11 ـ حـديث: برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه
قال المصنّـف ـ طاب رمسـه ـ(1):
الحادي عشر: روى الجمهور: أنّه لمّا برز إلى عمرو بن عبـد ودّ العامري في غزاة الخندق، وقد عجز عنه المسلمون، قال النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " بـرز الإيمانُ كـلُّـه إلى الشركِ كـلِّـه "(2).
____________
1- نهج الحقّ: 217.
2- شرح نهج البلاغة 13 / 261 و 285، حياة الحيوان الكبرى ـ للدميري ـ 1 / 274، ينابيع المودّة 1 / 281 ح 2 و ص 284 ضمن ح 7.
وقال الفضـل(1):
إنّـه صـحّ هذا أيضاً في الخبر، وهذا أيضاً من مناقبـه وفضائـله التي لا ينكرها إلاّ سقيمُ الرأي، ضعيفُ الإيمان، ولكنّ الكلام على النصّ، وهذا لا يثبتـه.
____________
1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 7 / 435.
وأقـول:
لمّا جعل رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّـاً كلَّ الإيمان، دلّ على أنّه قِوامُه، وأنّه أفضلُ إيماناً وأثراً من جميع المؤمنين; إذ لم يقم لهم إيمانٌ لولاه، والأفضل أحـقّ بالإمامـة.
ويشهد لفضله عليهم في الأثر ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لَضربةُ عليّ أفضلُ من عبادة الثقلين، أو: لَمبـارزةُ عليّ لِعمرو أفضلُ من أعمال أُمّـتي إلى يوم القيامة، كما سبق في الآية الحادية والخمسين(1).
وهذا ممّا يؤيّده قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الساعي بالخير كفاعله(2)، ويقضي به العقل; إذ بقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) لعمرو خمدت جمرة الكفر، وانكسرت عزيمة الشرك، فكان هو السبب في بقاء الإيمان واستمراره، وهو السبب في تمكين المؤمنين من عبادتهم إلى يوم الدين.
لكن هذا ببركة النبيّ الحميد ودعوته وجهاده في الدين، فإنّ عليّـاً حسنةٌ من حسناته، فلا أفضل من سيّد الوصيّين إلاّ سيّدُ المرسلين، زاد الله في شرفهما، وصلّى عليهما وعلى آلهما الطاهرين.
____________
1- راجـع: ج 5 / 242 من هذا الكـتاب.
2- كنز العمّال 6 / 359 ـ 360 ح 16052 ـ 16055.
12 ـ حـديث سدّ الأبواب عدا باب عليّ
قال المصنّـف ـ أعلى الله درجته ـ(1):
الثاني عشر: في مسند أحمد من عدّة طرق، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بسـدّ الأبواب إلاّ باب عليّ، فتكلّم الناس، فخطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فحمـد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
أمّا بعـد، فإنّي أُمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب عليّ، فقال فيه قائلكم، [ وإنّي ] والله ما سددت شيئاً ولا فتحته، وإنّما أُمرت بشيء فاتّبعتـه(2).
____________
1- نهج الحقّ: 217.
2- مسند أحمد 4 / 369 و ج 1 / 175 و 331 و ج 2 / 26، فضائل الصحابة ـ لأحمد ابن حنبل ـ 2 /720 ح 985; وانظر: سنن الترمذي 5 / 599 ح 3732، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 118 ـ 119 ح 8423 ـ 8428، التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ 1 / 408 رقم 1304، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 2 / 246 ح 2031، المعجم الأوسط 4 / 363 ح 3930، مسند البزّار 2 / 144 ح 506 و ج 3 / 368 ح 1169، أخبار القضاة ـ لوكيع ـ 3 / 149، المستدرك على الصحيحين 3 / 135 ح 4631، حلية الأولياء 4 / 153 رقم 258، تاريخ بغداد 7 / 205 رقم 3669، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 226 ـ 231 ح 303 ـ 309 من عدّة طرق، تاريخ دمشق 42 / 137 ـ 139 من عدّة طرق، مجمع الزوائد 9 / 114 ـ 115.
