الصفحة 162

وأقـول:

روى الترمذي حديث الطائر بسنده عن السُّدي، عن أنس، ثمّ قال: وقد روي من غير وجه عن أنـس(1).

ورواه النسائي في " الخصـائص "، عن أنس ـ بهذا اللفظ ـ، أنّه أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده طائر فقال: اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير; فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء عليٌّ فأذن لـه(2).

ورواه الحاكم في " المستدرك "(3)، عن أنس أيضاً، وذكر فيه أنّه جاء عليٌّ مرّتين فقال له: إنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حاجـة; ثمّ جاء فـقال النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إفتح; فدخل.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما حبسك علَيَّ؟!

قال: إنّ هذه آخـرُ ثلاث كـرّات يردّني أنـس، يزعم أنّك على حاجـة; الحـديث.

ثمّ قال الحاكم: هذا حديث [ صحيح ] على شرط الشـيخين.

وقال: وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً، ثمّ صحّت الرواية عن عليّ، وأبي سعيد الخدري، وسفينة.

____________

1- سـنن الترمذي 5 / 595 ح 3721.

2- خصائص الإمام عليّ (عليه السلام): 25 ـ 26 ح 12، وانظر: السـنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 107 ح 8398.

3- ص 130 من الجزء الثالث [ 3 / 141 ـ 142 ح 4650 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 163
ثمّ رواه الحاكم أيضاً من طريقين، عن إبراهيم بن ثابت البصري القصّار، عن ثابت البناني، عن أنس; وتعقّبه الذهبي: بأنّ إبراهيم بن ثابت ساقط(1).

ويشكل بأنّ هذا مناقـض لِما ذكره هو في " ميزان الاعتدال "، فإنّـه قال فيه: " لا أعرف حاله جيّـداً "(2).

كما أنّه تعقّب الحديث الأوّل بأنّ في سنده محمّـد بن أحمد بن عياض، عن أبيه; فقال: " ابن عياض لا أعرفه "(3).

وقال في " الميزان " بترجمة محمّـد المذكور، بعدما ذكر روايته لحديث الطير بالسـند الذي ذكره الحاكم: " قال الحاكم: هذا على شرط البخاريّ ومسلم ".

ثمّ قال الذهبي: " الكلّ ثقات إلاّ هذا ـ يعني محمّـداً ـ، فأنا أتّـهمه به، ثمّ ظهر لي أنّـه صـدوق ـ إلى أن قال: ـ فأمّا أبوه فلا أعرفه "(4).

وعليـه: فالأمر هيّن; لأنّ عدم معرفته له لا تضرّ فيه بعدما عرفه الحاكم وصحّح حديثه على شرط الشـيخين.

وقد روى الذهبيّ حديث الطير بترجمة جعفر بن سليمان الضُّـبَعي من " الميزان "، وسـنده صحيح; لأنّه رواه عن قَطَن بن نُسَـير ـ وهو من رجال مسلم(5) ـ، عن جعفر المذكور ـ وهو من رجاله أيضاً(6) ـ، عن

____________

1- المستدرك على الصحيحين 3 / 142 ـ 143 ح 4651.

2- ميزان الاعتدال 1 / 143 رقم 59.

3- انظر هامش المستدرك على الصحيحين 3 / 141 ح 4650.

4- ميزان الاعتدال 6 / 53 رقم 7186.

5- انظر: ميزان الاعتدال 5 / 474 رقم 6907، تهذيب التهذيب 6 / 516 رقم 5746.

6- انظر: ميزان الاعتدال 2 / 136 رقم 1507، تهذيب التهذيب 2 / 61 رقم 984.


الصفحة 164
عبـد الله بن المثنّى بن عبـد الله بن أنس ـ وهو من رجال البخاري(1) ـ، عن أنـس(2).

وحكاه في " كنز العمّال "(3)، عن ابن عساكر من ثلاثة طرق، وعن ابن النجّـار من طريق(4).

ونقله سبط ابن الجوزي في " تذكرة الخواصّ "، عن أحمد في " الفضائل "، بسـنده عن سـفينة(5).

ونقله في " ينابيع المودّة " في الباب الثامن، عن أحمد في مسنده، عن سـفينة(6).

