على أنّ ما ادّعاه الفضل من اتّفاق أرباب التواريخ على أنّ أبا بكر لم يفارق السقيفة حتّى بايعه جميع الأنصار إلاّ سعداً، كذبٌ صريح..
قال ابن الأثير(1): " لمّا تُوفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبـيدة بن الجرّاح، فقال: ما هذا؟!
فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير.
فقال أبو بكر: منّا الأُمراء ومنكم الوزراء.
ثمّ قال أبو بكر: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، عمر وأبا عبيـدة أمين هذه الأُمّة.
فقال عمر: أيّكم يطيب نفساً أن يُخلّف قدمين قدّمهُما النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
فبايعـه عمر وبايعـه الناس.
فقالت الأنصار ـ أو: بعض الأنصار ـ: لا نبايع إلاّ عليّـاً " ; انتهى.
ونحوه في " تاريخ الطبري "(2).
وقال ابن عبـد البرّ في " الاستيعاب " بترجمة أبي بكر: " بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سقيفة بني ساعدة، ثمّ بويع له البيعة العامّة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم، وتخلّف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفةٌ من الخزرج وفرقة من قريش "(3).
____________
(1) في كامله ص 156 من الجزء الثاني [2 / 189، حوادث 11 هـ] . منـه (قدس سره).
(2) ص 198 من الجزء الثالث [2 / 233 حوادث سنة 11 هـ] . منـه (قدس سره).
(3) الاستيعاب 3 / 973 رقم 1633.
ومـن طريـف الكـذب ما قاله من موت سعد بعد سـبعة أيّـام، فإنّـه لا يجامع اتّفاق العلماء والمؤرّخين على أنّه مات بحَوْران(1)، وقال أكثرهم: مات في إمارة عمر(2).
وقال ابن حجر في " الإصابة "، في ترجمة سعد: " وقصّته في تخلّفه عن بيعة أبي بكر مشهورة، وخرج إلى الشام فمات بحَوْران سنة 15 وقيل: سـنة 16 "(3).
وقال الحاكم(4): إنّه توفّي بحَوْران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر وذلك سنة 15، وروى أيضاً أنّه مات بحَوْران سنة 16.
وقـال الطبـري في " تاريخـه "(5): كـان سعد لا يُصـلّي بصلاتـهم، ولا يُجمّع معهم، ويحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتّى هلك أبو بكر.
____________
(1) حَوْرانُ: كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القِـبلة، ذات قرىً كثيرة ومزارع وغيرهما، وفتحت قبل دمشق ; انظر: معجم البلدان 2 / 364 رقم 3989.
(2) انظر: الاستيعاب 2 / 599 رقم 944، الكامل في التاريخ 2 / 337 حوادث سنة 14 هـ، سير أعلام النبلاء 1 / 277 رقم 55، البداية والنهاية 7 / 27 ـ 28 حوادث سنة 13 هـ، تهذيب التهذيب 3 / 286 رقم 2317.
(3) الإصابة 3 / 67 رقم 3175.
(4) في المسـتدرك على الصحيحيـن ص 292 من الجزء الثالث [3 / 282 رقم 5098 و 5099] . منه (قدس سره).
(5) ص 210 من الجزء الثالث [2 / 244 حوادث سنة 11 هـ] . منه (قدس سره).
وقال ابن الأثير في " كامله " في تاريخ سنة 14: " وفيها مات سعد بن عبادة، وقيل: سنة 11، وقيل: سنة 15 "(2).
وقد ذكر ابن أبي الحديد نحو ذلك في عدّة مواطن من " شرح النهج "(3).
وذكره جماعة كثيرون لا يسع المقامُ اسـتقصاءَهم(4)..