وقال الفضـل(1):
كان المسجد في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متّصلا ببيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان عليُّ ساكنَ بيتِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمكان ابنته، وكان الناس من أبوابهم في المسجد يتردّدون ويزاحمون المصلّين، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)بسـدّ الأبواب إلاّ باب عليّ.
وقد صـحّ في الصحيحيـن أنّ رسـول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بسـدّ كلّ خوخـة في المسجد إلاّ خوخة أبي بكر(2)، والخوخة: الباب الصغير(3)، فهذا فضيلة وقرب حصل لأبي بكر وعليّ.
____________
1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 7 / 436.
2- انظر: صحيح البخاري 1 / 201 ـ 202 ح 126 و ج 5 / 66 ح 154، صحيح مسلم 7 / 108.
3- انظر: لسان العرب 4 / 240 مادّة " خوخ ".
وأقـول:
لا يخفى أنّ حقيقة الفضل في هذه الفضيلة ليس لمجرّد الاختصاص بعدم سدّ الباب، بل لِما يكشف عنه من طهارة عليّ (عليه السلام)، وأنّه يحلّ له أن يجنب في المسجد ويمكث فيه جُنباً، ولا يكره له النوم فيه كما كان ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم); فإنّ عمدة الغرض من سدّ الأبواب تنزيه المسجد عن الأدناس، وتبعيـده عن المكروهات والأُمور البيتية.
وكان عليٌّ (عليه السلام) كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تؤثّر فيه الجنابة والنوم دنساً معنوياً، وكان بيت الله كبيته; لكونه حبيـبَه القريبَ منه، فاسـتُـثني كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)لذلك، كما سـتعرفه.
وأمّا قوله: " كان عليُّ ساكنَ بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... " إلى آخره.
فالظاهر أنّ غرضه به إنكار فضل أمير المؤمنين (عليه السلام); لأنّ المستثنى حينـئذ هو بابُ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم); لأنّ البيت له; إذ لا يتعلّق في المقام بهذه المقدّمة فائدةٌ سوى هذا الغرض السوء، وإنْ ناقض نفسه بجعل الاسـتثناء فضيلةً لعليّ (عليه السلام) يشارك بها أبا بكر، فكان يلزمه أن يخصّ الفضيلة بأبي بكر وحـده!
وفي كلا مقصديه، من إنكار فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإثبات فضل أبي بكر نظر..
أمّا الأوّل; فلأنّ كون البيت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمنع من اختصاص عليّ بباب منفرد; كيف؟! وقد صرّحت الأخبار بأنّ الباب لعليّ، حتّى تكلّم الناس في اسـتثناء بابه، ولو كان الباب للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَما كان محلٌّ
بل هذا ممّا يقرّب أنّ البيت ـ كالباب ـ مختصّ بعليّ (عليه السلام)، إمّا ملكاً كما هو الظاهر، أو بالسكنى فقط والملكية لرسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم); وعليه ينبغي أن يقبضه أبو بكر كما قبض فدك، فيتركهم بلا دار ولا عقار!
وأمّا الثاني; فلأنّ الخوخة إذا كانت هي الباب الصغير، كما يشهد له رواية البخاري للحديث في مناقب أبي بكر، بلفظ: " الباب " بدل " الخوخة "(1)، لزم كذب خبر اسـتثناء باب أبي بكر; لأنّه إذا أقرّ باستثناء باب عليّ (عليه السلام) وهو متقدّم زماناً ـ كما سـتعرف ـ، فلا بُـدّ من العمل بأمر النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يبقى باب مفتوح سوى باب عليّ (عليه السلام)، وحينئذ لم يكن محلّ للأمر بسدّ الأبواب واسـتـثناء باب أبي بكر.
مضافاً إلى اشتمال خبر استثناء باب أبي بكر على أُمور تشهد بكذبه، كما ستعرفها إن شاء الله تعالى عند ذِكر الفضل له في مقدّمة مآخذ أبي بكر.
