وعلى هذا: فبالنظر إلى خصوص كلّ واحدة من تلك القرائن الحاليّة والمقاليّة، فضلا عن مجموعها، لا ينبغي أن يشكّ ذو إدراك في إرادة النصّ على عليّ (عليه السلام) بالإمامة، وإلاّ فكيف تُسـتفاد المعاني من الألفاظ؟!
وكيف يدلّ الكتاب العزيز أو غيره على معنىً من المعاني؟!
وهل يمكن أن لا تُراد الإمامة وقد طلب أميرُ المؤمنين (عليه السلام) من الصحابة بمجمع الناس بيان الحديث، ودعا على من كتمه؟!
إذ لو أُريد به مجرّد الحبّ والنصـرة لَما كان محـلاًّ لهذا الاهـتمام، ولا كان مقتض لأن يبقى في نفس أبي الطُفيل منه شيء، وهو أمرٌ ظاهر، ليس به عظيمُ فضل، حتّى قال له زيد بن أرقم: " ما تُنكر؟! قد سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك له " كما سـبق(1)..
ولا كان مسـتوجباً لتهنئة أبي بكر وعمر لأمير المؤمنين (عليه السلام) بقولهما: " أصبحت [وأمسـيت] مولى كلّ مؤمن ومؤمنة "(2)، فإنّ التهنئة لأمير المؤمنين، الذي لم يزل محلاًّ لذِكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالفضائل العظيمة، والخصائص الجليلة، والمحامد الجسـيمة، إنّما تصحّ على أمر حادث، تقصر عنه سائر الفضائل، وتتقاصر له نفوس الأفاضل، وتتـشـوّق إليه القلوب، وتتـشـوّف له العيون.
فهل يمكن أن يكون هو غيرُ الإمامة، من النصرة ونحوها، ممّا هو أيسرُ فضائله وأظهرها وأقدمها؟!
ولكن كما قال الغزّالي في " سرّ العالمين ": " ثمّ بعد ذلك غلب الهوى
____________
(1) انظر الصفحة 328 من هذا الجزء، وراجع: مسند أحمد 4 / 370.
(2) انظر الصفحتين 306 و 326 من هذا الجزء، وراجع: مسند أحمد 4 / 281.
وقد ذكر جماعة من القوم أنّ " سرّ العالمين " للغزّالي(3)، كالذهبي في " ميزان الاعتدال " بترجمة الحسن بن الصباح الإسماعيلي(4).
هـذا، ويشهد لإرادة الإمامة من الحديث: فهمُ الناس لها منه، كما سبق في الرواية التي نقلناها في أوّل المطلب الأوّل، عن ابن حجر في " الصواعق "، عن أحمد، حيث قال:
" وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثون صحابياً، وشهدوا به لعليّ (عليه السلام) لمّا نُوْزِع في أيّـام خلافته "(5).
فإنّ قوله: " لمّا نُوزع " دالٌّ على أنّ استشهاد أمير المؤمنين إنّما كان للاسـتدلال على خلافته وصحّتها، وأنّها من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهو (عليه السلام) وشهوده وراوي ذلك قد فهموا من الحديث الإمامة.
وعن تفسير الثعلبي، أنّه لمّا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بغدير خُمّ نادى
____________
(1) كان في الأصل: " البنود "، وما أثبتناه من المصدر هو الصحيح.
(2) سرّ العالمين: 453 باب ترتيب الخلافة.
(3) انظر: لسان الميزان 2 / 215 رقم 950، إيضاح المكنون 2 / 11.
(4) هو: الحسن بن صباح الإسماعيلي، الملقّب بـ: الكيا، صاحب الدعوة النزارية، وجدّ صاحب قلعة أَلَمُوت، كان من كبار الزنادقة ومن دهاة العالم، أصله من مرو، كان له باع في الهندسة والفلسفة والسحر والنجوم وغيرها، مات سنة 518 هـ.
انظر: ميزان الاعتدال 2 / 248 رقم 1875.
(5) الصواعق المحرقة: 64، وانظر: مسند أحمد 4 / 370.
فقال النبيّ: والله الذي لا إله إلاّ هو إنّه من الله.
فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول: اللّهمّ إنْ كان ما يقول محمّـد حقّـاً فأمطِـر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم!
فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع )(1)(2).
