15 ـ آيـة المناجـاة
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
الخامسة عشرة: آية المناجاة ; لم يفعلها غير عليّ (عليه السلام).
قال ابن عمر: كان لعليّ ثلاثة، لو كانت لي واحدة منها كانت أحبُّ إليّ من حُمُر الـنَّـعَم: تزويجه بفاطمـة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجـوى(2).
____________
(1) نهج الحقّ: 182.
(2) تفسير الثعلبي 9 / 262، الكشّاف 4 / 76، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 277 ح 263، تفسير القرطبي 17 / 196، تذكرة الخواصّ: 27.
وقال الفضـل(1):
هذا من روايات أهل السُـنّة، وإنّ آية النجوى لم يعمل بها إلاّ عليٌّ، ولا كلام في أنّ هذا من فضائله التي عجزت الألسن عن الإحاطة بها، ولكن لا يدلّ على النصّ على إمامته.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 140.
وأقـول:
ينبغي أوّلا ذِكر بعض الأخبار الواردة من طرق القوم في نزول هذه الآية الكريمة، تيمّـناً بذِكر فضله (عليه السلام).
روى الحاكم في " المستدرك "(1)، في تفسير سورة المجادلة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: إنّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحد (قبلي)(2)، ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى: (يا أيّها الّذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة...)(3) الآية.
قال: كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكنت كلّما ناجيت النبيّ قدّمت بين يدي نجواي درهماً، ثمّ نُسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت: (أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات...)(4) الآيـة.
ثمّ قال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخـرّجاه ".
ولم يتعقّبه الذهبي بشيء.
ونقله السيوطي في " الدرّ المنثور " عن الحاكم أيضاً، وعن سعيد بن منصور، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وعبـد بن حميد، وابن المنذر،
____________
(1) ص 482 من الجزء الثاني [ 2 / 524 ح 3794 ]. منـه (قدس سره).
(2) لم ترد في المصدر.
(3) سورة المجادلة 58: 12.
(4) سورة المجادلة 58: 13.
ومثل هذا الحديث باختصار في تفسيرَي الزمخشري والرازي، وفي " أسباب النزول " للواحدي، وعن معالم البغوي، وتفسير الثعلبي، والطبري(2).
وقال السيوطي: " أخرج عبـد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: نُـهوا عن مناجاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى يقدّموا صدقة، فلم يناجه إلاّ عليّ بن أبي طالب، فإنّه قد قدّم ديناراً فتصدّق به، ثمّ ناجى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله عن عشر خصال، ثمّ نزلت الرخصـة "(3).
وقال السيوطي(4) أيضاً: " قال الكلبي: تصدّق به في عشر كلمات سألهنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "(5).
ثمّ نقل عن ابن عمر ما نقله المصنّـف (رحمه الله)(6).
.. إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى من طرقهم فضلا عن
____________
(1) الدرّ المنثور 8 / 84، وانظر: مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 505 ح 62 ـ 63، مسند عبـد بن حميد: 59 ـ 60 ح 90.
(2) تفسير الكشّاف 4 / 76، تفسير الفخر الرازي 29 / 272 ـ 273، أسباب النزول: 230، تفسير البغوي 4 / 283، تفسير الثعلبي 9 / 261 ـ 262، تفسير الطبري 12 / 20 ح 33788 ـ 33791.
(3) الدرّ المنثور 8 / 84، وانظر: مسـند عبـد بن حميد: 59 ـ 60 ح 90، تفسير مجاهد: 651.
(4) كذا في الأصل، وهو تصحيف، والصحيح: " الزمخشري " ; إذ إنّ هذا القول له دون السيوطي، ومنه يظهر ما يرتبط به من الفقرة التالية ممّا نُقل عن ابن عمر ; فلاحـظ!
(5) تفسير الكشّاف 4 / 76، وانظر: تفسير الكلبي 4 / 105.
