50 ـ آيـة: (وقالوا حسـبنا الله ونِعم الوكيل)
قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):
الخمسـون: قوله تعالى: (وقالوا حسـبنا الله ونِعم الوكيل)(2).
قال أبو رافع(3): وجّه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّـاً [ في نفر معه ] في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة، فقال: إنّ القوم قد جمعوا لكم فاخشوهم.
فقالوا: حسـبُنا الله ونعم الوكيل(4).
____________
(1) نهج الحقّ: 198.
(2) سورة آل عمران 3: 173.
(3) هو أبو رافع القبطي، مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من قبط مصر، وقد اختُلِف في اسمه، فمنهم من قال: إبراهيم، ومنهم من قال: أسلم، وهو المشهور، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت.
كان مولىً للعبّـاس بن عبـد المطّلب، فوهبه للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ; أسلم بمكّة مع إسلام أُمّ الفضل، شهد أُحداً والخندق، زوّجه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مولاته سلمى، وقد اختلفوا في وفاته، فقيل: توفّي في زمان عثمان، وقيل: في خلافة الإمام عليّ (عليه السلام)، وهو الصواب، وقيل: توفّي بالكوفة سـنة أربعيـن للهجرة.
وكان ابنه عبيـد الله خازناً وكاتباً لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام).
انظر: الاستيعاب 1 / 83 ـ 84 رقم 34 و ج 4 / 1656 رقم 2948 باب الكنى، أُسد الغابة 1 / 93 رقم 118، تهذيب الكمال 21 / 218 ـ 219 رقم 7948، سير أعلام النبلاء 2 / 16 رقم 3.
(4) لباب النقول في أسباب النزول: 61، الدرّ المنثور 2 / 389.
وقال الفضـل(1):
الآية نزلت في بدر الصغرى(2) ; وذلك لأنّ أبا سفيان لمّا انقضى الحرب يوم أُحد، قال: " الموعد بيننا في بدر "، فلمّا كان في وقت الموسم، لم يسـتطع أبو سفيان أن يخرج ; لجدب السـنة، فأرسل نعيم بن مسعود(3) لِـيُـثـبّـط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من القتال، فجاء نعيم بن مسعود وخـوّف رسول الله وأصحابه، فقالوا: حسـبنا الله ونعم الوكيل(4).
وتتمّة الآية يدلّ على ما ذكرنا، فإنّه يقول: (الّذين قال لهم الناس)(5) وهو نعيم بن مسعود، (إنّ النـاس قد جمعـوا لكم) أي:
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 375.
(2) المقصود ببدر الصغرى هنا ; هي بدر الموعد، وسمّيت أيضاً بـ: بدر الثانية، وبدر الأخيرة، وغزوة السويق.
انظر: المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 384، تاريخ الطبري 2 / 87، الكامل في التاريخ 2 / 68، البداية والنهاية 4 / 72.
(3) هو: نُعَيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة الغطفاني الأشجعي، أسلم في وقعة الخنـدق، وهو الذي أوقع الخديعة في بني قريظة وغطفان وقريـش بإذن من رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الخندق، وكان رسولَ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ابن ذي اللِّحْية ; قيل: توفّي في زمان عثمان، وقيل: يوم الجمل قبل قدوم الإمام عليّ (عليه السلام) إلى البصـرة.
انظر: معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 5 / 2667 رقم 2871، الاستيعاب 4 / 1508 ـ 1509 رقم 2629، أُسد الغابة 4 / 572 رقم 5274، الإصابة 6 / 461 رقم 8785.
(4) الكشّاف 1 / 480، تفسير الفخر الرازي 9 / 102، روح المعاني 4 / 197.
(5) سورة آل عمران 3: 173.
هذا روايـة أهل السُـنّة، وإنْ صحّ ما رواه فلا يدلّ على المقصود، كمـا علمت.
وأقـول:
هذا أيضاً ممّا نقله في " كشف الغمّة " عن ابن مردويه(1).