وروى نحوه في " مجمع البـيان " عن إمامنـا الصـادق (عليه السلام)، وقـال فيـه: " لم ترضَ حتّـى نصبت هذا الغـلام "(3) ; وهـو بمعنى قوله في حديث الثعلبي: " وفضّلته علينا "، فيكون دالاًّ على فهم الفهري من قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " فعليٌّ مولاه " نصب عليّ للزعامة العامّـة.
____________
(1) سورة المعارج 70: 1 و 2.
(2) تفسـير الثعلبي 10 / 35، وانظر: شواهد التنزيل 2 / 286 ـ 289 ح 1030 ـ 1034، تفسير القرطبي 18 / 181، تذكرة الخواصّ: 37، فرائد السمطين 1 / 82 ح 63، جواهر العقدين: 247، فيض القدير 6 / 282، السيرة الحلبية 3 / 337.
(3) مجمع البيان 10 / 107.
قال سبط ابن الجوزي في " تذكرة الخواصّ ": أكثرت الشعراءُ في يوم غدير خُمّ، فقال حسّان بن ثابت [من الطويل] :
يُناديـهمُ يومَ الغـديـرِ نبيّـهُم | بِخُمّ فأَسْمِـعْ بالرسولِ مُناديا |
وقال: فَمنْ مَولاكُمُ ووليّـكُمْ | فقالوا ـ ولمْ يُبدوا هناك التعاميا ـ: |
إلهُـك مولانا وأنتَ ولـيُّـنا | وما لك منّا في الولاية عاصيا |
فقال له: قُمْ يا عليُّ فإنّني | رَضِيتُكَ مِن بعدي إماماً وهاديا |
فمنْ كنتُ مولاه فهذا وليُّه | فكونُوا له أنصارَ صِدْق مَواليا |
هناك دعا: اللّهمّ والِ ولـيَّـهُ | وكن للذي عادى عليّـاً مُعاديا(1) |
قال: ورُوي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا سمعه ينشد هذه الأبيات قال له:
يا حسّانُ لا تزالُ مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا ـ أو: نافحتَ عنّـا ـ بلسانك(2).
وقال قيس بن سعد بن عُبادة(3) ـ وأنشدها بين يدي عليّ بصفّين ـ
____________
(1) تذكرة الخواصّ: 39، وانظر: مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 136، كفاية الطالب: 64، فرائد السمطين 1 / 73 ذ ح 39 و ص 74 ـ 75 ذ ح 40.
(2) تذكرة الخواصّ: 39 ; وراجع: كفاية الطالب: 64.
(3) هو: أبو عبـد الله قيس بن سعد بن عُبادة بن دُليم بن حارثة بن أبي خزيمة الأنصاري الخـزرجي الساعدي، وقيل: إنّ كنيته هي: أبو عبـد الملك.
وأُمّـه: فكيهة بنت عبيـد بن دُليم بن حارثة.
كان من فضلاء الصحابة، وأحد دهاة العرب وكرمائهم، وكان من ذوي الرأي الصائب والمكيدة في الحرب.
صحب أمير المؤمنين عليّـاً (عليه السلام) لمّا بويـع له بالخلافة، وشهد معه حروبه، وكان له في صفّين موقفاً مشهوداً ملأ معاوية رعباً، واستعمله الإمام عليّ (عليه السلام) على مصـر.
توفّي في سنة 59 هـ، وقيل: سـنة 60 هـ.
انظر: أُسد الغابة 4 / 124 رقم 4348، الاستيعاب 3 / 1289 رقم 2134، سير أعلام النبلاء 3 / 102 رقم 21.
قلتُ لمّا بغى العدوُّ علينا: | حسبُنا ربُّنا ونِعْمَ الوكيلُ |
وعليٌّ إمـامُـنـا وإمـامٌ | لِسِوانا بهِ أتى التنزيلُ |
يوم قال النبيُّ: مَنْ كنتُ مولا | هُ فهذا مولاهُ، خطبٌ جليلُ |
إنّ ما قاله النبيُّ على الأُ | مّةِ نصٌّ(1) ما فيه قالٌ وقيلُ(2) |
ثمّ ذكر السـبطُ أبياتاً للكميت(3)، منها [من الوافر] :
____________
(1) وفي نسخة: " حتمٌ " بدل " نصٌّ ". منـه (قدس سره).
