للبيهقي ـ: 41، المستصفى من علم الأُصول 1 / 270، فردوس الأخبار 1 / 410 ح 3050، ربيع الأبرار 1 / 828، نهاية الإقدام في علم الكلام: 494.

هـذا، وقد تقدّم تخريج الحديث مفصّلا في ج 1 / 164 ـ 165 هـ 1 ; فراجـع!


الصفحة 265
الخامس: إنّه يمتنع أن يترك الله سبحانه اختياره للإمام ويأمر الناس بأن يختاروه وهو أنظر لهم وأخبر، إذ يقبح بالحكيم أن يترك أسهل الطريقين وأوصلهمـا إلى المطلـوب، ويأمر بسـلوك الطريـق الصعب الذي لا يوصل إلى المطلوب أحياناً أو غالباً.

السادس: إنّ التكليف بالاختيار، إنْ تعلّق بالناس جميعاً على نحو الاتّفاق منهم فهو تكليفٌ بما لا يطاق.

وإنْ تعلّق بهم على نحو يكفي البعض، ويجب على الباقي القبول بشرط العلم بجامعيّة الإمام للشرائط، فهو ظاهر البطلان، إذ يمتنع عادةً معرفة الناس جميعاً بجامعيّته حتّى من حيث شهادة المختار أو المختارين له بها ; لأنّهم إن لم يكونوا فسّاقاً فالعادة تقضي بالجهل في عدالتهم عند الناس إلاّ النادر، فيبقى الناس في هَرَج بلا إمام أزماناً طويلة، أو إلى أن يموت ذلك الإمام..

وربّما تكون شهادتهم معارضة بشهادة آخرين بعدم جامعيّته، فيزيد الهـرج، وكذا إنْ كان المختار له واحداً.

وأمّا لو أوجبنا القبول مطلقاً، فالأمر أظهر بطلاناً، إذ يلزم تديّن الشـخص بإمامـة إمـام لا يعرف جامعيّـته بمجـرّد اختيار واحد أو جماعـة لا يعرف عدالتهم، أو يعرف فسقهم، وهذا لا يقوله من يؤمن بالله وحكمتـه.

السابع: إنّ الإمام لا بُـدّ أن يكون معصوماً وأفضل الأُمّة وأكملهم صفات ـ كما سبق ـ، ولا يعلمه الناس إلاّ بطريق النصّ من الله تعالى بلسان نبيّه، أو إمام آخر معصوم حاك عن الله ورسوله، أو بإظهار المعجزة على

الصفحة 266
يـده(1).

ولو لمْ يكن الإمام السابق معصوماً حاكياً عن الله تعالى لم ينفع نصّـه ; لاحتمال خطئه أو عمده إلى مَن لم يكن أهلا للإمامة اتّباعاً للهوى أو حُبّـاً للرحم.

ففي الحقيقة لم يوافقنا السُـنّة على ثبوت الإمامة بنصّ الإمام السابق ; لأنّـا نُريد بالسابق إماماً خاصّـاً وهم يُريدون غيره.

الثامن: إنّ نصب الإمام واجب على الله تعالى، فلا بُـدّ أن يكون الاختيار والتعيين منه تعالى، ويدلّ على وجوبه عليه الكتاب والعقل..

  • أمّا الكتاب، فقوله تعالى: ( كَتَبَ ربّـكُم على نَفسِه الرحمة )(2)، وبالضرورة أنّ نصب الإمام رحمة.

    وقوله تعالى: ( إنّ علينا لَلهُدى )(3)، ولا ريب أنّ نصب الإمام من الهُدى، أو مقـدّمته، فيجب.

    وقوله تعالى: ( وعلى اللهِ قَصدُ السـبيل )(4)، ومن الواضح أنّ نصب الإمام من قصد السـبيل.

  • وأمّـا العقـل، فأمران:

    الأوّل: إنّه لا إشكال بأنّ الناس في كلّ وقت محتاجون إلى عالم بكلّ ما كلّف الله تعالى به عباده وجاء به الرسول من عنده، من حلال أو حرام، فإنّ حلال محمّـد حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة(5).

    ____________

    (1) راجع الصفحة 217 وما بعدها من هذا الجزء.

    (2) سورة الأنعام 6: 54.

    (3) سورة الليل 92: 12.

    (4) سورة النحل 16: 9.