ونقله عنه أيضاً السيوطي في " لباب النقول في أسباب النزول "، قال: أخرج ابن مردويه، عن أبي رافع، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وجّه عليّـاً (عليه السلام) في نفر معه [ في طلب أبي سفيان ]، فلقيهم أعرابي من خزاعة... وذكر تمام الحديث(2).
وهو كما ترى دالٌّ على شدّة توكّل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن معه على الله تعالى، وحُسن بصائرهم، وأنّ التخويف لم يزدهم إلاّ إيماناً ; ولذا مدحهم الله سبحانه في كتابه العزيز.
ومن المعلوم أنّ أفضلهم في ذلك عليّ (عليه السلام)، بل هو المراد فيه، وأصله ; لأنّه رئيسهم، وقائدهم، والمنظور إليه فيهم.
وأمّا تتمّة الآية الكريمة، فلا أعرف كيف تدلّ على ما ذكره الفضل دون إرادة عليّ (عليه السلام) ومن معه، والحديث الذي نقله ليس حجّة علينا حتّى يعارض خبر ابن مردويه.
____________
(1) كشف الغمّة 1 / 317.
(2) لباب النقول: 61.
51 ـ آيـة: (وكفى الله المؤمنين القتال)
قال المصنّـف ـ قـدّس سرّه ـ(1):
الحاديـة والخمسـون: قوله تعـالى: (وكفى الله المؤمنين القـتال)(2).
في قراءة ابن مسعود: بعليّ بن أبي طالب(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 199.
(2) سورة الأحزاب 33: 25.
(3) ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ: 172، تفسير الماوردي 4 / 391، شواهد التنزيل 2 / 3 ـ 5 ح 629 ـ 632، تاريخ دمشق 42 / 360، كفاية الطالب: 234، ينابيع المودّة 1 / 283 ـ 284 ح 7 و 8.
وقال الفضـل(1):
ليس هذا من القراءات المتواترة، والشيعة يعدّونها من الشواذّ، وإنْ صحّ، دلّ على فضيلته لا على إمامته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 378.
وأقـول:
هذا وإنْ لم يكن من المتواترات، إلاّ أنّه ليس من الشواذّ ـ أعني قراءة التابعين ـ، بل من الآحاد، وهي القراءات الثلاث، وقراءة الصحابي، كما حكى هذا الاصطلاح السيّد السعيد (رحمه الله) عن " إتقان " السيوطي، عن القاضي جلال الدين البلقيني(1).
ولا مستند للفضل في النقل عن الشيعة، إلاّ كونها ليست من القراءات السبع المدّعى تواترها، وهو كما ترى.
وقد ذكر هذه القراءة السيوطي في " الدرّ المنثور "، قال: أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، عن ابن مسعود، أنّه كان يقرأ هذا الحرف: (وكفى الله المؤمنين القتال) بعليّ بن أبي طالب(2).
ويشهد لهذه القراءة ما رواه الحاكم(3)، عن يحيى بن آدم، قال: " ما شـبّهت قتلَ عليّ عَمْراً إلاّ بقول الله عزّ وجلّ: (فهزموهم بإذن الله وقتل داودُ جالوتَ)(4).
____________
(1) إحقاق الحقّ 3 / 378 ـ 380، وانظر: الإتقان في علوم القرآن 1 / 211.
(2) الدرّ المنثور 6 / 590، وانظر: تاريخ دمشق 42 / 360.
هـذا، وقد صرّح ابن تيميّة بأنّ لابن أبي حاتم لسان صدق، وأنّ تفسيره خال من الموضوعات، ومتضمّن للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسـير، وبأسانيد معروفـة.
انظر: منهاج السُـنّة 7 / 13 و 178 ـ 179.
(3) في كتاب المغازي من المستدرك، ص 34 من الجزء الثالث [ 3 / 36 ح 4330 أ ]. منـه (قدس سره).
(4) سورة البقرة 2: 251.
