الصفحة 142

15 ـ حـديث: إنّ فيك مثلا من عيسى

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

الخامس عشر: في مسند أحمد بن حنبل، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعليّ: " إنّ فيك مثلا من عيسى، أبغضه اليهود حتّى اتّهموا أُمّه، وأحبّه النصارى حتّى أنزلوه المنزل الذي ليـس له بأهل "(2).

وقد صدق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم); لأنّ الخوارج أبغضوا عليّـاً (عليه السلام)، والنصيريّـة(3) اعتـقدوا فيه الربوبيّـة.

____________

1- نهج الحقّ: 219.

2- مسـند أحمد 1 / 160، وانـظر: فضائـل الصحابـة ـ لأحمـد ـ 2 / 794 ح 1087 و ص 888 ح 1221 و 1222، زوائـد عبـد الله على المسـند: 412 ح 196، السُـنّة ـ لعبـد الله بن أحمد ـ 2 / 543 ح 1262، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 137 ح 8488، التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ 3 / 281 ـ 282 رقم 966، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 470 ح 1004، مسند البزّار 3 / 11 ـ 12 ح 758، مسند أبي يعلى 1 / 406 ـ 407 ح 534، المستدرك على الصحيحين 3 / 132 ـ 133 ح 4622، فضائل الخلفاء ـ لأبي نعيم ـ: 68 ح 54، الاستيعاب 3 / 1130، مناقـب الإمـام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 110 ح 104، شواهد التنزيل 2 / 160 ـ 166 ح 860 ـ 870، تاريخ دمشق 42 / 293 ـ 296، مجمع الزوائد 9 / 133، كنز العمّال 13 / 125 ح 36399.

3- النصيرية ـ ويقال لها: الـنُّميرية ـ: فرقة تُنـسـب إلى محمّـد بن نصير النميري، وكان هو من أصحاب الإمام الحسن العسكري عليهما السلام، ثمّ انحرف عن جادّة الحقّ وادّعى أُموراً باطلة عظيمة، كالنيابة عن الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) والقول بالتناسخ والغلـوّ والنبـوّة والإلحـاد.

انظر: فرق الشيعة ـ للنوبختي ـ: 93 ـ 94، الفَرق بين الفِرق: 239 و 241، الغَيبة ـ للطوسي ـ: 398 ح 369 ـ 371، الاحتجاج 2 / 552 و 554.


الصفحة 143

وقال الفضـل(1):

الحمد لله الذي جعل أهل السُـنّة معتدلين بين الفريقين; من المفرطة في حبّ عليّ، كالنصيرية التي يدّعون ربوبيته، وكالإماميّة التي يدّعون أنّ أصحاب محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) كفروا كلّهم لمخالفة النصّ في شأنه; ومن المفرطة في بغضه كالخوارج المبغضة.

وأمّا أهل السُـنّة والجماعة ـ بحمد الله ـ فيحبّونه حبّاً شديداً، وينزلونه في منزلته التي هو أهل لها، من كونه وصيّاً، وخليفة من الخلفاء الأربع، وصاحب ودائع العلم والمعرفة.


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 7 / 446.


الصفحة 144

وأقـول:

هذا الحديث كما هو مذكور في مسند أحمد، مذكور في مستدرك الحاكم، وخصائص النسائي، وغيرها، كما سبق في الآية الثانيـة والسـتّين(1).

وبمعناه ما في " الاستيعاب " بترجمة أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنّه قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " تفترق فيك أُمّتي كما افترقت بنو إسرائيل في عيسى "(2).

ولا ريب أنّ إنزال النصارى لعيسى بغير منزلته إنّما هو لاتّخاذهم له إلهـاً.

وبمقتضى التمثيل يكون إنزال عليّ (عليه السلام) بغير منزلته هو اتّخاذه إلهاً كعيسى، كما فعل النصيرية وغيرهم من الغلاة، فلا يدخل الإماميّة في من أنزله بغير منزلته; لأنّهم يقولون: إنّه عبـد من عبيـد الله تعالى، أكرمه بالخلافـة بالنصّ عليه.