فإن قلت: ما الدليل على تقـدّم اسـتثناء باب عليّ (عليه السلام)؟ فلِـمَ لم يكونا في وقت واحد، أو في وقتين متقاربين، بحيث يكون الاستثناء الأخير قبل سدّ جميع الأبواب، وحينئذ فلا يلزم التعارض والكذب؟
قلت: استثناء باب أبي بكر كان في وقت قرب موت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)على ما زعموا(2)، واسـتثناء باب عليّ (عليه السلام) في أيّام حمزة كما صرّح به بعض أخبارهم(3)، ودلّ باقي الأخبار الآتية وغيرها على تقـدّم زمانه.
____________
1- انظر: صحيح البخاري 5 / 65 ـ 66 ح 154.
2- انظر: صحيح البخاري 1 / 201 ح 126، التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ 1 / 408 رقم 1304.
3- انظر: فضائل الخلفاء الأربعـة ـ لأبي نعيم ـ: 72 ـ 73 ح 60 و 61، مجمـع الزوائـد 9 / 115.
ويشهد لكون الاسـتثناء من خواصّ عليّ (عليه السلام) ما رواه أحمد في مسـنده(1)، عن ابن عمر، وصحّحه ابن حجر في " الصواعق "(2)، قال: " كـنّا نقـول في زمن النبـيّ: رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيـر الناس، ثمّ أبو بكر، ثمّ عمر; ولقد أُوتي ابن أبي طالب ثلاثَ خصال، لأَنْ تكونَ لي واحدةٌ منهـنّ أحـبّ إليَّ من حُـمْرِ الـنَّـعَم: زوّجـه رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنـته وولـدت له، وسـدّ الأبواب إلاّ بابـه في المسـجد، وأعـطاه الرايـة يـوم خيـبـر ".
فإنّه صريح بأنّ الاسـتثناء أحد خواصّه الثلاثة، ولا سيّما بعد ذِكر أبي بكر المتخـيّر بينهم.
وقد تمنّى قبل ابن عمر أبوه إحدى هذه الخصال، كما رواه الحاكم في " المسـتدرك " وصحّحه(3).
ونقله ابن حجر في " الصواعق "(4)، عن أبي يعلى، عن أبي هريرة، عن عمر.
____________
1- ص 26 من الجزء الثاني. منـه (قدس سره).
وانظر: فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 2 / 700 ح 955.
2- في الفصل الثالث من الباب التاسع [ ص 196 ]. منـه (قدس سره).
3- ص 125 من الجزء السادس [ 3 / 135 ح 4632 ]. منـه (قدس سره).
4- في الفصل المذكور [ ص 196 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: مسند أبي يعلى 9 / 452 ـ 453 ح 5601، زوائد أبي يعلى ـ للهيثمي ـ 3 / 185 ح 1329.
فلا ريب أنّ هذا من خواصّ أمير المؤمنين (عليه السلام); إذ لا يتصوّر أن يظهر من عمر وابنه اختصاصُ عليّ (عليه السلام) بهذا الأمر لو شاركه فيه أبو بكر، الذي هو أسـاس شـرفهم، ومسـتند أمرهم، والمتخـيّر بينهم.
وقد تكلّف ابن عمر في تخيّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس، حتّى على أبيه وصاحبه!
هذا، مضافاً إلى ضعف خبر استثناء خوخة أبي بكر، لضعف سنده بجماعة، منهم: فُليح بن سليمان، عدوّ آل محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي سبقت ترجمته في مقـدّمة الكـتاب(5).
ونزيدك هنا بياناً لحاله بذِكر ما في " ميزان الاعتدال " و " تهذيب التهذيب " مضافاً إلى ما تقـدّم في المقـدّمة..
قالا: قال ابن معين مرّةً: لا يحتـجّ به.
ومرّةً: ضعيف، ما أقربه من أبي أويـس.
____________
1- ص 391 من الجزء السادس [ 13 / 110 ح 36359 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 500 ح 36.
