ونقل أيضاً نحو ما ذكره هنا عن الثعلبي(1).
وقال الرازي في أحد وجوه نزولها: " ولمّا نزلت أخذ بيده وقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه.
فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وهو قولُ ابن عبّـاس، والبراء بن عازب، ومحمّـد بن علي ".
ثمّ قال: " واعلم أنّ هذه الروايات وإنْ كثرت، إلاّ أنّ الأَوْلى حمله على أنّه آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليـغ من غيـر مبـالاة منه بهم ; وذلك لأنّ ما قبل هذه الآية [بكثير] وما بعدها بكثير، لمّا كان كلاماً مع اليهود والنصارى، امتنع إلقاءُ هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّـةً عمّا قبلها وما بعدها "(2).
وفيـه: مع أنّ هذا اجتهادٌ في مقابلة النصّ، وهو غير مقبول: إنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت من القرآن، كما رواه الحاكم في " المسـتدرك "(3)، ورواه غيره أيضاً(4)، وكان نزولها بحجّة الوداع.
ومن المعلوم أنّه حينئذ لم تكن لليهود والنصارى شوكة يَخشى منها النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُبلّغ ما أُنزل إليه، فالمناسـب أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خاف منافقي قومـه.
____________
(1) منهاج الكرامة: 117، وانظر: تفسير الثعلبي 4 / 92.
(2) تفسير الفخر الرازي 12 / 53.
(3) المستدرك على الصحيحين 2 / 340 ح 3210 و 3211.
(4) سنن الترمذي 5 / 243 ح 3063، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 6 / 333 ح 11138، مسند أحمد 6 / 188، تفسير النسائي 1 / 427 ح 158، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7 / 172، تفسير القرطبي 6 / 22 ـ 23، الدرّ المنثور 3 / 3.
وقد ورد عندنا أنّ جبرئيل (عليه السلام) نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع بأن ينصب عليّـاً خليفةً له، فضاق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) به ذرعاً مخافة تكذيب أهل الإفك، وقال لجبرئيل: إنّ قومي لم يقرّوا لي بالنبوّة إلاّ بعد أن جاهدت، فكيف يقرّون لعليّ بالإمامة في كلمة واحدة؟! وعـزم على نصبه بالمدينة.
فلمّا وصل إلى غدير خُمّ نزل عليه قوله تعالى: ( يا أيُّها الرسولُ بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإنْ لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس... )(1) الآيـة(2).
ولمّا سار بعد نصبه ووصل العَقَبة دحرجوا له الدِّبابَ(3) لينفّروا ناقته ويقتلوه فينقضوا فِعله، فعصمه الله سبحانه منهم(4).
ثمّ أراد أن يؤكّد عليه النصّ في كتاب لا يضلّون بعده، فنسبوه إلى الهجر!(5) ; وأراد تسـييرهم بجيش أُسامة، فعصوه!(6).
____________
(1) سورة المائدة 5: 67.
(2) انظر: أُصول الكافي 1 / 320 ـ 322 ح 755 و 757، الاحتجاج 1 / 137 ـ 138.
(3) الـدَّبَّـة: ظرف يُجعل فيه الزيت والبِزْر والدُّهن، والجمع: دِبابٌ ; انظر مادّة " دبب " في: لسان العرب 4 / 278، تاج العروس 1 / 479.
(4) انظر: مسند أحمد 5 / 453، الكشّاف 2 / 203، الخصال 2 / 499 ح 6، الاحتجاج 1 / 127 ـ 132.
(5) مرّ تخريج ذلك مفصّلا في الصفحة 93 هـ 2 من هذا الجزء ; فراجـع!
