الصفحة 300
مبعثه إلى يوم وفاته.

مضافاً إلى حسدهم ; لعلوّ مقامه وظهور فضله، وتعظيم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)إيّاه، وتقريبه إليه بالأُخوّة والمصاهرة على بضعته سيّدة النساء، وتخصيصه له بالمنازل العظمى، كالمباهلة به وبآله، وجعله مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

.. إلى غير ذلك ممّا يظهر به مكانته السامية وشرفه الباهر عند الله وعنـد رسـوله والناس.

هـذا، مع رجاء كثير منهم للإمرة بعد أبي بكر، فإنّه إذا وليها أبو بكر وهو أدناهم شرفاً، كانوا إليها أقرب، وبها أطمع، بخلاف ما لو وليها أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّها تسـتقرّ في بيته، كما يشهد له قول المغيرة لأبي بكر وعمر عند موت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " وسّعوها في قريش تتّسع!.. فقاما إلى السقيفة "، حكاه في (شرح النهج)(1)، عن أبي بكر أحمد بن عبـد العزيز الجوهـري.

ومـا في كـتاب " الإمامـة والسـياسة " في باب إمـامة أبي بكر وإباء عليّ (عليه السلام) من بيعته، من حديث قال فيه عليٌّ لعمر: " احلب حلباً لك شطره، [و] اشدُد له اليوم أمرَه ليردّه عليك غداً "(2).

ومثله في (شرح النهج) نقلا عن الجوهري(3).

هذا حال قريـش..

وأمّا الخزرج، فقد كانوا أوّل الحال يطلبونها لأنفسهم، وبعد أن

____________

(1) ص 18 من المجلّد الثاني [6 / 43] . منه (قدس سره).

(2) الإمامة والسياسة 1 / 29.

(3) ص 5 من المجلّد الثاني [6 / 11] . منه (قدس سره).


الصفحة 301
صُرفت عنهم وكَـبا(1) جَـدُّهم(2) ونَبا(3) حَـدُّهم، لم تبقَ لهم قوّةٌ وهمّة على العدول إلى أمير المؤمنين، لا سيّما مع صيرورتهم محلّ التهمة.

وأمّا الأوس، فقد كان همّهم صرف الأمر عن الخزرج، مع أنّ كثيراً منهم ومن الخزرج مبغضون لأمير المؤمنين (عليه السلام)، كأُسيد بن حُضير(4)، وبشير بن سعد(5).

وفوق ذلك كلّه قد سمعت إعلام الله سبحانه انقلاب الأُمّة على أعقابها(6)، وإخبار النبيّ بأنّهم يتّبعون سنن بني إسرائيل حذو النعل بالنعـل(7)..

وبأنّـهم يرتـدّون علـى أدبارهـم القـهقـرى، ويصيـرون إلى النـار،

____________

(1) كَبا كَبْواً وكُبُوّاً: عَثَر وانكبّ على وجهه ; انظر: لسان العرب 12 / 20 مادّة " كبا ".

(2) الـجَـدُّ: البَخْتُ والـحُِـظْـوَةُ والحَـظُّ ; انظر: لسان العرب 2 / 198 ـ 199 مادّة " جـدَدَ ".

(3) نبا حدّ السيف: إذا لم يقطع، ونبا الشيء عنّي أي تجافى وتباعد ; انظر: لسان العرب 14 / 29 ـ 30 مادّة " نبا ".

والمعنى هنا أنّهم لم يعد لهم قـوّة أو شوكة يطلبون بها الإمارة.

(4) تقـدّمت ترجمته في الصفحة 242 هـ 3 من هذا الجزء.

(5) تقـدّمت ترجمته في الصفحة 242 هـ 2 من هذا الجزء.

(6) في قوله تعالى: (وما محمّـدٌ إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شـيئاً وسـيجزي الله الشاكرين) سورة آل عمران 3: 144.

(7) انظر: المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 8 / 636 ح 279، الثقات ـ لابن حبّان ـ 6 / 161 ترجمة حميد بن زياد اليمامي، تاريخ دمشق 13 / 98 رقم 1338، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 9 / 286، الدرّ المنثور 2 / 290، كنز العمّال 1 / 183 ح 928.

وتقدّمت بقيّـة تخريجاته في ج 3 / 202 هـ 1 ; فراجـع!