(6) الكشّاف 4 / 76، وراجع ما مرّ في الصفحة 28 هـ 2 من هذا الجزء.
حتّى إنّ ابن تيميّة مع شدّة نصبه قال في ردّ " منهاج الكرامة ": " ثبت أنّ عليّـاً تصدّق وناجى، ثمّ نُسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره "(2)(3).
____________
(1) انظر: سنن الترمذي 5 / 379 ح 3300، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 152 ـ 153 ح 8537، تفسير الحبري: 320 ح 65، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 47 ـ 48 ح 6902 و 6903، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 3 / 640، ما نزل من القرآن في عليّ: 249، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 268 ـ 269 ح 372 و 373، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 276 ـ 277 ح 261 ـ 263، فرائد السمطين 1 / 357 ـ 359 ح 283 و 285، شواهد التنزيل 2 / 231 ـ 243 ح 949 ـ 967، الدرّ المنثور 8 / 83 ـ 85، كنز العمّال 2 / 521 ح 4651 و 4652، ينابيع المودّة 1 / 299 ـ 300 ح 1 ـ 4.
وانظر: الخصال: 574 ح 1 أبواب السبعين، مناقب آل أبي طالب 2 / 85، مجمع البيان 9 / 372، تفسير فرات الكوفي 2 / 469 ح 614 ـ 617، تفسير القمّي 2 / 336 ـ 337.
(2) منهاج السُـنّة 7 / 160.
(3) وأمّا ما نقله السيوطي، عن ابن أبي حاتم، عن مقاتل، قال: إنّ الأغنياء كانوا يأتون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكثرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتّى كره النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) طول جلوسهم ومناجاتهم، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة، فأمّا أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً، وكان ذلك عشر ليال، وأمّـا أهل الميسرة فمنع بعضهم ماله وحبس نفسه، إلاّ طوائف منهم جعلوا يقدّمون الصدقة بين يدي النبيّ، ويزعمون أنّه لم يفعل ذلك غير رجل من المهاجرين من أهل بدر، فأنزل الله تعالى (أأشـفـقـتم...) الآيـة [ الدرّ المنثور 8 / 84 ]..
فغير معتبر ; لِما عرفت في المقدّمة أنّ أحمد لا يعبأ بمقاتل بن حيّان، وأنّ وكيعاً كـذّبه [ انظر: ج 1 / 253 رقم 313 ]، فلا يُسمع خبره هذا في تصدّق الطوائف..
ومن عداوته لإمام المتّـقين تعبيره عنه بـ " رجل "! فلم يقدر أن يذكره باسمه الشريف في مقام اختصاصه بالفضيلة.
على أنّ الموجود في " أسباب النزول " للواحدي [ ص 230 ] أنّ مقاتلا قال: " وأمّا أهل الميسرة فبخلوا، واشـتدّ ذلك على أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فنـزلت الرخصة "، ولم يذكر اسـتثناءه للطوائف!
منـه (قدس سره).
فإنّ خبر سعد إنّما يدلّ على شـحّه، وعدم قيامه بالصدقة المطلوبة، لا على مناجاتـه، لذا نزلت الآية الأُخرى بعد قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) له: " إنّك لزهيد "، فكان ممّن أشفق وتعلّق به اللوم والإنكار.
هـذا، ولا ريب بدلالة الآية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)دون غيره ممّن يقدر على الصدقة من الصحابة، كالخلفاء الثلاثة ; وذلك لدلالتها على فضله عليهم، وعلى معصيتهم بما يقتضي عدم صلوحهم للإمامة، حتّى لو لم نعتبر العصمة في الإمام.
أمّا دلالتها على فضله، فلمسارعته للطاعة وعدم تساهله في طلب العلم، بخلاف غيره.