وحينئذ، فينحصر أمر الإماميّة بين أن يكونوا ممّن أبغضه، ولا سبيل إليه بالضرورة; وبين أن يكونوا من النمط الأوسط والمحـقّ، وهو

____________

1- راجع: ج 5 / 284 من هذا الكـتاب، وانظر: مسند أحمد 1 / 160، المستدرك على الصحيحين 3 / 132 ـ 133 ح 4622، خصائص الإمام عليّ (عليه السلام): 84 ح 98، مسند البزّار 3 / 11 ـ 12 ح 758، مسند أبي يعلى 1 / 406 ـ 407 ح 534.

2- الاستيعاب 3 / 1101.


الصفحة 145
المطلـوب.

كما ينحصر أهل السُـنّة بين هذين، والمتعيّن فيهم الأوّل; لأنّ النمط الأوسط لا يمكن أن يجمع الفريقين المتباينين، ولأنّ أهل السُـنّة اجتهدوا في تأخيره عمّن لا يقاس به علماً وعملا، ولا يلتفتون إلى آية تدلّهم على منزلته، ولا إلى سُـنّة تُرشدهم إلى فضله وعلـوّ محلّـه، بل يحتـالون إلى نفي النصوصيّة بالأوهام والشُبه البعيدة، ويتناولون الأسانيد القويّة الكثيرة بالتضعيف بكلّ وسـيلة، بعكس ما يرد عندهم في حقّ مشايخهم!

فلا بُـدّ أن يكون من قال: " إنّ عليّـاً هو الخليفـة الأوّل " محقّـاً ناجيـاً، ومن قال: " إنّه رعيّة لغيره " مبطلا هالكاً; وبه يتمّ إثبات إمامتـه وخلافتـه للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصـل.

وقد سـبق في الآية الثانية والسـتّين دلالةُ ذلك على إمامته بوجوه أُخـر; فراجـع(1).

وأمّـا مـا زعمـه الفـضـل مـن أنّ الإماميّـة يكـفّـرون أصـحـاب محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)..

فإن أراد به أنّهم يقولون بشركهم أو إنكارهم الرسالة، فباطل..

وإن أراد أنّهم يقولون: إنّ أكثر الصحابة خالفوا نصّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)على عليّ، وألغوا أمر الله تعالى وأمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّـه، فصحيح; لأنّ الإمامـة عندنا أصل من أُصول الدين، ومن لم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتـة جاهلية، كما مـرّ تحقيقه في أوّل مباحث الإمـامـة(2)..

____________

1- راجـع: ج 5 / 285 ـ 286 من هذا الكـتاب.

2- راجـع: ج 4 / 211 وما بعـدها من هذا الكـتاب.

وانظر: مسـند أحمد 3 / 446، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 490 ح 1058، مجمع الزوائد 5 / 218 و 224; علاوة على ما مـرّ في مقـدّمة الكـتاب ص 31، وفي ج 4 / 214 هـ 1 ـ 4، من تخريج ألفاظ حديث: " مَـن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتـة جاهلية ".


الصفحة 146
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: { أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم }(1)، وصرّحت به السُـنّة المستفيضة، كأخبار الحوض، التي منها ما رواه البخاري في " باب الحوض "، من أنّ الأصحاب ارتدّوا على أدبارهم القهقرى، ولا يخلص منهم إلاّ مثل هَمَل النَّعم(2)، كما مرّ(3) ويأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما زعمه من أنّ أهل السُـنّة يحبّون عليّـاً حبّاً شديداً، فلا نعرف منه إلاّ الدعوى، ولو كشف الله سـبحانه حجاب ضمائرهم لعرفت أنّهم يقولون بألسـنتهم ما ليـس في قلوبهم..

بل الوجدان يشهد بخلافه، فهذه أقلامهم عند تلاوة آيات فضله، وهذه أرقامهم(4) عند سماع نصوص إمامته، وهذا ولاؤهم لأظهر مبغضيه وأعدائه، كمعاوية وأشـباهه..


تودُّ عدوّي ثمّ تزعمُ أنّنيصديقُك إنّ الرأيَ عنكَ لَعازبُ(5)

____________

1- سورة آل عمران 3: 144.

2- صحيح البخاري 8 / 217 ح 166.

3- انظر ما تقـدّم في ج 2 / 27 هـ 1 و ج 4 / 212 ـ 213 من هذا الكـتاب.