وذكر ابن أبي الحديد(5): إنّ أبا بكر ـ وقال بعضهم: عمر ـ كتب إلى خالد بن الوليد بالشام أن يقتل سعداً، فكمن له هو وآخر معه ـ وقيل: هو محمّـد بن مسلمة(6) ـ ليلا، فرمياه فقتلاه وألقياه في بئر هناك فيها ماء،
____________
(1) الاستيعاب 2 / 599 رقم 944.
(2) الكامل في التاريخ 2 / 337 حوادث سنة 14 هـ.
(3) انظر: شرح نهج البلاغة 6 / 10 ـ 11 و ج 10 / 111.
(4) راجع الصفحة السابقة هـ 2.
(5) ص 190 من المجلّد الرابع [17 / 223] . منـه (قدس سره).
(6) هو: محمّـد بن مسلمة بن سلمة بن خالد الأنصاري، يقال: إنّه أسلم على يد مصعب بن عمير ; شهد بدراً، وكان ممّن اعتزل في الجمل وصفّين، اختُلِف في سنة وفاته، فقيل: توفّي سنة 42، وقيل: سنة 43، وقيل غير ذلك، وكان عمره آنذاك 77 سنة.
انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 338 رقم 96، المستدرك على الصحيحين 3 / 490 ـ 494 ح 5833 ـ 5844، الاستيعاب 3 / 1377 رقم 2344، سير أعلام النبلاء 2 / 369 رقم 77، تهذيب التهذيب 7 / 427 رقم 6552.
وقيل: إنّ صاحب خالد هو المغيرة بن شعبة، كما في مناقب آل أبي طالب 1 / 331، الاحتجاج 2 / 314.
نحن قتلنا سيّد الخزر | جِ سعدَ بنَ عبادَه |
ورميناهُ بسهمَينِ | فلَم نُخطئْ فؤادَه |
يريهم أنّ ذلك من شعر الجـنّ!
وأمّا قوله: " ولو كان الأنصار سمعوا من رسول الله النصّ على خلافة عليّ، فلِـمَ لَمْ يجعلوه حجّةً على أبي بكر "..
فـفيـه: إنّهم إنّما لم يجعلوه حجّة عليه ; لأنّه حجّة عليهم، فإنّهم مثلـه كانوا يطلبون الإمـرة، وقد اجتمعوا لنصب إمام منهـم كما ذكره الفضل، وهم أوّل من أبطل قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ونـصّه يوم الغـدير، لكن بعـدما علموا أنّ قريشـاً تمالأت على أمير المؤمنيـن وغصب حقّه، لِما صدر منهم من الصحيفة الجائرة بمكّـة، التي جعلوا أبا عبيـدة أمينها، فسمّوه أميناً لذلـك(1)، ولِما وقع منهم من القول البذيء في بعض خيامهم يوم الغـدير(2)، ومن الفعل الفظيـع ليلة الدباب في العقبة إذ همّوا بقـتل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(3)، ولنسبتهم الهجر إليه(4) فمنعوه من تأكيد النصّ على أمير المؤمنين (عليه السلام)، مضافاً إلى تصريح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ عليّـاً لا يزال مظلوماً
____________
(1) انظر: تفسير القمّي 2 / 336، الكافي 4 / 545، الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم 3 / 153 ـ 155.
(2) انظر: تفسير العيّاشي 2 / 103 ـ 105 ح 89 و 90.
(3) راجع: مسند أحمد 5 / 453، الكشّاف 2 / 203، الخصال 2 / 499 ح 6، الاحتجاج 1 / 127 ـ 132.
(4) راجع الصفحة 93 هـ 2 من هذا الجزء.
فخاف الأنصار من ولاية أعداء أمير المؤمنين، فأرادوا الاسـتقلال أو المشاركة.
ولا يبعـد أنّ كثيراً من الأنصار احتـجّوا على أبي بكر بالنصّ على عليّ (عليه السلام)، فلم يبال أبو بكر وأعوانه به، كما يشهد له ما سبق عن الطبري وابن الأثير أنّ الأنصار أو بعضهم قالوا: " لا نبايع إلاّ عليّـاً! "(2).