وأمّا على معصية من يقدر على الصدقة، فلقوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات)، فإنّه إنكار ولوم، وهو يقتضي المعصيـة.. وقوله تعالى: (فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم...)، فإنّ التوبة تسـتدعي المعصيـة.. وقوله تعالى: (فقدّموا بين يدي نجواكم
____________
(1) الدرّ المنثور 8 / 84، وانظر: المعجم الكبير 1 / 147 ح 331، مجمع الزوائد 7 / 122.
ومن الواضح أنّ المعصية بترك الصدقة اليسيرة، ذات المصلحة الكبيرة، الحاصلة بمناجاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأَكبر دليل على البخل والشحّ، ولذا عبّر سبحانه بالإشفاق ;، والبخيل لا يصلح للإمامة، لا سيّما بهذا البخـل.
وممّا صرّح ببخلهم ما حكاه المصنّف (رحمه الله) في " منهاج الكرامة "، عن أبي نعيم، عن ابن عبّـاس، قال: " إنّ الله حرّم كلام رسول الله إلاّ بتقديم الصدقة، وبخلوا أن يتصدّقوا قبل كلامه، وتصدّق عليٌّ، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره "(1).
وأُجيب عن إشكال معصيتهم، بضيق الوقت..
وفيـه: إنّه لو ضاق، لم يكن معنىً للنسخ، ولا للتوبة والإنكار بالإشفاق، على أنّ الوقت متّسع، وهو عشر ليال أو نحوها، بل الوقت الذي يتّسع لمناجاة أمير المؤمنين ـ ولو مرّةً ـ وتقديم صدقته، متّسع لمناجاة غيره معه وتقديم صدقـته!
ومن ذلك يظهر كـذب ما رووه من بذل أبي بكر لماله الكثير في سـبيل الله، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ما نفعني مال مثل ماله "(2).
____________
(1) منهاج الكرامة: 129، وآنظر: ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ: 249.
(2) سنن الترمذي 5 / 568 ـ 569 ح 3661، سنن ابن ماجة 1 / 36 ح 94، مسند أحمد 2 / 253 و 336، مسند الحميدي 1 / 121 ح 250، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 471 ح 5، مسند أبي يعلى 7 / 391 ـ 392 ح 4418 و ج 8 / 308 ح 4905، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 4 ح 6819.
وكذا يظهر أنّ عثمان لم يبذل ما بذل في جيش العسرة ـ كما زعموه ـ إلاّ للسمعة التي لم يكن يحسب أنّها تحصل في صدقة النجوى.
هـذا، وقد ذكر الرازي هنا ما يفيد العجب! قال:
" أقول: على تقدير أنّ أفاضل الصحابة وجـدوا الوقت وما فعلوا ذلك، فهذا لم يجرّ إليهم طعنـاً ; لأنّ ذلك الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق قلب الفقير، فإنّه لا يقدر على فعله(1) [ فيضيق قلبه ]، ويوحش قلب الغنيّ، فإنّه لمّا لم يفعل الغنيّ ذلك وفعله غيره، صار [ ذلك الفعل ] سبباً للطعن في من لم يفعل، فهذا الفعل لمّا كان سبباً لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء لم يكن في تركه كبير(2) مضرّة ; لأنّ الذي يكون سبباً للأُلفة أَوْلى ممّا يكون سـبباً للوحشة "(3).
وفيـه:
أوّلا: إنّ هذا يستلزم تخطئة الله سبحانه في الإيجاب أو الندب، وهو كـفر.
____________
(1) في المصدر "مثله".
(2) في المصدر: كبيرة.
(3) تفسير الفخر الرازي 29 / 273.
وثالثاً: إنّه يستلزم عذر الغني في ترك الحجّ والزكاة وجميع المطلوبات المالية ; لأنّ فعلها يضيق قلب الفقير ويوحش الغني.
ورابعاً: إنّه لا ضيق على قلب الفقير ; لعلمه بأنّه معذور عند الله وعند الناس، مع دخول فائدة عليه بالصدقة.