ولولا أن يكفيهم الله تعالى القـتال بعليّ لاندرسـت معالم الإسلام ; لضعـف المسـلمين ذلـك اليـوم وظهـور الوهـن عليـهـم ; ولـذا قـال رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لَضربةُ عليّ خيرٌ ـ أو: أفـضل ـ من عبـادة الثـقلين "، كما رواه في " المواقف " وغيـرها(1).
وفي رواية الحاكم في " المستدرك "(2): " لمبارزة عليّ لعمرو [ بن ودّ يوم الخندق ] أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة ".
فلا محالة يكون أفضلهم وأَوْلاهم بالإمامة ; لكشف ذلك عن زيادة علمه ومعرفته وتمام بصيرته، حتّى استحقّ مدح الله تعالى له في كتابه المجيد، وأنّى لغيره مثل ذلك؟!
____________
(1) المواقف: 412، شرح المقاصد 5 / 298، السيرة الحلبية 2 / 642 ـ 643.
قال ابن تيميّة في منهاج السُـنّة 8 / 109 رداً على هذا الحديث: "كيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين؟!... ".
فردّ عليه الحلبي في السيرة الحلبية 2 / 643 بقوله: " لأنّ قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان للكافرين ".
(2) ص 32 من الجزء الثالث [ 3 / 34 ح 4327 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: تاريخ بغداد 13 / 19 رقم 6978، شواهد التنزيل 2 / 8 ـ 9 ح 636، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 106 ـ 107 ح 112، تاريخ دمشق 50 / 333 رقم 5858، تفسير الفخر الرازي 32 / 32 تفسير سورة القدر، فرائد السمطين 1 / 255 ـ 256 ح 197، كنز العمّال 11 / 623 ح 33035.
52 ـ آيـة: (واجعل لي لسان صدق في الآخِرين)
قال المصنّـف ـ أجزل الله ثوابـه ـ(1):
الثانية والخمسون: قوله تعالى: (واجعل لي لسانَ صدق في الآخرين)(2).
هو عليٌّ، عُرضت ولايته على إبراهيم (عليه السلام) فقال: اللّهمّ اجعله من ذرّيّتي ; ففعل الله ذلك(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 199.
(2) سورة الشعراء 26: 84.
(3) أرجح المطالب: 71، وانظر: كشف الغمّة 1 / 320 عن ابن مردويه.
وقال الفضـل(1):
مفهوم الآية: إنّ إبراهيم سأل من الله تعالى أن يُجعل له ذِكرٌ جميلٌ بعد وفاته، وهو المراد من " لسان الصدق "، وحمل " لسان الصدق " على عليّ بعيـدٌ بحسـب المعنى.
والشـيعة لا يبالـون مـن مثـل ذلـك، ويذكـرون كـلّ ما يسـمعون، ولا دليل لهم في ما يفترون.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 381.
وأقـول:
إطلاق " لسان الصـدق " على الذِكر الجميل إنّما هو من باب الكـناية أو المجاز، فلا يبعد صدقه من هذه الباب على الولد الصالح الذي به الفخر والذِكر الخالد، ولا مُرجّح للأوّل.
وقد حكى الرازي في أحد تأويلات " لسان الصدق "، أنّ المراد به بعثة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، فليس هذا النحو من التفسير من خواصّ الشيعة، بل زعم القوم ما هو أبعد منه، كما نقله الفضل في الآية الأربعين(2).
وأمّا دلالتها ـ بناءً على ذلك المعنى ـ على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)فمن وجهين:
الأوّل: إنّها صرّحت بعرض ولايته على إبراهيم (عليه السلام)، وليس هو إلاّ لكون ولايته مطلوبة لله سبحانه، قديماً وحديثاً، وهو أعظم دليل على فضلـه وإمامتـه.
ويعضده ما سبق في الآية السادسة عشرة، وهي قوله تعالى: (واسـأل مَن أرسـلنا مِن قـبلك مِن رُسُلنا...)(3) الآيـة، من أنّ الأنبياء (عليهم السلام) بُعثوا على الشهادتين وولاية عليّ (عليه السلام)(4)..
وفي الآية الثالثة والثلاثين، وهي قوله تعالى: (وإذ أخذ ربُّك من
____________
(1) تفسير الفخر الرازي 24 / 150.