كما نقله المصنـّف (رحمه الله) هنا عن مسـند أحمد، عن أنـس(7).

والظاهر أنّ القوم أسقطوا الحديثين الأخيرين من " المسند " الموجود بأيدينا اليوم، طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313 هجرية، كما هي عادتهم في إسقاط كثير من الأحاديث المتعلّقة بفضل أمير المؤمنين!!

____________

1- انظر: تهذيب التهذيب 4 / 461 رقم 3664.

2- ميزان الاعتدال 2 / 139 ذيل رقم 1507.

3- ص 406 من الجزء السادس [ 13 / 166 ـ 167 ح 36505 و 36507 و 36508. منـه (قدس سره).

وانظر: تاريخ دمشق 42 / 245 ـ 259.

4- لم نجده في " ذيل تاريخ بغـداد " المطبوع!

5- تذكرة الخواصّ: 44، وانظر: فضائل الصحابة 2 / 693 ح 945.

6- ينابيع المودّة 1 / 175 ح 1.

7- تقـدّم في الصفحة 159 من هذا الجزء.


الصفحة 165
فمـع ما ذكرنـاه ـ الذي هو قليـل من كـثير ـ كيـف يزعم ابن تيميّة أنّـه لم يروِ حديث الطير أحدٌ من أصحاب الصحـاح، ولا صحّحه أئمّة الحـديث(1)؟!

والحال أنّه قد رواه: الترمذي، والنسائي، وصحّحه الحاكم(2).

ورواه الذهبي بترجمة جعفر بطريق لا شـبهة في صحّته عندهم كما سـمعت.

بل زعم ابن تيميّة ـ كعادته في فضائل إمام المتّـقين ـ أنّ الحديث عنـد أهل المعرفة والعلم من المكذوبات والموضوعات(3)، والحال أنّه حكى عن أبي موسى المديني، أنّه قال: جمع غير واحد من الحفّـاظ طرق أحاديثـه(4).

____________

1- انظر: منهاج السُـنّة 7 / 371.

2- تقـدّم آنفـاً في الصفحة 162 من هذا الجزء.

3- منهاج السُـنّة 7 / 371.

4- منهاج السُـنّة 7 / 371 ـ 372.

نـقـول: وممّن ذُكر أنّه جمع طرق حديث الطير وأفرده بالتصنيف:

1 ـ أبو جعفر محمّـد بن جرير الطبري (ت 310); له: " حديث الطير "; كما في البداية والنهاية 7 / 281 و ج 11 / 125.

2 ـ الحافظ أحمد بن محمّـد بن سعيد بن عقدة (ت 333); له: " حديث الطير "; كما في مناقب آل أبي طالب ـ لابن شهرآشوب ـ 2 / 317.

3 ـ الحاكم النيسابوري، أبو عبـد الله محمّـد بن عبـد الله بن حمدويه، ابن البيّع الشافعي (ت 405); له: " قصّة الطير "; ذكره هو لنفسه في معرفة علوم الحديث: 252، وذكره له الذهبي في سير أعلام النبلاء 17 / 176 رقم 100.

4 ـ الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني (ت 410); له: " حديث الطير "; كما في البداية والنهاية 7 / 281، ومنهاج السُـنّة 7 / 372.

5 ـ الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبـد الله الأصبهاني (ت 430); له: " حديث الطير "; ذكره السمعاني في التحبير 1 / 181، والذهبي في سير أعلام النبلاء 19 / 306 رقم 193، وابن تيميّة في منهاج السُـنّة 7 / 372.

6 ـ الحافظ أبو طاهر محمّـد بن أحمد بن عليّ بن حمدان الخراساني (ق 5); له: " طرق حديث الطير "; كما في سير أعلام النبلاء 17 / 463، تذكرة الحفّاظ 3 / 1112 رقم 1000، البداية والنهاية 7 / 281.

7 ـ شمس الدين أبو عبـد الله محمّـد بن أحمد الذهبي (ت 748); نصَّ هو على ذلك في تذكرة الحفّاظ 3 / 1042 ـ 1043 رقم 962 بقوله: " وأمّـا حديث الطير فله طرق كثيرة جدّاً، قد أفردتها بمصنّف، ومجموعهـا هو يوجب أن يكون الحديث له أصل ".

