الصفحة 213
نزل عليه جبرئيل يوماً يناجيه من عند الله، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلم يرفع رأسه حتّى غابت الشمسُ، فصلّى عليٌّ العصـر بالإيماء، فلمّا اسـتيقظ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: سَـلِ اللهَ يَـردّ عليك الشمسَ لتصلّي العصر قائماً; فدعا، فرُدّت الشمسُ، فصلّى العصرَ قائمـاً.

وأمّا الثانية: فلمّا أراد أن يعبر الفرات ببابل، اسـتعمل كثير من أصحابه دوابّهم، وصلّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفاتت كثيراً، فتكلّموا في ذلك، فسأل اللهَ ردّ الشمس فَـرُدّت، ونظمه الحميريُّ فقال [ من الكامـل ]:


رُدّت عليـه الشمسُ لمّا فاتهوقتُ الصلاة وقد دَنت للمَغْربِ
حتّى تبلَّـجَ نورُها في وقتهاللعصر ثمّ هوت هويَّ الكوكبِ
وعليـه قد رُدَّتْ ببابِـلَ مـرّةًأُخرى وما رُدّتْ لخَلْق مُغْرِبِ "(1)

وأجاب ابنُ تيميّة بإنكار الحديثين، واسـتشهد بكلام ابن الجوزي، ثمّ نقل عن أبي القاسم الحسكاني، أنّه جمع طرق حديث ردّها في أيّام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مصنّف سمّاه: " مسألة في تصحيح ردّ الشَّمس وترغيب النواصب الشُّمْسِ "(2)، ثمّ ذكر ابنُ تيميّة طُرقه، وهي أكـثـرُ ممّا سـبق،

____________

1- منهاج الكرامة: 171 ـ 172; وانظر: ديوان السيّد الحميري: 87 ـ 89، والأبيات من قصيدته المذهّبة، التي مطلعها:


هلاّ وقفت على المكان المعشـبِبين الطويلع فاللوى من كبكبِ

والـمُـغْـرِبِ: مَن جاء بشيء وأمر غريب; انظر: لسان العرب 10 / 34 مادّة " غرب ".

2- ترجم الذهبي ترجمة حسـنة للحاكم الحسكاني أبي القاسم عبيـد الله بن عبـد الله ابن الحذّاء الحنفي النيسابوري، المتوفّى بعد سنة 470 هـ، في تذكرة الحفّاظ 3 / 1200 رقم 1032 وذكر له هذا الكتاب قائلا: " ووجدت له مجلساً يدلّ على تشـيّعه! وخِبرته بالحديث، وهو تصحيح خبر ردّ الشَّمس لعليّ (رضي الله عنه) وترغيم النواصـب الشُّمس ".

وذكره له كذلك ابنُ كثير في البداية والنهاية 6 / 62 قائلا: " فصل: إيراد هذا الحديث من طرق متفرّقة، أبو القاسم عبيـد الله بن عبـد الله بن أحمد الحسكاني يصنّـف فيه: تصحيح ردّ الشَّـمْـس وترغيم النواصب الشُّـمْـس ".

وممّن صحّح هذا الحديث، شمسُ الدين الصالحي الدمشقي، المتوفّى سـنة 942 هـ، في كـتابيه: " مزيل اللبس عن حديث ردّ الشمس " الذي أفرده لهذا الغرض، وفي كـتابه: سـبل الهدى والرشاد في سـيرة خير العباد 9 / 435 ـ 439، وتطـرّق فيه لرواية الحاكم الحسكاني ورميه بالتشـيّع، فقال ما لفظه:

" التنبيه الثالث: ليحذر من يقف على كلامي هنا أن يظنّ بي أنّي أميل إلى التشـيّع; واللهُ يعلم أنّ الأمر ليـس كذلك، والحاملُ لي على هذا الكلام أنّ الذهبي ذكر في ترجمة الحافظ الحسكاني أنّـه كان يميل إلى التشـيّع; لأنّـه أملى جزءاً في طرق حديث ردّ الشمس، وهذا الرجل ترجمه تلميذُه الحافظ عبـد الغفّار بن إسماعيل الفارسي في (ذيل تاريخ نيـسابور) فلم يسعفه بذلك، بل أثنى عليه ثناءً حسـناً، وكذلك غيرُه من المؤرّخين، نسأل الله تعالى السلامة من الخوض في أعراض الناس بما نعلم وبما لا نعلم "!