(6) انـظـر: صـحـيـح البخـاري 5 / 96 ح 223 و ص 290 ح 262 و ج 6 / 40 ح 450 و 451 و ج 8 / 230 ح 6 و ج 9 / 132 ح 47، صحيح مسلم 7 / 131، سنن الترمذي 5 / 635 ح 3816، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 53 ح 8185 و 8186، مسند أحمد 2 / 20 و 106 و 110، فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 2 / 1052 ح 1525 و ص 1054 ح 1529، مسند أبي يعلى 9 / 352 ح 5462 و ص 390 ح 5518، مصنّف عبـد الرزّاق 11 / 234 ح 20413، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 532 ح 3، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 146، المغازي ـ للواقدي ـ 3 / 1119، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 6 / 65، تاريخ الطبري 2 / 224 ـ 225، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 94 ح 7004، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 12، تاريخ دمشـق 8 / 58 ـ 62.
ولو كان المقصود هو: العصمة عن اليهود والنصارى، لكان الأَوْلى هو الإضمار لا التعبير عنهم بالناس.
ثمّ إنّه لا بُـدّ من تحقيق حديث الغدير(2) في الجملة سنداً ودلالةً،
____________
(1) تقـدّم تخريج ذلك مفصّـلا في ج 2 / 27 ـ 28 هـ 1، وانظر: الصفحـة 212 ـ 213 هـ 1 من هذا الجزء.
(2) روى حديث الغدير أغلب أعلام وحفّاظ ومحدّثي الجمهور، في صحاحهم وسـننهم ومسانيدهم، وقد مرّ تخريج الحديث مفصّـلا في ج 1 / 19 ـ 21 هـ 1، ونورد في ما يلي مجموعة أُخرى من أُمّـهات مصادرهم من التي روت الحديث زيادة عمّا مرّ:
السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 130 ح 8464 و ص 131 ـ 132 ح 8468 ـ 8473 و ص 134 ـ 135 ح 8478 ـ 8481 و ص 136 ح 8483 و 8484، فضائل الـصـحـابـة ـ لأحـمـد ـ 2 / 849 ح 1167 و ص 878 ح 1206، الـتاريـخ الـكبـيـر ـ للبخاري ـ 1 / 375 رقم 1191، مصنّف عبـد الرزّاق 11 / 225 ح 20388، مسند أبي يعلى 1 / 428 ـ 429 ح 567 و ج 11 / 307 ح 6423، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 42 ح 6892، مسند الإمام زيد: 457، الإمامة والسياسة 1 / 129، تأويل مختلف الحديث: 17 و 49، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 590 ـ 593 ح 1354 ـ 1376، زوائد عبـد الله بن أحمد بن حنبل: 413 ـ 419 ح 197 ـ 201، فضائل الصحابة ـ للنسائي ـ: 15 ح 45، مسند الروياني 1 / 36 ح 62، الكنى والأسماء ـ للدولابي ـ 2 / 61 و 88، الذرّية الطاهرة: 168 ح 228، نوادر الأُصول ـ للحكيم الترمذي ـ 2 / 155 ـ 156، مشكل الآثار 2 / 211 ـ 212 ح 1900 ـ 1902، العقد الفريد 3 / 312، الغيلانيات 1 / 157 ـ 158 ح 118 و ص 168 ح 126، الكامل ـ لابن عديّ ـ 3 / 80 رقم 623 و ص 256 رقم 735 و ج 4 / 12 رقم 888 و ج 5 / 33 رقم 1204 و ص 122 رقم 1286 و ج 6 / 82 رقم 1615 و ص 216 رقم 1686 و ص 381 رقم 1865 و ص 413 رقم 1895، العلل ـ للدارقطني ـ 3 / 224 رقم 375 و ج 4 / 91 رقم 446، تمهيد الأوائل: 545، المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 20 ق 1 / 144 ـ 145، شرح الأُصول الخمسة: 766، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 3 / 1170 ح 2966 و ج 5 / 2885 ح 6779 و ج 6 / 3155 ح 7263، تثبيت الإمامة: 54 ح 5، حلية الأولياء 4 / 23 و 5 / 364، الاستيعاب 3 / 1099، المتّفق والمفترق ـ للخطيب البغدادي ـ 3 / 1739 ح 1277، موضح أوهام الجمع والتـفـريـق 1 / 185، الـفـصـل للـوصـل 1 / 555 ـ 556 ح 58، أسـبـاب الـنـزول ـ للواحدي ـ: 112، شواهد التنزيل 1 / 187 ـ 193 ح 243 ـ 250، زين الفتى 1 / 493 ـ 495 ح 293 ـ 295، سرّ العالمين: 453، ربيع الأبرار 1 / 84 ـ 85، نهايـة الإقـدام في علم الكلام: 493 ـ 494، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 161 ـ 162، كنز العمّال 11 / 608 ـ 610 ح 32945 ـ 32951 و ج 13 / 131 ح 36417 و 36418.