(2) راجع الصفحة 196 من هذا الجزء.
(3) سورة الزخرف 43: 45.
(4) راجع الصفحة 38 من هذا الجزء.
الثاني: دعاء إبراهيم (عليه السلام) أن يجعله الله من ذرّيّته، فإنّه أظهرُ شيء في فضله وشدّة إيمانه وعظمته عند الله عزّ وجلّ، حتّى كان فخراً وشرفاً لإبراهيـم (عليه السلام) ; ومن كان كذلك فلا بُـدّ أن يكون سـيّد أُمّة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)وإمامهـم.
وهذه الرواية المفسّرة " لسان الصدق " بأمير المؤمنين (عليه السلام) نقلها في " كشف الغمّة " عن ابن مردويه، ورويت عن إمامنا الصادق (عليه السلام)(3).
____________
(1) سورة الأعراف 7: 172.
(2) راجع الصفحة 149 من هذا الجزء.
(3) كشف الغمّة 1 / 320.
53 ـ سـورة العصر
قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):
الثالثة والخمسون: (والعصر * إنّ الإنسان لفي خسـر)(2)، يعني: أبا جهل، (إلاّ الّذين آمنوا)(3): عليٌّ وسلمان(4).
____________
(1) نهج الحقّ: 199.
(2) سورة العصر 103: 1 و 2.
(3) سورة العصر 103: 3.
(4) ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ: 278، شواهد التنزيل 2 / 372 ح 1154، الدرّ المنثور 8 / 622.
وقال الفضـل(1):
هذا تفسير لا يصحّ أصلا ; لأنّ الإنسان إذا أُريد به أبو جهل، يكون الاسـتثناء منقطعاً(2)، ولم يقل به أحد..
وإنْ كان الاستثناء متّصلا(3)، لا يصحّ أن يُراد بالإنسان أبو جهل، فالمراد منه أفراد الإنسان على سـبيل الاسـتغراق.
وعلى هذا: لا يصحّ تخصيص المؤمنين بعليّ وسلمان ; فإنّ غيرهم من المؤمنين ليسـوا في خُسر.
وهذا الرجل يعلف كلّ نبت، ولا يُـفرّق بين السُّمّ والحشـيـش!
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 383.
(2) الاسـتثناء المنقطع: هو ما كان المسـتثنى ليـس من جنـس ما اسـتُـثني منه، نحو: احترقت الدار إلاّ الكـتبَ، وهو يفيد الاسـتدراك لا التخصيص ; لأنّـه اسـتثناء من غير الجنـس.
انظر: جامع الدروس العربية 3 / 123.
(3) الاسـتثناء المتّـصل: هو ما كان من جنـس المسـتثنى منه، نحو: " جاء المسافرون إلاّ سعيداً "، وهو يفيد التخصيص بعد التعميم ; لأنّـه اسـتثناء من الجنـس.
انظر: جامع الدروس العربية 3 / 123.
وأقـول:
ذكر الرازي في المراد بالإنسان قولين، قال:
" الثاني: إنّ المراد منه شخص معيّن..
قال ابن عبّـاس: يريد جماعة من المشركين، كالوليد(1)، والعاص(2)، والأسود(3).
____________
(1) هو: الوليد بن المغيرة بن عبـد الله بن عمر بن مخزوم، يكنّى أبا عبـد شمس، كان من حكّام قريش وزعمائها، ومن زنادقتها، ومن المستهزئين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمشاركين في هدم الكعبة، هلك مشركاً، وذلك لمروره برجل من خزاعة يريش نبلا له، فوطئ على سهم منها فخدشه، ثمّ أومأ جبريل إلى ذلك الخدش بيده فانتفض، ومات على أثر هذا الخدش بعد الهجرة بثلاثة أشهر وهو ابن خمس وتسعين سنة، ودفن بالحجون، فأوصى إلى بنيه أن يأخذوا ديته من خزاعة، فأعطت خزاعة ديته.
