وأقـول:
من أعجـب العجـب أن يكذب هذا الرجل، وينسـب الكذب إلى آيـة الله المصنّف (رحمه الله)، وشدّد النكير عليه وعلى علمائنا أهل الصدق والأمانة.
وإذا أردت أن تعرف كذبه، فراجع " المسند "، ص 111 من الجزء الأوّل، تجد الحديث مشـتملا على لفظ " خليفـتي ".
وهكذا نقله في " كنز العمّال "(1)، عن " المسند "، وعن ابن جرير، قال: " وصحّـحـه "، وعن الطحاوي، والضياء في " المختارة "، التي حكى في أوّل " الكنز "(2) صحّة جميع ما فيها عن السيوطي في ديباجة " جمع الجوامـع ".
ونقل في " الكنز " أيضاً(3) هذا الحديث بقصّة طويلة، عن ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهـقي، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخره: " قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيّـكم يؤازرني على أمري هذا؟
____________
1- ص 396 من الجزء السادس [ 13 / 128 ـ 129 ح 36408 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: تهذيب الآثار 4 / 60 ح 5، شرح معاني الآثار 3 / 284 ـ 285 و ج 4 / 387.
2- كنز العمّال 1 / 9.
3- ص 397 من الجزء المذكور [ 13 / 133 ذ ح 36419 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: تهذيب الآثار 4 / 62 ح 127، دلائل النبوّة ـ لأبي نعيم ـ 2 / 425 ح 331، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 2 / 179 ـ 180.
فأخذ برقبتي، فقال: إنّ هذا أخي ووصيّـي وخليفـتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا!
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ ".
ونقل هذا الحديث الطبري في " تاريخه "(1)، وابن الأثير في " الكامـل "(2).
وحكى في " كـنز العمّـال "(3)، عـن ابن جرير حديثـاً آخر، قال النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه مثل قوله الأوّل: " هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ".
وحكى ابن أبي الحديد في " شرح النهج "(4)، عن أبي جعفر الإسـكافي، أنّـه قال: وروي في الخبـر الصحيـح أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّف عليّـاً (عليه السلام) في مبدأ الدعوة أن يصنع طعاماً ويدعو له بني عبـد المطّلب، فصنع له طعاماً ودعاهم له..
ثمّ ضمن لمن يؤازره، وينصره على قوله، أن يجعله أخاه في الدين، ووصيّه بعد موته، وخليفته من بعده; فأمسكوا كلّهم وأجابه هو وحده، فقال لهم: هذا أخي ووصيّي، وخليفتي مِن بعـدي.
____________
1- ص 217 من الجزء الثاني [ 1 / 542 ـ 543 ]. منـه (قدس سره).
2- ص 28 من الجزء الثاني [ 1 / 585 ـ 586 ]. منـه (قدس سره).
3- ص 392 من الجزء المذكور [ 13 / 114 ح 36371 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: تهذيب الآثار 4 / 62 ح 127.
4- ص 263 من المجلّد الثالث [ 13 / 210 ـ 211 ]. منـه (قدس سره).
وهذه الأخبار كلّها اشـتملت على لفظ " الخليفة ".
ونقل في " الكنز "(1)، عن ابن مردويه خبراً آخر، اشتمل على لفظ " الولاية "، قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومدّ يده: " من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي وولـيّـكم من بعدي؟ ".
فمددت يدي، وقلت: أنا أُبايعك! فبايَـعَـني على ذلك.
وأنت تعلم أنّ المراد بالولاية ـ هنا ـ هو المراد بالخلافة، بقرينة ما سـبق، وقوله: " مِـن بعـدي "، فإنّ النصرة والحبّ لا يختصّان بما بعـد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما تختصّ به الخلافـة.