الأوّل: في صحّـتـه:
وهي لا ريب فيها لأحد إلاّ لبعض النُصّاب كمـا سـتعرف.
قال ابن حجر: " إنّه حديث صحيح لا مرية فيه، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد، وطرقه كثيرة جدّاً، ومن ثمّ رواه سـتّة عشر صحابيـاً..
أقـول:
وهذا صريح في دلالة الحديث على الخلافة، ثمّ في " الصواعق ":
" وكثير من أسانيده صحاح وحسان، ولا التفات لمن قدح في صحّته، ولا لمن ردّه بأنّ عليّـاً كان باليمن ; لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحجّ مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)..
وقول بعضهم: إنّ زيادة: (اللّهمّ والِ من والاه...) إلى آخره موضوعة، مردودٌ، فقد ورد ذلك من طرق، صحّح الذهبيُّ كثيراً منها "(2).
والدعاء الذي أشار إليه هنا قد ذكره قبل هذا الكلام بلفظ: اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار(3).
بل الحقّ أنّ هذا الحديث من المتواترات حتّى عند القوم، فقد نقل السيّد السعيد (رحمه الله) عن الجزري الشافعي، أنّه أثبت في رسالته " أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب " تواتره من طرق كثيرة، ونسب منكِـرَه إلى الجهل والعصبيّـة(4).
____________
(1) الصواعق المحرقة 64 الشبهة الحادية عشرة، وانظر: مسند أحمد 4 / 370.
(2) الصواعق المحرقة: 64 الشبهة الحادية عشرة، وقد جمع الذهبي طرقه في مصنّف كما في تذكرة الحفّاظ 3 / 1043.
(3) الصواعق المحرقة: 64، الشبهة الحادية عشرة.
(4) إحقاق الحقّ 2 / 487، وانظر: أسنى المطالب: 3 ـ 4.
وكيف لا يكون متواتراً، وقد زادت طرقه على مائة عندهم، ورواه سـبعون صحابيـاً أو أكثر؟!
نقل جماعة عن الطبري، صاحب التاريخ المشهور، أنّه أخرج هذا الحديث من خمسة وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سمّاه " الولاية "(2).
ونقلوا عن ابن عقدة أنّه أخرجه من مائة وخمسة طرق، وأفرد له كـتاباً سمّاه " الموالاة "(3).
وأشار إلى الكتابين ابن حجر العسقلاني في " تهذيب التهذيب " بترجمة أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: " صحّ حديث الموالاة، واعتنى بجمع طرقه أبو العبّـاس ابن عقدة فأخرجه من حديث سبعين صحابياً أو أكثر، وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلَّـف "(4).
____________
(1) نقله عنه المناوي في فيض القدير 6 / 282 ح 9000.
(2) انظر: معجم الأُدباء 5 / 266 و 269، سير أعلام النبلاء 14 / 274 و 277، البداية والنهاية 11 / 125، تهذيب التهذيب 5 / 701 رقم 4898.
وانظر: العمدة ـ لابن بطريق ـ: 157 ح 167، مناقب آل أبي طالب 3 / 34، أهل البيت (عليهم السلام) في المكتبة العربية: 661 ـ 664 رقم 852.
(3) انظر: جواهر العقدين: 237، فيض القدير 6 / 282 ح 9000، كفاية الطالب: 60، العمدة ـ لابن بطريق ـ: 157 ح 167، مناقب آل أبي طالب 3 / 34، إقبال الأعمال 2 / 239 ـ 240 وقال فيه: " وجدت هذا الكتاب بنسخة قد كتبت في زمان أبي العبّـاس ابن عقدة مصنّفه، تاريخها سنة ثلاثين وثلاثمائة، صحيح النقل، عليه خطّ الطوسي وجماعة من شيوخ الإسلام، لا يخفى صحّة ما تضمّنه على أهل الأفهام، وقد روى فيه نصّ النبيّ صلوات الله عليه على مولانا عليّ (عليه السلام) بالولاية من مائة وخمس طرق ".