وانظر الصفحتين 268 و 269 من هذا الجزء.


الصفحة 302
ولا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم(1)..

وبأنّ الأُمّـة سـتـغدر بأمير المؤمنين(2)..

.. إلى غير ذلك.

فكيـف مع هذا كلّـه يمكن لأمير المؤمنين (عليه السلام) منازعة القوم، وإن كان أحسـبَ وأنسـبَ وأكثرَ قبيلة وقائمَ الدين؟! إذ ليس هو بأعظم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا ترك الحرب بمكّة وفي أوائل الهجرة ويوم صلح الحديبية، وقد كان أكثر ناصراً من أمير المؤمنين (عليه السلام)!

على أنّ أمير المؤمنين قد نازعهم لكن بغير الحرب، فقد امتنع مدّةً من بيعتهم حتّى قهروه وأرادوا حرق بيته، وجمع أعواناً في داره حتّى تهـدّدهم عمر(3).

وحمل الزهراء والحسنين ليلا مستنصراً بوجوه المسلمين فلم ينصروه، كما رواه ابن قتيـبة(4).

____________

(1) تقـدّم تخريج ذلك مفصّـلا في ج 2 / 27 هـ 1، وانظر: الصفحة 212 ـ 213 هـ 1 من هـذا الجزء.

(2) كما رواه الحاكم في المستدرك ص 140 من الجزء الثالث وصحّحه [3 / 150 ح 4676، وانظر: ص 151 ح 4677 و ص 153 ح 4686 ووافقه الذهبي عليها كلّها] . منـه (قدس سره).

وانظر: التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ 2 / 174 رقم 2103، الغارات ـ للثقفي ـ: 335، الكنى والأسماء ـ للدولابي ـ 1 / 104، المستدرك على الصحيحين 3 / 150 ح 4673، تاريخ بغداد 11 / 216 رقم 5928، مجمع الزوائد 9 / 118، كنز العمّال 11 / 617 ح 32997.

(3) مصنّف ابن أبي شيبة 8 / 572 ح 4، الإمامة والسياسة 1 / 30، تاريخ اليعقوبي 2 / 11، تاريـخ الطبـري 2 / 233، العقـد الفريـد 3 / 273، المغـنـي ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 20 ق 2 / 269، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6 / 48.

(4) في كتابه: الإمامة والسياسة ص 13 [1 / 29 و 30] . منه (قدس سره).


الصفحة 303
ونقله ابن أبي الحديـد عن الجوهـري(1).

وذكره معاوية في كتابه المشهور إلى أمير المؤمنين، قال:

" وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار، ويداك في يد ابنيك الحسن والحسين، يوم بويع أبو بكر الصدّيق، فلم تدع من أهل بدر والسوابق إلاّ دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك... فلم يُجبْك منهم إلاّ أربعة أو خمسة "(2).

وما زال أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " لو وجدتُ أربعين رجلا ذوي عزم منهم لناهضت القوم "، كما ذكره معاوية في كتابه المذكور، قال: " ومهما نسـيتُ فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حرّكك وهيّجك: لو وجدتُ أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم "(3).

وروى ابن أبي الحديد نحوه عن نصر(4)، قال نصر ما حاصله:

" لمّا استولى معاوية على الماء يوم صفّين، قال له ابن العاص: خلِّ بينهم وبين الماء، فإنّ عليّـاً لم يكن ليظمـأ وأنت ريّان، وفي يده أعنّة الخيـل... وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق... وقد سمعته مراراً وهو يقول: (لو اسـتمكنت من أربعين) يعني في الأمر الأوّل ".

وممّا بيّـنّا من أحوال قريش والأنصار يُعلم ما في قول الفضل: " ثمّ إنّ فاطمـة ـ مع عُـلُـوّ منصبها ـ زوجته ".

ومن العجب أنّه يرجو أن يكون وجود الزهراء والحسـنين (عليهم السلام)

____________

(1) ص 5 من المجلّد الثاني [2 / 47 و ج 6 / 13] . منـه (قدس سره).

(2) شرح نهج البلاغة 2 / 47.

(3) شرح نهج البلاغة 2 / 47 و 22.

(4) ص 327 من المجلّد الأوّل [3 / 320] . منه (قدس سره).

وانظر: وقعة صفّين: 163.