وقال في سير أعلام النبلاء 17 / 169: " وقد جمعت طرق حديث الطير في جزء، وطرق حديث: من كنت مولاه; وهو أصحّ، وأصحّ منهما ما أخرجه مسلم عن عليّ، قال: إنّه لعهد النبيّ الأُمّيّ إليّ أنّه لا يحبّـك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منـافق ".

وقد أدرج السـيّدُ عبـد العزيز الطباطبائي (قدس سره) كلّ ما أُلِّف عن حديث الطير، كلاًّ في محلّه من كتابه " أهل البيت (عليهم السلام) في المكتبة العربية "، كما أوسع الحديثَ بحثاً في ألفاظه وطرقه ومصادره، وذلك في معرض ذِكره لكـتاب الحاكم النيسابوري، آنف الذِكر برقم 3; فراجـع: أهل البيت (عليهم السلام) في المكتبة العربية: 384 ـ 413 رقم 594.

وكذا فعل السـيّد عليّ الحسـيني الميلاني ـ حفظه الله ـ; إذ توسّع في الحديث بحثاً، سـنداً ودلالة، ودحض أباطيل ومفتريات المشـكّكين بصحّته; فراجـع الجزءين 13 و 14 من موسوعته " نفحات الأزهار في إمامة الأئمّـة الأطهار ".

فللّه درّهما وعليه أجرهما.

وراجـع: ج 1 / 8 هـ 2 من هذا الكـتاب.


الصفحة 166
وقال في " ينابيع المودّة ": ولابن المغازلي حديث الطير من عشرين طريقـاً(1).

وقد سمعت قول الحاكم: رواه عن أنس زيادة على ثلاثين نفساً(2).

____________

1- ينابيع المودّة 1 / 176 ذ ح 3، وانظر: مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 163 ـ 176 ح 189 ـ 212.

2- المسـتدرك على الصحيحين 3 / 142 ذ ح 4650.


الصفحة 167
وليت شعري، أيُّ أهل المعرفة يدّعي وضعه؟! فإنّا لا نعرف أحداً من سائر الناس ادّعاه فضلا عن أهل المعرفـة!!

ولو سُلّم، فما زعمهم أهل المعرفة إنّما هم الخصوم والنواصب أمثاله، الّذين يريدون أن يطفـئوا نور الله بأفواههم وأن يتّبع الحـقّ أهـواءَهم!

وأمّا دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فمن أظهر الأُمور; لأنّ أحبّ الناس إلى الله تعالى إنّما هو أفضلهم وأتقاهم وأعملهم بطاعته، فلا بُـدّ أن يكون أحقّهم بالإمامة، لا سـيّما من أبي بكر وعمر; إذ مع دخولهما بعموم الناس صرّح حديث النسائي باسمهما بالخصوص كما سـمعت(1).

وأشكل في " المواقف " وشرحها على الحديث: " بأنّه لا يفيد أنّه أحبّ إليه في كلّ شيء; لصحّة التقسيم، وإدخال لفظ الكلّ والبعض; ألا ترى أنّه يصحّ أن يستفسر ويقال: أحبّ إليه في كلّ الأشياء أو في بعض الأشـياء؟... فلا يدلّ على الأفضلـيّـة مطلقاً "(2).

والجـواب: إنّ الإطلاق مع عدم القرينة على الخصوص يفيد العموم في مثل المقام، ألا ترى أنّ كلمة الشهادة تدلّ على التوحيد؟! وبمقتضى ما ذكراه ينبغي أن لا تدلّ عليه; لإمكان الاسـتفسار بأنّه لا إله إلاّ هو في كلّ شيء، أو في السماء، أو في الأرض؟ إلى غير ذلك; فلا تفيد نفي الشريك مطلقـاً; وهذا لا يقوله عارف.

____________

1- تقـدّم آنفـاً في الصفحـة 162; فراجـع!

2- انظر: المواقف: 409، شرح المواقف 8 / 367 ـ 368.


الصفحة 168
والعجب منهما أن يقولا ذلك، وهما يسـتدلاّن على فضل أبي بكر بقوله تعالى: { وسـيجنّبها الأتقى }(1)، زاعمين أنّ المراد بالأتقى: أبو بكر، فيكون أفضـل(2)، والحال أنّه يمكن الاسـتفسار بأنّه الأتقى في كلّ شيء أو بعض الأشياء؟!