(2) تذكرة الخواصّ: 39 ; وانظر: رسالة في أقسام المولى في اللسان: 37، الفصول المختارة: 291، خصائص أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ـ للرضي ـ: 7، كنز الفوائـد 2 / 98.
(3) هو: الكميت بن زيد بن خُنيس بن مُجالد بن وهيب الأسدي الكوفي، شاعر مقدّم، عالم بلغات العرب، خبير بأيّامها، من شعراء مُضر وألسنتها، والمتعصّبين على القحطانية.
شاعر أهل البيت (عليهم السلام)، وخطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القـرآن، وكان ثبت الجَنان، كاتباً حسن الخطّ، نسابة، جدليّاً، وهو أوّل من ناظر في التشـيع، مجاهراً بذلك، وله في أهل البيت (عليهم السلام) القصائد المشهورة، وهي أجود شـعره.
وُلد الكميت أيّام مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) سنة 60 هـ، وتوفيّ سنة 126 هـ في حكومة مروان بن محمّـد، وكان مبلغ شعره حين وفاته خمسة آلاف ومئتين وتسعة وثمانين بيتاً.
انظر: الأغاني 17 / 3 ـ 44، سير أعلام النبلاء 5 / 388 رقم 177، خزانـة الأدب 1 / 153 ـ 154.
ويومَ الدوحِ دَوحِ غديرِ خُمّ | أبانَ له الولايةَ لوْ أُطيعا |
ولكنّ الرجالَ تبايعوها(1) | فلم أرَ مثلَـهُ خَطراً(2) مَبيعا(3) |
قال السبطُ: ولهذه الأبيات قصّةٌ عجيبةٌ حدّثنا بها شيخنا عمرو بن صافي الموصلي، قال: أنشـد بعضهم هذه الأبيات فبـات مُفـكّراً، فرأى عليّـاً (عليه السلام) في المنام فقال له: أعِد علَيَّ أبيات الكُميْت.
فأنشده إيّاها حتّى بلغ قوله: " خطراً مَبيعا " فأنشده عليٌّ (عليه السلام) بيتـاً آخـر من قوله زيادة فيها:
فلمْ أرَ مثلَ ذلكَ اليومِ يوماً | ولمْ أرَ مثلَـه حقّـاً أُضيعا(4) |
ثمّ ذكر السِبطُ أبياتاً من نحو هذا(5) للسيّد الحميري(6) وبديع الزمان
____________
(1) وفي نسخة: " تدافعوها ". منـه (قدس سره).
(2) الخَـطَـرُ: ارتفاع القَدْرِ والمال والشرف والمنزلة، ورجل خطِير: أي له قدْرٌ وخَطرٌ ; انظر: لسان العرب 4 / 137 مادّة " خطر ".
(3) تذكرة الخواصّ: 39 ; وانظر: رسالة في أقسام المولى في اللسان: 41، كنز الفوائد 1 / 333.
(4) تذكرة الخواصّ: 40.
(5) راجع الأبيات في تذكرة الخواصّ: 40.
(6) هو: إسماعيل بن محمّـد بن يزيد بن ربيعة بن مُفَـرِّغ الحِمْيَريّ، يلقّب بالسيّد، ويكـنّى أبا هاشم، توفّي سـنة 173 هـ.
أُمّه امرأة من الأزد، ثمّ من بني الحُدّان، وجدّهُ يزيد بن ربيعة شاعر مشهور، وهو الذي هجا زياد ابن أبيه وبنيه، ونفاهم عن آل حرب، وحبسه عبـيد الله بن زياد لذلك وعذّبه، ثمّ أطلقه معاوية.
كان شاعراً متقدّماً مطبوعاً، يقال: إنّ أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام ثلاثة: بشّار، وأبو العتاهية، والسـيّد.
وإذا سُئل عن التشيّع من أين وقع له؟ قال: غاصت علَيَّ الرحمة غوصاً.
انظر ترجمته في: الأغاني 7 / 248 ـ 250.
ولا يمكن استيفاء ما قاله الشعراء، فإنّه ممّا يمتنع حصره.
هـذا، وقد أورد القوم على الحديث بأُمور حقيقة بالإعراض عنها لولا إرادتنا اسـتيفاء ما عندهم..