الصفحة 304
مؤثّراً في قوّة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتمكّنه من أخذ الزعامة العظمى والإمامة الكبرى، وهي سلام الله عليها لم تقدر على أخذ فدك وهي مالٌ يسير، مع شأنها العظيم، ومكانتها الرفيعة، وحُججها الرصينة، وخُطبها البليغة، واسـتنصارها بمن يدّعون الإسلام!!

ولو كانت فدك لهم، وحقّـاً من حقوقهم، لكان حقّـاً عليهم أن يُعطوها إيّـاها بمجرّد إرادتها، حفظـاً لنبـيّهم في بضعتـه التي لم يُخلّف فيهم غيرها مع قرب وفاته.

فكيف يمكن أن يكون وجودها بنفسه سبباً لقدرة أمير المؤمنين على إعادة الزعامة العظمى؟!

وأمّا اتّفاق العبّـاس والزبير معه، فلا يغني عنه شيئاً في مقابلة جمهور قريـش، كيف؟! وقد كسروا سيف الزبير لمّا همّ بهم فلم يدفع عن نفسه ضيمـاً(1)!!

وكذلك اتّفاق أبي سفيان معه، لا سيّما وهو منافق لم يُرد إلاّ الفتنة..

روى الطبري(2) وابن الأثير(3): " أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) زجر أبا سفيان وقال: والله ما أردتَ إلاّ الفتنة، وإنّك والله طالما بغيتَ للإسلام شرّاً ; لا حاجة لنا في نصيحتـك ".

ويدلّ على نفاقه أنّه لمّا رشوه صار تابعاً لهم(4).

روى الطبري(5): " أنّه لمّا اسـتُخلف أبو بكر قال أبو سفيان: ما لَنا

____________

(1) الكامل في التاريخ 2 / 189، وراجع الصفحة 277 هـ 3 من هذا الجزء.

(2) في تاريخه ص 203 من الجزء الثالث [2 / 237] . منه (قدس سره).

(3) في كامله ص 157 من الجزء الثاني [2 / 189 حوادث سنة 11 هـ] . منه (قدس سره).

(4) انظر: شرح نهج البلاغة 2 / 44.

(5) ص 202 من الجزء المذكور [2 / 237 حوادث سنة 11 هـ] . منه (قدس سره).


الصفحة 305
ولأبي فَصِيل(1)؟! إنّما هي بنو عبـد مناف!

فقيل له: إنّه قد ولّى ابنَـك.

قال: وصَلَـتْه رَحِم ".

ونقل ابن أبي الحديد(2)، عن الجوهري: " أنّ النبيّ [قد] بعث أبا سفيان ساعياً، فرجع من سعايته وقد مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلقيه قوم فسألهم، فقالوا: مات رسول الله.

فقال: من ولّي بعده؟

قيل: أبو بكر.

قال: أبو فَصِـيـل؟!

قالوا: نعم.

.. إلى أن قـال: فكـلّم عمر أبا بكر فقال: إنّ أبا سفيان قد قدم وإنّـا لا نأمن شرّه ; فدفع له ما في يده، فتركه فرضي ".

وأمّا قوله: " وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر، فقالوا: منّا أمير... " إلى آخره..

فصحيحٌ بالنسبة إلى أكثر الخزرج، لكن كراهتهم لخلافته ; لأنّهم يريدونها لأنفسهم لا نصرةً لأمير المؤمنين ; ولذا قالوا: " منّا أمير ومنكم أميـر ".

____________

(1) قالها أبو سفيان اسـتصغاراً وانتقاصاً واسـتنكاراً..

فالبَـكْـرُ: الفَتِـيّ من الإبل، بمنزلة الغلام من الناس ; انظر: لسان العرب 1 / 472 مادّة " بكر ".

والفَصِـيلُ: وَلَدُ الناقة إذا فُصِلَ عن أُمّه، أي فُطم عن الرضاعة ; انظر مادّة " فصل " في: لسان العرب 10 / 273، تاج العروس 15 / 574.

(2) ص 130 من المجلّد الأوّل [2 / 44] . منه (قدس سره).


الصفحة 306
ومنه يُعلم ما في قوله: " ولو كان على إمامته نصٌّ لأظهروه "..