وخامساً: إنّ قوله: " لم يكن في تركه كبير مضرّة " إقرار بثبوت أصلها، وهو مناف لباقي كلامه، على أنّ إثبات أصلها إثبات للطعن!
ثمّ قال الرازي: " وأيضاً: فهذه المناجاة ليست من الواجبات، ولا من الطاعات المندوبة، بل قد بيّـنّا أنّهم إنّما كلّفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة، ولمّا كان الأَوْلى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سـبباً للطعن "(1).
وعليـه: فالطعن على أمير المؤمنين (عليه السلام) بفعل المناجاة ; لأنّه خلاف الأَوْلى.
وهذا لعمر الله هو النصب، والجور، والاسـتهزاء بآيات الله، والتلاعب بكتابه وأحكامه!!
وأيّ مسلم ينكر رجحان المناجاة بعد الصدقة؟! ولم يدّع أحد أنّ الداعي لوجوب الصدقة ترك المناجاة بالكلّـيّـة!!
على أنّك عرفت دلالة الآية على وجوب المناجاة فضلا عن اسـتحبابها.
____________
(1) تفسير الفخر الرازي 29 / 273.
ثمّ قال الرازي: " وأمّا قوله: (وتاب الله عليكم)، فليس في الآية أنّه تاب عليكم من هذا التقصير، بل يحتمل أنّكم إذا كنتم تائبين، راجعين إلى الله سبحانه وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، فقد كفاكم هذا التكليف "(1).
وكأنّه يرى أنّ الله تعالى قد أوكل إليه معاني الكتاب العزيز، وأن يُـحْدِث له معاني لا تنطبـق على ألفاظه، فإنّ الجملة الشرطية التي احتملها لا أثر لها في الآية أصلا، ولا تدلّ عليها بإحدى الدلالات.
وظاهر الآية أو صريحها هو التوبة عليهم من عدم فعلهم للصدقة.
وإنّ المعنى: فإذ لم تفعلوا ما أُمرتم به وتاب الله عليكم فلا تُخِلّوا بالواجبات الأُخر، وهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله.
ومن تأمّل في الحقيقة، وتدبّر في إيجاب عالِمِ الغيب للصدقة على مَن يعلم أنّهم لم يعملوا مع نسخه عنهم قريباً بعد فعل أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتّى أَنزل بذلك قرآناً يُتلى على مرور الأيّام، وأنكر على المسلمين إشفاقهم وبخلهم، علم أنّ المقصود كشف أحوال المسلمين وبيان فضل أميـرهم عليهم.
____________
(1) تفسير الفخر الرازي 29 / 274.
16 ـ آيـة: (واسأل مَن أَرسلنا...)
قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحـه ـ(1):
السادسة عشرة: روى ابن عبـد البرّ، وغيره من السُـنّة، في قوله تعالى: (واسأل مَن أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا)(2)، قال:
إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة أُسري به جمع الله بينه وبين الأنبياء، ثمّ قال له: سلهم يا محمّـد! على ماذا بُعثتم؟
قالوا: بُعثنا على شهادة أنْ لا إله إلاّ الله، وعلى الإقرار بنبوّتك، والولاية لعليّ بن أبي طالب(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 183.
(2) سورة الزخرف 43: 45.
(3) كما في عمدة عيون صحاح الأخبار: 414 ح 609 عن ابن عبـد البرّ، وانظر: معرفة علوم الحديث: 96، تفسير الثعلبي 8 / 338، شواهد التنزيل 2 / 156 ـ 158 ح 855 ـ 858، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 312 ح 312، تاريخ دمشق 42 / 241 ح 8754، كفاية الطالب: 75، تفسـير النيـسابوري 6 / 93، فرائد السمطين 1 / 81 ح 62، ينابيع المودّة 1 / 243 ح 19.
وقال الفضـل(1):
ليس هذا من رواية أهل السُـنّة، وظاهر الآية آب(2) عن هذا ; لأنّ تمام الآية: (واسأل مَن أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا أجعلنا مِن دون الرحمن آلهة يُعبدون...)(3).