(4) تهذيب التهذيب 5 / 701 رقم 4898.
ولنذكر بعض ما عثرنا عليه من أخبار القوم الذي ينفعنا في الدلالة على المطلوب ; لاشتماله على قرائن وخصوصيات لا تناسب غير الاهتمام بالإمامة، وإن لم يرووا من الحقيقة إلاّ أقلّها!
فمن ذلك البعض الذي أردناه ما رواه الحاكم في " المستدرك "(3)، عن زيد بن أرقم، وقال: " صحيح على شرط الشيخين " ولم يتعقّبه الذهبي
____________
(1) الإصابة 7 / 330 رقم 10410.
(2) نـقـول:
ومضافاً إلى ما ذكره الشيخ المظفّر (قدس سره) في المتن، فقد صحّحه الترمذي في " السـنن "، والطحاوي في " مشكل الآثار "، والمحاملي في " الأمالي " كما في كنز العمّال 13 / 140 ح 36441، والحاكم في " المسـتدرك على الصحيحين " كما سـيأتي بعد قليل، والعاصمي في " زين الفتى " وقال: " وهذا حديث تلـقّـته الأُمّة بالقبول، وهو موافق بالأُصول "، وابن عبـد البرّ في " الاسـتيعاب " وقال بعد ذِكر أحاديث المؤاخاة والراية والغـدير: " هذه كلّها آثار ثابتة "، وابن المغازلي في " مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) " وقال: " هذا حديث صحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد رواه نحو مئة نفس، منهم العشرة المبشّرة، وهو حديث ثابت لا أعرفُ له علّـة "، وابن الجوزي في " تذكرة الخواصّ "، والذهبي في " تلخيص المسـتدرك "، والهيثمي في " مجمع الزوائد "، وغيـرهم.
راجع ما تقدّم في الصفحة 321 وما بعدها.
(3) ص 109 من الجزء الثالث [3 / 118 ح 4576] . منـه (قدس سره).
" قال زيد: لمّا رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجّة الوداع ونزل غدير خُمّ أمر بدوحات فَقُمِمْنَ فقال: كأنّي قد دُعيتُ فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي ; فانظروا كيف تُخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يرِدا علَيَّ الحوض.
ثمّ قال: إنّ الله عزّ وجلّ مولاي، وأنا مولى كلّ مؤمن، ثمّ أخذ بيد عليّ، فقال: من كنت مولاه فهذا وليّه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه ".
ومثـله في " كنز العمّال "(1) نقلا عن ابن جرير في " تهذيب الآثار "، بسنده عن أبي الطفيل، وفي آخره: " فقلت لزيد أنت سمعته مـن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
فقال: ما كان في الدوحات أحدٌ إلاّ قد رآه بعينيه وسمعه بأُذنيه ".
ثمّ قال في (الكنز) أيضاً: ابن جرير، عن عطيّة العوفي، عن أبي سـعيد الخُدري، مثل ذلك(2).
ومن ذلك البعض أيضاً ما رواه الحاكم بعد الحديث المذكور، عن زيد بن أرقم، وصحّحه على شرط الشيخين: " قال زيد: نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين مكّة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثمّ راح رسول الله عشيّة فصلّى، ثمّ قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وذكّر ووعظ فقال ما شاء الله أن يقول..
____________
(1) ص 390 من الجزء السادس [13 / 104 ح 36340] . منـه (قدس سره).
(2) كنز العمّال 13 / 104 ح 36341.
ثمّ قال: أتعلمـون أنّي أَوْلى بالمؤمنيـن من أنفسـهم ـ ثـلاث مـرّات ـ؟!
قالوا: نعم.
فقال رسول الله: مَن كنت مولاه فعليٌّ مـولاه "(1).