فإنّ إظهارهم مناف لطلبهم الإمرة كما سـبق(1)، ولم يبقَ بعد هذا الطلب مجالٌ لإظهار النصّ ; لتسرّع عمر إلى بيعة أبي بكر، حتّى وصفها عمر بأنّها فلتـة(2).

على أنّه لا يبعد أنّ كثيراً من الأنصار أظهروه وأخفاه رواة القوم، كما يرشد إليه ما نقلناه سابقاً عن الطبري وابن الأثير من أنّهما رويا أنّ الأنصار أو بعضهم قالوا: " لا نبايع إلاّ عليّـاً ".

مع أنّ النـصّ لمّا كان بمرأىً من الناس ومسمع لا يحتاج إلى الإظهار ; لقرب عهد الغدير ونزول قوله تعالى: ( إنّما وليّـكُم اللهُ ورسـولهُ )(3).. الآية، لكنّ الناس خالفوه على عمد، انقلاباً منهم عن الدين، وغدراً بوليّهم ومولاهم، واقتفاءً لسُـنّة بني إسرائيل.

فقد اتّضح ممّا بيّـنّـا أنّ ما لفّقه الفضل تبعاً للمواقف لإثبات إمكان المنازعة، إنّما هو أُمور خيالية وأوهام كاذبة صوّرها الهوى والتعصّب، وإلاّ فالوجدان والأحاديث شاهدان بخلافه، حتّى روى أحمد في مسـنده(4)، عن أُمّ الفضل، قالت:

" أتيت النبيّ في مرضه فجعلت أبكي، فرفع رأسه فقال: ما يبكيـك؟!

قلت: خفنا عليك، وما ندري ما نلقى من الناس بعدك يا رسول الله!

____________

(1) انظر الصفحة 267 من هذا الجزء.

(2) انظر الصفحة 258 هـ 1 من هذا الجزء.

(3) سورة المائدة 5: 55.

(4) ص 339 من الجزء السادس. منه (قدس سره).

وانظر: المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 25 / 23 ح 32، مجمع الزوائد 9 / 34.


الصفحة 307
قال: أنتم المسـتضعفون بعدي ".

أُنظر إلى هذه الحرّة كيف أدركت من الناس الشحناء والبغضاء لهم، وطلب التِـراتِ منهم، والنبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حيٌّ بينهم حتّى بكت، وقال لها النبيُّ: " أنتم المسـتضعفون بعدي ".

وأهل السُـنّة رأوا ما رأوا من اتّفاق الكلمة على أهل البيت (عليهم السلام)، وهجوم من هجم على دارهم وإرادتهم إحراقها عليهم، وغصب بضعة الرسول حقّها حتّى ماتت غضبى(1).. ومع ذلك يزعمون أنّ أمير المؤمنين قويّ الجانب بالمسـلمين، وكان يمكنه منازعة أبي بكر، وما بايعه إلاّ طوعـاً!

ولا ينافي ما قلنا جبنَ أبي بكر وضعفه وذلّته في نفسه وبيته، حتّى عبّر عنه أبو سفيان بأبي فصيل وقال: " إنّه من أرذل بيت في قريش " كما في " الاستيعاب " وغيـره(2)..

فإنّه إنّما قَوِيَ على أمير المؤمنين بقريش وبعض الأنصار، وما مكّنهم الله سبحانه من ذلك إلاّ فتنة لهم ولغيرهم كما قال سبحانه: ( أحسِب الناسُ أن يُـتركوا أن يقولوا آمنّـا وهم لا يُفـتـنون )(3).

____________

(1) انظر: صحيح البخاري 4 / 177 ـ 178 ح 2 و ج 5 / 288 ح 256، صحيح مسلم 5 / 153 ـ 154، مسند أحمد 1 / 6 و 9، تاريخ الطبري 2 / 236، مشكل الآثار 1 / 34 ح 94، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 429، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 6 / 300.

(2) انـظر: الاسـتيعـاب 3 / 974 رقـم 1633 و ج 4 / 1679 رقـم 3005، المصـنّـف ـ لعبـد الرزّاق ـ 5 / 451 ح 9767، أنساب الأشراف 2 / 271، شرح نهج البلاغة 2 / 45 و ج 6 / 40.

(3) سورة العنكبوت 29: 2.