وأمّا قوله: " وهل يمكن أنّ الأنصار الّذين نصروا الله ورسوله... " إلى آخره..
فلو سُلّم أنّهم سكتوا ولم يذكروا النصّ على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهـو غير عجيب ; لانقلابهم كغيرهم بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كما دلّت عليه الآيـة(3)، وأخبار الحـوض(4)..
وما رواه البخاري وغيره، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لتـتّبعنّ سَنَنَ(5) من
____________
(1) انـظـر: الـتـاريـخ الـكبـير ـ للبخـاري ـ 2 / 174 رقـم 2103، الكـنى والأسـمـاء ـ للدولابي ـ: 104، المستدرك على الصحيحين 3 / 150 ح 4676 ووافقه الذهبي، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 6 / 440، تاريخ بغداد 11 / 216 رقم 5928، تاريخ دمشق 42 / 447 ـ 448، كنز العمّال 11 / 297 ح 31561.
(2) تقـدّم في الصفحة 264 هـ 1 و 2.
(3) وهي قوله تعالى: (وما محمّـدٌ إلاّ رسولٌ قد خلَت من قبلهِ الرّسلُ أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم...) سورة آل عمران 3: 144.
(4) تقـدّم تخريج ذلك مفصّـلا في ج 2 / 27 ـ 28 هـ 1، وانظر: الصفحـة 212 ـ 213 من هذا الجزء.
(5) السَّـنّة: الطريقة، وسَـنَنُ الطريق وسُـنُـنُه وسُـنَـنُه ـ ثلاث لغات ـ، وقيل كذلك: سِـنَـنُه: هي نَـهْـجُه وجِـهتُه ومَحَجّتُه ; والسُّـنّة ـ كذلك ـ: السِّـيرة أو الطريقة، حَسَـنةً كانت أو قبيحة.
انظر مادّة " سـنن " في: الصحاح 5 / 2138 ـ 2139، لسان العرب 6 / 399 ـ 400، تاج العروس 18 / 300 و 306.
قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟
قال: فـمَن؟! "(1).
ونحوه كثير جـدّاً(2).
قال الأُزري (رحمه الله) [من الطويل] :
أتعجبُ من أصحاب أحمدَ إذ رضوا | بتأخير ذي فضل وتقديم ذي جهلِ |
فأصحابُ موسى في زمان حياته | رضوا بدلا عن بارئ الخَلقِ بالعِجْلِ |
وأمّا قوله: " مع أنّ عمر وأبا عبيـدة ألزموهم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الأئمّـة من قريش "..
ففيـه: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنْ قاله، لكن لم يُلزموهم به كراهيّةً للتعـرّض حينئذ لِما فيه نصٌّ في الجملة، وإنّما ألزموهم بقولهم: " لن يعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً "،
____________
(1) صحيـح البخاري 4 / 326 ح 249 و ج 9 / 184 ح 89 و 90، صحيـح مسلم 8 / 57 ـ 58، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ 2 / 437 ح 1753.
(2) انظر مثلا: سنن ابن ماجة 2/ 1322 ح 3994، سنن الترمذي 4 / 412 ـ 413 ح 2180، مسند أحمد 2 / 327 و ج 3 / 94، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 6 / 186 ح 5943، مصنّف عبـد الرزّاق 11 / 369 ح 20764، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 25 ح 45 و ص 36 ـ 37 ح 72 ـ 75، المستدرك على الصحيحين 1 / 93 ح 106.
ولم أعرف أحداً روى أنّهم ألزموهم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الأئمّة من قريـش ".
وقد أنكره السيّد المرتضى ـ قـدّس الله روحه ـ غايةَ الإنكار، كما نقله عنه ابن أبي الحديـد(2).