مضافاً إلى أنّه لا يصحّ حمل الحديث على إرادة الأحبّ في بعض الأُمور، وإلاّ لجاء مع عليّ (عليه السلام) كلّ من هو أحبّ منه بزعمهم في بعض الأُمور كالشيخين; لاستجابة دعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والحال أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ردّهما كما في حديث النسائي(3).

ونحن نمنع أن يكون أحدٌ أحبَّ إلى الله سبحانه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من عليّ (عليه السلام) في شيء من الأشياء; لِما سبق في المبحث الثاني من مباحث الإمامة أنّ الإمام أفضل الناس في كلّ شيء، فيكون أحبّهم إلى الله تعالى في كلّ شيء(4).

وقد زاد ابن تيميّة في الطنبور نغمة، فأَورد على الحديث بأُمور تشهد بجهله أو نصبه..

منها: إنّ أكل الطير ليس فيه أمر عظيم هنا، يناسب أن يجيء أحبّ الخلق إلى الله ليأكل معه، فإنّ إطعام الطعام مشروع للبـرّ والفاجر، وليس في ذلـك زيـادة وقربـة عنـد الله لهذا الآكـل، ولا معونـة على مصلحـة ديـن ولا دنيـا، فأيُّ أمر عظيم يناسـب أن يجيء أحبّ الخلق إلى الله

____________

1- سورة الليل 92: 17.

2- المواقف: 407 ـ 408، شرح المواقف 8 / 366.

3- انظر: خصائص الإمام علي (عليه السلام): 25 ـ 26 ح 12، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 107 ح 8398.

4- انظر: ج 4 / 233 وما بعـدها من هذا الكـتاب.


الصفحة 169
يفعلـه(1)؟!

والجـواب: إنّ الأمرَ العظيم تعريفُ الأحبّ إلى الله تعالى للناس بدليل وجداني، فإنّه آكد من اللفظ، وأقوى في الحجّـة، كما عرّفهم نبيّ الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ عليّـاً حبيب الله في قصّة خيبر، بإخبارهم أنّه يُعطي الراية من يُحبّه الله ورسوله، ويحبّ الله ورسوله، وأنّ الفتح على يده(2).

على أنّه يكفي في المناسبة رغبة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يأكل مع أحبّ الخلق إلى الله وإليه.

ومنها: إنّ هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة; فإنّهم يقولون: إنّ النبيّ كان يعلم أنّ عليّـاً أحبّ الخلق إلى الله، وأنّه جعله خليفة من بعده، وهذا الحديث يدلّ على أنّه ما كان يعرف أحبّ الخلق إلى الله(3).

الجواب: إنّا لا نعرف وجه الدلالة على أنّه لا يعرفه، أتُراه لو قال: " ائتني بعليّ " يدلّ على عدم معرفته له؟! وكيف لا يعرفه وقد قال كما في بعض الأخبار: " اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليَّ "(4)؟!..

وقال لعليّ في بعض آخر: " ما حبسك علَيَّ؟! "(5)..

وقال له في بعضها: " ما الذي أبطأ بك؟! "(6)..

فالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفاً به، لكـنّه أبهم ولم يقل: " ائتني بعليّ ";

____________

1- منهاج السُـنّة 7 / 374.

2- انظر الصفحة 89 وما بعـدها من هذا الجزء.

3- منهاج السنّة 7 / 374.

4- المستدرك على الصحيحين 3 / 142 ح 4651.

5- انظر: المعجم الأوسط 7 / 315 ح 7466، المستدرك على الصحيحين 3 / 142 ح 4650.

6- تاريخ دمشق 42 / 253.


الصفحة 170
ليحصل التعيين من الله سبحانه، فيعرف الناس أنّ عليّـاً هو الأحبّ إلى الله تعالى بنحو الاسـتدلال.

ومنها: ما حاصله أنّه مناقض للأحاديث الثابتة في الصحاح، القاضية بأنّ أبا بكر هو الأحبّ، كما في الصحيحين من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لو كـنت متّخذاً خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا "(1).

ومناقض لقوله تعالى: { وسـيجنّبها الأتقى }، فإنّ أئمّة التفسـير يقولون: إنّـه أبو بكر(2); والأتقى هو الأحبّ لله ورسوله(3).