الصفحة 308
ثمّ إنّ أكثر هذه الأُمور التي قرّب بها وقوع الإجماع على أبي بكر بالاختيار أدلّ على خلافه، كعدم ترجيح الأنصار لأبي بكر على عليّ (عليه السلام)، وكون العبّـاس معه، وسلّ الزبير سيفه في نصرته، وتظاهر أبي سفيان بخلاف أبي بكر وذمّه له..

فإنّ هذه الأُمور ونحوها مقـرّبة لكون بيعة أبي بكر لم تكن عن رغبة، بل لأُمور تُسخط الله ورسوله.

وممّا ذكرنا يُعلم ما في قوله: " وبايعه حيث رآه أهلا للخلافة "، وقد أشرنا إلى كيفية البيعة مجملا(1) وسـتعرفها مفصّـلا.

وكيف يقال: إنّه بايعه طوعاً حيث رآه أهلا للخلافة، وآثار العداوة ظاهرة بينهما وبين أتباعهما إلى يومنا هذا؟!

وهو (عليه السلام) لـم يزل يتظلّـم منهم إلى حين وفاته، حتّى قال في بعض كلامـه:

" اللّهمّ إنّي أسـتعديك على قُريش ومن أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحقّ أن تتركه "(2).

قال ابن أبي الحديد في شرح هذا الكلام(3): " إعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه (عليه السلام) بنحو من هذا القول، نحو قوله: وما زلتُ مظلـوماً منذُ قبضَ اللهُ رسولَه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى يوم الناس هذا.

____________

(1) راجع الصفحة 277 وما بعدها من هذا الجزء.

(2) نهج البلاغة: 246 الخطبة 172.

(3) ص 495 من المجلّد الثاني [9 / 305] . منـه (قدس سره).


الصفحة 309
وقوله: اللّهمّ اجزِ(1) قُريشاً، فإنّها منعتني حقّي، وغصبتني أمري.

وقوله: فجزى قريشاً عنّي الجوازي، فإنّهم ظلموني حقّي، واغتصبوني سلطانَ ابنِ أُمّي.

وقوله ـ وقد سمع صارخاً ينادي: أنا مظلوم! ـ فقال: هَلُمّ فلنصرخ معاً، فإنّي ما زلت مظلوماً.

وقوله: وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى.

وقوله: أرى تُراثي نهبـاً.

وقوله: أَصْغَيا بإنائنا(2)، وحملا الناس على رقابنا.

وقوله: إنّ لنا حقّاً إنْ نُعْطَه نأخذه، وإنْ نُمنَعَه نركب أعجاز الإبل وإن طال السُرى.

وقوله: ما زلت مُسـتأثَراً علَيَّ مدفوعاً عمّا أسـتحقّه وأسـتوجبه "(3).

وأمّا قوله: " ولم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة والزعامة، بل عزمهم كان إقامة الحقّ وتقويم الشريعة "..

فبعيـدٌ عن الصـواب ; لأنّ مَن يقصـد إقامـة الحـقّ وتقويم الشـريعة لا يصدّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كتابة ما لا يضلّون بعده أبداً، حتّى نسبه إلى

____________

(1) في شرح نهج البلاغة: " أَخْـزِ ".

(2) أصغى الإناء: أمالَه وحَرَفَه على جنبه ليجتمع ما فيه، وأصغاه نقصه، ويقال: فلان مُصغىً إناؤه إذا نُقِصَ حقُّه، وأصغى فلان إناءَ فلان إذا أماله ونقَصَه من حظّه ; انظر: لسان العرب 7 / 353 مادّة " صغا ".

(3) شرح نهج البلاغة 9 / 306 ـ 307، وانظر: نهج البلاغة: 53 الخطبة 6 و ص 48 الخطبة 3 و ص 472 الحكمة 22، تاريخ دمشق 42 / 429، الفائق في غريب الحديث 2 / 397.


الصفحة 310
الهجر، فقابل إحسانه بأعظم إساءة، ونصيحته بأكبر غشّ، وهدايته بأضلّ ضـلالة!

وكيف يريدون إقامة الحقّ وتقويم الشريعة، ووليّهم بنصّ الكتاب المجيـد، ومولاهم، وأخو نبـيّـهم، وباب علمه، ووارثـه بين أظهرهم(1)، لا يلتفتون إليه بوجه، بل ينتهزون فرصة اشتغاله بتجهيز النبيّ ويتنازعون الإمرة بينهم في السقيفة، ويستعملون في نيلها الحيل والتزويرات؟!