وأعجب من الفضلِ ابنُ تيميّة! حيث أنكر وجود أصل الحديث في الصحاح والمسانيد(2) عند ذِكر المصنّف (رحمه الله) له في " منهاج الكرامة "(3)، مع ما عرفت من رواية أحمد بن حنبل له في " المسند " وغير أحمد ممّن عرفـت(4).
نعم، أقرّ بوجوده في تفسير ابن جرير والبغوي والثعلبي وابن أبي حـاتم، لكـنّه ناقـش في إسـناد كلّ منهم(5) بما مـرّ جوابه إجمالا في
____________
1- ص 401 من الجزء المذكور [ 13 / 149 ح 36465 ]. منـه (قدس سره).
2- منهاج السُـنّة 7 / 299.
3- منهاج الكرامة: 147 ـ 148.
4- انظر الصفحـة 23 هـ 3 و 4 من هذا الجزء.
5- منهاج السُـنّة 7 / 300 ـ 303; وانظر: تهذيب الآثار 4 / 60 ح 5 و ص 62 ح 127، تفسير الطبري 9 / 483 ـ 484 ح 26806، تفسير البغوي 3 / 341 ـ 342.
مع أنّه قد اسـتفاضت الطرق وقـوّى بعضها بعضاً، وحكموا بصحّة بعضها كما سمعت، فلا محلّ للمناقشة.
على أنّ مناقشـته في سـند رواية الثعلبي إجمالـيّة مردودة عليه، إلاّ مـع البيـان.
ومناقشـته في سـند رواية ابن أبي حاتم(2)، إنّما هي باشـتماله على عبـد الله بن عبـد القـدّوس، وهو قد ضعّـفه الدارقطني(3).
وقال النسائي: ليـس بثقة(4).
وقال ابن معين: ليـس بشيء، رافضي خبيث(5).
وفـيـه:
إنّ تضعيف هؤلاء معارض بما في " تقريب " ابن حجر: إنّه
____________
1- راجـع: ج 1 / 27 من هذا الكـتاب.
2- ناقض ابن تيميّة نفسه بمناقشـته هذه، فإنّـه قد مدح ابن أبي حاتم وتفسـيره، مصرّحاً بأنّ لابن أبي حاتم لسان صدق، وأنّ تفسيره خال من الموضوعات، ومتضمّن للمنقولات التي يُعتمـد عليها في التفسـير، وبأسـانيد معـروفـة!
انظر: منهاج السُـنّة 7 / 13 و 178 ـ 179.
3- الضعفاء والمتروكين: 114 رقم 320.
4- الضعفاء والمتروكين ـ للنسائي ـ: 145 رقم 337.
5- تهذيب التهذيب 4 / 382 رقم 3536، وقال ابن معين في معرفة الرجال 1 / 76 رقم 207: " قال: وسمعت يحيى وسئل عن عبـد الله بن عبـد القدّوس، فقال: شيخ كان يَـقْـدَم الريّ، لا أعرفه.
وقال في " تهذيب التهذيب ": قال محمّـد بن عيسى: ثقـة(2).
وذكره ابن حبّـان في " الثقات "(3).
وقال البخاري: وهو في الأصل صدوق، إلاّ أنّه يروي عن أقوام ضعـاف(4).
مع أنّـه أيضاً من رجال " سـنن الترمذي "(5).
ولا ريب أنّ مدح هؤلاء مقدّم على قدح أُولئك; لعدم العبرة بقدح أحد المتخالفين في الدين بالآخر من غير حجّة، بخلاف مدحه له; فإنّ الفضل ما شهدت به الأعداء.
وعبـد الله هذا قد زعموه من الشـيعة، وإن كنّا لا نعرف الرجل في الشـيعة! ولعلّه لمّا روى في فضل آل محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) نسبوه إلى الرفض والخبث!!
وغمزه ابن عديّ بقوله: عامّة ما يرويه في فضائل أهل البيت(6).
____________
1- تقريب التهذيب 1 / 510 رقم 3457.
2- تهذيب التهذيب 4 / 382 رقم 3536.
3- الثقات 7 / 48.