والجواب: إنّ روايتهم لا تقوم حجّة علينا، وكذا قول أهل تفسـيرهم; لأنّه من التفسـير بالرأي التابع للهوى، ولمقـدّمات باطلة!

على أنّه ليـس مجمعاً عليه بينهم، وسـيأتي الكلام في الآية إن شاء الله تعالى، كما أنّ روايته غير تامّـة الدلالة على مـدّعاه.


*  *  *

____________

1- صحيح البخاري 5 / 66 ح 156 ـ 158، صحيح مسلم 7 / 108 ـ 109.

2- ذكر بعض المفسـرين هذا على أنّـه قولٌ من الأقـوال في تفسـير الآيـة الكريمـة، لا أنّهم يقولون بذلك على وجه الجزم والقطع وليس هناك قول غيره; فانظر: الوسيط في تفسير القرآن المجيد 4 / 505، زاد المسير 8 / 277، تفسير الفخر الرازي 31 / 205، تفسير القرطبي 20 / 59، تفسير الدرّ المنثور 8 / 537 ـ 538 عـن ابن أبي حاتم وابن مردويه.

3- منهاج السُـنّة 7 / 375 ـ 376.


الصفحة 171

19 ـ حـديث: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

التاسع عشر: في مسند أحمد بن حنبل، وصحيح مسلم، قال: لم يكن أحد من أصـحاب رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " سـلوني " إلاّ عليّ بن أبي طالب(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها "(3).

____________

1- نهج الحقّ: 221.

2- ينابيع المودّة 1 / 224 ح 50 عن مسند أحمد، عمدة عيون صحاح الأخبار: 326 ح 435 عن صحيح مسلم، وانظر: فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 802 ح 1098، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 256، ذخائر العقبى: 151، الاستيعاب 3 / 1103، جامع بيان العلم 1 / 137، الفقيه والمتفقّه 2 / 352 ح 1083، شواهد التنزيل 1 / 38 ح 46 ـ 48، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 90 ـ 91 ح 83، تاريخ دمشق 42 / 399، أُسد الغابة 3 / 597، الرياض النضرة 3 / 166 ـ 167، كنز العمّال 13 / 130 ـ 131 ح 36415.

3- انـظـر: مـعـرفـة الرجـال ـ لابن معيـن ـ 1 / 79 رقم 231 و ج 2 / 242 رقم 831 و 832، سنن الترمذي 5 /596 ح 3723، فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 789 ح 1081، المعجم الكبير 11 / 55 ح 11061، تهذيب الآثـار 4 / 104 ـ 105 ح 173 و 174، المستدرك على الصحيحين 3 / 137 ـ 138 ح 4637 ـ 4639، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: 127، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 1 / 88 ح 347، حلية الأولياء 1 / 64، تاريخ جرجان: 65 ح 7، الاستيعاب 3 /1102، تاريخ بغداد 2 / 377 رقم 887 و ج 4 / 348 رقم 2186 و ج 7 / 173 رقم 3613 و ج 11 / 48 ـ 50 رقم 5728، تلخيص المتشابه 1 / 162 رقم 251، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 115 ـ 120 ح 120 ـ 129، زيـن الفـتـى 1 / 162 ـ 163 ح 61 و 62 و ج 2 / 400 ـ 403 ح 521 ـ 526، شواهد التنزيل 1 / 81 ـ 82 ح 118 ـ 121، فردوس الأخبار 1 / 42 ح 109، مصابيح السُـنّة 4 / 174 ح 4772، مفردات القرآن: 63، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 82 ـ 83 ح 69، تاريخ دمشق 42 /378 ـ 382، جامع الأُصول 8 / 657 ح 6501، مطالب السؤول: 69 و 98، منهاج السُـنّة 7 515/، مجمع الزوائد 9 / 114، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ: 202، جواهر العقدين: 57، الصواعق المحرقة: 189، شرح المواهب اللدنّـيّـة ـ للزرقاني ـ 4 / 215، كنز العمّال 11 / 614 ح 32978 و 32979 و ج 13 / 147 ـ 149 ح 36462 ـ 36464، مرقاة المفاتيح 10 / 470.