الصفحة 214
أخرجها عن أمير المؤمنين، وأسماء، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأورد عليه بأُمور، ولنذكرها مفصّلة وإن كانت مشوّشة في كلامه..

  الأمر الأوّل: عدمُ صحّة طرقه، وبالغ في النقد عليها، حتّى ضعّف جملةً من رجالها، وهم ممّن احتجّ بهم مسلم، والبخاري في الصحيحين(1).

فليت شعري، كيف يجتمع هذا مع قولهم بصحّة أخبار الصحيحين أجمـع؟!

وهل يسلم لهم خبر من نقد بعض رجاله بمثل تلك النقود، حتّى

____________

1- منهاج السُـنّة 8 / 165 ـ 172 وما بعدها.


الصفحة 215
يصحّ القول بصحّته؟!

وكيف كان! فنحن لا نضيّع الوقت بردّ نقوده بعدما صحّح جملةً من طرق الحديث: الطحاوي، والقاضي عياض، والحافظ السيوطي، والحاكم الحسكاني، وسبط ابن الجوزي في " تذكرة الخواصّ "، وحسّنها أبو زُرعة وغيـره(1).

ولا سيّما أنّ المطلوب الوثوق، ولا ريب بحصوله من الطرق المستفيضة، بل هو أشدّ وأقوى من الوثوق من خبر صحيح أو أخبار صحاح.

وإذا ضممت إلى تلك الأحاديث أخبارنا(2) علمتَ أنّ ردّها لأمير المؤمنيـن متواترٌ.

  الأمر الثاني: إنّه لو كان للواقعة أصل، لكانت من أعظم عجائب العالم التي تتوفّر الدواعي إلى نقلها، ولم يختصّ نقلُها بالقليل(3).

ويَـرِدُ عليـه:

____________

1- انظر: مشكل الآثار 2 / 8 ذ ح 1211، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 284، اللآلئ المصنوعة 1 / 308 ـ 312، وأبا القاسم الحسكاني كما في منهاج السُـنّة 8 / 172، تذكرة الخواصّ: 54، طرح التثريب 6 / 247، كفاية الطالب: 383، فتح الباري 6 / 272 ـ 273، عمدة القاري 15 / 43، شرح المواهب اللدنّية 6 / 486 ـ 487، شرح الشفا 1 / 489 و 592.

وقد تقدّم رواية الطبراني له بسند حسن كما حكاه عنه غير واحد ممّن تقدّم، بل قال في مجمع الزوائد 8 / 297: رواه كلّه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجـال الصحيح غير إبراهيم بن حسن وهو ثـقة.

2- انظر: الاحتجاج 1 / 308، كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين: 111 ـ 113، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 345 ـ 347.

3- منهاج السُـنّة 8 / 171 و 177.


الصفحة 216
أوّلا: إنّ الدواعي إلى عدم نقلها أكثر; لأنّ الناس في أيّام الأُمويّين وكـثير من الأوقات أعداءٌ لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ومجتهدون في نقصه، فكيف يسـتفيض بينهم نقلُ هذه الفضيلة العظيمة؟!

وثانياً: إنّه منقوضٌ بانشقاق القمر، الذي هو معجزةٌ لنبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، ولا يشاركه فيها عليٌّ حتّى تتوفّـر الدواعي إلى إخفائـها، ومع ذلك لم يَـرْوِها أكثرُ من رواة ردّ الشـمـس.