    (5) الكافي 1 / 79 ح 175، وانظر: سنن الدارمي 1 / 85 ح 436.


    الصفحة 267
    ولا يَعلم بهذا العالِم إلاّ الله تعالى، فلا بُـدّ مِن نصبه له، ولا يغني الاجتهاد عن العلم الواقعي ; لوقوع الخطأ فيه.

    وكذلك هم محتاجون إلى عالِم بكلّ حجّة ودليل يثبت به الإسلام ليحتـجّ به على كلّ بحسـب فهمه وحاله.

    ولو احتـاج الثبـوت إلى معجزة لزم أن يكون الإمـام محـلاًّ لإظهـار الله لها على يده، وإلاّ لانقطعت حجج الله وبيّناته، لعدم كفاية معجزات النبيّ في الحجّـيّة بالنسبة إلى أكثر الناس المتأخّرين ; لجهلهم بها أو بإعجازهـا.

    فيجب على الله تعالى نصبُ الإمام، العالِم ببيّناته، القادر على إثبات دينه ولو بالمعجزة، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " اللّهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم لك بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئـلاّ تبطلَ حججُك وبيّناتُـك "(1).

    فلولا نصبُ هذا الإمام لكان لأكثر الكافرين والضالّين الحجّة على الله تعالى ; إذ يصحّ عذرهم بالجهل والغفلة الآتية بسبب عدم نصب الحجّة عليهم، فيقولون: ( إنّـا كـنّـا عن هذا غافلين )(2).

    ولا يضرّ في حجّيّته اسـتتاره ; لأنّه بسـببهم، حيث أخافوه، ففوّتوا الخير عن أنفسهم كمن يخيفون الأنبياء ويشرّدونهم، فلا تبطل حُججُ الله بـذلك.

    وأمّا قوله سبحانه: ( لئلاّ يكون للناس على الله حُجّةٌ بعد

    ____________

    (1) الغارات: 91، الفصول المختارة: 325، غرر الحكم ودرر الكلم ـ للآمدي ـ 2 / 362 رقم 384.

    (2) سورة الأعراف 7: 172.


    الصفحة 268
    الرسل )(1)، فلا يدلّ على عدم الحاجة إلى الإمام ; لأنّ المراد الـبَـعديّـة بلحاظ ما جاؤوا به، وممّا جاؤوا به نصب الإمام.

    الثاني: إنّ نصب الإمام لطفٌ، واللطف واجبٌ على الله عزّ وجلّ.

    أمّا الصغرى ; فلأنّ اللطف هو ما يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية ولو بالإعداد، وبالضرورة أنّ نصب الإمام كذلك، لِما به من تنفيذ الأحكام ورفع الظلم والفساد ونحوها.

    ولا ينافي اللطف في نصبه سلب العباد سلطانه أو غيبته ; لأنّ الله سبحانه قد لطف بهم بنصب المعـدّ لهم، وهم فوّتوا أثر اللطف عن أنفسـهم.

    وعُورض هذا اللطف بلطف آخر حاصل بعدم الإمام، فإنّ فاعل الواجب وتارك الحرام مع عدم الإمام أقرب إلى الإخلاص ; لانتفاء الخوف منه، فيكون أكثر ثواباً، ويكون عدمُ الإمام لطفاً.

    بل قيل: إنّ تفويت هذا الثواب مفسدةٌ مانعةٌ من وجوب نصب الإمـام.

    وفيه: إنّ هذا اللطف لا يصلح للمعارضة ; لأنّه لطفٌ خاصٌّ بقليل من الناس، ونصب الإمام لطفٌ عامٌّ.

    على أنّـا نمنع كونه لطفاً ; لعدم إحاطـة غير الإمام بجهـات الإخلاص، فلا يحصل الإخلاص التامّ بدون الإمام، للحاجة إلى تعليمه وإرشاده.

    مع أنّ من لا يخالف الأوامر والنواهي مع عدم الإمام، لا يتفاوت حاله

    ____________

    (1) سورة النساء 4: 165.


    الصفحة 269
    في الإخلاص بين وجود الإمام وعدمه، ضرورة أنّه يوافق التكاليف بالطبع والطوع، لا بالخوف ألبتّـة، بلا فرق بين حالـتَي وجود الإمام وعدمه، بل هو مع الإمام أقرب إلى الإخلاص اقتداءً به وسلوكاً لنهجه.