ومنـه أيضاً: ما رواه أحمد في مسـنده، عن البراء بن عـازب(2)، من طريقين رجالهما رجال صحيح مسلم، وأكثرهم أيضاً من رجال صحيح البخاري..
قال: " كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر فنزلنا بغدير خُمّ، فنُودي فينا: الصلاة جامعةً، وكُسح لرسول الله تحت شجرتين فصلّى الظهر، وأخذ بيد عليّ، فقال: ألستم تعلمون أنّي أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟!
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أنّي أَوْلى بكلّ مؤمن من نفسه؟!
قالوا: بلى.
قال: فأخذ بيد عليّ فقال: مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه.
قال: فلقيه عمر بعد ذلك، فقال له: هنيئاً يا بن أبي طالب! أصبحتَ وأمسيتَ مولى كلّ مؤمن ومؤمنة ".
____________
(1) المسـتدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4577.
(2) ص 281 من الجزء الرابع. منـه (قدس سره).
قال: فخطبنا وظُلّل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة، من الشمـس..
فقال: ألستم تعلمون ـ أو: ألستم تشهدون ـ أنّي أَوْلى بكلّ مؤمن ومؤمنة من نفسه؟!
قالوا: بلى.
قال: فمن كنتُ مولاه فإنّ عليّـاً مولاه، اللّهمّ عادِ من عاداه، ووالِ من والاه ".
وروى نحوه بعده بقليـل(2).
ومنه أيضاً: ما رواه أحمد أيضاً(3)، عن حسين بن محمّـد وأبي نعيم، قالا: حدّثنا فطر، عن أبي الطُفيل، قال: جمع عليٌّ الناس في الرحبة، ثمّ قال لهم:
أُنشد الله كلّ امرئ مسلم سمع رسول الله يقول يوم غدير خُمّ ما سمع لمّا قام ; فقام ثلاثون من الناس.
وقال أبو نعيم: فقام ناسٌ كثيرٌ فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس: أتعلمون أنّي أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟!
قالوا: نعم يا رسـول الله.
قال: مَن كنتُ مولاه فهذا مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من
____________
(1) ص 372 من الجزء المذكور. منـه (قدس سره).
(2) مسند أحمد 4 / 372 ـ 373.
(3) ص 370 من الجزء السابق. منـه (قدس سره).
قال: فخرجتُ وكأنّ في نفسي شـيئاً، فلقيتُ زيد بن أرقم، فقلتُ لـه: إنّي سمعت عليّـاً يقول كذا وكذا.
قال: فما تُنكِـر؟! قد سمعتُ رسول الله يقول ذلك له ".
وروى أحمد في مسند عليّ (عليه السلام) حديث المناشدة من عدّة طُرق، اثنان منها(1) عن عبـد الرحمن بن أبي ليلى، قال في أحدهما: " فقام اثنا عشـر بدريّـاً ".
وفي الآخر: " فقام اثنا عشر رجلا... فقام إلاّ ثلاثة لم يقوموا... فأصابتهم دعوتُـه "(2).
ونقل في " كنز العمّال " نحو الأخير(3)، عن الخطيب في الأفراد، عن عبـد الرحمن، قال فيه: " فقام بضعة عشرَ رجلا فشهدوا، وكتم قومٌ، فما فـنوا من الدنيا إلاّ عموا وبرصوا ".
ونقل أيضاً في (الكنز) حديث المناشدة(4)، عن ابن أبي عاصم،
____________
(1) ص 119 من الجزء الأوّل. منـه (قدس سره).
(2) والثلاثة الّذين امتنعوا عن الشهادة، ودعا عليهم أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام)هـم: أنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجرير بن عبـد الله ; فأصاب البرص أنساً، وعمي البراء، ورجع جرير أعرابيـاً بعـد هجـرته فأتى السـراة فمـات في بيـت أَمَـة ـ ونُقل: أُمّـه ـ هنـاك.
انظر: جمهرة النسب 2 / 395، المعارف ـ لابن قتيبة ـ: 320، أنساب الأشراف 2 / 386، حلية الأولياء 5 / 26 ـ 27، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 74 ح 33، شرح نهج البلاغة 4 / 74 و ج 19 / 217 ـ 218.