الأوّل: منـعُ صحّـتـه:
قال في " المواقف " وشرحها: " ودعوى الضرورة في العلم بصحّته لكونه متواتراً، مكابرة! كيف؟! ولم ينقله أكثر أصحاب الحديث، كالبخاري ومسلم وأضرابهما، وقد طعن بعضهم فيه، كـ [ابن] (2) أبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي، وغيرهما من أئمّة الحديث! "(3).
____________
(1) هو: أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى الهَمَذاني، أحد أئمّة الكـتاب، له: " المقامات "، أخذ الحريري أُسلوب مقاماته عنها، وكان شاعراً، وطبقته في الشعر دون طبقته في النثر، وُلد في همذان سنة 358 هـ، وانتقل إلى هراة سنة 380، فسكنها، ثمّ ورد نيسابور سنة 382 هـ فلقي أبا بكر الخوارزمي فشجر بينهما ما دعاهما إلى المساجلة، فطار ذِكر الهمذاني في الآفاق، كان قويّ الحافظة يُضرب المثل بحفظه، ويذكر أنّ أكثر مقامته ارتجال، وله ديوان شعر، ورسائل عدّتها 233 رسالة، ووفاته في هراة مسموماً سنة 398 هـ.
انظر: يتيمة الدهر 4 / 293 رقم 64، وفيات الأعيان 1 / 127 رقم 52.
(2) أثبتـناه من " شرح المواقف "، وهي إضافة يقتضيها المقام ; انظر الهامش التالي.
(3) المواقف: 405، شرح المواقف 8 / 361.
هـذا، وقد قال الشريف المرتضى في معرض ردّه على القاضي عبـد الجبّار ما نصّـه:
فإن قال: أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني دفع الخبر، وحكي مثلهُ عن الخوارج، وطعن الجاحظ في كتاب " العثمانية " فيه؟!
قيل له: أوّل ما نقوله إنّه لا معتبر في باب الإجماع بشذوذ كلّ شاذّ عنه، بل الواجب أن يعلم أنّ الذي خرج عنه ممّن يعتبر قول مثله في الإجماع، ثمّ يعلم أنّ الإجماع لم يتقدّم خلافُه، فابن أبي داود والجاحظ لو صرّحا بالخلاف لسقط خلافهما بما ذكرناه من الإجماع، خصوصاً بالذي لا شبهة فيه من تقدّم الإجماع، وفقد الخلاف، وقد سـبقهما ثمّ تأخّر عنهما.
على أنّه قد قيل: إنّ ابن أبي داود لم ينكر الخبر، وإنّما أنكر كون المسجد الذي بغدير خُمّ متقدّماً، وقد حكي عنه التنصّل من القدح في الخبر، والتبرّي ممّا قذفه به محمّـد بن جرير الطبري.
والجاحظ أيضاً لم يتجاسر على التصريح بدفع الخبر، وإنّما طعن في بعض رواته، وادّعى اختلاف ما نقل من لفظه، ولو صرّحا وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحاً ; لِما قدّمناه.
انظر: الشافي 2 / 263 ـ 264.
ويضـاف إلى ذلك أنّ ما طعـن به ابن أبي داود ـ لو ثبـت ـ معارَض برواية أبيه ـ صاحب " السـنن " ـ للحديث كما في السـنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 130 ح 8467 و ص 132 ح 8473 و ص 134 ح 8478.
كما إنّ ابن أبي داود كان منحرفاً عن الإمام عليّ (عليه السلام)، واشتهر ببغضه له (عليه السلام)، وتكلّم فيه جمع من كبار الأئمّة والأعلام وفي مقدّمتهم أبوه، فقد قال: " ابني عبـد الله يكذب "، حتّى قال ابن صاعد: " كفانا ما قال فيه أبوه ".
انظر: سير أعلام النبلاء 13 / 228 ـ 229.
أمّا طعن أبي حاتم في الحديث فلا يُعبأ به ; لتعنّته وتسرّعه في الطعن بغير دليل وبدون تورّع، فقد قال الذهبي فيه: " إذا ليّن رجلا، أو قال فيه: لا يُحتجّ به، فتوقّف حتّى ترى ما قال غيرُه فيه، فإنْ وثّقه أحدٌ، فلا تبنِ على تجريح أبي حاتم، فإنّه متعنّت في الرجال "، وقد نسب كتاباً للبخاري إلى نفسه، وما صنعه من أقبح الأشياء وأشـنعها!