وكيف يقصدون إقامة الحقّ وقد انتهكوا حرّمة نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) بترك دفنه وغصب بضعته ولمّا يطل العهد حتّى ماتت مقهورةً غضبى؟!

وكيف يقال في حقّهم ذلك وقد ارتدّوا على أدبارهم القهقرى، وكلّهم إلى النار، ولا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم؟!

وقد روى الطبري(2)، عن ابن عبّـاس، أنّ عمر قال: أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

فكرهت أن أُجيبه، فقلت: إن لم أدرِ فأمير المؤمنين يُدريني.

فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتبجّحوا على قومكم بَجَحاً بَجَحاً(3)، فاختارت قريشٌ لأنفسها فأصابت ووفّقت.

فقلت: يا أمير المؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمِط عنّي الغضب تكلّمت.

فقال: تكلّم [يا بن عبّـاس] !

____________

(1) سيأتي ذِكر مصادر الفقرات المتقدّمة في محالّها مفصّلة.

(2) في تاريخه ص 31 من الجزء الخامس [2 / 578 حوادث سنة 23 هـ] . منـه (قدس سره).

(3) الـبَـجَـحُ: الفرح، والـتَّـبَـجُّـحُ: الفخر، والمعنى هنا أنّهم سيفخرون بالخلافة على قومهم فرحاً وعُجباً ; انظر: لسان العرب 1 / 316 مادّة " بجح ".


الصفحة 311
فقلت: أمّا قولك: " اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت "، فلو أنّ قريشـاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزّ وجلّ لها لكان الصواب بيدهـا غير مردود ولا محسود.

وأمّا قولك: " إنّهم كرهوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة "، فإنّ الله عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهيّة فقال: ( ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم )(1).

فقال عمر: هيهات! والله يا بن عبّـاس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرّكَ(2) عنها فتزيل منزلتك منّي.

فقلت: وما هي؟! فإنْ كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

فقال عمر: بلغني أنّك تقول: إنّما صرفوها عنّا حسداً وظلماً.

فقلت: أمّا قولك: " ظلماً " فقد تبيّن للجاهل والحليم ; وأمّا قولك: " حسداً " فإنّ إبليـس حسد آدم، فنحن ولده المحسودون.

فقال عمر: هيهات! أَبَتْ والله قلوبكم يا بني هاشم إلاّ حسداً ما يحول، وضغناً وغِشّاً ما يزول.

فقلت: مهلا! لا تصف قلوبَ قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بالحسد والغشّ، فإنّ قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قلوب بني هاشم.

فقال عمر: إليك عنّي.. الحديث.

ومثله في (كامل) ابن الأثيـر(3).

____________

(1) سورة محمّـد 47: 9.

(2) فارَكَ الرجلُ صاحبَه: تارَكَه وفارَقَه وأبغضه، والـمُـفَـرَّكُ: المتروكُ الـمُـبْـغَـضُ ; انظر: لسان العرب 10 / 250 مادّة " فرك ".

(3) ص 31 من الجزء الثالث [2 / 458 حوادث سنة 23 هـ] . منه (قدس سره).


الصفحة 312
ونحوه في (شرح النهج)(1).

وأمّا قوله: " وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عليكم بالسواد الأعظم "..

فلا يُعرف معناه حتّى يُعرف المقام الذي ورد فيه، فإنّه قد يردُ في مقام محاربة الجمع الكثير، فيفيد الأمر بقتالهم، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام)في بعض أيّام صفّين: " عليكم بهذا السواد الأعظم [والرواق المطنَّب] فاضربوا ثَـبَـجَـه(2) "(3).

وقد يرد في مقام ترجيح الاجتماع والسكنى في البلاد الكبيرة لاسـتحبابه شرعاً ; لأنّها أجمع للمعارف ما لم تكن بلاد كفر.

ولو سُلّم أنّ المراد به الأمر باتّباع السواد الأعظم في الدين، فليس المراد فيه بالسواد: الجمهور، فإنّ أكثر الناس غير مؤمنين، بل المراد به جماعة المؤمنين الخلّص وإنْ قلّوا، فإنّهم السواد الأعظم، أي محلُّ النظر والالتفات والعنايـة.