4- تهذيب التهذيب 4 / 382 رقم 3536.
5- وضع له ابن حجر في " تهذيب التهذيب " رمز " خت. ت "، والأوّل إشارة إلى رواية البخاري عنه في صحيحه في التعاليق، والثاني إشارة إلى رواية الترمذي عنـه، ثمّ قال: " أخرج له أبو داود حديثاً في كـتاب الفتن ".
انظر: سنن الترمذي 4 / 429 ح 2212 كتاب الفتن ـ باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، سنن أبي داود 4 / 100 ح 4266 كتاب الفتن ـ باب كـفّ اللسان.
6- الكامل في الضعفاء 4 / 198 رقم 1008، على أنّه نقل توثيق محمّد بن عيسى الترمذي له في الصفحة 197!!
كما لا يُعتبر ـ أيضاً ـ طعنهم في أبي مريم عبـد الغفّار بن القاسم، راوي حـديث ابن جرير والبغوي، على ما ذكره ابن تيميّة(1); لأنّه ـ كما في " ميزان الاعتدال " ـ من الشـيعة، ولا سـيّما قد شهد بحقّه الذهبيّ أنّـه كان ذا اعتـناء بالعلم وبالرجال(2).
وأمّـا ما نسـبه الفضل إلى ابن الجوزي، فلا يبعد أنّـه من كذباته، وإلاّ لنسـبه إليه في " كنز العمّال " بالنسبة إلى بعض الأحاديث التي نقلناها عنه، فإنّ عادته أن يروي عن كـتاب " الموضوعات "(3).
وأيضاً لم يذكره السيوطي في " اللآلئ المصنوعة " المأخوذة من كتاب
____________
1- منهاج السُـنّة 7 / 302.
2- ميزان الاعتدال 4 / 379 ـ 380 رقم 5152.
نـقـول: إنّ أبا مريم عبـد الغفّار بن القاسم ليس بمجمَع على تركه، بل هو مختلَـف فيه، ونقلوا عن غير واحد مدحه وتوثيقه..
قال الحافظ ابن حجر: " قال أبو حاتم: ليس بمتروك، وكان من رؤساء الشـيعة، وكان شعبة حسن الرأي فيه.
وقال شعبة: لم أر أحفظ منه ".
انظر: تعجيل المنفعة: 397 رقم 665.
وقال ابن عديّ: " سمعت أحمد بن محمّـد بن سعيد ـ يعني: ابن عقدة ـ يثني على أبي مريم ويطريه، وتجاوز الحدّ في مدحه حتّى قال: لو انتشر علم أبي مريم وخـرّج حديثه لم يحتج الناس إلى شعبة... ولعبـد الغفّار بن القاسم أحاديث صالحة... ويُـكـتب حديثه مع ضعفه ".
انظر: الكامل في ضعفاء الرجال 5 / 327 ـ 328 رقم 1479.
وراجـع: تشـييد المراجعات وتفنيد المكابرات 3 / 187 ـ 188.
3- راجع الصفحة 24 من هذا الجزء.
ولو صحّت النسبة إلى ابن الجوزي، فلا عبرة بكلامه; لأنّه أيضاً طرف النزاع.
وأمّـا ثناؤه على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد تأبّط به شرّاً; لأنّ قصده به أن يروّج كذبه وإنكاره لِما رواه المصنّف (رحمه الله)، وترتفع عنه تهمة النصب; وهيهات أن يخفى حاله وقد أنكر الواضحات!
أَتُـراه يفعل ذلك لو كانت الرواية في ما يؤيّـد طريقـتـه؟!
ثمّ إنّ من جملة الحديث الذي ذكره المصنّف (رحمه الله) في " منهاج الكرامة "، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بني عبـد المطّلب وهم أربعون رجلا(1)، فجعل ابن تيميّة ذلك طريقاً للطعن في الحديث، بدعوى عدم بلوغهم في ذلك الوقت إلى هذا القدر(2).