    وأمّا كون فوات المصلحة مفسدة، فظاهر البطلان لو سُلّم فواتها، على أنّ مقتضاه عدم جواز نصب الإمام، لا عدم وجوبه فقط، لِما في نصبه من المفسدة فرضاً.

    وأمّا الكبرى ; فلأنّ ترك هذا اللطف من المولى إخلالٌ بغرضه ومطلوبه، وهو طاعة العباد له وترك معصيته، فيجب نصب الإمام على المولى لئلاّ يخلّ بمطلوبه ; لأنّ الناس غير معصومين، والمفاسد بنصب المعدّ للطاعة منتفيةٌ بالضرورة، وإلاّ لَما جاز نصبه، وهو خلاف الإجماع والضرورة.

    على أنّه سبحانه أخبر بأنّه لطيف، فيلزمه نصب الإمام تصديقاً لإخباره.

    وهو ـ سبحانه ـ لم يخلق جوارح الإنسان إلاّ وجعل لها إماماً يهديها إلى أفعالها، وأميراً يحكم في مشتبهاتها، وهو القلب، كما أقرّ به عمرو بن عبـيد لمّا سأله هشام بن الحكم (رحمه الله)(1)، فكيف يترك الناس في حيرة

    ____________

    (1) راجع ما جرى بين هشام بن الحكم وبين عمرو بن عبيد في: رجال الكشّي 2 / 549 ـ 551 رقم 490، الكافي 1 / 190 ح 429، إكمال الديـن 1 / 207 ـ 209 ح 23، علل الشرائع 1/ 228 ح 2، الأمالي ـ للصدوق ـ: 685 ـ 687 ح 942، الاحتجاج 2 / 283 ح 242.

    وأمّـا عمرو فهو: أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب ـ وقيل: ابن ثوبان ـ البصري، شيخ المعتزلة في عصره، كان جدّه من سبي فارس، وأبوه نسّاجاً ثمّ شرطيّاً للحجّاج في البصرة، وكان محظيّاً عند أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يحبّه ويعظّمه، له من الكتب: تفسير القرآن عن الحسن البصري، وخطب، ورسائل، وديوان شعر، قيل: وُلد هو وواصل بن عطاء سنة 80 هـ، وتوفّي سنة 144 هـ، وقيل: 143 و 142 هـ، وهو في طريقه إلى مكّـة.

    انظر: تاريخ بغداد 12 / 166 رقم 6652، وفيات الأعيان 3 / 460 رقم 503، تهذيب الكمال 14 / 276 رقم 4990، سير أعلام النبلاء 6 / 104 رقم 27، البداية والنهاية 10 / 64 حوادث سنة 142، شذرات الذهب 1 / 210 و 211 حوادث سنة 142 هـ، هديّة العارفين 5 / 802.

    وأمّا هشام فهو: أبو محمّـد هشام بن الحكم الشيباني، من أهل الكوفة، سكن بغداد، من كبار متكلّمي الإمامية، له تصانيف كثيرة في علم الكلام، وكان من أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وبعده الإمام موسى بن جعفـر الكاظم (عليه السلام)، توفّي سنة 179 هـ بالكوفة في أيّام الرشيد، وقيل سنة 199 هـ.

    انظر: رجال الكشّي 2 / 526 رقم 475، الفهرست ـ للنديم ـ: 307، سير أعلام النبلاء 10 / 543 رقم 174، لسان الميزان 6 / 194 رقم 691.


    الصفحة 270

    الصفحة 271
    الضلالة بلا إمام يهديهم سواء السبيل، ويرفع مشتبهاتهم وخلافهم، مع انتشارهم في أطراف الأرض، واختلافهم بالطباع والأهواء، وتباينهم بالمقاصد والآراء؟!

    ويمكن إرجاع الدليلين العقليّين(1) إلى دليل واحد، وهو كون الإمامة لطفاً من جهتين:

    جهة العلم ; وهي الأمر الأوّل..

    وجهة السياسة ; وهو الأمر الثاني..

    واللطف واجب.

    فإذا عرفت أنّه لا يجوز الرجوع إلى اختيار الناس في تعيين الإمام، وأنّه يجب على الله سبحانه نصبه، ظهر لك بطلان القول بثبوت الإمامة

    ____________

    (1) وهما: إنّ الناس في كلّ وقت محتاجون إلى عالِم، وإنّ نصب الإمام لطف.