قال الزمخشري والرازي في تفسير قوله تعالى: ( وتعيها أُذُن واعيـة )(4):

" فإن قيـل: لِـمَ قال: ( أُذنٌ واعية ) على التوحيد والتنكيـر؟!

قلنا: للإيذان بأنّ الوعاة فيهم قلّـةٌ، وتوبيخ الناس بقلّة من يعي منهم، والدلالة على أنّ الأُذن الواعية(5) إذا وعت فهي السواد الأعظم، وأنّ

____________

(1) ص 18 من المجلّد الثاني [12 / 53 ـ 54] . منه (قدس سره).

(2) ثَبَجُ كلّ شيء: معظمه ووسطه وأعلاه ; انظر: لسان العرب 2 / 80 مادّة " ثبج ".

(3) انظر: نهج البلاغة: 97 الخطبة 66، تاريخ دمشق 42 / 460، كنز العمّال 11 / 347 ح 31705.

(4) سورة الحاقّـة 69: 12.

(5) في المصدرين: الواحـدة.


الصفحة 313
ما سواها لا يُلتفت إليه وإنِ امتلأ العالم منهم "(1).

وأمّا ما أجاب به عن أدلّة المصنّف العقلية، فقد تبيّن لك ما فيه ممّا سـبق(2)، ودعوى العلم والزهد الحقيقي والشجاعة للمشايخ الثلاثة محلّ نظـر.

هـذا، ويمكن أن يُسـتدلّ على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) بوجه آخر عقلي، وهو:

إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفارق المدينة قـطّ إلاّ وخلّـف فيها من يخلفه، ولا أرسل جيشاً إلاّ وأمّر عليهم كما تقتضيه الرئاسة والسياسة، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة معرضاً للفتن، وغرضاً لسهام الخلاف، على قرب عهدهم بالكفر، وتوقّع الانقلاب منهم، ووجود من مردوا على النفاق، وتربّص الكفرة بهم الدوائر، كما نطقت به آيات الكتاب العزيز؟!

وكيف يمكن أن لا يطالبه المسلمون ـ على كثرتهم ـ بنصب إمام لهم، مع طول مرضه وإعلامه مراراً لهم بموته؟!

فلمّا لم يقع الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام، عُلم أنّه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب، وليس هو إلاّ نصّ الغدير ونحوه، فيكون أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الإمام.

ولا يمكـن أن يكون تشـريع جواز ترك الاسـتخلاف سـبباً لتـرك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للنصّ كما زعموا ; لأنّ فائدةَ التشريعِ اتّباعُ الناسِ له في فِعله.

وبالضرورة أنّه لم يتّفق ترك ملك أو خليفة للنصّ على مَن بعده عملا بالسُـنّة.

____________

(1) الكشّاف 4 / 151، التفسير الكبير 30 / 108.

(2) راجع الصفحة 192 وما بعدها من هذا الجزء.


الصفحة 314
ويمكن أن يُسـتدلّ على إمامته بوجه سابع عقلي، وهو:

إنّه لا ريب بأنّ من يعرف طرفاً من التاريخ رأى أنّ بين أمير المؤمنيـن (عليه السلام) والمشايخ الثلاثة مباينة بعيدة، ومناوأة شديدة، حتّى لم يشهد التاريخ بحرب له في نصرتهم، مع أنّه أبو الحرب وابن بجدتها(1)وما قام الإسلام إلاّ بسـيفه، وما تخلّف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في موقف(2)سوى تبوك، وقام بأعباء الحروب الثقيلة في أيّـام تولّيه الخلافة.

وقد امتلأت كتب التاريخ بما وقع بينه وبينهم، لا سيّما الثالث(3).

وذلك لا يجتمع مع البناء على أنّهم جميعاً أركان الدين، وأقطاب الحقّ، وإخوة الصدق، وهمّـهم نصر الإسلام لا الزعامة الدنيوية، فلا بُـدّ من وقوع خلل هناك، إمّا لكونهم جميعاً على باطل ـ ولا يقوله مسلم ـ، أو لكون أحد الطرفين على الحقّ والآخر على الباطل، وهو المتعيّن، ولا قائل من أهل الإسلام بأنّ عليّـاً (عليه السلام) إذ ذاك: مُبطل، حتّى الخوارج..