انظر: الكامل في التاريخ 1 / 592 ـ 593، تاريخ اليعقوبي 1 / 312 و 344، البداية والنهاية 3 / 84 و 85 و 96 و 185، تاريخ الطبري 1 / 526 و ج 2 / 9.
(2) هو: العاص ـ أو: العاصي ـ بن وائل السهمي، وهو والد عمرو، كان أحد الحكّام في الجاهلية، أدرك الإسلام، وظلّ على الشرك، ويُعدّ من المستهزئين، ومـن الزنادقـة، وهو القـائل لمّـا مـات القاسـم ابن النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ محمّـداً أبتـر لا يعيش له ولد ذكر ; فأنزل الله: (إنّ شانـئك هو الأبتر).
مات لمّا ركب حماراً له، فلمّا كان بشعب من شعاب مكّة ربض به حماره، فلُدغ في رجله، فانتفخت حتّى صارت كعنق البعير، فقالوا: لدغته الأرض، فمات منها بعد هجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثاني شهر دخل المدينة، وهو ابن خمس وثمانين سنة.
انظر: الكامل في التاريخ 1 / 593 ـ 594، تاريخ اليعقوبي 1 / 344، البداية والنهاية 3 / 84 و 85 و 96 و 185، تاريخ الطبري 2 / 9.
(3) هو: الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبـد العزّى بن قصي، يكنّى أبا زمعة، من المستهزئين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان وأصحابه يتغامزون بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه ويقولون: " قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر " ويصفّرون به ويصفّقون، فدعا عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُعمى ويثكل ولده، فجلس في ظلِّ شجرة فجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها وبشوكها حتى عَمِيَ، ومات والناس يتجهّزون إلى معركة أُحد، وهو يحرّض الكفّار وهو مريض ; وقُتل ابنه معه ببدر كافراً، قتله أبو دجانة الأنصاري (رضي الله عنه).
انظر: الكامل في التاريخ 1 / 595، تاريخ اليعقوبي 1 / 344، البداية والنهاية 3 / 85.
وحينئذ: يكون الاستثناء منقطعاً بالضرورة، كما صرّح به النيشابوري(2)، فإنكار الفضل للقول به كما ترى.
وأمّا قوله: " لا يصحّ تخصيص المؤمنين بعليّ وسلمان ; فإنّ غيرهم من المؤمنين ليسـوا في خُسر "، فمن قلّة التأمّل..
قال الرازي: " ها هنا احتمالان:
الأوّل: في قوله تعالى: (لفي خُسر)(3) أي: في طريق الخُسر، وهذا كقوله في آكل أموال اليتامى: (إنّما يأكلون في بطونهم ناراً)(4) لمّا كانت عاقبته النار.
الاحتمال الثاني: إنّ الإنسان لا ينفكّ عن خُسر ; لأنّ الخسر هو تضييع رأس المال، ورأسُ مالِه هو عُمُره، وهو قلّما ينفكّ عن تضييع عمره ; وذلك لأنّ كلّ ساعة تمرّ بالإنسان، فإن كانت مصروفة إلى المعصية
____________
(1) تفسير الفخر الرازي 32 / 87 ـ 88.
(2) تفسير النيسابوري 6 / 559.
(3) سورة العصر 103: 2.
(4) سورة المائدة 4: 10.
وإن كانت مشغولة في المباحات، فالخسران أيضاً حاصل ; لأنّه كما ذهب لم يبق منه أثر، مع أنّه كان مُتمكّناً من أن يعمل فيه عملا يبقى أثره دائماً..
وإن كانت مشغولة في الطاعات، فلا طاعة إلاّ ويمكن الإتيان بها أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك ; لأنّ مراتب الخضوع والخشوع غير متناهية، فإنّ مراتب جلال الله وقهره غير متناهية، وكلّما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر، فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتمّ وأكمل، وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوعُ خسران "(1).
وحينـئذ: فعلى الاحتمالين يكون اسـتثناء عليّ وسلمان دليلا على فضلهما على من سواهما، وعصمتهما دون غيرهما من الأُمّة، ولا ريب أنّ عليّـاً (عليه السلام) أفضل من سلمان، فيتعيّن للإمامـة.