نعم، ورد في بعض روايات القوم أنّ عكرمة بن أبي جهل وابن العاص روياه بعد السـقيفة وانقضاء البيعة وندم بعض الأنصار، كما ذكره ابن أبي الحديد في أوائل المجلّد الثاني، في منازعة جرت بين المهاجرين والأنصـار(3).
وأمّـا ما أحال الفضل عليه من الجواب عن تعجّب المصنّف من بحـث الأشاعرة عن الإمامة وفروعها، فهو كإحالة الظمآن على السراب، كـما أوضحناه في ما مـرّ.
____________
(1) صحيح البخاري 8 / 300 ـ 304 ح 25.
(2) ص 17 من المجلّد الرابع [شرح نهج البلاغة 17 / 167] . منه (قدس سره).
وانظر: الشافي في الإمامة 1 / 124.
(3) شرح نهج البلاغة 6 / 23 ـ 24.
تعيـيـن إمامة عليّ بدليـل العقل
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
المبحث الرابـع
في تعيـيـن الإمام
ذهبت الإمامية كافّـةً إلى أنّ الإمام بعد رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عليُّ ابن أبي طالب (عليه السلام)(2).
وقالت السُـنّة: إنّه أبو بكر بن أبي قُحافة، ثمّ عمر بن الخطّاب، ثمّ عثمان بن عفّان، ثمّ عليّ بن أبي طالب(3)، وخالفوا المعقول والمنقول.
____________
(1) نهج الحقّ: 171.
(2) هذا من ضروريات المذهب، ونحن في غنىً عن إثباته، فهو من أوضح الواضحات، ولكـنّنا نذكر عدّة مصادر لذلك على سبيل المثال، عملا بقواعد المناظرة، فانظر مثلا: أوائل المقالات: 40، الذخيرة في علم الكلام: 437، شرح جمل العلم والعمل: 201، المنقذ من التقليد 2 / 299، تجريد الاعتقاد: 223.
(3) وهذا من الثوابت عندهم، وفق التسلسل التاريخي لِما يسمّى بـ " الخلفاء الراشدين "، ولأحاديث وُضعت في ترتيب الخلافة من أجل ذلك، ولأدلّة اسـتدلّوا بها، سـيأتي الكلام عليها في محالّها ; وانظر لِما قالوه مثلا: أُصول السُـنّة ـ لأحمد ابن حنـبل ـ: 77، الـسُـنّـة ـ لعـبـد الله بن أحمـد بن حنبـل ـ 2 / 590 رقم 1400 و 1401، العقيدة الطحاوية: 91، الإبانة عن أُصول الديانة: 168 ـ 179، الإنصاف ـ للباقلاّني ـ: 64 ـ 67، أُصول الإيمان ـ لابن طاهر البغدادي ـ: 223 ـ 227، تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة ـ لأبي نعيم ـ: 46، الإرشاد ـ للجويني ـ: 363، شرح العقائد النسـفية: 227 ـ 229.
فهي الأدلّـة الدالّة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) من حيث العقل، وهي من وجوه:
الأوّل: الإمام يجب أن يكون معصوماً، وغير عليّ لم يكن معصوماً بالإجماع، فتعيّن أن يكون هو الإمام.
الثاني: شرط الإمام أن لا يسبق منه معصية، على ما تقـدّم، والمشايخ قبل الإسلام كانوا يعبدون الأصنام، فلا يكونون أئمّـة، فتعيّن عليّ (عليه السلام) للعدم الفارق.
الثالث: يجب أن يكون منصوصاً عليه، وغير عليّ من الثلاثة ليس منصوصاً عليه، فلا يكون إماماً.
الرابع: الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته، وغير عليّ لم يكن كذلك، فتعيّـن (عليه السلام).
الخامس: الإمامة رئاسة عامّة، وإنّما تستحقّ بالزهد والعلم والعبادة والشجاعة والإيمان، وسيأتي أنّ عليّـاً (عليه السلام) هو الجامع لهذه الصفات على الوجه الأكمل الذي لم يلحقه غيره، فيكون هو الإمام.