ودعوى ابن تيميّة الفرقُ بأنّ انشقاق القمر كان بالليل وقت نوم النـاس(2)، باطلةٌ; لِما في " صحيح البخاري " في تفسير: { اقتربت الساعة }(3)، عن أنس، قال: سأل أهلُ مكّة أن يُرِيَهُمْ آيةً، فأراهم انشقاق القمـر(4).

وفي " سنن الترمذي "، في تفسير هذه السورة، عن جبير بن مطعم، قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى صار فرقتين، على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل; فقالوا: سحرنا محمّـد! فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يسـتطيع أن يسحر الناس كلّهم(5).

وثالثاً: إنّ السبب في عدم تواتر نقل مثل هذه الوقائع في الكتب، هو

____________

1- صحيح البخاري 5 / 59 ـ 60 ح 137 ـ 139، صحيح مسلم 8 / 132 ـ 133، مـســنـد أحـمـد 1 / 377 و 413 و 447 و ج 3 / 275 و ج 4 / 82، دلائـل الـنـبـوّة ـ للبيهقي ـ 2 / 262 ـ 268، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 280 ـ 283.

2- منهاج السُـنّة 8 / 171.

3- سورة القمر 53: 1.

4- صحيح البخاري 6 / 252 ـ 253 ح 361.

5- سنن الترمذي 5 / 372 ح 3289.


الصفحة 217
أنّ عامّـة الناس كانوا أُمّـيّـين، وما كان التاريخ والتأليف مألوفاً بين من يعرف الكتابة منهم، بلا فرق بين المسلمين وغيرهم; ولذا لم يُعرف مؤلّفٌ في تلك العصـور، ولم يصل إلينا من معجـزات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ القليـل، ولا سـيّما من طرق السُـنّة.

وإنّما وقع التأليف نادراً في التابعين، وكثر في تبع التابعين، على حين لم يبق من ذِكر الحوادث السالفة إلاّ ما ندر، وتناسى الناسُ فضائل أمير المؤمنين; خوفاً أو عناداً، لا سـيّما ما هو صريح في إمامتـه.

  الأمر الثالث: إنّ خصوصيّات الروايات متنافيةٌ من وجوه، وهو يكشف عن كذب الواقعة.

الأوّل: دلالة بعضها على طلوع الشمس حتّى وقعت على الجبال وعلى الأرض، وبعضها حتّى توسّطت السماء، وبعضها حتّى بلغت نصف المسـجد.

وهذا دالٌّ على أنّ ذلك بالمدينة; لأنّ المقصود مسجدها، وكثير من الأخبار يدلّ على أنّـه بالصهباء(1) في غزوة خيـبر(2).

الثاني: إنّ بعضها يدلّ على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يوحى إليه، وبعضها كان نائماً ثمّ اسـتيقظ.

الثالث: دلالة بعضها على أنّ عليّـاً كان مشغولا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعضها على أنّه كان مشغولا بِقَسْم الغنائم.

____________

1- الـصَّـهْـباء: اسمُ موضـع بينه وبين خيبر روحة، سُمّيت بذلك لصهوبة لونهـا وهـو حمرتها أو شقرتها; انظر: معجم البلدان 3 / 494 ـ 495 رقم 7679.

2- المعجم الكبير 24 / 145 ح 382، مشكل الآثار 2 / 7 ح 1208، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 284، البداية والنهاية 6 / 62.


الصفحة 218
.. إلى غير ذلك من الخصوصيّـات المتـنافيـة(1).

والجـواب: إنّ تنافي الخصوصيّات لا يوجب كذب أصل الواقعـة، وإنّما يقتضي الخطأ في الخصوصيّات; إذ لا ترى واقعةً تكثّرت طرقُها إلاّ واختلف النقل في خصوصيّـاتها، حتى إنّ قصّـة انشـقاق القمـر قد وردت ـ في الرواية التي تقدّمت عن الترمذي(2) ـ بأنّ القمر صار فرقتين على جبليـن.

وفي رواية أُخرى للترمذي: إنشقّ فلقتين، فلقةً من وراء الجبل، وفلقةً دونـه(3).