2- ص 393 من الجزء المذكور [ 13 / 116 ح 36376 ]. منـه (قدس سره).
3- المستدرك على الصحيحين 3 / 135 ح 4632.
4- المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي 3 / 184 ـ 185 ح 1329.
5- راجـع: ج 1 / 220 رقم 263.
وفي " التهذيب " أيضاً: قال النسائي مرّةً: ضعيف.
وقال ابن المديني: فُـليح وأخوه عبـد الحميد ضعيفان(1).
وقد روى البخاري هذا الحديث أيضاً في أواخر الجزء الثاني، في باب هجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه إلى المدينة(2)، وفي سنده إسماعيل بن عبـد الله، الكـذّاب الوضّاع، كما عرفت بعض ترجمته في المقـدّمة(3).
فإذا كان خبر استثناء باب أبي بكر بهذا الحال من الضعف، لم يصلح للاحتجاج به على استثنائه، فضلا عن أن يعارض به أخبار استثناء باب أمير المؤمنين المسـتفيضة أو المتواترة.
وأعجب من القول بمعارضته لها دعوى ابن الجوزي وضعها لأجله، لكـنّه ذكر منها ثمانية، كما سـتعرف(4).
وذكر السيوطي في " اللآلئ المصنوعة " ما يزيد على ثلاثين حديثاً منها هذه الثمانية(5).
ولنذكر منها ما يدلّ على أنّ استثناء باب عليّ (عليه السلام); لطهارته وجواز أن يجنب في المسجد أو يمرّ فيه جُنباً، ولكونه من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة
____________
1- ميزان الاعتدال 5 / 442 ـ 443 رقم 6788، تهذيب التهذيب 6 / 431 ـ 432 رقم 5631، وانظر: معرفة الرجال ـ ليحيى بن معين ـ 1 / 69 رقم 156، الضعفاء والمتروكين ـ للنسائي ـ: 197 رقم 510، الجرح والتعديل ـ لابن أبي حاتم ـ 7 / 84 ـ 85 رقم 479.
2- صحيح البخاري 5 / 153 ـ 154 ح 386.
3- راجـع: ج 1 / 76 رقم 23.
4- انظر: الموضوعات 1 / 363 ـ 367.
5- اللآلئ المصنوعة 1 / 317 ـ 324.
فمنها: ما حكاه عن ابن حجر في " القول المسدّد "، عن أحمد والنسائي، بسنديهما عن ابن عبّـاس، قال في حديث سدّ الأبواب إلاّ باب عليّ: " فكان يدخل المسجد جُنباً وهو طريقه ليس له طريق آخر ".
ثمّ قال ابن حجر: وأخرجه الكلاباذي في " معاني الأخبار "، ثمّ ذكر له طريقاً آخر.
وأخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات "، من طريق أبي نعيم، ثمّ ذكر له طريقاً آخر أيضاً(1).
ومنها: ما حكاه عن ابن حجر أيضاً، عن الطبراني في " الكبير "، بسـنده عن جابر بن سمرة، قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسدّ الأبواب كلّها غير باب عليّ، فقال العبّـاس: يا رسول الله! قدرَ ما أدخل وحدي [ وأخرج ]؟!
قال: ما أُمرت بشيء من ذلك; فسدّها [ كلّها ] غير باب عليّ.
قال: وربّما مـرّ وهو جُنب(2).
ومنها: ما حكاه عن أبي نعيم في " فضائل الصحابة "، بسنده عن بريدة الأسلمي، قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسدّ الأبواب، فشقّ ذلك على أصحابه، فلمّا بلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا الصلاة جامعـة، حتّى إذا
____________
1- اللآلئ المصنوعة 1 / 319، وانظر: القول المسدّد: 55، مسند أحمد 1 / 331، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 119 ح 8428، الموضوعات 1 / 364، حلية الأولياء 4 / 153 رقم 258.
2- اللآلئ المصنوعة 1 / 319 ـ 320، وانظر: القول المسدّد: 55 ـ 56، المعجم الكبير 2 / 246 ح 2031.