راجع: سير أعلام النبلاء 13 / 260، طبقات الشافعية الكبرى ـ للسبكي ـ 2 / 225 ـ 226.
ثمّ إنّ طعن أبي حاتم معارَض برواية ابنه للحديث كما في الدرّ المنثور 3 / 117، والمعروف عند أهل الفنّ أنّ ابنه عبـد الرحمن أشهر من أبيه وأوثق وأعرف بالرواية والحديث والجرح والتعديل، ومن راجع مصنّفات ابنه كـ " الجرح والتعديل " و " علل الحديث " تبيّن له ذلك.
أقـول:
إن أُريد بمنع صحّته، أنّه لم يُروَ بسند صحيح، كذّبهم تصحيح الحاكم(1) وغيره له، حتّى إنّ الذهبي على نصبه، وابن حجر على تعصّبه، اعترفا بصحّـة كثير من طُرقه كما سـبق(2).
وإنْ أُريد عدم إفادته اليقين بالصدور، لعدم كونه متواتراً عندهم، فمتّجهٌ في الجملة من حيث حصول الشبهة في الإمامة عندهم.
ولكن الحقّ أنّه لا محلّ لمنع تواتره، لاستفاضة طرقه بينهم ـ فضلا عنّـا ـ استفاضة تُوجب أعلى مراتب التواتر عند من أنصف.
وقد اعترف السيوطي ـ كما عرفت ـ بتواتره، وكذلك ابن الجزري، حتّى نسـب منكِرَ تواتره إلى الجهل والتعصّب(3).
وأمّا عدم ذِكر البخاري ومسلم له فغير عجيب ; إذْ كم أهملا أخباراً صحيحة عندهم واسـتدركها أصحابهما.
ولسـتُ ألومُهمـا على إهمالهـما لهـذا الحـديث الصحيـح المتواتـر، لا لمجرّد عدم موافقته لمذهبهما، بل لرعاية ملوك زمانهما وهوى قومهما، والناس على دين ملوكهم!
وبهذا تعلم عذر السجستاني وأبي حاتم!
قال سُـنّيٌّ لشـيعيّ: ما لكم تنوحون على الحسين في كلّ وقت وقد
____________
(1) انظر: المسـتدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576 و 4577.
(2) راجع الصفحة 321 وما بعدها من هذا الجزء.
(3) راجع الصفحة 321 من هذا الجزء.
فقال: نخاف أن تُنكروا قتله ومظلوميّته كما أنكرتم بيعة الغدير!
الثاني: إنّ عليّـاً لم يكن يوم الغدير مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه كان باليمـن.
ويرد عليه: إنّ رجوعه من اليمن وحضوره الحجّ مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ممّا تضافرت به الأخبار، كما ستعرف بعضها في تحريم عمر للمتعتين، وقد عرفت إقرار ابن حجر بثبوت ذلك(1).
الثالث: إنّ أكثر رواته لم يرووا مقدّمة الحديث، وهي: " ألسـتُ أَوْلى بكم من أنفسكم؟! ".
وفيـه: إنّه لو سُلّم عدم ذِكر الأكثر لها، كفانا وجودها في الصحاح الكثيرة والأخبار المتضافرة، وقد نصَّ ابن حجر والذهبي والحاكم وغيرهم على صحّتها كما سـبق(2).
الرابع: إنّ " مَفْعَلَ " بمعنى " أفعلْ " لم يذكره أحدٌ من أئمّة العربية، مع أنّ الاستعمال على خلافه ; لجواز أن يُقال: هو أَوْلى من كذا، دون: مولى من كذا ; ولو سُلّم، فأين الدليل على أنّ المراد: الأَوْلى بالتصرّف والتدبيـر؟!
بل يجوز أن يراد الأَوْلى في أمر من الأُمور كما قال تعالى: ( إنّ
____________
(1) انظر الصفحة 321 من هذا الجزء، وراجع: الصواعق المحرقة: 64 الشبهة 11.
(2) انظر الصفحة 321 وما بعدها من هذا الجزء، وراجع: الصواعق المحرقة: 64 ـ 66، تذكرة الحفّاظ 3 / 1043، المستدرك على الصحيحين 3 / 118 ح 4576.