وانظر تلازم المعنى والمؤدّى في لفظَي الحديثين: " أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها " و " أنا مدينة الحكمة وعليٌّ بابها " في ما نمّقه الشـيخ المظـفّر (قدس سره)، في الصفحة 323 مـن هذا الجـزء!


الصفحة 172

وقال الفضـل(1):

هذا يدلّ على وفور علمه واستحضاره أجوبة الوقائع واطّلاعه على شـتات العلوم والمعارف، وكلّ هذه الأُمور مسلّمةٌ ولا دليل على النصّ، حيث لا يجب أن يكون الأعلم خليفة، بل الأحفظ للحوزة، والأصلح للأُمّـة، ولو لم يكن أبو بكر أصلح للإمامة لَما اختاروه، كما مـرّ(2).


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ 7 / 459.

2- انظر: ج 4 / 235 ـ 236 من هذا الكـتاب.


الصفحة 173

وأقـول:

معنى كونه بابَ مدينة علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه الواسطةُ للناس في وصولهم إلى علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا واسطةَ غيرُه، والآخذ من غيره كالسارق، فيكون أخذ العلم منه واجباً ومن غيره حراماً، فهو الإمام دون غيره; لعدم اجتماع إمامة الشخص وحرمة الأخذ عنه واتّباعه في ما يحكم بـه.

كما أنّ وجوب الأخذ عنه للوصول إلى علم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتمّ إلاّ بعصمته، فيتعينّ للإمامة.

وكـذا جعله الباب لعلمـه دالٌّ على إحاطتـه بجميـع ما يصدر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من العلوم، وذلك شأنّ الإمام.

ويشهدُ لانحصار طريق علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعليّ (عليه السلام)، جهلُ الأُمّة بأكثر الأحكام لمّا أعرضوا عنه، والحال أنّ الله سبحانه قد أكمل دينه، فما زالت آراؤهم مضطربة، وأحكامهم مختلفة، حتّى كأنّ الله تعالى قد أوكل إلى أهوائهم أحكامَـه.

ولمّا رجع الأمرُ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقدر على إمضاء ما عَلِمَ ولا على نشره; لأنّ الناس قد ألِفوا خلافه..

فقد نهى عن صلاة التراويح، فصاح الناس: وا سُـنّـة عُمَراه!(1)..

____________

1- انظر: شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 12 / 283.


الصفحة 174
ونهى عن أكل الجرّي والمارماهي(1)، فلم يتّـبعوه(2)..

وأمر بالمتعتيـن، فخالفوه(3)..

.. إلى غير ذلك من الأحكام.

ولذا قال (عليه السلام) ـ كما رواه البخاري في باب مناقبه ـ: " أُقضوا كما كـنتم تقضون، فإنّي أكره الخلاف حتّى يكون للناس جماعةٌ أو أموتَ كما مات أصحابي "(4).

فإنّه صريحٌ في أنّ قضاء من كان قبله ليس حقّاً، لكنّه لا يتمكّن من الخلاف ما لم يتمّ له الأمرُ.

ولو سُلّم عدم دلالة الحديث على انحصار طريق علم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بعليّ (عليه السلام)، فلا إشكال بدلالته على أعلميّته، كما أقرّ به الفضلُ في ظاهر كلامه، فيقبح تقديم المفضول عليه.. { أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يُـتّبع أم مَن لا يَهِدّي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون }(5).

وقوله: " لا يجب أن يكون الأعلم خليفةً، بل الأحفظ للحوزة، والأصلح للأُمّة ".. ظاهرُ البطلان كما أوضحناه في المبحث الثاني من مباحث الإمامـة(6).

____________

1- انظر: إيضاح الفوائد على شرح القواعد 4 / 144، تفصيل وسائل الشيعة 24 / 130 ـ 137 ب 9 ح 30155 ـ 30177.

2- فقد أفتوا بحلّـيّـتهما، انظر: الإشراف على مذاهب أهل العلم 3 / 225، مختصر المزني على الأُمّ: 299، الحاوي الكبير 19 / 70، المجموع ـ شرح المهذّب 9 / 30، نصب الراية 6 / 65، حياة الحيوان الكبرى ـ للدميري ـ 1 / 193 ـ 194.

3- انظر: شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 12 / 253 ـ 254.

4- صحيح البخاري 5 / 90 ح 203.