أيّها الناس!... ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها بل الله فتحها وسـدّها.
ثمّ قرأ: { والنجم إذا هوى * ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى }(1).
فقال رجل: دع لي كُـوّةً تكون في المسجد؟
فأبى، وترك باب عليّ مفتوحاً، فكان يدخل ويخرج منه وهو جُنب(2).
ومنها: ما حكاه أيضاً عن أبي نعيم في " الفضائل "، بسنده عن ابن مسعود، قال: " انتهى إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات ليلة ونحن في المسجد جماعة من الصحابة، فينا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وحمزة، وطلحة، والزبير، وجماعة من الصحابة بعدما صلّيت العشاء، فقال: ما هذه الجماعة؟!
قالوا: يا رسول الله قعدنا نتحدّث، منّا من يريد الصلاة، ومنّا من ينـام.
فقال: إنّ مسجدي لا يُنام فيه، انصرفوا إلى منازلكم، ومن أراد الصلاة فليصلِّ في منزله راشداً، ومن لم يستطع فَـلْـيَـنَمْ، فإنّ صلاة السـرِّ تضعف على صلاة العلانية.
____________
1- سورة النجم 53: 1 ـ 4.
2- اللآلئ المصنوعة 1 / 321، وانظر: فضائل الخلفاء الأربعة ـ لأبي نعيم ـ: 71 ـ 72 ح 59.
فقال له حمزةُ بن عبـد المطّلب: يا رسول الله! أنا عمّك، وأنا أقرب إليك من عليّ.
قال: صدقت يا عمّ، إنّه والله ما هو عنِّي، إنّما هو عن الله عزّ وجـلّ "(1).
ومنها: ما حكاه عن ابن الجوزي في " الموضوعات "، عن أبي نعيم(2)، بسـنده عن ابن عبّـاس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ: إنّ موسى سأل ربّـه أن يُطـهّر مـسجده لهارون وذرّيّـته، وإنّي سألت الله أن يُطـهّر مسـجدي لك ولذرّيّـتك من بعـدك.
ثمّ أرسل إلى أبي بكر أن سُدّ بابك، فاسـترجع... وقال: سمعاً وطاعة; فسـدّ بابه.
ثمّ [ أرسل ] إلى عمر... كذلك.
ثمّ صعد المنبر فقال: ما أنا سددت أبوابكم، ولا فتحت باب عليّ، ولكنّ الله سدّ أبوابكم وفتح باب عليّ(3).
____________
1- اللآلئ المصنوعة 1 / 322، وانظر: فضائل الخلفاء الأربعة ـ لأبي نعيم ـ: 72 ـ 73 ح 60.
2- كذا في الأصل، وهو سهو، فلم ينقله ابن الجوزي عن أبي نعيم، وربّما جاء هذا نتيجة اسـتطراد الشـيخ المظـفّر (قدس سره) في النقل عمّن نقل عن أبي نعيم كما في الموردين السابقين، كما إنّـنا لم نجد الحديث عند أبي نعيم; فلاحــظ!
3- اللآلئ المصنوعة 1 / 317 ـ 318، وانظر: الموضوعات 1 / 364 ـ 365.
ثمّ حكاه السيوطي، عن الترمذي، وعن البيهقي في " سننه " من طريقيـن(2).
قال البيهقي(3): وقد ورد من طرق.
ثمّ حكاه السيوطي، عن البزّار، بسـنده عن سعد(4).
أقـول: وقد وجدت الحديث في فضائل عليّ (عليه السلام) من سنن الترمذي وحسّـنه(5).
ومنها: ما حكاه عن ابن منيع في " مسـنده "، عن جابر، قال: جاء رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن مضطجعون في المسجد، فضربنا بعَسِـيب(6) كان بيده رطباً وقال: ترقدون في المسجد؟! إنّه لا يُرقَـد فيه!
____________
1- اللآلئ المصنوعة 1 / 322، وانظر: الموضوعات 1 / 367 ـ 368.