وقال الفضـل(1):
مذهب أهل السُـنّة والجماعة أنّ الإمام بالحقّ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أبو بكر الصدّيق، وعند الشـيعة: عليٌّ المرتضى.
ودليل أهل السُـنّة وجهان:
الأوّل: إنّ طريق ثبوت الإمامة إمّا النصّ، أو الإجماع بالبيعة..
أمّا النصّ فلم يوجد ; لِما ذكرنا(2) ولِما سـنذكر ونفصّل بعد هذا.
وأمّا الإجماع فلم يوجد في غير أبي بكر اتّفاقاً من الأُمّـة.
الوجه الثاني: إنّ الإجماع منعقدٌ على حقّـيّة أحد الثلاثة: أبي بكر وعليّ والعبّـاس، ثمّ إنّهما لم ينازعا أبا بكر، ولو لم يكن على الحقّ لنازعاه كما نازع عليٌّ معاوية ; لأنّ العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك، ولأنّ ترك المنازعة مع الإمكان مخلٌّ بالعصمة ; لأنّه هو معصيةٌ كبيرة تُوجب انثلام العصمة، وأنتم تُوجبونها في الإمامة وتجعلونها شرطاً لصحّة الإمامة.
فإن قيـل: لا نُسلّم الإمكان ـ أي إمكان منازعتهما أبا بكر ـ.
قلنـا: قد ذهبتم وسلّمتم أنّ عليّـاً كان أشجع من أبي بكر، وأصلب في الدين، وأكثر منه قبيلةً وأعواناً، وأشرف منه نسباً، وأتمّ منه حسباً..
والنصّ الذي تدّعونه لا شكّ أنّه بمرأىً من الناس وبمسمع منهم،
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 2 / 356.
(2) راجع الصفحة 244 ـ 246 من هذا الجزء.
وكان ينبغي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى الأنصار بإمداد عليّ في أمر الخلافة، وأن يحاربوا من يُخالف نصّـه في خلافة عليّ.
ثمّ إنّ فاطمـة ـ مع عُـلُوّ منصبها ـ زوجته، والحسن والحسـين ـ مع كونهما سبطَي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ولداه..
والعبّـاس ـ مع عُلوّ منصبه ـ معه، فإنّه رُوي أنّه قال لعليّ: أُمدُد يدك أُبايعك حتّى يقول الناس: بايع عمّ رسول الله ابن عمّه، فلا يختلف فيك اثنـان(2).
والزبـير ـ مع شـجاعته ـ كـان معـه، قيـل: إنّـه سـلّ السـيف وقـال: لا أرضى بخلافة أبي بكر(3).
وقال أبو سفيان: أرضيتم يا بني عبـد مناف أن يليَ عليكم تيميّ؟! والله لأملأنّ الوادي خيلا ورجلا(4)!
وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير ; كما
____________
(1) انظر: صحيح البخاري 5 / 115 ـ 116 ح 287 و 289، صحيح مسلم 7 / 174، سـنن الترمذي 5 / 672 ح 3907، مسـند أحمد 3 / 156 و 176، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 193.
(2) الإمامة والسياسة 1 / 21، المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 20 ق 1 / 121، الأحكام السلطانية ـ للماوردي ـ: 7.
(3) تاريخ الطبري 2 / 234، المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 20 ق 2 / 268.
(4) تاريخ اليعقوبي 2 / 10، تاريخ الطبري 2 / 237، المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 20 ق 1 / 121، المسـتدرك على الصحيحيـن 3 / 83 ح 4462، شرح نهـج البلاغـة ـ لابن أبي الحديد ـ 2 / 45، الكامل في التاريخ 2 / 189.
ولو كان على إمامة عليّ نصٌّ جليّ، لأظهروه قطعاً، ولأمكنهم المنازعة جزماً.