وفيـه: إنّه لو سُلّم فلا يبعد أن المراد ببني عبـد المطّلب: ما يشمل بني المطّلب; لاختصاصهم بهم حتّى كأنّهم منهم; ولذا كانوا معهم في حصار الشعب.
ويشهد له ما في " كامل " ابن الأثير، حيث إنّه لمّا نقل الحديث قال: حضروا ومعهم نفر من بني المطّـلب(3).
ولو سلّم أنّ المرادَ خصوصُ بني عبـد المطّلب، فغاية ما يلزم منه خطأ الراوي أو مبالغتـه في عددهم، وهو لا ينافي صحّـة أصل الواقعـة
____________
1- منهاج الكرامة: 147.
2- منهاج السُـنّة 7 / 304.
3- الكامل في التاريخ 1 / 584.
ومنه أيضاً يُعلم ما في طعن ابن تيميّة في الحديث، من حيث اشـتماله على أنّ الرجل منهم كان يأكل الجَذَعة(1)، ويشرب الفَرَق(2)، مدّعياً أنّهم لم يكونوا معروفين بمثل هذه الكثرة من الأكل والشرب(3); وذلك لأنّ غاية ما يلزم منه مبالغة الراوي، أو الخطأ في ذلك، وهو غير ضارّ في صحّـة أصل الواقعة(4).
على أنّ عدم معروفـيّتهم به لا تدلّ على العدم، لا سـيّما وقد كان الكثير من قريش كذلك، كما تشهد به كـتب التاريخ(5).
____________
1- الجَذَعة ـ والجمع: جَـذَعات ـ: الأُنثى الصغيرة السـنّ من الإبل والخيل والبقر والضأن والمعز، ولا يقال لها جذعة في الإبل إلاّ إذا أتمّت أربعة أعوام ودخلت في السـنة الخامسة، وفي الخيل إذا اسـتتمّ الفرس سـنتين ودخل في الثالثة، وكذا في البقر، وفي الضأن إذا أتمّت سـنة وقيل: ثمانية أو تسعة أشهر، وفي المعز إذا أتمّت سـنة من عمرها.
انظر: لسان العرب 2 / 219 ـ 220 مادّة " جذع ".
2- الفَرَقُ ـ بالتحريك ـ: مكيال يسع سـتّة عشر رطلا، وهي اثنا عشر مُدّاً، وثلاثة أصوع عند أهل الحجاز; وقيل الفَرَق: خمسة أقساط، والقسط: نصف صاع; فأمّا الفَـرْق ـ بالسكون ـ: فمئة وعشرون رطلا، وفيه الحديث: " ما أسْـكَرَ منه الفَرَقُ فالحُسـوةُ منه حـرام ".
انظر: لسان العرب 10 / 248 مادّة " فرق ".
3- منهاج السُـنّة 7 / 306.
4- نـقـول: المراد هنا: بيان إعجاز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم); إذ شـبع هؤلاء القوم ورووا وعددهم أربعون رجلا، وحالهم في الأكل والشرب ما تقـدّم ذِكره آنفاً، من ذاك الطعام القليل!!
5- انظر: العقد الفريد 3 / 405 ـ 406، ربيع الأبرار 2 / 682 و 737، المستطرف 1 / 180 ـ 181.
وفيـه: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل إنّ هذا علّة تامّة للخلافة بعده، حتّى تلزم خلافة كلّ مَن فعل ذلك وإن لم يكن من عشـيرته، بل أراد بأمر الله إنذار عشـيرته وترغيبهم; لأنّهم أَوْلى به وبنصرته، فلم يجعل هذه المنزلة إلاّ لهم..
ولـيُعلم من أوّل الأمر أنّ هذه المنزلة لعليّ (عليه السلام) خاصّة; فإنّ الله سبحانه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلمان أنّه لا يجيب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤازره تماماً إلاّ عليّ (عليه السلام)، فكان ذلك من باب تثبيت إمامته، وإلقاء الحجّة على قومه.