وفي " صحيح البخاري ": فرقةً فوق الجبل، وفرقةً دونه(4).

على أنّه لا تنافي بين تلك الخصوصيّـات; لأنّ المراد بجميع الخصوصيّات في الوجه الأوّل: هو رجوعُ الشمس إلى وقت صلاة العصر، كما صرّح به بعضُ الأخبـار(5).

لكن وقعت المبالغة في بعضها بأنّها توسّطت السماء(6)، والمبالغة

____________

1- راجع الصفحة 200 هـ 1 ففيه تخريج جلّ روايات ردّ الشمس بمختلف طرقها وخصوصيّـاتها.

وأجملَها ابنُ تيميّة في منهاج السُـنّة 8 / 175 و 183 ـ 186.

2- تقـدّمت آنفاً في الصفحة 216، وانظر: سنن الترمذي 5 / 372 ح 3289.

3- سنن الترمذي 5 / 370 ـ 371 ح 3285.

4- صحيح البخاري 6 / 252 ح 358.

5- الظاهر أنّ جميع الأخبار الواردة، وليس بعضها، قد صرّحت بأنّ ردّ الشمس كان إلى وقت صلاة العصر; فراجـع الصفحة 200 هـ 1 من هذا الجزء.

6- كذا في الأصل، ولم يرد لفظ " السماء " في أيّ من ألفاظ الحديث، ولعلّ الشيخ المصنّف (قدس سره) كـنّى بذلك عن " وسط المسجد " و " نصف المسجد " و " وقعت على الجبال " و " وقفت على الجبال " و " بيضاء نقـيّـة " كما جاءت به نصوص الروايات; فلاحـظ!


الصفحة 219
غيرُ عزيزة في الكلام.

كما أنّ وقوع ردّ الشمس في غزوة خيبر، لا ينافي بلوغها نصف المسـجد.

وأمّـا الخصوصيـّات في الوجـه الثـاني، فلا تنـافي بينها أيضاً; لصحّة حمل نوم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على غَشْـية الوحي، والاسـتيقاظ على تسـرّيه; ولذا عبّر بعضُ الأخبار بالاسـتيقاظ بعد ذِكر نزول جبرئيل وتغشّي الوحي للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

وأمّا الخصوصيّاتُ في الوجه الثالث، فهي أظهرُ بعدم التنافي بينها; إذ لا يبعد أنّ قَسْمَ الغنائم هو الحاجةُ التي وقعت قبل شـغل عليّ (عليه السلام)بالنبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا في عرضـه.

وعلى هذا، القياسُ في سائر الخصوصيّات التي يُتوهّم تنافيها.

  الأمرُ الرابع: اشـتمال الأحاديث على المنكَرات:

منها: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا ربّ! إنّ عليّـاً في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس ".

قال أبو سعيد: فوالله لقد سمعت للشمس صريراً كصرير البكرة حتّى رجعت بيضاء نقيـّة.

ومنها: إنّها لمّا غابت سمع لها صريرٌ كصرير المنـشار.

ومنها: إنّها أقبلت ولها صريرٌ كصرير الرحى.

____________

1- تاريخ دمشق 70 / 36 رقم 9409.


الصفحة 220
وإنّما قلنا: إنّ هذه منكرات; لأنّ الشمس لا تلاقي من الأجسام ما يُوجب هذه الأصوات التي تصل من فلك الشمس إلى الأرض(1).

والجـواب: إنّ الله سـبحانه لا يعجز عن إحداث الصوت ليكون للسمع حظٌّ من هذه الفضيلة كما للبصر، فيزيد التيقّن بها، والالتفاتُ إليها.

ولو تسرّبنا(2) إلى هذه المناقشات منعنا انشقاق القمر، وسقوط شقّيه على الجبلين أو الجبل وما دونه، فإنّه أكبر من ذلك.