4- الـرَّقْـمُ: الكـتابة والختم; والـرَّقْـمُ والـتَّـرْقِيمُ: تَـعْجيم الكـتاب، وَرَقَمَ الكـتابَ يَـرْقُـمُـهُ رَقْمـاً: أَعجمَه وبـيَّـنه، وكـتابٌ مَرقوم أي قد بُـيِّنت حروفُـه بعلاماتها من التنـقيط; انظر: لسان العرب 5 / 290 مادّة " رقم ".

والمراد هنا هو ما كتبوه ويكتبونه في إنكار إمامة أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام).

5- البيت من بحر الطويل، وقد نسـبه ابن عبـد ربّـه إلى العتابي; انظر: العقد الفريد 2 / 75 باب أصناف الإخوان من كتاب " الياقوتة في العلم والأدب "، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 20 / 15.


الصفحة 147

16 ـ حـديث: لا يُـحـبّـك إلاّ مؤمن

قال المصنّـف ـ ضاعف الله أجره ـ(1):

السادس عشر: في مسند أحمد بن حنبل، وهو مذكور في " الجمع بين الصحيحيـن "، وفي " الجمع بين الصحاح السـتّة "، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: " لا يُحبّـك إلاّ مؤمـن، ولا يبغـضُـك إلاّ منافق "(2).


*  *  *

____________

1- نهج الحقّ: 219.

2- مسند أحمد 1 / 95 و 128 و ج 6 / 292، الجمع بين الصحيحين 1 / 172 ح 153، وانظر: سنن الترمذي 5 / 594 ح 3717 و ص 601 ح 3736، سنن النسائي 8 / 116، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 137 ح 8487، مسند الحميدي 1 / 31 ح 58، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 503 ح 51، مسند أبي يعلى 1 / 251 ح 291 و ج 12 / 331 ـ 332 ح 6904 و ص 362 ح 6931، المعجم الكبير 23 / 374 ـ 375 ح 885 و 886، معرفة علوم الحديث: 180، فضائل الخلفاء ـ لأبي نعيم ـ: 76 ح 66، الاستيعاب 3 / 1100، تاريخ بغداد 8 / 417 رقم 4523 و ج 14 / 426 رقم 7785، الشفا ـ للقاضي عياض ـ 2 / 48، تاريخ دمشق 42 / 270 ـ 280.


الصفحة 148

وقال الفضـل(1):

هذا الحديث صحيح لا شكّ فيه، وفي رواية هذا الحديث عن عليّ، أنّه قال: " لَـعهـدُ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلـيَّ; أنّـه لا يُحـبّـني إلاّ مـؤمـن، ولا يُبغضني إلاّ منافق "(2).

والحمد لله الذي جعلنا من أهل محبّته، وملأ قلوبنا من صفو مودّته، وبالله التوفيـق.


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 7 / 449.

2- مـرّ تخريج الحديث مفصّـلا فى ج 1 / 15 هـ 3 من هذا الكـتاب; وانظر علاوة على ذلك: السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 47 ح 8153 و ص 137 ح 8485 ـ 8486، مسـند أحمد 1 / 84، شرح السُـنّة 8 / 85 ـ 86 ح 3907 و 3908.


الصفحة 149

وأقـول:

إذا عَرفَ صحّة هذا الحديث، وصَدّق بحمد الله على حبّه، فما باله والى أشدّ أعدائه وأكبر مبغضيه، كمعاويةَ وابنِ العاص ومروانَ، وأشـباههم، ولم يحكم عليهم بالنفاق، مع اتّضاح حالهم في بغض أمير المؤمنين واسـتمرارهم على عداوته وسـبّه؟!

بل يلزمه أن لا يوالي عائشة، بل يصفها بالنفاق، لعلمه بعداوتها له، واسـتدامتها على بغضـه!..

ففي " مسـند أحمد "(1) عن عبيـد الله بن عبـد الله، عن عائشة، قالت: لمّا مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت ميمونة، فاسـتأذن نساءه أن يُمرّض في بيتي، فَـأَذِنَّ له، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معتمداً على العبّـاس وعلى رجل آخر، ورجلاه تخطّـان في الأرض.

وقال عبيـد الله: فقال ابن عبّـاس: أتدري من ذلك الرجل؟! هو عليُّ ابن أبي طالب، ولكنّ عائشة لا تطيب لها نفساً.