وحينئذ، فلا يصحّ فرض تعدّد المجيبين للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم); ولو صحَّ ووقع، لعيّن النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الأَوْلى والأحـقّ.
هـذا، وقد صرّحت بالخلافة لعليّ (عليه السلام) أخبار أُخر..
منها: ما سـبق في الآية السادسة والثلاثين في سـبب نزول سورة النجـم(2).
ومنها: ما سـيأتي في بعض أحـاديث الـثِّـقْـلَـين.
ومنها: ما في " المواقف "، في مبحث الإمامة، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه
____________
1- منهاج السُـنّة 7 / 306 ـ 307.
2- انظر مبحث سورة النجم في ج 5 / 170 ـ 176 من هذا الكـتاب.
وأجاب عنه هو والشارح بأمرين:
الأوّل: إنّه معارَض بالنصوص الدالّـة على إمامة أبي بكر(3).
وفيـه: إنّـه لو سُـلّم وجودها ودلالتـها فليسـت حجّـة علينا; لأنّها مـن أخبارهم الخاصّـة بهم(4)، بل هي من الكـذب المسلّم; لإقرارهم بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يُخلّـفه(5).
الثاني: منع صحّة الحديث; للدليل القاطع على عدم النصّ الجليّ; لأنّه لو وُجد لتواتر، ولعارض عليٌّ أبا بكر في الإمامة، ولصلابة الأصحاب في الدين; فكيف لا يتّبعون النصّ المبين؟!(6).
ويَرِدُ على الأوّل: إنّ حصول التواتر مشروط بعدم الشبهة، وهي
____________
1- المواقف: 406.
2- شرح المواقف 8 / 363.
3- المواقف: 406، شرح المواقف 8 / 363.
4- كان ابن حزم ممّن اعترف بهذا وقـرّره، فقد قال ما نصّـه:
" لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدّقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم، فنحن لا نصدّقها; وإنّما يجب أن يحتـجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجّة به، سواء صدّقه المحتـجّ أو لم يصدّقه; لأنّ من صدّق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير حينئذ مكابراً منقطعاً إنْ ثبت على ما كان عليه ".
انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 12.
5- ومن المقـرّين بذلك القاضي الإيجي والشريف الجرجاني.
انظر: المواقف: 400، شرح المواقف 8 / 354.
6- المواقف: 404، شرح المواقف 8 / 359.
وهل تبقى شبهة مع نصّ الكتاب العزيز بانحصار الولاية بالله ورسوله وأمير المؤمنين، ونصّ حديث الغدير والمنزلة والثقلين، وغيرها، فإنّها متواترة، ونصٌّ في إمامته ـ ولو بمجموعها ـ لو أنصفوا؟!
ولو سُلّم أنّها ليسـت نصّـاً جلـيّـاً، ولا متواترة معنىً بإمامته (عليه السلام)، فالمطالبة بتواتر ما هو أجلى منها ليسـت في محلّها; للصوارف عنه، فإنّ عامّة قريش وكثيراً من الأنصار في الصدر الأوّل أعداءُ أمير المؤمنين، فمنهم غاصبٌ له، ومنهم معينٌ على غصبه، ومنهم راض به، والباقي رعاع وسوقة إلاّ القليل، والقليل لا يقدر على بيان النصّ الجليّ، خوفاً من الأُمراء، بل حتّى الكثير يخاف منهم!
ولذا خفي أمر الغدير، فاحتاج أمير المؤمنين بعد زمن قريب إلى الاسـتشهاد بمن بقي من الصحابة، مع أنّه لم يشهد له بعضُهم، عداوةً له فأصابته دعوتُـه، كما سـبق(1).
ولو فُرض إمكان بيان النصّ الكامل في الصدر الأوّل، فلا ريب بعدم إمكانه أيّام معاوية والشجرة الملعونة; لأنّهم أوجبوا سـبّ إمام المتّقين، وتـتـبّـعوا بالقتل والحبـس من روى له فضيلة، أو رأى له فضلا(2)!