(3) ص 397 من الجزء السادس [13 / 131 ح 36417] . منـه (قدس سره).
وانظر: المتّفق والمفترق ـ للخطيب البغدادي ـ 3 / 1739 ح 1277.
(4) ص 407 من الجزء المذكور [13 / 170 ح 36515] . منـه (قدس سره).
وانظر: السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 593 ح 1372 ـ 1374، مسند أبي يعلى 1 / 428 ح 567، تاريخ بغـداد 14 / 236 رقم 7545.
ونقله أيضاً قبل ذلك(1)، عن الطبراني، عن عَمِـير [ة] (2) بن سعد بروايتيـن.
وعن البزّار، وابن جرير، والخلعي [في " الخلعيات "] ، عن عمرو ذي مُـرّ(3)، وسعيد بن وهب، وزيد بن يثيـع(4)، قالوا:
" سمعنا عليّـاً يقول: نشدتُ الله رجلا سمع رسول الله يقول يوم غدير خُمّ ما قال لمّا قام؟
فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ألسـتُ أَوْلى بالمؤمنين من أنفسـهم؟!
قالوا: بلى يا رسول الله.
فأخذ بيد عليّ، فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من
____________
(1) ص 403 [13 / 154 ح 36480 و ص 157 ح 36486] . منـه (قدس سره).
وانظر: المعجم الأوسط 2 / 386 ح 2131 و ج 3 / 36 ح 2275، المعجم الصغير 1 / 64.
(2) كان في الأصل والمصدر: " عمير "، وهو تصحيف ; وما أثبتـناه هو الصواب من المعجمين الأوسط والصغير وتهذيب الكمال 14 / 424 رقم 5111.
(3) كان في الأصل: " عمر ذي مرّة "، وهو تصحيف، وما أثبتـناه هو الصحيح، انظر: تهذيب الكمال 14 / 371 رقم 5062، ميزان الاعتدال 5 / 354 رقم 6487، تهذيب التهذيب 6 / 228 رقم 5327.
(4) كان في الأصل: " سـبع "، وهو تصحيف، وما أثبتناه هو الصحيح ; انظر: تهذيب الكمال 6 / 490 رقم 2114، ميزان الاعتدال 3 / 158 رقم 3035، تهذيب التهذيب 3 / 239 رقم 2234.
ثمّ قال في (الكنز): " قال الهيثمي(2): رجال سـنده ثقات، قال ابن حجر: ولكـنّهم شـيعة! "(3).
أقـول:
هل مع توثيقهم، وشهرة حديث المناشدة تلك الشهرة، وثبوت صحّته وصحّة أصل حديث الغدير، محلّ لتهمة الرواة لتشـيّعهم، لو صحّ كونهم شـيعة؟!
ولكنّ ابن حجر وأشباهه أبوا أن يسمعوا فضيلةً لإمام المتّقين إلاّ أن يقولوا فيها شيئاً ; ليكونوا محلاًّ لدعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: " واخذل من خـذله ".
ومنـه: ما رواه النسائي في " الخصائص "، بسنده عن سعد، قال: " كنّا مع رسول الله بطريق مكّة [وهو متوجّه إليها] ، فلمّا بلغ غدير خُمّ وقّف الناسَ، ثمّ ردّ من سبقه(4)، ولحقه من تخلّف، فلمّا اجتمع الناس إليه قال: [أيُّها الناس!] مَن ولـيّـكم؟!
قالوا: الله ورسوله ـ ثلاثاً ـ.
[ثمّ أخذ بيد عليّ] ثمّ قال: من كان الله ورسوله وليّه فهذا
____________
(1) كنز العمّال 13 / 158 ح 36487 ; وانظر: مسند البزّار 3 / 34 ـ 35 ح 786.
(2) كان في الأصل: " البيهقي "، وهو تصحيف، وما أثبتناه هو الصحيح.