ورواه أيضاً في مقام آخر(2).

____________

1- ص 34 من الجزء السادس. منـه (قدس سره).

2- ص 228 ج 6. منـه (قدس سره).

وانظر: صحيح البخاري 6 / 32 ح 432، صحيح مسلم 2 / 21 ـ 22 كتاب الصلاة، سنن ابن ماجة 1 / 517 ح 1618، سنن النسائي 2 / 101 ـ 102، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 1 / 293 ح 908، سنن الدارمي 1 / 205 ذ ح 1255، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 179، مسند أبي عوانة 1 / 442 ح 1636 و ص 443 ح 1640، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 1 / 31 و ج 3 / 80 ـ 81 و ج 8 / 151 ـ 152; وقد أُسقط قوله: " ولكنّ عائشة لا تطيب له نفساً " من بعض هذه المصادر; فلاحـظ!


الصفحة 150
فهل ترى أشدّ في البغض من أن لا تطيب نفس الشخص أن يتلفّظ باسم عدوّه؟!

ورواه الطبري في " تاريخه "(1)، وفيه: " ولكنّها لا تقدر على أن تذكـره بخيـر، وهي تسـتطيع "!

وهو أصرح في الدلالة على بغضها لإمام المتّقين ونفس النبيّ الأمين.

ورواه البخاري في " باب الغسل والوضوء في المخضب " من كتاب الوضـوء(2)..

وفي " باب حدّ المريض أن يشهد الجماعة " من كتاب الأذان(3)..

وفي " باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها " من كتاب الهبة(4)..

وفي " باب مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) " في أواخر كتاب المغازي(5).

وفي كلّها لم تُسمّ الرجلَ الآخر، وإنّما سمّاه ابن عبّـاس.

ولم يروِ البخاري تتمّة كلام ابن عبّـاس; رعاية لشأن عائشة! ولم يدرِ أنّ تركها لاسم أمير المؤمنين مع ذِكر اسم عديله كاف في الدلالة على بغضهـا له!!

وروى أحمد أيضاً(6)، عن عطاء بن يسار، قال: جاء رجل فوقع في

____________

1- ص 191 من الجزء الثالث [ 2 / 226 ]. منـه (قدس سره).

2- صحيح البخاري 1 / 101 ح 61.

3- صحيح البخاري 1 / 269 ح 57.

4- صحيح البخاري 3 / 313 ـ 314 ح 22.

5- صحيح البخاري 6 / 32 ح 432.

6- ص 113 ج 6. منـه (قدس سره).


الصفحة 151
عليّ وعمّار عند عائشة، فقالت: أمّـا عليٌّ فلسـت قائلـة لك فيـه شـيئاً! وأمّـا عمّار، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا يُخيّر بين أمرين إلاّ اختـار أرشدهما.

.. إلى غير ذلك من الأخبار الكاشفة عن بغضها له، وإن كان لا حاجة في بيان عداوتها وبغضها له إلى دليل.

وأعظم من ذلك حربُها له، وهي تعلم أنّ حربه حرب لرسول الله(1)، مُـقْـدِمةً على قتله لو قدرت، وهي تدري أنّه أخو رسـولِ الله ونفسُه.

وعلى هذه فقِـس ما سواها، إذ لم تأتِ ذلك عنوةً بل ورثته عن أسـلافها!

وأمّا وجه الدلالة في الحديث الذي ذكره المصنّف (رحمه الله) ونحوه على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد تقـدّم في أوّل مباحث الإمامة، وفي الآية الثانيـة عشـرة(2).


*  *  *

____________

1- تقـدّم تخريج ذلك مفصّـلا في ج 4 / 358 هـ 4 و ج 5 / 321 هـ 3 من هذا الكـتاب; فراجـع!

وانظر إضافة إلى ذلك: المعجم الأوسط 3 / 256 ح 2875 و ج 5 / 316 ح 5015 و ج 7 / 242 ح 7259، المعجم الصغير 3 / 3، تاريخ بغـداد 7 / 137 رقم 3582.

2- راجـع: ج 4 / 214 وما بعدهـا و ج 5 / 17 ـ 18 وما بعـدها من هذا الكـتاب.


الصفحة 152

17 ـ حـديث:... ولكـنّـه خاصف النعل

قال المصنّـف ـ أجزل الله ثوابه ـ(1):

السابع عشر: في مسند أحمد بن حنبل، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تـنزيله.

فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟

قال: لا.

قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟

قال: لا، ولكـنّه خاصف النعل.

وكان عليٌّ يخصـف نعـل رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحجـرة عنـد فاطمـة (عليها السلام)(2).

وفي " الجمع بين الصحاح الستّة ": قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لتنتهنَّ

____________

1- نهج الحقّ: 220.

2- مسند أحمد 3 / 33 و 82، فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 2 / 777 ح 1071 و ص 790 ح 1083، وانظر: السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 154 ح 8541، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 497 ح 19، مسند أبي يعلى 2 / 341 ح 1086، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 46 ح 6898، المستدرك على الصحيحين 3 / 132 ح 4621، حليـة الأوليـاء 1 / 67، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 6 / 435 ـ 436، مناقـب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 99 ح 78، مناقب عليّ بن أبي طالب ـ لابن أخي تبوك; المطبوع بذيل مناقب ابن المغازلي ـ: 343 ح 23، شرح السُـنّة 6 / 167 ح 2557، تاريخ دمشق 42 / 451 ـ 455، مجمع الزوائد 5 / 186 و ج 9 / 133، كنز العمّال 11 / 613 ح 32967.


الصفحة 153
معشرَ قريش أو ليبعثنَّ الله عليكم رجلا منّي امتحن الله قلبه للإيمان، يضرب أعناقكم على الدين.

قيل: يا رسول الله! أبو بكر؟

قال: لا.

قيل: عمر؟

قال: لا، ولكن خاصف النعل في الحُجرة(1).


*  *  *

____________

1- انظر: سنن الترمذي 5 / 592 ح 3715، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 115 ح 8416، مصنّف عبـد الرزّاق 11 / 226 ح 20389، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 497 ح 18 و ص 499 ح 30 و ص 506 ح 74، فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 2 / 734 ح 1008 و ص 743 ح 1024 و ص 806 ح 1105، مسند البزّار 3 / 258 ـ 259 ح 1050، مسند أبي يعلى 2 / 165 ـ 166 ح 859، أنساب الأشراف 2 / 364، المستدرك على الصحيحين 2 / 149 ـ 150 ح 2614، الاستيعاب 3 / 1109 ـ 1110، تاريخ بغداد 1 / 133 ـ 134، تاريخ دمشق 42 / 342 ـ 343، مجمع الزوائد 9 / 163، كنز العمّال 13 / 173 ح 36518 عن الترمذي وابن جرير في " تهذيب الآثار " والضياء المقدسي في " المختارة " و ص 174 ح 36519 عن ابن أبي شيبة في " المصنّف " وابن جرير في " تهذيب الآثار " والحاكم في " المستدرك " ويحيى بن سعيد في " إيضاح الإشكال ".


الصفحة 154

وقال الفضـل(1):

صحَّ الحديث، وهذا يدلّ على أنّه يقاتل البغاة والخوارج، وكان مقاتلة البغاة والخوارج على تأويل القرآن، حيث كانوا يؤوِّلون القرآن، ويدّعون الخلافة لأنفسهم، فقاتلهم أمير المؤمنين، وعلّم الناس قتال الخوارج والبغاة، كما قال الشافعي: إنّه لو لم يقاتل أميرُ المؤمنين البغاةَ ما كـنّـا نعلم كيفـيّـة القتال معهم(2).

وهذا لا يدلّ على النصّ بخلافته، بل إخبار عن مقاتلته في سبيل الله مع العصـاة والبغـاة.


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 7 / 450.

2- انظر: الحاوي الكبير 16 / 360.


الصفحة 155

وأقـول:

ذكر المصنّـف (رحمه الله) هنا حديثين تقدّم بيان رواتهما في الآية الثانية والعشرين(1)، وكلٌّ منهما دالّ على المقصود..

أمّا الأوّل، فلأنّ المراد ـ بالقتال على تأويل القرآن ـ: إمّا القتال على وفق ما أدّى إليه القرآن باجتهاد المقاتل..

أو ما أدّى إليه في الواقع; لعلم المقاتل به..

فيكون المشـبّه به على الوجهين هو: قتال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على حسـب ما أُنزل إليـه.