    الصفحة 272
    ببيعة أهل الحلّ والعقد، وبطلان القول بوجوب النصب شرعاً على الأُمّة.

    ومن طريف ما قيل في بطلان دعوى أنّ الإمامة بالاختيار، قول الشاعر العبدي(1) [من الطويل] :


    وقالوا: رسولُ اللهِ ما اختارَ بعدَهُإمامـاً، ولكنّا لأنفُسِـنا اخترْنا
    أقمنا إماماً إنْ أقامَ على الهُدىأطعنا وإنْ ضلّ الهدايةَ قَـوّمْنا
    فقلنا: إذنْ أنتم إمامُ إمامِكمبحمد من الرحمن تِهْتُم وما تِهْنا
    ولكنّنا اخترنا الذي اختار ربُّنالنا يوم خُمّ ما اعتدينا ولا حُلْنا
    سيجمعُنا يومَ القيامة ربُّنافتُجزَونَ ما قلتُمْ ونُجزى الذي قُلْنا
    ونحنُ على نور من الله واضحفيا ربّ زدنا منكَ نُوراً وثَـبّـتْنا(2)

    واسـتدلّ الأشاعرة على وجوب النصب على الأمر شرعاً بثلاثة وجوه، ذكر صاحب " المواقف " وشارحها منها اثنين، قالا:

    " الأوّل: إنّـه تواتـر إجمـاع المسـلمين في الصدر الأوّل بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على امتناع خلوّ الوقت من خليفة وإمام، حتّى قال أبو بكر في خُطبته المشهورة حين وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم): أَلا إنّ محمّـداً قد مات، ولا بُـدّ لهذا الدين ممّن يقوم به.

    ____________

    (1) هو: أبو محمّد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي، من شعراء أهل البيت (عليهم السلام)والمنقطعين إليهم، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يسمع شعره ويقول: " يا معشر الشيعة! علّموا أولادكم شعر العبدي، فإنّه على دين الله "، وكان معاصراً للسيّد الحميري، المتوفّى سنة 173 هـ، وله معه موقف ينمّ عن تضلّعه ومعرفته بمواضع الكلام، فقال السيّد: " أنا أشعر الناس إلاّ العبدي ".

    انظر: الكافي 8 / 216 ح 263، رجال الكشّي 2 / 704 رقم 748، الأغاني 7 / 293.

    (2) مناقب آل أبي طالب 1 / 318.


    الصفحة 273
    فبادر الكلّ إلى قبول قوله، ولم يقُل أحد: لا حاجة إلى ذلك ; بل اتّفقوا عليه، وقالوا: ننظر في هذا الأمر ; وبكّروا إلى سقيفة بني ساعدة، وتركوا أهمّ الأشـياء، وهو دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ واختلافهم في التعييـن لا يقدح في ذلك [الاتّفاق] ـ ولم يزل الناس [بعدهم] على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متّـبَـع "(1) انتهى.

    وفيـه ـ مع ما عرفت من وجوب النصب على الله تعالى، فلا محلّ لوجوبه على الأُمّة شرعاً ـ: إنّ دعوى امتناع خلوّ الوقت عن إمام، أعمّ من وجوبه على الله سبحانه، وعلى الأُمّـة، شرعاً أو عقلا.

    نعم، لو صحّ ما نقلاه عن أبي بكر وقبول الصحابة له، وقولهم: " ننظر في هذا الأمر "، كان ظاهراً في وجوبه على الأُمّة، لكـنّه ـ مع كونه أعمّ من الوجوب شرعاً وعقلا ـ كذبٌ صريح ; إذ لم يقل أبو بكر: " لا بُـدّ لهذا الدين ممّن يقوم به " في خطبته التي رأيناها في كتبهم، كتاريخَي الطبري وابن الأثير وصحيح البخاري، عند ذِكر مناقب أبي بكر(2)، ومسـتدرك الحاكم، حيث ذكر خطبة أبي بكر(3)، وغيرها من كتبهم(4).

    وما قال أحد بعد خطبة أبي بكر: " ننظر في هذا الأمر "، ولا راحوا إلى السقيفة وفاءً بالوعد وقياماً بواجب النصب شرعاً..

    ____________

    (1) المواقف: 395، شرح المواقف 8 / 345 ـ 346، وانظر: شرح تجـريد الاعتـقاد ـ للقوشجي ـ: 472.