(3) كنز العمّال 13 / 158 ذ ح 36487، وانظر: مجمع الزوائد 9 / 104 ـ 105 وفيه: " رواه البزّار، ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة ".
(4) في المصدر: " تبعه " بدل " سبقه ".
وأخرجه أيضاً بطريق آخر عن سعد، وقال في أوّله: " ألم تعلموا أنّي أَوْلى بكم من أنفسكم؟! "(2).
ومنه: ما ذكره ابن حجر في " الصواعق "، في المقام السابق، قال: " ولفظه عند الطبراني وغيره بسند صحيح، أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب بغدير خُمّ تحت شجرات فقال:
أيُّها الناس! إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يُعمّر نبيٌّ إلاّ نصفَ عُمرِ النبيّ الذي يليه من قبله، وإنّي لأظنّ أنّي يُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟!
قالوا: نشهد أنّك [قد] بلّغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً.
فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ مُحمّـداً عبدُهُ ورسوله، وأنّ جنّته حقٌّ، وأنّ ناره حقٌّ، وأنّ الموت حقٌّ، وأنّ البعث حقٌّ بعد الموت، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟!
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال: اللّهمّ اشهد!
ثمّ قال: أيُّها الناس! إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أَوْلى بهم من أنفسهم، فمن كنتُ مولاه فهذا مولاه ـ يعني عليّـاً ـ،
____________
(1) خصائص الإمام عليّ (عليه السلام): 80 ح 91، وانظر: السـنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 135 ح 8481.
(2) خصائص الإمام عليّ (عليه السلام): 79 ح 90، وانظر: السـنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 134 ـ 135 ح 8480.
ثمّ قال: أيُّها الناس! إنّي فرطُكم، وأنتم واردون علَيَّ الحوض، حوضٌ أعرض ممّا بين بُصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فِضّة، وإنّي سائلكم حين ترِدُون علَيَّ عن الثقلين، فانظروا كيف تُخلفوني فيهما؟!
الثقل الأكبر: كتاب الله عزّ وجلّ، سببٌ طرفه بيد الله وطرفهُ بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا.
وعترتي أهل بيتي، فإنّه [قد] نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا(1) حتّى يرِدا علَيَّ الحوض "(2).
ومنه: ما رواه صاحب " المواقف " وشارحها، والقوشجي في " شرح التجريد ": " أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أحضر القومَ [بعد رجوعه من حجّة الوداع] بغدير خُمّ [وهو موضع بين مكّة والمدينة، بالجحفة] ، وأمر بجمع الرحال، فصعد عليها وقال لهم:
ألسـتُ أَوْلى بكم من أنفسكم؟!
قالوا: بلى.
قال: فمن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله "(3).
ولنكـتفِ بهذا القدر، فإنّ فيه الكفاية لمن طلب الحقّ.
____________
(1) في المصدر: " ينقضيا ".
(2) الصواعق المحرقة: 65 ـ 66، وانظر: المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 3 / 180 ح 3052، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 67 ـ 69 ح 23، تاريخ دمشق 42 / 219.
(3) المواقف: 405، شرح المواقف 8 / 360، شرح التجريد: 477.
المطلب الثاني:
في دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام:
فنقول: ذكروا للمولى معانيَ عديدة، منها: المُعتِق، والمُعتَق، والحليف، والجار، والابن، والعمّ، وابن العمّ، والمحبّ، والناصر، والمالك للأمر الذي هو عبارة أُخرى عن الأَوْلى بالتصرّف(1).
ولا شكّ أنّه لا يصحّ في المقام إلاّ المعنى الأخير ; لأمرين:
الأوّل: عدمُ صلاحية إرادة تلك المعاني الباقية، إمّا في أنفسها، كـ: المُعتـق، والعمّ، والابن، ونحوها..
أو لكونها من توضيح الواضحات، الغنيّة عن الاهتمام ببيانها، كـ: المحبّ، والناصر.
الثاني: وجود القرائن المعيّنة لإرادة المعنى الأخير، فمنها:
سبق أمر الله سبحانه نبيّه بهذا التبليغ وقوله: ( إنْ لم تفعل فما بلّغت رسالته )(2).