كيـف لا؟! وأبو بكر شـيـخٌ ضعيـفٌ جبان، لا مـالَ له ولا رجـال ولا شوكة، فأنّى يتصوّر امتناع المنازعة معه؟!
وكلّ هذه الأُمور تدلّ على أنّ الإجماع وقع على خلافة أبي بكر، ولم يكن نصٌّ على خلافة غيره.
وبايعه عليٌّ حيث رآه أهلا للخلافة، عاقلا، صبوراً، مُدارياً، شيخاً للإسـلام.
ولم يكن غرضٌ بين الصحابة لأجل السلطنة والزعامة، بل غرضهم كان إقامة الحقّ وتقويم الشريعة ليدخل الناس كافّـةً في دين الإسلام.
وقد كان هذا يحصل من خلافة أبي بكر، فسلّموا إليه الأمر، وكانوا أعواناً له في إقامة الحـقّ.
هذا هو المذهب الصحيح، والحقّ الصريح، الذي عليه السواد الأعظم من الأُمّة، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليكم بالسواد الأعظـم "(2).
____________
(1) تقـدّم قريباً في الصفحة 264.
وانظر: تاريخ اليعقوبي 2 / 7، تاريخ الطبري 2 / 242 حوادث سنة 11 هـ، الكامل في التاريخ 2 / 189 حوادث سنة 11 هـ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6 / 39، البداية والنهاية 5 / 187 حوادث سنة 11 هـ.
(2) مسند أحمد 4 / 383، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 39 ح 80، تفسير القرطبي 14 / 39.
فالأوّل: وجـوب كـون الإمـام معصومـاً، وقد قـدّمنا عدم وجوبـه، لا عقلا ولا شرعاً(1).
وجواب الثاني: عدم اشتراط أن لا تسـبق منه معصية كما قـدّمنا(2).
وجواب الثالث: عدم وجوب النصّ ; لأنّ الإجماع في هذا كالنصّ.
وجواب الرابـع: عدم وجوب كون الإمام أفضل من الرعيّـة ـ كما ذَكر ـ إذا ثبت أفضلـيّـة عليّ كـرّم الله وجهه.
وجواب الخامس: إنّ أوصاف الزهد والعلم والشجاعة والإيمان كانت موجودة في المشايخ الثلاثة، وأمّا الأكمليّة في هذه الأوصاف، فهي غير لازمة إذا كانوا أحفظ للحوزة.
____________
(1 و2) راجع الصفحة 21 وما بعدها من هذا الجزء.
وأقـول:
يرد على دليلهم الأوّل: إنّ النصّ على خلافة عليّ واقعٌ كما سـتعرف..
وإنّ الإجماع على بيعة أبي بكر لم يقع ; كيف؟! ولم يبايعه زعيم الخزرج وسيّدهم سعد بن عبادة ولا ذووه، إلى أن مات أبو بكر..
ولم يبايعه سـيّد المسلمين ومولاهم ومن يدور معه الحقّ حيث دار(1) إلاّ بعدما هجموا عليه داره وهمّوا بإحراق بيته(2)، كما سـتعرفه في مطاعن أبي بكر.
وكذلك الزبير، لم يبايـع إلاّ بعد أن كسروا سـيفه وأخذوه قـهراً(3).
ولا المقداد، إلاّ بعدما دفعوا في صدره وضربـوه(4).
وكذلك جملة من خيار المسلمين، لم يبايعوا إلاّ بعد الغلبة والقهر، كسلمان وأبي ذرّ وعمّار وحذيفة وبريدة وأشباههم، وكذا كثير من سائر
____________
(1) راجع الصفحة 249 هـ 2 من هذا الجزء.