    (2) تاريخ الطبري 2 / 232 ـ 233، الكامل في التاريخ 2 / 187 حوادث سنة 11 هـ، صحيح البخاري 5 / 70 ح 167.

    (3) المستدرك على الصحيحين 2 / 323 ح 3162.

    (4) راجع: السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 6 / 75 ـ 76، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 401، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ 4 / 480 ـ 483.


    الصفحة 274
    فإنّ رواياتهم متضافرة في أنّ الأنصار اجتمعوا في السقيفة لبيعة سعد ساعة موت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعلم أبو بكر وأصحابه، فذهبوا ينافسونهم في الإمرة، كما يدلّ عليه خطبة عمر التي بيّن فيها أنّ بيعة أبي بكر فلتة، ورواها القـوم، منهم البخاري في " باب رجم الحبلى إذا أحصنت " من كـتاب المحاربيـن(1).

    وكيف يمكن أن تكون مبادرتهم إلى السـقيفـة أداءً للوظيفـة الشـرعية؟! والحال أنّ تجهيز النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومراعاة حرمته أهمّ الواجبات، وتأخير دفنه تلك المدّة أكبر الوهن به وبالإسلام! ولا يضرّ تقديم تجهيزه بأمر الإمامة، ولا سيّما بناءً على حسن ظنّ القوم بالصحابة وحكمهم بعدالتهم أجمع، وصلابتهم في الدين كما تسمع!

    فلا ريب أنّهم لم يؤخّروا دفن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مبادرةً لواجب البيعة، وإنّما أخّروه منافسةً في الدنيا، وانتهازاً لفرصة مشغولية أمير المؤمنين (عليه السلام)بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلمهم بأنّه لا يَترك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا دفن ويأتي لمزاحمتهم!

    ولو كانوا بذلك الاهتمام في أداء واجب البيعة فما بال عمر أباح تأخير البيعة في الشورى ثلاثة أيّام، والنفر الّذين اختارهم للشورى ستّة، ويمكنهم بتّ الأمر في يوم واحد أو ساعة واحدة، ولا سيّما مع علمهم بالحال قبل موته؟!

    ولـو كانـوا بذلك الاهتمـام فـي أمـر الإمامة الإلـهيّـة فَلِـمَ لَـم يسـألوا

    ____________

    (1) صحيح البخاري 8 / 300 ـ 304 ح 25، وانظر: مسند أحمد 1 / 55، مصنّف عبـد الرزّاق 5 / 439 ـ 445 ح 9758، مصنّف ابن أبي شيبة 8 / 570 ح 2، المعيار والموازنة: 38، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 1 / 320 ـ 321 ح 415، الثقات ـ لابن حبّان ـ 2 / 152 ـ 154، تاريخ دمشق 30 / 281 ـ 283.


    الصفحة 275
    النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نصب إمام لمّا أخبرهم بموته مراراً عديدة تصريحاً وتلويحاً فيريحهم عن تكلّف ذلك المهمّ؟!

    ولِـمَ نسبوه إلى الهجر ومنعوه من كتابة ما لا يضلّون بعده؟!(1) ألَم يحتملوا أنّه يُريد نصب إمام فيريحهم عن ذلك الاهتمام؟!

    ولِـمَ لَم يُعطها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض اهتمامهم وينصب لهم خليفة أو يُشرّع جواز ترك الاستخلاف بالقول ويحفظ حرمته وحرمة الإسلام؟!

    ولِـمَ لَم يكن عند أمير المؤمنين ذلك الاهتمام فيشاركهم في أداء الواجب فيحصل لدفن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تعجيل؟!

    وأمّا قولهما: " ولم يزل الناس على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا... " إلى آخره(2)..

    فغريبٌ ; لأنّا لم نرَ ولم نسمع أنّهم اهتمّوا لنصب إمام قياماً بالواجب، ولذا لم يطلبوا إماماً جامعاً للشرائط التي ذكراها، من العدالة والاجتهاد والقُرشية ونحوها، وإنّما رأينا وسمعنا قيامهم برئاسة من انتفت عنه الشرائط، طلباً لأن ينالوا به شيئاً من الدنيا الدنـيّـة!