____________
1- انظر: ج 4 / 328; وانظر حديث من أصابته الدعوة في: جمهرة النسب 2 / 395، المعارف ـ لابن قتيبة ـ: 320، أنساب الأشراف 2 / 386، تاريخ دمشق 9 / 375 ـ 376، شرح نهج البلاغة 4 / 74 و ج 19 / 217 ـ 218، الصواعق المحرقة: 198، فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 1 / 663 ح 900، حلية الأولياء 5 / 26 ـ 27، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 74 ح 33، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 378 ح 396، مجمع الزوائد 9 / 106.
2- روى أبو الحسن المدائني في كتاب " الأحداث "، قال: كـتب معاوية نسـخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة، أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته; فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّـاً ويبرأُون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة; لكـثرة مَن بها مِن شـيعة عليّ (عليه السلام)، فاسـتعمل عليهم زياد بن سميّة وضمّ إليه البصرة، فكان يتتبّع الشـيعة وهو بهم عارف; لأنّه كان منهم أيّام عليّ (عليه السلام)، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.
وكـتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق، ألاّ يجيزوا لأحد من شـيعة عليّ وأهل بيته شهادة...
إلى أن قال: ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: أُنظروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّـاً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقِطوا عطاءه ورزقه; وشفع ذلك بنسخة أُخرى: مَن اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به، واهدموا داره; فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق... إلى آخـره.
انظر: شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 11 / 44 ـ 45.
وقال محمّـد بن بحر الـرُّهْني: لُعن عليُّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) على منابر الشرق والغرب.
انظر: معجم البلدان 3 / 215 (سجسـتان).
ولا أعجب من طلب حصول التواتر بالنصّ الجليّ عند قوم يخالف مذهبـهم، مـع اهـتمام علمائهـم لدنيـاهم في نقصـه وإثبات مفضولـيّته، وأنّ تمام مناصب سلاطينهم وأُمرائهم بإنكار النصّ عليه وعلى الأئمّة من وُلـده!
ويَـرِدُ على دعوى معارضته لأبي بكر: إنّها ممنوعةٌ وظاهرةُ
.. إلى غير ذلك ممّا صدر من أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما عرفت بعضه في المبحث الرابع من مباحث الإمامـة(2).
ويَـرِدُ على دعوى صـلابة الأصحـاب في الدين: إنّها محلّ تأمّل، ولا سـيّما بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولنسأل عنها قوله تعالى: { أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم }(3)..
وسورة براءة، المسمّاة بالفاضحة; لأنّها فضحت أكثر الصحابة(4)..
وقوله تعالى: { وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها... }(5)، حيث تركوا الواجب ولم يبالوا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وانفضّوا للّهو والتجارة، ولم يبـق معه إلاّ النادر(6)..
____________
1- انظر: صحيح البخاري 5 / 288 ح 256، تاريخ الطبري 2 / 236، تاريخ اليعقوبي 2 / 11، الكامل في التاريخ 2 / 194.
2- راجـع: ج 4 / 261 وما بعدهـا و ص 280 وما بعـدها من هذا الكـتاب.
3- سورة آل عمران 3: 144.
4- انظر: تفسـير الماوردي 2 / 336، تفسـير البغوي 2 / 224، تفسـير الكشّاف 2 / 171، زاد المسـير 3 / 294، تفسـير الفخر الرازي 15 / 223، تفسير القرطبي 8 / 40، تفسـير البيضاوي 1 / 394، تفسـير النسفي 2 / 114، تفسـير الخازن 2 / 198، تفسير النيسابوري 3 / 427، الدرّ المنثور 4 / 120 ـ 121، فتح القدير 2 / 331.
5- سورة الجمعة 62: 11.