(2) مصنّف ابن أبي شيبة 8 / 572 ب 43 ح 4، الإمامة والسياسة 1 / 30، أنساب الأشراف 2 / 268، تاريخ الطبري 2 / 233 حوادث سنة 11 هـ، العقد الفريد 3 / 273، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 51، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6 / 48، المختصر في أخبار البشر 1 / 156، كنز العمّال 5 / 651 ح 14138.
(3) الإمامة والسياسة 1 / 28، تاريخ الطبري 2 / 233 و 234، البداية والنهاية 6 / 226 حوادث سنة 11 هـ، الكامل في التاريخ 2 / 189، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6 / 48.
(4) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 174.
ففي شرح النهـج(2)، عن البراء بن عازب، قال:
" لم أزل مُحبّاً لبني هاشم، فلمّا قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خِفت أن تتمالأ قريش على إخراج الأمر عنهم...
إلى أن قال: فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم مُحتجزون بالأُزر الصنعانية، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه وقدّموه، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى ".. الحديث.
.. إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ بيعة أبي بكر لم تتـمّ إلاّ بالقهر والغلبة ; ولذا أخّروا دفن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة أيّـام(3)!
فهل ترى مع هذا يصحّ لمسـلم دعوى الإجماع، ويجزم بوقوعه، ولا يعتريه الريب فيه، حتّى يجعله مستنداً لدينه الذي يلقى الله عزّ وجلّ بـه؟!
هـذا، وقد يوجّـه الاستدلال بالإجماع بأمرين:
الأوّل: عدم الاعتداد بخلاف البعض إذا حصل اتّـفاق الغالب..
وفيه: إنّ اتّفاق الغالب ليس بإجماع حقيقةً، ولا حجّةً أصلا ; لعدم الدليل، وإلاّ لزمهم القول بانعزال عثمان لاتّفاق أكثر أهل الحلّ والعقد على عزله، فقُـتل لامتناعه.
____________
(1) راجع الصفحة 245 هـ 1 من هذا الجزء.
(2) ص 73 من المجلّد الأوّل [شرح نهج البلاغة 1 / 219] . منه (قدس سره).
(3) تاريخ الطبري 2 / 238، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ 4 / 505.
ولكنّهم يجيبون عن ذلك بأنّ سعداً مات في خلافة عمر، فلم يبق من يخالف في خلافته، فانعقد الإجماع عليها وبايع ولد سعد وأهله من قبـل.
وإذا صحّت خلافة عمر صحّت خلافة أبي بكر ; لأنّها فرع عنها، ومحال أن يصحّ الفرع ويكون الأصل فاسداً ".
وفيه: إنّه لو سُلّم الإجماع على خلافة عمر ورضى جميع الأُمّة، فإمامتـه إنّما تصـحّ حيـن تحقّـق الإجمـاع لا قبلـه، فتـكون أصـلا برأسـها لا فرعـاً.
كيف؟! ودعوى الفرعيّة منافية لاستناد صحّة إمامة عمر إلى الإجماع الحادث عليها!
نعم، كانت فرعاً عنها حيث كان الأصل والفرع فاسدَين.
وأمّـا دليلهم الثاني ; فـفيه: إنّهم إنْ أرادوا ثبوت الإجماع على حقّـيّة أحد الثلاثة بعد موت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبل بيعة أبي بكر، فهو ممنوع ; لأنّ المسلمين، أو أهل الحلّ والعقد منهم، لم يجتمعوا حتّى تُعرف آراؤهـم، ومن اجتمع منهم في السقيفة كان بعضهم يرى أنّ سعداً حقيقٌ بها، فكيف يُـدّعى الإجماع حينئذ على حقّـيّة أحد الثلاثة بالخصوص؟!
على أنّـا لم نسمع أنّ أحداً ذكر العبّـاس حينـئـذ!
____________
(1) ص 224 من المجلّد الأوّل [3 / 6] . منه (قدس سره).
ومجرّد الترجيح لهم، لا يقتضي الاختصاص بهم وعدم صلوح غيرهم للخـلافة.