والمراد: إنّ إجماع الأنبياء واقع على وجوب التوحيد ونفي الشرك.
هذا مفهوم الآية، وهذا النقل من المناكير، وإنْ صحّ فلا يثبت به النصّ الذي هو المدّعى ; لِما علمت أنّ الولاية تُطلق على معان كثيرة.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 145.
(2) أبى يأبى إباءً فهو آب وأبيٌّ وأَبَيانٌ ـ بالتحريك ـ: امتنعَ ; انظر: لسان العرب 1 / 54 مادّة " أبي ".
(3) سورة الزخرف 43: 45.
وأقـول:
نقل المصنّف في " منهاج الكرامة " هذا الحديث عن ابن عبـد البرّ، وعن أبي نعيم(1).
ونقل جماعة نحوه عن الثعلبـي، عـن ابن مسعـود، قـال: " قـال رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني ملك، فقال: يا محمّـد! واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بُعثوا؟
قلت: على ما بُـعثوا؟
قال: على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب "(2).
وفي " ينابيع المودّة "، في الباب الخامس عشر(3)، عن أبي نعيم، والحمويني، وموفّق بن أحمد، بأسانيدهم عن ابن مسعود، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لمّا عرج بي إلى السماء انتهى بي السير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة، فرأيت بيتاً من ياقوت أحمر، فقال جبرئيل: هذا البيت المعمور ; قم يا محمّـد فصلِّ إليه.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): جمع الله النبيّين، فصُفّوا ورائي صفّاً، فصلّيت بهم، فلمّا سلّمت أتاني آت من عند ربّي، فقال: يا محمّـد! ربّك
____________
(1) منهاج الكرامة: 130.
وانظر: عمدة عيون صحاح الأخبار: 414 ح 609 عن ابن عبـد البرّ، تنزيه الشريعة المرفوعة 1 / 397 ح 147 وقال: " لم يبيّن علّـته، وقد أورده الحافظ ابن حجر في (زهر الفردوس) من جهة الحاكم، ثمّ قال: ورواه أبو نعيم ".
(2) انظر: تفسير النيسابوري 6 / 93.
(3) ص 82 طبع إسلامبول [ 1 / 243 ـ 244 ح 19 ]. منـه (قدس سره).
فقلت: معاشر الرسل! على ماذا بعثكم ربّـكم قبلي؟
فقالت الرسل: على نبوّتك وولاية عليّ بن أبي طالب..
وهو قوله: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رُسُلنا...)(1)الآيـة.
ثمّ قال في " الينابيع ": رواه أيضاً الديلمي، عن ابن عبّـاس(2).
ثمّ قال: عن طلحة بن زيد، عن جعفر الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليّ، قال: " قال رسول الله: ما قبض الله نبيّاً حتّى أمره الله تعالى أن يوصي إلى أفضل عشيرته من عصبته، وأمرني أن أَوْصِ إلى ابن عمّك عليّ، أَثْـبَـتُّـهُ في الكتب السالفة وكتبت فيها أنّه وصيُّـك، وعلى ذلك أخذت مواثيق الخلائق، وميثاق أنبيائي ورسلي، وأخذت مواثيقهم لي بالربوبيّة، ولك يا محمّـد بالنبوّة، ولعليّ بالولاية والوصيّـة "(3).
ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) واضحة ; فإنّ بعث الرسل وأخذ الميثاق عليهم في القديم بولاية عليّ (عليه السلام)، وجعلها محلّ الاهتمام العظيم في قرن أَصْلَيِ الدين: الربوبية، والنبوّة، لا يمكن أن يراد بها إلاّ إمامة مَن له الفضل عليهم كفضل محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا سيّما مع عطف الوصية عليها في رواية طلحة، فلا يضرّ حينئذ إطلاق الولاية على معان
____________
(1) انظر: مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 312 ح 312، فرائد السمطين 1 / 81 ح 62.