2- اللآلئ المصنوعة 1 / 323، وانظر: سنن الترمذي 5 / 598 ح 3727، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7 / 66 كتاب النكاح / باب دخوله المسجد جُنباً.
3- كذا في الأصل، وهو تصحيف، والصواب " السيوطي "، انظر اللآلئ المصنوعة 1 /323.
4- اللآلئ المصنوعة 1 / 323، وانظر: مسند البزّار 4 / 36 ح 1197، مجمع الزوائد 9 / 115.
5- سنن الترمذي 5 / 598 ح 3727.
6- العَسِـيبُ: جريدة من النخل مسـتقيمة دقيقة يُـكْـشَـط خُوصُها، والعَسِـيب من السَعف: فُـوَيْـقَ الكَـرَب ممّا لا ينبُتُ عليه الخوص; انظر: لسان العرب 9 / 197 ـ 198 مادّة " عسـب ".
ومنها: ما حكاه عن ابن أبي شيبة، بسنده عن أُمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا إنّ مسجدي حرام على كلّ حائض من النساء، وكلّ جنب من الرجال، إلاّ على محمّـد وأهل بيته: عليّ وفاطمـة والحسـن والحسـين(3).
ويعضد هذه الأخبار ويفيد مفادها أخبار عديدة، منها: حديث عمر السابق المروي بطرق كثيرة، كما سمعت(4).
فظهر حلّـيّـة المسجد لعليّ (عليه السلام) جنابةً ونوماً; وليس هو إلاّ لطهارة نفسـه القدسـيّة طهارةً لا يدنّسها ما يدنّـس غيره; فكيف يُسـتثنى باب أبي بكر، وهو من سائر الناس؟!
بل في بعض الأخبار أنّ عليّـاً (عليه السلام) مطـهِّـرٌ للمسجد; ففي " كنز العمّال "(5)، عن البزّار، عن عليّ (عليه السلام)، قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيدي فقال: إنّ موسى سأل ربّه أن يُطـهّر مسجده بهارون، وإنّي سألت ربّي أن يُطـهّر مسجدي بك وبذرّيّـتك.
____________
1- إنْـجَـفَـلَ القومُ انْجِفالا: هربوا بسرعة وانقلعوا كلُّهم ومَضَوا; انظر: لسان العرب 2 / 309 مادّة " جفل ".
2- اللآلئ المصنوعة 1 / 323.
3- اللآلئ المصنوعة 1 / 323; وانظر: السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7 / 65، تاريخ أصبهان 1 / 344 رقم 625، تاريخ دمشق 14 / 166، كنز العمّال 12 / 101 ح 34182 و 34183.
4- راجع الصفحتين 109 و 110 من هذا الجزء.
5- ص 408 من ج 6 [ 13 / 175 ح 36521 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: مسـند البزّار 2 / 144 ح 506.
وبالجملة، لا وجه لاسـتثناء باب أبي بكر، وهو ليس ممّن طهّرهم الله من الرجس حتّى يحسُن دخوله المسجد جُنباً، ولا هو من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بمنزلة هارون من موسى حتّى يجمل إلحاقه به.
فيكون ما دلّ على اسـتثناء بابه باطلا، ولا سـيّما مع ضعفه سـنداً، ومعارضته بالأخبار المصرّحة بسدّ بابه وبابِ مَن هو أَوْلى منه بالرعاية والكرامة، وهو حمزة أسد الله وأسد رسوله، والعبّـاس عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى إنّ العبّـاس طلب فتح بابه قدر ما يدخل وحده فمنعه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ومنع حتّى الكُـوّة(1).
وبذلك عُلِم فضلُ أمير المؤمنين (عليه السلام) على جميع الصحابة، فيكون أَوْلاهـا بالإمامـة.
واعلم أنّه قد تضمّن كلام السيوطي في " اللآلئ " الجواب عن دعوى ابن الجوزي وضع الأحاديث الدالّة على اسـتثناء باب عليّ (عليه السلام)، وذكر في الأثناء ردَّ ابن حجر لابن الجوزي، فلنذكر ما بيّـنه السيوطي ملخّصاً..