    الدليل الثاني الذي ذكراه لمختار الأشاعرة: إنّ في نصب الإمام دفع ضرر مظنون، ودفعه واجب إجماعاً(3).

    وفيـه: إنّ الدفع به إنّما يجب على الناس إذا لم يجب على الله تعالى، أو أهمل أمر الأُمّة، وكلاهما باطل..

    ولو سلّمنا، فلا مخرج للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن وجوب دفع الضرر

    ____________

    (1) راجع الصفحة 93 هـ 2 من هذا الجزء.

    (2) راجع الصفحة 257 من هذا الجزء.

    (3) المواقف: 396، شرح المواقف 8 / 346.


    الصفحة 276
    بالنصب، فلا بُـدّ أن يكون قد نصب وإلاّ أخلّ بالواجب.

    على أنّ نصبهم للإمام وإن دفعَ ضرراً، إلاّ أنّ نصب غير المعصوم يُوجب ضرراً آخر ناشئاً من عمده أو خطئه، فيضرّ بالدين والأُمّة، فيحرم، فلا مناص من نصب الله سبحانه لمن يعلم عصمته.

    وقد ذكر القوشجي دليلا ثالثاً، وهو: إنّ الشارع أمر بإقامة الحدود وتجهيز الجيوش وسدّ الثغور ونحوها ممّا لا يتمّ إلاّ بإمام، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجب "(1).

    وفيه ـ مع توقّفه على عدم الوجوب على الله سبحانه، وتركه لنصب الإمام، وكلاهما باطل ـ: إنّ تلك الواجبات إنّما تجب بشرط وجود الإمام، ومقـدّمة الواجب المشروط غير واجبة، كالاسـتطاعة بالنسـبة إلى الحـجّ، ولا سيّما أنّ الأوّل ـ وهو إقامة الحدود ـ إنّما يجب على الإمام، بل وكذا الأخيران، فكيف تجب مقدّمتها، وهي نصبُ الإمام على غيره؟! اللّهمّ إلاّ إذا خيف على بيضة الإسلام، فإنّه يجب الأخيران على الناس أيضاً، فيجب عليهم النصب هنا خاصّـة.

    ولو سُلّم وجوب تلك الأُمور على الناس، وأنّ النصبَ مقدّمة وجود لها، فكثير من الجمهور لا يقولون بوجوب مقدّمة الواجب كما سيذكره المصنّـف (رحمه الله) في مسألة أُصول الفقه.

    فاتّضح بما بـيّـنّا بطلان الرجوع إلى اختيار الأُمّة، كلاًّ أو بعضاً، وبطلان إيجاب النصب عليهم.

    لكنّ القوم مع اختيارهم لذلك، اكتفوا ببيعة الواحد والاثنين في عقد

    ____________

    (1) شرح تجريد الاعتقاد: 472.


    الصفحة 277
    الإمامة وإيجاب اتّباعه على الأُمّـة(1)! قال في " المواقف " وشرحها ـ وهما عنوان مذهبهم ـ:

    " وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة، فاعلم أنّ ذلك [الحصول] لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحلّ والعقد، إذ لم يتمّ عليه [أي: على هذا الافتقار] دليلٌ من العقل والسمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد كاف في ثبوت الإمامة، ووجوب اتّباع الإمام على أهل الإسلام ; وذلك لعلمنا أنّ الصحابة ـ مع صلابتهم في الدين وشدّة محافظتهم على أُمور الشرع كما هو حقّها ـ اكتفوا في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين، كعقد عمر لأبي بكر، وعقد عبـد الرحمن بن عوف لعثمان.

    ولم يشترطوا في عقدها اجتماع مَن بالمدينة من أهل الحلّ والعقد، فضلا عن إجماع الأُمّة من علماء أمصار الإسلام ومجتهدي جميع أقطارها، هذا [كما مضى] ولم ينكر عليه أحد.

    وعليه ـ أي: على الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الإمامة ـ انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتـنا هذا "(2).

    وأنت إذا نظرت بعين الإنصاف، وسمعت بأُذن واعية، وتدبّرت في ما ذكرنا، عرفت بطلان هذا الكلام.

    ومن العجب دعواهما اكتفاء الصحابة في عقد الإمامة ببيعة الواحد والاثنيـن!..

    ألم يعلما امتناع أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وجماعة من الصحابة

    ____________

    (1) انظر: تمهيد الأوائل: 467 ـ 468، غياث الأُمم: 85 ـ 89.