(2) ينابيع المودّة 1 / 244 ذ ح 19.
(3) ينابيع المودّة 1 / 244 ح 20.
فإن قلت: لم تذكر الآية الكريمة النبوّة والإمامة، بل ولا الإرسال بشهادة أن لا إله إلاّ الله، فإنّها قالت: (أجعلنا)، ولم تقل: أأرسلناهم بالشهادة.
قلت: السؤال والاستفهام في الآية للتقرير ; بمعنى تقرير الرسل عن أمر استقرّ عندهم نَـفْـيُـهُ، وهو جعلُ آلهة من دون الرحمن يُـعبدون.
لكن لمّا كان المناسب لتقرير الرسل ـ بما هم رسل ـ، هو تقريرهم عمّا أُرسلوا به، كان الظاهر إرادة تقريرهم عن ذلك ـ بما هم رُسل ـ بنفيه، وهو راجع إلى الإرسال بالشهادة بالوحدانية، فصحّ ما أفادته الروايات من أنّ المراد بالآية السؤال عمّا بُعث به الرسل من الشهادة بالوحدانية.
ولمّا كان بعثهم بهذا معلوماً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ألبتّة، لم يحسن أن يراد أن يقـرّرهم به خاصّـة، بل ينبغي أن يراد تـقريرهم به بضميمـة ما لا يعلم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إقرارهم به ; لعدم علمه بإرسالهم عليه، وهو الذي ذكرته الروايات ; أعني إرسالهم على نبوّته وإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإنّما لم تذكره الآية الشريفة ; للاكتفاء بذِكر الأصل ; وهو البعث على الشهادة بالوحدانيـة.
كما إنّ بعض الروايات المذكورة اكتفت بذِكر نبوّة نبيّنا وإمامة وليّنا ; لأنّهما الداعي إلى السؤال والتقرير، مع وضوح بعثهم على الشهادة بالوحدانية ; لكونه الأصل، ولذِكر الآية له.
فما أعظم قدر نبيّنا الأطيب، وأخيه الأطهر، عند الله تبارك وتعالى! حتّى ميّزهما على جميع عباده، وأكرمهما ببعث الرسل الأكرمين على الإقرار بفضلهما، ورسالة محمّـد، وإمامة عليّ، وأخذ الميثاق عليهم بهما
أُولئك آبائي فجئني بمثلهم | إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ(1) |
____________
(1) البيت للفرزدق من قصيدة يفتخر بها ويردّ على جرير، مطلعها:
منّا الذي اخْتِـيرَ الرجالَ سماحةً | وخيْراً إذا هبَّ الرياحُ الزعازعُ |
انظر: ديوان الفرزدق 1 / 418، مقدّمة السيّد الشريف الرضي لنهج البلاغة: 35.
17 ـ آيـة: (وتعيها أُذنٌ واعيـة)
قال المصنّـف ـ نـوّر الله ضريحه ـ(1):
السابعة عشرة: قوله تعالى: (وتعيها أُذنٌ واعية)(2).
روى الجمهور أنّها نزلت في عليّ عليه أفضل الصلاة والسلام(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 183.
(2) سورة الحاقّـة 69: 12.
(3) انظر: أنساب الأشراف 2 / 363، تفسير الطبري 12 / 213 ح 34772 و 34773، تفسير الثعلبي 10 / 28، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 1 / 88 ح 345، حلية الأولياء 1 / 67، أسباب النزول: 245، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 233 ح 312 و ص 264 ـ 265 ح 363 و 364، شواهد التنزيل 2 / 271 ـ 284 ح 1007 ـ 1029، مــحــاضــرات الأُدبــاء 1 / 59 و ج 2 / 495، مــنــاقـب الإمـام عليّ (عليه السلام)ـ للخوارزمي ـ: 282 ـ 283 ح 276 و 277، كفاية الطالب: 109، تفسير النيسابوري 6 / 347، فرائد السمطين 1 / 198 ـ 199 ح 155، تفسير ابن كثير 4 / 414، شرح المقاصد 5 / 297، الدرّ المنثور 8 / 267.