ولصحّة الاستفسار ; إذ يجوز أن يُقال: في أي شيء هو أَوْلى؟ أفي نصرته أو محبّته أو التصرّف فيه؟
ولصحّة التقسيم ; بأن يقال: كونه أَوْلى به، إمّا في نصرته، وإمّا في ضبط أمواله، وإمّا في تدبيره والتصرّف فيه.
وحينئذ لا يدلّ الحديث على إمامتـه.
هذا ما ذكره في " المواقف " وشرحها(3).
وفيه أوّلا: إنّ أبا عبـيدة فسّر " المولى " في قوله تعالى: ( مأواكم النار هي مولاكم )(4) بالأَوْلى بكم، كما حكاه عنه في " شرح التجريد " للقوشجي(5).
وثانياً: إنّ منْ يُفسّر " المولى " في الحديث بـ " الأَوْلى بالتصرّف " لم
____________
(1) سورة آل عمران 3: 68.
(2) القول بأنّ " مفعل " بمعنى " أفعل " لم يذكره أحد من أئمّة العربية مجازفة شنيعة، وتغافل بيّن، فقد قال به جمع كبير من الأعلام، كابن عبّـاس، وزيد بن عليّ، ومحمّـد بن السائب الكلبي، والفـرّاء، وأبي عبيـدة معمر بن المثنّى، وابن قتيبة، والمبرّد، وأبي العبّـاس ثعلب النحوي، والزجّاج، وغيرهم.
انظر: تفسير تنوير المقباس: 577، تفسير غريب القرآن: 408، العمدة ـ لابن بطريق ـ: 158 ـ 159، تفسير الفخر الرازي 29 / 228، رسالة في معنى المولى: 37، صحيح البخاري 6 / 259، شرح المعلّقات ـ للزوزني ـ: 148، تفسير الطبري 11 / 680، معالم التنزيل ـ للبغوي ـ 4 / 270، الكشّاف 4 / 64.
(3) المواقف: 405، شرح المواقف 8 / 361.
(4) سورة الحديد 57: 15.
(5) شرح تجريد الاعتقاد: 477.
بل أراد التفسير بحاصل المعنى، بقرينة مقدّمة الحديث، وهي قوله: " ألسـت أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟! ".
فإنّ هذه المقدّمة تدلّ على أنّ المراد بمولاهم: الأَوْلى بهم من أنفسهم، وهو عبارة أُخرى عن الأَوْلى بالتصرّف.
وإن شئت أن تُفسّر المولى بمالك الأمر، كما هو معناه الحقيقي، كان أحسن، فيكون معنى الحديث: منْ كنتُ مالكَ أمره لكوني أَوْلى به من نفسه، فعليٌّ مثلي مالك أمره، كقوله: " أيّما امرأةٌ نكحت بغير إذن مولاها "(1) أي مالك أمرها.
وكيف كان، فالنتيجة واحدة، وهي أنّ عليّـاً (عليه السلام) مالكُ أمرِ الأُمّة، وإمامُها، وأَوْلى بها من أنفسها في التصرّف، كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأمّا ما زعماه من جواز أن يُراد الأَوْلى في أمر من الأُمور غير التصرّف، وما زعماه من صحّة الاستفسار والتقسيم، فخطأٌ ظاهر ; لابتناء ذلك على إجمال الحديث.
وقد عرفت أنّ مقدّمته وغيرها من القرائن تدلّ على أنّ المراد
____________
(1) انظر: سنن أبي داود 2 / 235 ـ 236 ح 2083، سنن الترمذي 3 / 407 ـ 408 ح 1102، سنن الدارمي 2 / 96 ح 2180، مسند أحمد 6 / 47 و 66 و 166، مسند الحميدي 1 / 112 ح 228، سنن سعيد بن منصور 1 / 148 ـ 149 ح 528 و 529، مختصر المزني على كتاب الأُمّ 9 / 176، المعجم الأوسط 1 / 360 ح 877 و ج 6 / 337 ح 6352، المستدرك على الصحيحين 2 / 182 ح 2706، مجمع الزوائد 4 / 285.