فيتعـيّـن أن يكون أمير المؤمنيـن (عليه السلام) هو المحقّ، وغيره المبطل، فلا بُـدّ أن يكون هو الإمام.


*    *    *

____________

(1) بَجْدَ: بجدَ بالمكان: أقام به، وعنده بَجْـدَة ذلك: أي علمه، ومنه يقال: هو ابن بجدتها للعالِم بالشيء المتقِن له، وكذلك يقال للدليل والهادي ; انظر: لسان العرب 1 / 316 مادّة " بجد ".

(2) انظر: صحيـح البخاري 6 / 18 ح 408، صحيـح مسلم 7 / 120، السيرة النبويـة ـ لابن هشام ـ 5 / 199، تاريخ الطبري 2 / 183، الاسـتيعاب 3 / 1090 رقم 1855، الكامل في التاريخ 2 / 150، الإصابة 4 / 564 رقم 5692.

(3) انظر: تاريخ اليعقوبي 2 / 68 ـ 69، مروج الذهب 2 / 341 ـ 342، شرح نهج البلاغة 9 / 14 ـ 24.


الصفحة 315

تعيـيـن إمامـة عليّ بالقـرآن

1 ـ آيـة: (إنّما ولـيُّـكُمُ اللهُ ورسولُه...)

قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):

وأمّـا المنقول: فالقـرآن، والسُـنّة المتواترة..

أمّـا القرآن، فـآيات:

الأُولى: ( إنّما وليُّـكُمُ الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )(2).

أجمعوا على نزولها في عليّ (عليه السلام)(3)، وهو مذكور في [الجمع بين] (4)

____________

(1) نهج الحقّ: 172.

(2) سورة المائدة 5: 55.

(3) انظر التصريح بإجماع المفسّرين واتّفاقهم على ذلك في: المواقف: 405، شرح المقاصد 5 / 270، شرح المواقف 8 / 360، شرح تجريد الاعتقاد ـ للقوشجي ـ: 476.

(4) أثبتـناه من نسخة " نهج الحقّ " في إحقاق الحقّ 2 / 399.

وكتاب " التجريد في الجمع بين الصحاح السـتّة " للمحدّث أبي الحسن رَزِين بن معاوية بن عمّار العَبْدري الأندلسي السَّرَقُسْطي المالكي، المجاور بمكّـة، المتوفّى سنة 535 هـ.

انظر: سير أعلام النبلاء 20 / 204 رقم 129، العبر في خبر من غبر 2 / 447، تذكرة الحفّاظ 4 / 1281، مرآة الجنان 3 / 201، كشف الظنون 1 / 345، شذرات الذهب 4 / 106.


الصفحة 316
الصحاح السـتّة، لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابـة(1).

والوليّ: هو المتصـرِّف(2).

وقد أثبت الله تعالى الولاية لذاته وشرك معه الرسول وأمير المؤمنين.

وولاية الله عامّة، فكذا النبيُّ والوليّ.


*    *    *

____________

(1) انظر: جامع الأُصول 8 / 664 ح 6515 عن رزين العبدري، المعجم الأوسط 6 / 294 ح 6232، تفسير السدّي: 231، المعيار والموازنة: 228، أنساب الأشراف 2 / 381، تفسير الطبري 4 / 628 ـ 629 ح 12215 ـ 12219، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 2 / 625 ـ 626، معرفة علوم الحديث: 102، تفسير الماوردي 2 / 49، المتّفق والمفترق ـ للخطيب البغدادي ـ 1 / 258 ح 106، أسباب النزول ـ للواحدي ـ: 110 ـ 111، مناقب الإمـام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 260 ـ 261 ح 354 ـ 357، شواهد التنزيل 1 / 161 ـ 184 ح 216 ـ 240، تفسير البغوي 2 / 38، الكشّاف 1 / 624، تفسير القرطبي 6 / 143 ـ 144، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 264 ح 246، تاريخ دمشق 42 / 357، تفسير الفخر الرازي 12 / 28، تفسير البيضاوي 1 / 272، شرح المقاصد 5 / 269، مجمع الزوائد 7 / 17، شرح المواقف 8 / 359 ـ 360، الدرّ المنثور 3 / 105.

(2) انظر مادّة " ولي " في: لسان العرب 15 / 401، تاج العروس 20 / 311 و 315.