وقال الفضـل(1):
روى المفسّـرون، أنّه لمّـا نزلت هذه الآيـة قال رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لعليّ (عليه السلام): " سألتُ الله أن يجعلها أُذُنَـك ".
قال عليٌّ: فما نسـيت بعد هذا شـيئاً(2).
وهذا يدلّ على علمه وحفظه وفضيلته، ولا يدلّ على النصّ بإمامته.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 154.
(2) تفسـير الطبري 12 / 213 ح 34771، تفسير الماوردي 6 / 80، الكشّاف 4 / 151، تفسير الفخر الرازي 30 / 108، تفسير القرطبي 18 / 171، تفسير البحر المحيط 8 / 322، تفسير ابن كثير 4 / 414، تفسير النيسابوري 6 / 347.
وأقـول:
لم يدلّ على علمه وفضيلته فقط، بل على أعلميّـته وأفضلـيّـته ; لدلالته على أنّ أُذن عليّ (عليه السلام) هي الواعية دون غيرها.
نعم، للمسلمين التذكرة فقط، قال تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أُذن واعية)(1)، فيكون هو الأحقّ بالإمامة.
وفي بعض الأخبار الآتية: " وحقٌّ على الله أن تعي "، وهو دالٌّ على وجوب أن يكون عليٌّ واعياً، إشارة إلى وجوب نصب الإمام الواعي على الله تعالى ; ولذا أمر الله سبحانه نبيّه بتعليمه ـ كما في الأخبار الآتية ـ فيكون عليٌّ هو الإمام وغيره مأموماً.
وكيف يكون مَن لا يعي والياً لأُمور المسلمين، وحاكماً في أُمور الدين، وواجب الطاعة، على من له الأُذن الواعية؟!
(أَفمَنْ يهدي إلى الحقّ أحقُّ أن يُتَّبعَ أمّن لا يَهِدِّي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون)(2).
ويقرّب إرادة خصوص عليّ من الآية إفراد الأُذن وتنكيرها، فإنّه دالٌّ على الوحدة.
كما صرّحت بإرادة عليّ (عليه السلام) الأخبار الكثيرة، فقد حكى السيوطي في " الدرّ المنثور "، عن ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن
____________
(1) سورة الحاقّـة 69: 12.
(2) سورة يونس 10: 35.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ: " إنّ الله أمرني أن أُدنيك ولا أُقصيك، وأن أُعلّمك وتعيَ، وحقٌّ لك أن تعيَ "(1)، فنزلت الآية.
ومثله في " أسباب النزول " للواحدي، إلاّ أنّه قال: " وحقٌّ على الله أن تعيَ "(2).
وعن الثعلبي: " وحقٌّ على الله أن تسمع وتعيَ "(3).
وفي " كنز العمّال "(4)، عن ابن عساكر: " وإنّ حقّاً على الله أن تعيَ " ونزلت: (وتعيها أُذن واعية)، قال: أُذُنٌ عقلت عن الله(5).
وحكى السيوطي أيضاً، عن أبي نعيم في " الحلية "، عن عليّ (عليه السلام)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " [ يا عليّ! ] إنّ الله أمرني أن أُدنيك وأُعلّمك لتعيَ "، فأُنزلت هذه الآية: (وتعيها أُذُنٌ واعية)، فأنت أُذُنٌ واعية لعلمي "(6).
ومثله في " كنز العمّال "(7)، عن أبي نعيم أيضاً.