فإنّه نقل فيها عن ابن الجوزي في " الموضوعات " ثمانية أحاديث:
____________
1- الكُـوّة ـ بالضمّ ـ: هي نقبُ البيت، أو الخرق في الحائط والثقب بالبيت، أو الموضع الضيّـق ونحوه.
انظر مادّة " كوى " في: الصحاح 6 / 2478، الفائق في غريب الحديث 3 / 285، لسان العرب 12 / 198.
وحديثان للنسائي، أحدهما عن سعد، والآخر عن زيد بن أرقم(2)..
وحديثان لأبي نعيم، كلاهما عن ابن عبّـاس(3)..
وحديث للخطيب، عن جابر بن عبـد الله(4)..
وحديث لابن مردويه، عن أبي سـعيد(5).
وقد زعم ابن الجوزي أنّ هذه الأحاديث جميعاً باطلة موضوعة، قال: " هي من وضع الرافضة، قابلوا بها حديث أبي بكر في الصحيح "(6).
ثمّ نقل السيوطي عن ابن حجر في " القول المسدّد في الذبّ عن مسـند أحمد " أنّه قال: " قول ابن الجوزي في الحديث إنّه باطل [ وإنّه ]موضوع، دعوى لم يسـتدلّ عليها إلاّ بمخالفـة الحـديث الذي في الصحيحين، وهذا إقدامٌ على ردّ الأحاديث الصحيحة بمجـرّد التوهّم ".
ثمّ قال: " وهذا الحديث مشهور، له طرق متعدّدة، كلُّ طريق منها
____________
1- اللآلئ المصنوعة 1 / 317، الموضوعات 1 / 363 و 364، وانظر: مسند أحمد 1 / 175 و 2 / 26.
2- اللآلئ المصنوعة 1 / 317 و 318، الموضوعات 1 / 363 و 365، وانظر: السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 118 ح 8423 ـ 8426.
3- اللآلئ المصنوعة 1 / 317، الموضوعات 1 / 364، وانظر: حلية الأولياء 4 / 153 رقم 258 ترجمة عمرو بن ميمون الأسدي.
4- اللآلئ المصنوعة 1 / 318، الموضوعات 1 / 365، وانظر: تاريخ بغـداد 7 / 205 رقم 3669.
5- اللآلئ المصنوعة 1 / 322، الموضوعات 1 / 367 ـ 368، وانظر: سنن الترمذي 5 / 598 ح 3727.
6- الموضوعات 1 / 366.
ثمّ نقل ابن حجر عن البزّار أنّ الروايات فيه جاءت من وجوه بأسانيد حِسان(2).
ثمّ ذكر ابن حجر جملة أُخرى من طرق الحديث، تزيد على الطرق التي ذكرها ابن الجوزي، وقد صحّح هو بعضها(3)، وصحّح الحاكم بعضها(4)، وروى أحمد بعضها(5)، والضياء في " المختارة "(6)، وغيرهم من عظماء علمائهم(7).
وفي أثناء ذلك تعرّض للجواب عن طعن ابن الجوزي في أسانيد الأخبار التي ذكرها وخطّـأه في ما أعلّها به، وذكر أنّ بعضاً من رجال هذه الأسانيد قد صحّح له الترمذي، ووثّـقه غير واحد، وبعضهم من رجال مسـلم(8).
ثمّ قال: " فهذه الطرق المتضافرة بروايات الثقات تدلّ على أنّ
____________
1- القول المسدّد: 53، وانظر: اللآلئ المصنوعة 1 / 318 ـ 319.
2- القول المسدّد: 53، وانظر: اللآلئ المصنوعة 1 / 319.
3- القول المسدّد: 52 ـ 58، اللآلئ المصنوعة 1 / 319 ـ 320.
4- المستدرك على الصحيحين 3 / 135 ح 4631 و 4632، اللآلئ المصنوعة 1 / 319.