5- سورة يونس 10: 35.

6- راجـع: ج 4 / 237 وما بعـدها من هذا الكـتاب.


الصفحة 175
وقد أوضحنا أيضاً في المبحث الثالث فسادَ قوله: " ولو لم يكن أبو بكر أصلحَ للأمامة، لَما اختاروه ".. فإنّ الاختيار لا يصلح أن يكون طريقاً للإمامة، على أنّ من اختاروه إنّما هم نفرٌ محدودٌ، كما سـبق(1).

ثمّ إنّ هذا الحديث ـ أعني: حديث الباب ـ قد رواه الحاكم في " المسـتدرك "(2) من طرق، عن ابن عبّـاس، وصحّحها، وذكر في بعض طرقه أبا الصلت، وقال: " ثقةٌ مأمونٌ "، ونقل توثيقه عن ابن معين وأنّه قيل له: " أليس قد حدّث بهذا الحديث عن أبي معاوية؟! فقال: قد حدّث به جعفر بن محمّـد الـفَـيْـدي، وهو ثقةٌ مأمونٌ ".

ومع ذلك زعم الذهبيُّ أنّه موضوعٌ; لزعمه أنّ أبا الصلت ليس بثقة ولا مأمـون(3)!

وفيـه: إنّه مناف لوصفه له في " ميزان الاعتدال " بـ " الرجل الصالح "، وقال: " إلاّ أنّه شـيعيٌّ جَـلْـدٌ "(4).

ولو سُلّم أنّ أبا الصلت ليس ثقةً، فلا معنى للحكم بوضع الحديث مع رواية الـفَـيْـدي الثقة له عن أبي معاوية.

وإذا صحّت الروايةُ إلى أبي معاويةَ فقد صحّ الحديثُ; لأنّ أبا معاوية رواه عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّـاس; وكلّهم ثقاتٌ عندهم.

____________

1- راجـع: ج 4 / 248 وما بعـدها من هذا الكـتاب.

2- ص 126 من الجزء الثالث [ 3 / 137 ح 4637 و 4638 ]. منـه (قدس سره).

وانـظر: معرفـة الرجـال ـ لابن معين ـ 1 / 79 رقم 231 و ج 2 / 242 رقم 831 و 832.

3- كما في " تلخيص المسـتدرك "; انظر: المسـتدرك على الصحيحين 3 / 137 ح 4637.

4- ميزان الأعتدال 4 / 348 رقم 5056.


الصفحة 176
ورواه الحاكم أيضاً عن جابر وصحّحه(1)..

وتعقّبه الذهبيّ بأنّ في سـنده أحمد بن عبـد الله بن يزيد الحرّاني، وهو دجّـال كـذّاب(2).

وقد تبع فيه ابنَ عديّ; لقوله في حقّه كما في " ميزان الاعتدال ": " كان سامراً(3) يضع الحديث "(4).

والظاهـر أن لا منشأ لنسـبة الوضع والكذب إليه عندهما إلاّ روايتـه لهذا الحـديث، فكان مؤاخذاً بالرواية في فضل أمير المؤمنين، وله أُسوةٌ بأبي الصلت!

ونقل السيوطي في " اللآلئ المصنوعة "، عن ابن الجوزي، أنّه نقل هذا الحديث بلفظه أو ما يشـبهه من خمسة عشر طريقاً، أخرجها ابن عديّ، وأبو نعيم، وابن مردويه، والطبراني، والخطيب، والعقيلي، وابن حبّـان، عن عليّ، وابن عبّـاس، وجـابر(5).

____________

1- المستدرك على الصحيحين 3 / 138 ح 4639.

2- المستدرك على الصحيحين 3 / 137 رقم 4638.

3- كذا في الأصل، وهو تصحيف، والصواب كما في المصدر: " كان بسامـرّا ".

4- ميزان الاعتدال 1 / 249 رقم 627، وانظر: الكامل في ضعفاء الرجال 1 / 192 رقم 32 وفيه: " كان بسرّ من رأى ".