6- روي أنّه لم يبق في المسجد إلاّ اثنا عشر رجلا، وقيل أقلّ من ذلك; انظر مثلا: الدرّ المنثور 8 / 165 ـ 167.
ولنسأل أحاديث الحوض، التي حكم بعضها بارتداد جلّ الصحابة، وأنّهم إلى النار، ولم يَسلم منهم إلاّ مثلُ هَمَـل الـنَّـعَم(2)..
.. إلى غيرها من الأخبار التي لا تحصى، وسـيمرّ عليك بعضها إن شاء الله تعـالى.
وقد أجاب القوشجي في " شرح التجريد " عن الخبر الذي حكيناه عن " المواقف " بعد ذِكر نصير الدين (رحمه الله) له(3)، فقال:
" وأُجيب بأنّه خبرٌ واحدٌ في مقابلة الإجماع، ولو صحّ لَما خفي على الصحابة والتابعين، والمهرة المتقنين من المحدّثين، سـيّما عليّ وأولاده الطاهرين; ولو سُلّم، فغايته إثبات خلافته لا نفي خلافة الآخرين "(4).
ويشكل بمنع الإجماع، كما مرّ في المبحث الرابع، وبيّـنّـا أنّه لم يَـخْـفَ على الصحابة(5)، ولكن أخفوه عن عمد، كحديث الغـدير(6).
وكذا أخفاه مَن عَلِمَ به من غير الصحابة، عداوة لعليّ (عليه السلام)، أو خوفاً
____________
1- كقوله تعالى: {إذ جاءُوكم مِن فوقِكم ومِن أسفلَ منكم وإذ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ وتظُـنّون بالله الظُّنونا * ... ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلاّ قليلا} سورة الأحزاب 33: 10 ـ 20.
2- راجـع: ج 2 / 27 و ج 4 / 212 ـ 213 وتخريج حديث الحوض فيهما، من هذا الكـتاب.
3- تجريد الاعتقاد: 231، وانظر: المواقف: 406.
4- شرح تجريد الاعتقاد: 478 ـ 479، وانظر الصفحة 35 من هذا الجزء.
5- راجـع: ج 4 / 249 و 279 وما بعدهـا من هذا الكـتاب.
6- راجـع: ج 1 / 19 ـ 21 من هذا الكـتاب.
وأمّا دعوى خفائه على أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين; فمخالفةٌ لِما تواتر عنهم من حصول النصّ عليه بالخلافة، ولِما ظهر من أحوالهم في تضليـل الأوّلَيـن، فكم صرّحوا ولوّحوا بالنصّ من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فما زاد مخالفيهم إلاّ عداوةً وإعراضاً عن الحـقّ!
وأمّا إنكار دلالته على نفي خلافة الآخرين; فمكابرةٌ للضرورة; إذ أيّ دليل أصرح في نفيها من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " خليفتي مِـن بعدي "؟!
ولو كان التقييد بقوله: " مِن بعدي " غير دالّ على ذلك، لم تثبت خلافة أحد بلا فصل بالنصّ!
وليت شعري! ما بال وصيّـة أبي بكر لعمر كانت نصّـاً في خلافته له بلا فصل دون وصيّة النبيّ لأمير المؤمنين، وهي ليسـت بأصرحَ منها في الدلالة على عدم الفصل، وكذا وصايا سائر السلاطين لولاة عهدهم، كما سـبق في الآية الثانية من الآيات التي ذكرها المصنّـف (رحمه الله)(2)؟!
ومِـن جملة الأخبار المصرّحة بخلافة أمير المؤمنيـن (عليه السلام)، ما في " ميزان الاعتدال " بترجمـة عبـد الله بن داهر، حيث ذكر أنّه روى بسـنده عـن ابن عبّـاس: " سـتكون فتنة، فمن أدركها فعليه بالقرآن وعليّ بن أبي طالـب.