____________
(1) تفسير الفخر الرازي 32 / 88 ـ 89.
54 ـ آيـة: (وتواصوا بالصبـر)
قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):
الرابعة والخمسون: قال تعالى: (وتواصوا بالصبر)(2).
قال ابن عبّـاس: هو عليّ (عليه السلام)(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 199.
(2) سورة العصر 103: 3.
(3) شواهد التنزيل 2 / 370 ـ 372 ذ ح 1153 عن ابن عبّاس و ح 1154 عن أُبيّ بن كعب، تفسير القرطبي 20 / 123، وانظر: كشف الغمّة 1 / 320 عن ابن مردويه.
وقال الفضـل(1):
أنت خبير بأنّ الصبر صفة من الصفات، وليس هو من الأسامي حتّى يُراد شخص، وهذا قريب من السابق.
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 385.
وأقـول:
مراد ابن عبّـاس: إنّ من تواصوا بالصبر عليٌّ (عليه السلام)، لا أنّ نفس الصبر عليّ، كما هو واضح.
وعبّر سبحانه عن عليّ بصيغة الجمع، إعظاماً له، وبياناً لكمال صبره، وأنّ صبره بمنزلة صبر جميع المؤمنين المتواصين به ; لشدّة ما يلزم نفسه به، فلا يقع منه خلاف الصبر الذي هو صبران ; صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية ; فيكون أفضل الأُمّـة، ومعصومها، وإمامها.
55 ـ آيـة: (والسابقون الأوّلون)
قال المصنّـف ـ طاب مرقده ـ(1):
الخامسة والخمسون: قوله تعالى: (والسابقون الأوّلون)(2).
عليٌّ وسلمان(3).
____________
(1) نهج الحقّ: 200.
(2) سورة التوبة 9: 100.
(3) انظر: شواهد التنزيل 1 / 254 ـ 255 ح 342 ـ 344.
وقال الفضـل(1):
المراد بالسابق: إنْ كان السابق في الإسلام، فسلمان ليس كذلك.
وإنْ كان السابق في الأعمال الصالحات، فغيره من الصحابة هكذا.
ولا صحّة لهذا النقل، وهو من تفاسـير الشـيعة(2).
____________
(1) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 3 / 388.
(2) بل أخرجه الحسكاني كما تقـدّم وابن مردويه كما سـيأتي.
وأقـول:
هذا أيضاً ممّا حكاه في " كشف الغمّة " عن ابن مردويه(1).
ثمّ إنّه لا مانع من اختيار الشقّ الأوّل ; فإنّ سلمان كان مؤمناً بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة، مُـتطلّباً لمعرفة مبعث النبيّ قبل رؤياه كما هو مذكور في خبر إسلامه(2).
وقال ابن حجر في " الإصابة " بترجمة سلمان: " كان قد سمع بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سـيُبعث، فخرج في طلب ذلك فأُسِر، وبِـيع بالمدينة، فاشـتغل بالرقّ "(3).
وقال السيوطي في " لباب النقول "، عند قوله تعالى من سورة الزمر: (والّذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها)(4): " أخرج ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم، أنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهليّة يقولون: " لا إله إلاّ الله " ; زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذرّ الغفاري، وسلمان الفارسي "(5).
____________
(1) كشف الغمّـة 1 / 320.
(2) انظر: الاستيعاب 2 / 634 ـ 638 رقم 1014، حلية الأولياء 1 / 185 ـ 208 رقم 34، تاريخ بغداد 1 / 163 ـ 173 رقم 12، سير أعلام النبلاء 1 / 505 ـ 557 رقم 91، الإصابة 3 / 141 ـ 142 رقم 3359.
(3) الإصابة 3 / 141 رقم 3359.
(4) سورة الزمر 39: 17.
(5) لباب النقول: 184 ـ 185.
.. إلى غير ذلك ممّا هو مستفيض الرواية، الدالّ على سبق إسلام سلمان، أو إقراره بالوحدانية(2).