    (2) المواقف: 400، شرح المواقف 8 / 352 ـ 353.


    الصفحة 278
    عن بيعة أبي بكر، وتخلّفهم عنها زمناً طويلا، ولم يكتفوا ببيعة من بايعه من أهل السقيفة فضلا عن عمر وحده؟!

    ألم يسمعا تخلّف سعد وابن عمر وأُسامة بن زيد ومحمّـد بن مسلمة وأبي مسعود الأنصاري وغيرهم عن بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع مشاهدتهم بيعة أهل الحلّ والعقد له(1)؟!

    ألم يدريا أنّ بيعة الأوس لأبي بكر كانت حسداً للخزرج، لا للاكتفاء المذكور، كما تشهد به مراجعة تأريخي الطبري وابن الأثير(2) في كيفيـة بيعة السقيفة ; وكذا بيعة المهاجرين، إنّما كانت حسداً وعداوةً لأمير المؤمنين (عليه السلام)؟! كما سـتعرف إن شاء الله تعالى.

    وأعجب من ذلك دعواهما انطواء الأعصار على ذلك، فإنّا لم نسمع أنّه اتّفق في زمان اكتفاء الناس ببيعة الواحد والاثنين، وأنّ التكليف دعاهم إلى التسليم!

    نعم، سمعنا عهدَ الملوكِ الخونة لأبنائهم الجهلة الفسقة، ولكنّه من نصّ الإمام عندهم لا من محلّ الكلام!

    ومن المضحك أنّهم يصفون الصحابة بالصلابة في الدين في مثل المقام، ممّا يحتاجون فيه إلى إثبات صلابتهم ومحافظتهم على أُمور الشرع، ويدّعون في مقام آخر أنّ مبادرتهم إلى البيعة وإعراضهم عن دفن سيّد المرسلين، خوفاً من الفتنة وزوال أمر الإسلام، فإنّهم إذا كانوا بتلك

    ____________

    (1) راجع: تاريخ الطبري 2 / 697 ـ 698، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 524، الكامل في التاريخ 3 / 82، البداية والنهاية 7 / 182.

    (2) تاريخ الطبري 2 / 243، الكامل في التاريخ 2 / 194 حوادث سنة 11 هـ، وانظر: شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6 / 10.


    الصفحة 279
    الصلابة، فأيُّ خوف يُخشى على الإسلام إذا بادروا لدفن نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم)وأخّروا البيعة ساعة، وتذاكروا في أثناء هذا الوقت بتعيين الأَوْلى؟!

    وإذا كانوا بتلك الصلابة، فكيف خاف عمر من وجوه الصحابة أن يُفسِدوا إذا خرجوا في الجهاد وإمرة البلاد؟!.. روى الحاكم في " المستدرك " في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)، من كتاب معرفة الصحابة(1)، وصحّحه الذهبي في " تلخيصه "، عن قيس بن أبي حازم، قال:

    جاء الزبير إلى عمر بن الخطّاب يستأذنه في الغزو، فقال عمر: اجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

    قال: فردّد ذلك عليه، فقال له عمر في الثالثة أو التي تليها: اقعدْ في بيتك! فوالله إنّي لأجدُ بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فـتُـفسِدوا علَيَّ أصحاب محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم).

    فقد ظهر من كلام " المواقف " وشرحها أنّ إمامة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر، فوجب اتّباعه على أهل الإسلام قاطبةً.

    فكان ما نسبه المصنّف إليهم صدقاً، وإنّما الفضل جاهلٌ بمذهبه وبمراد المصنّـف.

    فالمصنّف لم يُرد إنكار بيعة الأنصار يوم السقيفة، بل أراد نفي كون إمامة أبي بكر عن مشورة أهل الحلّ والعقد واجتماع رأيهم، وإنّما كان أصل انعقادها ببيعة عمر ورضا أربعة، ولذا كانت فلتةً كما قاله عمر(2)،

    ____________

    (1) ص 12 من الجزء الثالث [3 / 129 ح 4612] . منـه (قدس سره).

    وانظر: مسند البزّار 1 / 466 ح 332، مجمع الزوائد 9 / 152، كنز العمّال 11 / 267 ح 31476، عون المعبود 11 / 366.

    (2) راجع الصفحة 258 هـ 1 من هذا الجزء.