فإنّه لا يصحّ حمله على الأمر بتبليغ أنّ عليّـاً محبٌّ، أو ناصرٌ لمن أحبّه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو نصره.
فإنّ الذي يليق بهذا التهديد هو أن يكون المبلَّغ به أمراً دينياً يلزم الأُمّـة الأخذ به، كالإمامـة، لا مثل الحُـبّ والنصرة من عليّ (عليه السلام) لهم، التي لا دخل لها بتكليفهم.
____________
(1) انظر: لسان العرب 15 / 402 و 403 مادّة " ولي ".
(2) سورة المائدة 5: 67.
على أنّ نصرة عليّ (عليه السلام) لكلّ مؤمن ومؤمنة موقوفة على إمامته وزعامته العامّة، إذ لا تتمّ منه وهو رعيّةٌ ومحكوم لغيره في جلّ أيّامه.
ولذا لم يقدر على نصر أخصّ الناس به، وهو: سيّدة النساء، مع علمه بأنّها محقّـة في دعواها(1).
فلا بُـدّ إمّا أن يكون كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله: " من كنت مولاه فعليٌّ مولاه " كذباً، وحاشاه.
أو بياناً لإمامة عليّ، وهو المطلوب.
ومنها: تقرير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بأنّه أَوْلى بهم من أنفسهم، فإنّه دالٌّ على أنّه مقدّمة لإثبات أمر عليهم يحتاج إلى مثل هذا التقرير..
فإذا قال: " من كنت مولاه فعليٌّ مولاه " عُلِم أنّ الغرض إثبات تلك المنزلة لعليّ (عليه السلام) عليهم، وإيجاب إمامته عليهم، لا الإخبار بأنّه محبّ لمن أحبّه، أو ناصر لمن نصره.
ومنها: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن قرب موته، كما في رواية الحاكم الأُولى ورواية الصواعق(2) وغيرهما(3)، وهو مقتض للعهد بالخلافة ومناسـبٌ له.
فلا بُـدّ من حمل قوله: " من كنت مولاه فعليٌّ مولاه " على العهد
____________
(1) في مطالبتها بما تملّـكته (عليها السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، نحلةً في حياته، أو إرثاً بعد وفاتـه.
(2) المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576، الصواعق المحرقة: 65.
(3) المعجم الكبير 3 / 180 ح 3052، مجمع الزوائد 9 / 164 ـ 165.
وقوله في رواية " الصواعق ": " إنّي سائلكم عنهما " وقوله: " لن يفترقا " بعد أمره بالتمسّك بالكتاب، فإنّ هذا يقتضي وجوب التمسّك بهم واتّباعهم، فيسأل عنهم، وذلك لا يناسـب إلاّ الإمامة.
ومنها: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا لعليّ بما يناسب الدعاء لولاة العهد بعد نصبهم للزعامة العامة، فقال:
" اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار " أو نحو ذلك.
فكيف يصحّ حمل المولى على المحبّ أو الناصر؟!
ومنها: قرائن الحال الدالّة على أنّ ما أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانه هو أهمّ الأُمور وأعظمها، كأمره بالصلاة جامعةً في السفر بالمنزل الوعر بحرِّ الحجاز وقتَ الظهيرة، مع إقامة منبر من الأحداج(1) له، وقيامه خطيباً بين جماهير المسلمين، الّذين يبلغ عددهم مائة ألف أو يزيدون.
فلا بُـدّ مع هذا كلّه أن يكون مراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بيان إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي يلزم إيضاح حالها، والاهتمام بشأنها، وإعلام كلّ مسلم بهـا، لا مجـرّد بيان أنّ عليّـاً محبٌّ لمن أحببتُه، وناصر لمن نصرتُه، وهو لا أمرَ ولا إمرة له!
____________
(1) الحِدْج: الحِمْلُ، وهو أيضاً مركب من مراكب النساء نحو الهَوْدَج والمِحَفّة، والجمع: أَحْداجٌ وحُدُوجٌ ; انظر: لسان العرب 3 / 77 مادّة " حدج ".