5- اللآلئ المصنوعة 1 / 319 و 321، مسـند أحمد 4 / 369 و ج 2 / 26 و ج 1 / 175 و 331.
6- كما في القول المسدّد: 54.
7- انظر الصفحة 105 هـ 2 من هذا الجزء.
8- القول المسدّد: 54.
إلى أن قال: " ولو فتح هذا الباب لردّ الأحاديث لأدّعى(2) في كثير من الأحاديث الصحيحة البطلان، ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون "(3).
ثمّ ذكر السيوطي بعد انتهاء هذا الكلام من ابن حجر سبعة طرق أُخر للحديث، ثمّ نقل بعدها حديث ابن مردويه الذي ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات "(4) الذي أشرنا إليه(5).
ثمّ أورد له ثمانية طرق أُخر، فكان جميع طرق الحديث في " اللآلئ المصنوعـة " ما يناهز الأربعيـن طريقاً، مسـندة إلى جماعة من الصحابـة، منهم: أمير المؤمنين (عليه السلام)، وابن عبّـاس، وسعد بن أبي وقّاص، وزيد بن أرقم، وجابر بن عبـد الله، وابن مسعود، وابن عمر، وأبو سعيد، وأنس ابن مالك، وبريدة الأسلمي، وجابر بن سمرة، وأُمّ سلمة، وعائشة(6)..
مضافاً إلى البراء بن عازب، وحذيفة بن أسيد، على ما في حديث ابن المغازلي، المشتمل سـنده عليهما وعلى جماعة آخرين ممّن عرفت، وقد ذكره في الباب السابع عشر من " ينابيع المودّة " مع عدّة أخبار، ومضافاً إلى عمر، كما سمعته في رواية الحاكم وغيره من طرق مرويّـة عنه(7).
____________
1- القول المسدّد: 56، وانظر: اللآلئ المصنوعة 1 / 320.
2- كذا الأصل، ولعلّه تصحيف; وفي المصدر: لادُّعي.
3- القول المسدّد: 57، وانظر: اللآلئ المصنوعة 1 / 320.
4- الموضوعات 1 / 367 ـ 368.
5- انظر الصفحة 118 هـ 5 من هذا الجزء.
6- اللآلئ المصنوعة 1 / 320 ـ 324.
7- مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازليـ: 226 ـ 231 ح 303 ـ 309، ينابيع المودّة 1 / 257 ـ 260 ح 1 ـ 10.
حديث سعد، صفحة 175 من الجزء الأوّل..
وحديث ابن عبّـاس، صفحة 331 من الجزء الأوّل أيضاً..
وحديث ابن عمر، صفحة 26 من الجزء الثاني..
وحديث زيد بن أرقم، صفحة 369 من الجزء الرابع..
ولعلّه لأحمد أحاديثَ أُخـر.
فأنت ترى أنّ طرق الحديث مستفيضة أو متواترة، ولا سيّما بضميمة أخبارنا، وقد صحّح القوم جملة من أحاديثهم كما عرفت، حتّى صحّح الحاكم في " المسـتدرك " طريقين منها(1)، وأقرّه الذهبي ـ مع ما تعلمه من حاله ـ على صحّة حديث زيد بن أرقم، الذي رواه مع حديث عمر، صفحة 125 من الجزء الثالث(2).
فمع هذا كلّه، كيف يجوز لابن الجوزي دعوى الوضع لمجرّد رواية الصحيحين لحديث اسـتثناء باب أبي بكر، وهو أقرب إلى الوضع; لأنّه من حديث المتّـهَمين والنصّاب، مع ضعف رجال سـنده كما عرفت(3)، وعدم تعـدّد طرقه؟! ولكن لا حيلـة مع التعصّب ومجانبـة الإنصاف!!
____________
1- المستدرك على الصحيحين 3 / 135 ح 4631 و 4632.
2- المستدرك على الصحيحين 3 / 135 ح 4631.
3- راجع الصفحتيـن 110 و 111 من هذا الجزء.