ولا ينافيه ما يُروى أنّ إسلامه عندما جاء إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدقة فلم يقبلها، ثمّ أتاه بهديّة فقبلها، ثمّ رأى خاتم النبوّة فأسلم ; لأنّ هذا إنّما هو لتعيين النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشخصه، لا لأنّه لم يؤمن به إلاّ حينئذ، فيكون من السابقين الأوّلين.
لكنّ أمير المؤمنين أفضل منه سبقاً، وأشدّ منه يقيناً، وأقدم منه في الصلاة، كما هو معلوم بالضرورة، ولِما تقدّم من أنّ عليّـاً (عليه السلام) سابق هذه الأُمّة وصدّيقها ; فيكون أفضلها، وأَوْلاها بالإمامـة(3).
ولا مانع أيضاً من اختيار الشقّ الثاني ; فإنّ سلمان من المعصومين السابقين في الأعمال الصالحة، كما تدلّ عليه الآية الثالثة والخمسون(4).
ويؤيّده ما رواه القوم عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: " إنّ الجنّة اشتاقت إلى ثلاثة: عليّ وعمّار وسلمان ".. رواه الترمذي وحسّنه، والحاكم وصحّـحه(5).
____________
(1) أسباب النزول: 205.
(2) انظر الهامش رقم 2 من الصفحة السابقة.
(3) راجع مبحثَي آيـة: (والسابقون السابقون) في الصفحة 18 وما بعدها، وآيـة: (أُولئـك هُـمُ الصِّـدّيقون)، في الصفحة 92 وما بعدها، من هذا الجـزء.
(4) راجع مبحث سورة العصر، في الصفحة 248 من هذا الجزء.
(5) سنن الترمذي 5 / 626 ح 3797، المستدرك على الصحيحين 3 / 148 ح 4666.
وانظر كذلك: تفسير القرطبي 10 / 119، البداية والنهاية 7 / 248، مجمع الزوائد 9 / 117 و 118، كنز العمّال 11 / 639 ح 33112.
قيل: يا رسول الله! سَـمّهم لنا.
قال: عليٌّ منهم ـ يقول ذلك ثلاثاً ـ، وأبو ذرّ، والمقداد، وسـلمان "(1).
فإذا كان عليٌّ وسلمان سابقَي الأُمّة في صالح الأعمال ومعصومَيها، ولا شكّ أنّ عليّـاً أعظم من سلمان في الوصفين، فقد تعيّن للإمامة، وتعيّـنت له(2).
____________
(1) سنن الترمذي 5 / 594 ح 3718، الاستيعاب 2 / 636 رقم 1014 و ج 4 / 1482 رقم 2561.
وانظر كذلك: مسند أحمد 5 / 351 و 356، فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 2 / 857 ح 1176، المستدرك على الصحيحين 3 / 141 ح 4649، حلية الأولياء 1 / 172 رقم 28 و ص 190 رقم 34.
(2) ولا ريب أنّ أمير المؤمنين أحبّ الأربعة إلى الله كما يدلّ عليه الحديث الأخير، وأفضلهم عملا بمقدار فضله عليهم ; فيكون هو الإمام.
وأمّا ما نقله السيوطي في " الدرّ المنثور " [ 4 / 269 ]، عن ابن مردويه، عن ابن عبّـاس، (والسابقون الأوّلون من المهاجرين)، قال: " أبو بكر، وعمر، وعليّ، وسلمان، وعمّار ".. فمكذوب عندنا، وغير حجّة علينا [ حتّى ] لو صحّ سـنده عندهم، بل هو كذب عندهم ; لأنّـه لم يذكر عثمان، وهو من السابقين الأوّلين عندهم، كما أنّ عمر لم يكن من السابقين في الإسلام وبالإجماع!
منـه (قدس سره).
نـقـول: وحتّى أبو بكر لم يكن من السابقين في الإسلام، فقد أسلم قبله أكثر من خمسـين!! انظر: تاريخ الطبري 1 / 540.