كيف؟! ولو كان الحديث مجملا مع تلك القرائن، حتّى يدخله الاحتمال المذكور، ويجوز فيه الاستفسار والتقسيم، لكانت كلمة الشهادة أَوْلى بالإجمال ; لإمكان الاستفسار فيها بأنّ المراد هل هو: لا إله إلاّ الله في السماء أو في الأرض، أو: لا إله إلاّ الله في آسيا أو أُوربّا أو غيرهما.. إلى غير ذلك ; ولإمكان التقسيم أيضاً بنحو ذلك، وهذا لا يقوله ذو معرفة.
الخامس: إنّه لو سُلّم دلالة الحديث على إمامة عليّ (عليه السلام) فلا نُسلّم دلالته على كونها بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل، حتّى تنتفي إمامة الثلاثة.
وفيـه: إنّ هذا مكابرة ظاهرة، إذ كيف يترك النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في حال نصب إمام للمسلمين لحضور أجله ـ ذِكرَ ثلاثة وينصّ على مَنْ بعدهم، الذي يكون إماماً بعد خمس وعشرين سنة من وفاته؟!
ولو جاز ذلك، لكان جميع ولاة العهد محلّ كلام، إذ لا يقول السلطان: هذا وليُّ عهدي بلا فصـل ; بل على احتمالات القوم لو قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعليُّ مولاه بعدي ; لقالوا: لا منافاة بين البَـعْديّة والفصل بغيره، كما صنع القوشجي في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت وصيّي وخليفتي من بعدي(1).
بل لو قال: فعليُّ مولاه بعدي بلا فصل ; لقالوا: يُحتمل أن يكون المعنى بلا فصل من غير الثلاثة.
ولا عجب ممّن نشأ على التعصّب وحبّ العاجلة، وقال: إنّا وجدنا آباءنا على ملّة!
____________
(1) راجع: شرح تجريد الاعتقاد: 478 ـ 479.
فنقول: يظهر منه أنّ المراد بـ " المولى " في الحديث: المحبوب والمنصور ; لأنّه قال: " أراد أن يُوصيَ العرب بحفظ محبّة أهل بيته وقبيلته " إلى أن قال: " وساواه بنفسه في وجوب الولاية والنصرّة والمحبّة معه ; ليتّخذه العرب سـيّداً... " إلى آخره.
فإنّ هذا يقتضي أن يكون معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): منْ كنت مولاه فعليُّ مولاه، من كنت محبوبه أو منصوراً له، فعليُّ كذلك.
وفيـه ـ مع أنّ " المولى " لم يُستعمل بمعنى المحبوب والمنصور ـ:
إنّـك عرفت أنّ القرائن الحالية والمقالية تقـتضي إرادة مالك الأمـر كمـا هو واضح، حتّى ظهر الحقّ على لسان قلمه من حيث يريد إخفاءه، فإنّ مسـاواة عليّ بنفـس النبيّ في وجوب محبّـته ونصرته على الإطـلاق، لا تتـمّ إلاّ بثبوت منزلته له من الرئاسة العامّـة والعصمـة.
ولذا كانت النتيجة كما ذكرها الفضل أن يتّخذه العربُ سـيّداً.
وأمّا ما عرّض به من الإنصاف، فيا حبّذا لو سلك سبيله، فإنّه إذا أقرّ بجلافة أُولئك العرب وكفرهم بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واتّخاذهم الأنبياء فيهم كمسـيلمة وسجاحِ، فقد كان الأنسب بهم مخالفة النصّ الصريح واتّخاذ خليفة غير الخليفة الحقّ، ولا سيّما أنّ أبا بكر كان مستعيناً بظاهر الصحبة وتمويه الأقران.
وما أدري من أين فهم الفضل إرادة النبيّ الوصيّة بحفظ محبّة مطلق قبيلته، لولا عدم الإنصاف وكراهة تخصيص أمير المؤمنين (عليه السلام) بالفضل والنـصّ؟!
____________
(1) انظر: الصواعق المحرقة: 63 ـ 72.
3 ـ آيـة التطهيـر
قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):
الثالثـة: قوله تعالى: ( إنّما يُريد الله ليذهبَ عنكم الرجس أهل البيت ويطـهّركم تطهيـراً )(2).