ولا ينافي كون المراد بالأُذن الواعية، هي أُذنُ عليّ (عليه السلام)، أنّ أُذن الحسن والحسين أيضاً واعية ; وذلك لأنّهما منه وهو منهما، أو لأنّهما أُذن
____________
(1) الدرّ المنثور 8 / 267، وانظر: تفسير الطبري 12 / 213 ح 34772 و 34773، تاريخ دمشق 42 / 361.
(2) أسباب النزول: 245.
(3) تفسير الثعلبي 10 / 28.
(4) ص 398 من الجزء الثالث [ 13 / 135 ـ 136 ح 36426 ]. منـه (قدس سره).
(5) وانظر: تاريخ دمشق 48 / 217 رقم 5573.
(6) الدرّ المنثور 8 / 267، وانظر: حلية الأولياء 1 / 67.
(7) ص 408 من الجزء المذكور [ 13 / 177 ح 36525 ]. منـه (قدس سره).
18 ـ سـورة (هل أتى...)
قال المصنّـف ـ أعلى الله درجتـه ـ(1):
الثامنة عشرة: سورة (هل أتى...)(2).
روى الـجـمهـور أنّ الـحـسـن والـحـسـين مرضـا، فعـادهمـا رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعامّة العرب، فنذر عليٌّ صوم ثلاثة أيّام ـ وكذا أُمّهما فاطمـة، وخادمتهم فضّة ـ لـئن برئـا.
فبرئا وليـس عند آل محمّـد قليل ولا كثير، فاسـتقرض أمير المؤمنيـن (عليه السلام) ثلاثة أَصْوُع(3) من شعير، وطحنت فاطمة منها صاعاً، فخبزته خمسة أقراص، لكلّ واحد قرص.
وصلّى عليٌّ المغرب، ثمّ أتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه للإفطار، فأتاهم مسكين وسألهم، فأعطاه كلٌّ منهم قوته، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شـيئاً.
ثمّ صاموا اليوم الثاني، فخبزت فاطمة صاعاً آخر، فلمّا قدّمته بين أيديهم للإفطار، أتاهم يتيم وسألهم القوت، فتصدّق كلٌّ منهم بقوته.
فلمّا كان اليوم الثالث من صومهم وقُدّم الطعام للإفطار، أتاهم أسير
____________
(1) نهج الحقّ: 184.
(2) سورة الإنسان 76: 1 ـ 31.
(3) الأَصوع، جمع الصاع: وهو الذي يُكال به، ومقداره أربعة أمداد ; انظر: تاج العروس 11 / 290 مادّة " صوع ".
فرآهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فـي اليـوم الرابـع، وهم يرتعشون من الجوع، وفاطمـة (عليها السلام) قد التصق بطنها بظهـرها من شـدّة الجوع وغارت عيناها، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): وا غوثاه! يا الله! أهل محمّـد يموتون جوعاً!
فهبط جبرئيل فقال: خذ ما هنّـأك الله في أهل بيتك.
فقال: وما آخذ يا جبرئيل؟
فأقـرأه: (هل أتى)(1)(2).
____________
(1) سورة الإنسان 76: 1 ـ 31.
(2) الكشّاف 4 / 197، تفسير الحبري: 326 ح 69، العقد الفريد 4 / 77، تفسير الثعلبي 10 / 99 ـ 101، الإصابة 8 / 75 رقم 11628، أسباب النزول: 247، زين الفتى في شرح سورة هل أتى، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 237 ـ 238 ح 320، تفسير البيضاوي 2 / 552 ـ 553، تفسير النيسابوري 6 / 412، شواهد التنزيل 2 / 299 ـ 316 ح 1042 ـ 1061، تفسير البغوي 4 / 397، ربيع الأبرار 2 / 148، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 267 ح 250، تفسير الفخر الـرازي 30 / 244 ـ 245، أُسد الغابة 6 / 236 ـ 237 رقم 7202، مطالب السؤول: 127، تذكرة الخواصّ: 281، كفاية الطالب: 345 ـ 348، الرياض النضرة 3 / 180 و 208، المواقف: 411، روح المعاني 29 / 270.