قال: فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) [ وهو آخذٌ بيد عليّ ] يقول: هذا أوّل مَن آمن بي، وأوّل مَن يصافحني، وهو فاروق هذه الأُمّة،
____________
1- راجـع: ج 4 / 288 وما بعـدها من هذا الكـتاب.
2- راجـع: ج 4 / 348 من هذا الكـتاب.
قال في " الميزان ": قال ابن عديّ: عامّة ما يرويه في فضائل عليّ، وهو متّـهم في ذلك(2).
وقال في " الميزان " أيضاً: قال العقيلي: رافضي خبيث.
وقال أحمد ويحيى: ليـس بشيء(3).
وأقـول:
إذا كان جفاؤهم وقولهم في راوي ما ورد في أخي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ونفسِه، فكيف يطلبون أن يتواتر النصّ عليه بما هو أجلى من ذلك؟!
وليت شعري! لِـمَ كان عندهم مَن روى له فضيلة رافضيّاً خبيثاً متّهماً، ومَن روى فضيلة لمشايخهم ثقة صادقاً معتمَداً في صحاحهم، وصاحب سُـنّة، وإنْ كفّره سـيّد النبيّـين (صلى الله عليه وآله وسلم)، كالخوارج والنصّاب؟! وقال سـبحانه: { إن جاءكم فاسقٌ بنبـإ فـتبـيّـنوا... }(4).
____________
1- ميزان الاعتدال 4 / 93 رقم 4300; وانظر: المعجم الكبير 6 / 269 ح 6184، الاستيعاب 4 / 1744 رقم 3157، تاريخ دمشق 42 / 41 ـ 43، كفاية الطالب: 187، مجمع الزوائد 9 / 102، كنز العمّال 11 / 612 ح 32964 و ص 616 ح 32990، أُسد الغابة 5 / 270 رقم 6207.
2- ميزان الاعتدال 4 / 93 رقم 4300، وانظر: الكامل في ضعفاء الرجال 4 / 229 رقم 1046.
3- ميزان الاعتدال 4 / 92 رقم 4300، وانظر: الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ 2 / 250 رقم 804، كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ لأحمد ـ 2 / 602 رقم 3859.
4- سورة الحجرات 49: 6.
نـقـول: لم يكن هناك سـبب لجرح راوي الحديث عبـد الله بن داهر، إلاّ النصب والتعصّب، وإلاّ فإنّهم لم يُـجمِعوا على جرحه، فإنّ منهم من وثّـقه، فقـد قال الخـطيـب البغـدادي مـا نصّـه: " قـرأت فـي أصـل كـتاب أبي الحسـن بـن الفـرات ـ بخطّـه ـ: أخبرنا محمّـد بن العبّـاس الضبّي الهروي، حدّثنا يعقوب بن إسـحاق ابن محمود الفقيه، أخبرنا صالح بن محمّـد الأسدي، قال: عبـد الله بن داهـر بن يحيى الأحمـري الرازي، شـيخٌ صـدوق ".
انظر: تاريخ بغـداد 9 / 453 رقم 5085.
هذا، فضلا عن أنّ صحاحهم ملأى من رجال الشـيعة; إذ إنّ أكـثر محدّثيهم وحفّاظهم يأخذون برواية الشـيعي، إذا كانوا يرونه ثقة صدوقاً في نقله، سـواء كان ممّن يتكلّم في معاوية وأمثاله، أو في عثمان ورهطه، وحتّى في الشـيخين وأصحابهما; وكذا الرفض فضلا عن التشـيّع غير مضـرّ بالوثاقـة.
انظر: هدي الساري مقـدّمة فتح الباري: 544 الفصل 9.
وقد توسّع السـيّد عليّ الحسـيني الميلاني في إيراد آراء علماء العامّـة في أصحاب المذاهب من رجال الحديث، في كـتابه: تشـييد المراجعات وتفنيد المكابرات 1 / 41 ـ 54 و ج 3 / 135 ـ 171; فراجــع!