أجمع المفسّـرون(3)، وروى الجمهـور، كأحمد بن حنبل وغيره، أنّها نزلت في [رسول الله و] عليّ وفاطمة والحسـن والحسـين(4).
____________
(1) نهج الحقّ: 173.
(2) سورة الأحزاب 33: 33.
(3) انظر مثلا: تفسير الطبري 10 / 296 ـ 298 ح 28485 ـ 28502، تفسير الحبري: 297 ـ 311 ح 50 ـ 59، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 3 / 529، تفسير الثعلبي 8 / 42 ـ 43، تفسير الماوردي 4 / 401، أسباب النزول ـ للواحدي ـ: 198، شواهد التنزيل 2 / 10 ـ 92 ح 637 ـ 774.
وسـيأتي ذِكر غير هذه المصادر في محالّها من البحث في ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره).
(4) مسـند أحمـد 1 / 331 و ج 3 / 259 و ص 285 و ج 4 / 107 و ج 6 / 292 و 304 و 323، فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 727 ـ 728 ح 994 ـ 996، وانظر: صحيح مسلم 7 / 130، سنن الترمذي 5 / 327 ـ 328 ح 3205 و ص 621 ح 3787 و ص 656 ـ 657 ح 3871، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 107 ـ 108 ح 8399، مسند البزّار 3 / 324 ح 1120، مسند أبي يعلى 7 / 59 ـ 60 ح 1223 ـ 1224 و ج 12 / 313 ح 6888 و ص 344 ح 6912 و ص 451 ح 7021 و ص 456 ح 7026، المعجم الكبير 3 / 52 ـ 56 ح 2662 ـ 2673 و ج 9 / 25 ـ 26 ح 8295 و ج 23 / 333 ـ 334 ح 768 ـ 771 و 773 و ص 337 ح 783، المعجم الأوسط 3 / 39 ح 2281 و ج 7 / 369 ح 7614، المعجم الصغير 1 / 65 و 135، مسند الطيالسي: 274 ح 2059، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 501 ح 39 ـ 40 و ص 527 ح 4، مسند عبـد بن حميد: 173 ح 475 و ص 367 ـ 368 ح 1223، التاريخ الكبير 8 / 25 رقم 205 كتاب الكنى، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 589 ح 1351، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 61 ح 6937، الكنى والأسماء ـ للدولابي ـ 2 / 121، الذرّيّة الطاهرة: 149 ـ 150 ح 192 ـ 194، نوادر الأُصول ـ للحكيم الترمذي ـ 2 / 108، مشكل الآثار 1 / 227 ـ 231 ح 770 ـ 785، الغيلانيات 1 / 264 ـ 265 ح 259، أخلاق النبيّ ـ لأبي الشيخ ـ: 115 ح 279، المستدرك على الصحيحين 2 / 451 ح 3558 ـ 3559 و ج 3 / 160 ح 4709، تاريخ أصبهان 1 / 143 رقم 95 و ج 2 / 223 رقم 1520، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 2 / 149 و ج 7 / 63، الاسـتيعاب 3 / 1100 رقـم 1855، مـوضّـح أوهـام الـجـمـع والـتـفـريـق ـ للخطيب البغدادي ـ 2 / 312 ـ 313 رقم 357، تاريخ بغداد 10 / 278 رقم 5396، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 254 ـ 257 ح 345 ـ 351، مصابيح السُـنّة 4 / 183 ح 4796، الشفا ـ للقاضي عياض ـ 2 / 48، تاريخ دمشق 13 / 202 ـ 207 و ص 268 ـ 270 و ج 14 / 137 ـ 148.
فيقول عليٌ وفاطمة والحسن والحسين: عليك السلام يا نبيّ الله ورحمة الله وبركاته.
ثمّ يقول: الصلاة رحمكم الله، إنّما يُريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ; ثمّ ينصرف إلى مصلاّه(1).
____________
(1) انظر: التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ 8 / 25 ـ 26 رقم 205 كتاب الكنى، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 3 / 56 ح 2672، مسـند عبـد بن حميد: 173 ح 475، تفسير الحبري: 308 ـ 309 ح 57، تفسير الطبري 10 / 296 ـ 297 ح 28491، تفسير الثعلبي 8 / 44، شواهد التنزيل 2 / 47 ـ 52 ح 694 ـ 702، مجمع الزوائد 9 / 121 و 168.