وإمّا أن يكون المراد: القتال على مؤوَّل القرآن ليعملوا به، كما قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للإقرار بأنّه مُنزل من الله تعالى.

والأظهر أحد الوجهين الأخيرين; لأنّهما أمكن في التشـبيه.

ومن المعلوم أنّ القتال على أيّ الوجوه الثلاثة شأن خليفة الرسول، وزعيم الأُمّـة، فتـثبت إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام).

ولمّا نفى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك عن الشيخين مع صدور القتال منهما عُلم أنّهما ليسـا بإمامين.

وليت شعري، إذا لم يكن قتالهما على وفق القرآن، ولا لأجل العمل به، فكيف وليا أمر القتال والأُمّة؟! وكيف اتّخذهم الناس أئمّـة؟!

فإن قلتَ: لعلّ المراد بقتال عليّ (عليه السلام) على التأويل: قتاله لمن تأوّل

____________

1- راجـع: ج 5 / 85 وما بعـدها من هذا الكـتاب.


الصفحة 156
القرآن وادّعى الخلافة لنفسه، فلا يكون نفي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا القتال عن الشيخين منافياً لإمامتهما; لأنّ هذا النفي مطابق للواقع، إذ لم يقاتلا إلاّ المشركين وإن كانا إمامين.

ولعلّه إلى هذا أشار الفضل بقوله: " وكان مقاتلة البغاة والخوارج على تأويل القرآن حيث كانوا يؤوّلون القرآن ويدّعون الخلافة لأنفسهم ".

قلـتُ: لو أُريد ذلك، كان قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كما قاتلـتُ على تنزيله " ـ بمقتضى المشابهة ـ أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتل من تنـزّل عليه القرآن; وهو كما ترى.

ولا أدري أيّة آية تأوّلها البغاة والخوارج حتّى استباحوا بها قتال أمير المؤمنين، والخروج على إمام زمانهم؟!

ومتى قاتله الخوارج مدّعين للخلافة؟! وكذا معاوية وعائشة وأنصارها؟! فإنّهم إنّما قاتلوا ـ في ظاهر أمرهم ـ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) طلباً بـدم عثمان، واتّـخذوه ـ واقعـاً ـ وسـيلة لبلوغ الرئاسـة أو للانتقـام من عليّ (عليه السلام)، عداوةً له، كما في عائشة.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه، فأبو بكر عندهم أيضاً حارب المتأوّلين، فلو كان إماماً وحربه حقّاً لَما أجابه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: " لا ".

ونعني بالمتأوّلين: مانعي الزكاة; لأنّهم قالوا كما في " شرح النهج " لابن أبي الحديد(1): " إنّ الله قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): { خذ من أموالهم صدقة تُطهّرهم وتزكّيهم بها وصلِّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم }(2).

فوصف الصدقة بأنّها من شأنها أن يُطهّر رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناسَ

____________

1- ص 185 من المجلّد الرابع [ 17 / 208 ]. منـه (قدس سره).

2- سورة التوبة 9: 103.


الصفحة 157
بأخذها، وبـيّن أنّ صلاته سكن لهم، وهذه الصفات لا تتحقّـق في غير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ".

وأمّــا الحديث الثـاني: فهـو ـ أيضـاً ـ دالٌّ على المـدّعى; لأنّ النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصف فيه الرجل الذي يبعثه الله تعالى بأنّه قد امتحن اللهُ قلبَه، أي ابتلاه بأنواع المحن، فوجده خالص الإيمان، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصانع أحداً في دينه.

وهذا يفيد بمفهومه أنّ غير هذا الرجل ليـس كذلك، لا سـيّما الشيخان; للتصريح بهما، ولأنّهما أشارا بردّ المؤمنين إلى بلاد الكفر، وجعل السـبيل للكافرين عليهم خلافاً لحكم الله ورسـوله، ووفاقاً لرغبة الكافرين، لا سـيّما عمر، فإنّه وافق أبا بكر على قوله: " صدقوا "، ولم يبال باسـتياء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من أبي بكر وتغيّر وجهه الشريف من قوله، كما سبق في بعض الأخبار المصحّحة عندهم، المذكورة في الآية الثانية والعشـرين(1).

ولو كانا ممّن امتحن الله قلبه للإيمان وخالصي الإيمان لَما فعـلا ذلـك.