وإنْ أرادوا ثبوت الإجماع بعد بيعة أبي بكر، فهو ينافي ما زعموه من الإجماع على أبي بكر خاصّة إنِ اتّفق زمن الإجماعين، وإلاّ بطل الإجماع على حقّـيّة أحد الثلاثة، سواء تقدّم أم تأخّر ; لأنّ الإجماع على تعيـين واحـد هو الذي يجب اتّباعه، فيكون الحقّ مختصّـاً بأبي بكر، ولم يصحّ جعل الإجماع على حقّـيّة أحد الثلاثة دليلا ثانياً.
ويُحتمل بطلان الإجماع المتقـدّم وصحّة المتأخّر مطلقاً ; وهو الأقـرب.
وأمّـا ما زعمه من إمكان منـازعة أمير المؤمنيـن (عليه السلام)، فممنـوع ; إذ لا ناصرَ له إلاّ أقـلّ القليل، ولذا قال (عليه السلام) في خطبتـه الشـقشـقيـة:
" فطفـقتُ أرتـئي بين أن أَصولَ بيد جَذّاءَ، أو أصبرَ على طخْية عميـاء "(1).
.. إلى غير ذلك من متواتر كلامـه(2).
____________
(1) نهج البلاغة: 48 الخطبة 3.
(2) فقد ثبت في الأحاديث أنّ الأُمّة ستغدر بأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا تبدي ضغائنها وبغضها وحسدها له إلاّ بعد ذلك ـ كما سـيأتي قريباً ـ، وقد شـكا (عليه السلام) قريشاً وعداوتها له إلى الله في غير موضع، واسـتعدى اللهَ تعالى عليها..
انظر في ذلك مثلا: نهج البلاغة: 472 رقم 22 و ص 506 رقم 209، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 16 / 151 و ج 20 / 298 رقم 413.
ألا ترى أنّه لم يكن معه في صِفّين من قريش إلاّ خمسة أو نحوهم، ومع معاوية ثلاث عشرة قبـيلة(2)، مع علمهم ببغي معاوية وعدم مشـاهدتهم لِما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بأسلافهم، إلاّ القليل، فكيف بمن شـاهَدوا؟!
ولا يُسـتبعد من قريش بغضه وعداوته، فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مع طهارته وعصمته وقداسة نفسه، لم يُطق رؤية وحشيّ قاتل حمزة (عليه السلام)، وقد أسلم، حتّى قال له: " ما تستطيع أن تغيّب وجهك عنّي؟! " كما في " الاسـتيعاب "(3) و " المسـند "(4)..
فكيف بمن أفنوا أعمارهم بالكفر، ورُبّوا على عادات الجاهلية، أن يروا صاحب تِراتِهم أميراً عليهم، وحاكماً مُطاعاً فيهم وفي غيرهم، ولهم طريق إلى صرف الأمر عنه؟!
مضافاً إلى أنّ كلّ دم أراقه أخوه وابن عمّه إنّما يعصبونه به على قواعد العرب، وكلّ أمر صنعه بهم إنّما يطلبونه منه ; لأنّه أقرب الناس إليه وأخصّهم به، وأشدّهم مؤازرةً له، وأعظمهم اجتهاداً في نصرته من يوم
____________
(1) الـتِّـرَةُ، وجمعها: أَوتار وتِـرات: الثـأر، يقال: وتَـرَهُ يَـتِـرُهُ وَتْراً وَتِـرَةً، والمَـوْتور: الذي قُتل له قتيل فلم يُدرك بدَمه ; انظر مادّة " وتر " في: الصحاح 2 / 843، لسان العرب 15 / 205.
(2) رجال الكشّي 1 / 281 ح 111.
(3) الاستيعاب 4 / 1564 ـ 1565 رقم 2739 (4) مسند أحمد ص 501 من الجزء الثالث. منـه (قدس سره).
وانظر: السـنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 9 / 98.