5- اللآلئ المصنوعة 1 / 302 ـ 307، الموضوعات 1 / 349 ـ 353، وانظر: الكامل في ضعفاء الرجال 1 / 190 رقم 27 و ص 192 رقم 32 و ج 2 / 341 رقم 474 و ج 3 / 412 رقم 840 و ج 5 / 67 رقم 1244، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 1 / 88 ح 347، حلية الأولياء 1 / 64، المعجم الكبير 11 / 55 ح 11061، تاريخ بغـداد 2 / 377 رقم 887 و ج 4 / 348 رقم 2186 و ج 7 / 173 رقم 3613 و ج 11 / 48 ـ 50 رقم 5728، تلخيص المتشابه 1 / 162 رقم 251، الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ 3 / 150 رقم 1134، المجروحين ـ لابن حبّان ـ 2 / 94 و 151 ـ 152.


الصفحة 177
ولفظ حديث جابر هكذا: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الحديبية وهو آخذ بيد عليّ يقول: " هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذولٌ من خذله ـ يمدّ بها صوته ـ، أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد العلم فليأتِ الباب "(1).

وهذا الذي رواه الحاكم عن جابر، لكنّه ذكر صدر الحديث في مقام متأخّر(2)، وقد زعم ابن الجوزي أنّها كلّها موضوعة; مستنداً إلى اضطراب إسـناد بعضها، وجهل بعض الرواة في بعضها، وأنّ بعضهم لا يجوز الاحتجاج به، وبعضهم متّهمٌ بسرقة هذا الحديث، وبعضهم كـذّاب(3).

وأنت تعلم أنّ هذا لو تمّ لا يسـتوجب الحكم بوضع الحديث مع اسـتفاضة طرقه; وغاية ما يقتضيه ـ على نظر ـ عدم الاعتماد عليها.

على أنّ السيوطي في " اللآلئ " قد تعقّبه فقال: " حديث عليّ أخرجه الترمذي، وحديث ابن عبّـاس أخرجه الحاكم في (المسـتدرك) "; ثمّ نقل كلام الحاكم الذي أشرنا إليـه(4).

ونقل عن الخطيب، أنّه روى عن ابن معين توثيق أبي الصلت، وأنّ القاسم بن عبـد الرحمن الأنباري سأل ابن معين عن الحديث، فقال: صحيـح..

قال الخطيب: أراد أنّه صحيحٌ من حديث أبي معاوية(5).

____________

1- تاريخ بغـداد 2 / 377 رقم 887.

2- المسـتدرك على الصحيحين 3 / 138 ح 4639 و ص 140 ح 4644.

3- الموضوعات 1 / 353 ـ 355.

4- اللآلئ المصنوعة 1 / 304; وانظر: سنن الترمذي 5 / 596 ح 3723، المستدرك على الصحيحين 3 / 137 ح 4637.

5- اللآلئ المصنوعة 1 / 304; وانظر: تاريخ بغـداد 11 / 49 ـ 50 رقم 5728.


الصفحة 178
أقـول: وفيه الكفايـةُ في مطلوبنـا.

ثمّ نقل السيوطي عن الحافظ صلاح الدين العلائي، أنّه قال في جملة جوابه عن دعوى الوضع: " أيُّ استحالة في أن يقول النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلَ هذا في حقّ عليّ؟! ولم يأتِ كلُّ من تكلّم في هذا الحديث وحكم بوضعه بجواب عن هذه الروايات الصحيحة عن ابن معين! ومع ذلك فله شاهد "(1).. وذكر رواية الترمذي وغيره له، عن شريك، عن سلمة، عن سويد..

ثمّ قال: " وشريك... احتجّ به مسلم، وعلّق له البخاري، ووثّقه ابن معيـن.

وقال العجلي: ثقةٌ، حسنُ الحديث.

وقال عيسى بن يونس: ما رأيت أحداً قطّ أورع في علمه من شريك.

فعلى هذا يكون تفرّده حسناً، فكيف إذا انضمّ إلى حديث أبي معاوية؟! "(2)..

إلى أن قال العلائي: " ولم يأت أبو الفرج ولا غيره بعلّة [ قادحة ] في حديث شريك سوى دعوى الوضع، دفعاً بالصدر "(3).

ثمّ نقل السيوطي عن أبي الفضل ابن حجر، أنّه قال: " هذا الحديث

____________

1- اللآلئ المصنوعة 1 / 305.

2- اللآلئ المصنوعة 1 / 306.

3- اللآلئ المصنوعة 1 / 306.