بل يستفاد من وصف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للرجل الذي يبعثه الله بأنّه امتحن الله قلبه للإيمان، ويضرب أعناقهم على الدين، بعد موافقة الشيخين لقريش، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد التعريض بهما بأنّهما ليسـا بهذا الوصف.

وبالضرورة أنّ من ليس كذلك، ولم يبال بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مواجهة في حياته، ولا بكتاب الله وحكمه، أحقّ وأَوْلى بعدم المبالاة بأحكام الله ودينه

____________

1- راجـع: ج 5 / 86 وما بعـدها من هذا الكـتاب.


الصفحة 158
ونبيّه بعد وفاته، فلا يصلح للإمامة، وإنّما الصالح لها من ثبت له ذلك الوصف الجميل الجليل.

وقد أشار النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ مع ذلك ـ إلى عصمة عليّ (عليه السلام) وفضله، بجعله منه أو مثل نفسه، كما في رواية " الجمع بين الصحاح " وغيرها ممّا سـبق في الآية المذكورة(1)، فيتعـيّن للإمامـة.


*  *  *

____________

1- راجـع: الصفحة 152 ـ 153 من هذا الجزء، و ج 5 / 88 وما بعـدها من هذا الكـتاب.


الصفحة 159

18 ـ حـديث الطـائـر

قال المصنّـف ـ ضاعف الله أجره ـ(1):

الثامن عشر: في مسند أحمد بن حنبل، و " الجمع بين الصحاح السـتّة "، عن أنس بن مالك، قال: كان عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) طائر قد طُبخ له، فقال: اللّهمّ ائـتـني بأحبّ الناس إليك يأكل معي; فجاء عليٌّ فأكل معـه(2).

____________

1- نهج الحقّ: 220.

2- ينابيع المودّة 1 / 175 ح 1 و ص 176 ح 4 عن مسند أحمد وسنن أبي داود، فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 692 ـ 693 ح 945، جامع الأُصول 8 / 653 ح 6494 عن الجمع بين الصحاح الستّة، وانظر: سنن الترمذي 5 / 595 ح 3721، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 107 ح 8398، التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ 1 / 358 رقم 1132 و ج 2 / 2 رقم 1488، مسند أبي يعلى 7 / 105 ح 4052، المعجم الكبير 1 / 253 ح 730 و ج 7 / 82 ح 6437 و ج 10 / 282 ح 10667، المعجم الأوسط 2 / 239 ح 1765 و ج 6 / 153 ح 5886 و ص 418 ح 6561 و ج 7 / 315 ح 7466 و ج 9 / 251 ح 9372، أنساب الأشراف 2 / 378، تاريخ جرجان: 176 رقم 228، العقد الفريد 4 / 77، طبقات المحدّثين بأصبهان 3 / 454 ح 613 رقم 451، مروج الذهب 2 / 425، تمهيد الأوائل: 546، المستدرك على الصحيحين 3 / 141 ـ 142 ح 4650 و 4651، المغني ـ للقاضي عبـد الجبّار ـ 20 ق 2 / 122، حلية الأولياء 6 / 339، تاريخ أصبهان 1 / 279 ـ 280 رقم 468، موضّح أوهام الجمع والتفريق 2 / 459 رقم 458، تاريخ بغداد 3 / 171 رقم 1215 و ج 9 / 369 رقم 4944، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 163 ـ 176 ح 189 ـ 212، مصابيح السُـنّة 4 / 173 ح 4770، تاريخ دمشق 37 / 406 رقم 4428 و ج 42 / 245 ـ 259، مجمع الزوائد 9 / 125 ـ 126.


الصفحة 160
ومنـه، أنّه لمّا حضرت ابن عبّـاس الوفاة قال: اللّـهمّ إنّي أتـقـرّب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب(1).


*  *  *

____________

1- فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 823 ح 1129، وانظر: الرياض النضرة 3 / 130 ـ 131.


الصفحة 161

وقال الفضـل(1):

حديث الطيـر مشهور، وهو فضيلة عظيمة، ومنقبة جسـيمة، ولكن لا يدلّ على النصّ، وليـس الكلام في عدّ الفضائل.

وأمّا التوسّل بولاية عليّ، فهو حقّ ومن أقرب الوسائل.


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 7 / 452.