فإذا أُجيب ها هنا بأنّ الله شقّه وصغّر جرمه وأنزله إلى الأرض إيضاحاً للحجّـة، فليجب بمثله في المقام.

وممّا اشتملت عليه من المنكرات ـ بزعم ابن تيميّة ـ نوم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بعد صلاة العصر، وهو مكروه، ولا يفعله النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أيضاً تنام عيناه ولا ينام قلبه(3); فكيف يفوّتُ على عليّ صلاتَـه؟!

ثمّ إنّ تفويت الصلاة إنْ كان جائزاً لم يكن على عليّ إثمٌ إذا صلّى

____________

1- منهاج السُـنّة 8 / 184 ـ 192.

2- إنسربَ وتسرّبَ: دخل في السَّـرَب; وهو جحر الثعلب والذئب، وغيرهما من الحيوانات.

والسَّـرْب: الطريق والوجهة.

انظر: تاج العروس 2 / 72 ـ 73 مادّة " سرب ".

ومراده (قدس سره): أنّـنا لو حدنا عن الأُسلوب الصحيح في المناظرة وأوغلنا في إثارة الشكوك، لأَنكـرْنا المعجزات.

3- انظر: صحيح البخاري 1 / 78 ح 4 و ج 5 / 33 ـ 34 ح 76 و 77، صحيح مسلم 2 / 180، سنن أبي داود 1 / 51 ح 202، مسند أحمد 1 / 274 و 278، مصنّـف ابن أبي شيبة 1 / 156 ح 5 ب 160، المستدرك على الصحيحين 2 / 468 ح 3614.


الصفحة 221
العصر بعد الغروب، وليس عليٌّ أفضلَ من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والنبيّ قد فاتته العصـرُ يوم الخندق، ولم تُردّ عليه الشمس.

وقد نام ومعه عليٌّ وسائرُ الصحابة عن الفجر حتّى طلعت الشمسُ، ولم ترجع إلى الشرق.

وإنْ كان التفويت محرّماً فهو من الكبائر، ومن فعل هذا كان من مثالبه، لا من مناقبه.

ثمّ إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس(1).

والجـواب: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينم ـ كما عرفت ـ وإنّما تغشّاه الوحـي(2).

وما ذكره من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عيناه ولا ينام قلبُه، يجب أن يجعله دليلا على كذب رواية نومه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن صلاة الصبح، وكذب رواية نسـيانه الصلاة يوم الخندق، كما أوضحناه في مباحث النبـوّة(3).

فحينئذ يبطل نقضُهُ بعدم ردّ الشمس للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا فاتته الصلاة في الوقتين، وهو أفضل من عليّ (عليه السلام).

على أنّ فضل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستلزم أَولويّة ردّها له; لجواز أن يكون ردّها لعليّ (عليه السلام) دفعاً لطعن أهل النفاق فيه بتركه الصلاة، فرُدّت له; ليُعلم أنّه في طاعة الله تعالى بشاهد جليّ; أو لغير ذلك من الحِكَم المقتضيـة لتخصيصه دون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

____________

1- منهاج السُـنّة 8 / 175 ـ 176.

2- انظر: المعجم الكبير 24 / 152 ح 391.

3- راجـع: ج 4 / 145 ـ 148 من هذا الكـتاب.


الصفحة 222
على أنّ عليّـاً (عليه السلام) لم يترك أصل الصلاة، فإنّه صلاّها إيماءً، كما صرّح به بعضُ الأخبار(1)، وإنّما ردّها الله سبحانه له لينال فضل الصلاة قائماً في وقتها، ويُظهرَ فضلَه وكمالَ طاعتِـه، وليقطعَ ألسـنةَ المنافقين.

وبهذا يُعلم ما في قوله: " إنْ كان جائزاً لم يكن على عليّ إثمٌ إذا صلّى العصرَ بعد الغروب "، فإنّ الداعي لردِّها ليس رفع الإثم، بل تلك الحِكَم المذكورة، فقد ظهر أنّ المناقشة في الحديث إنّما هي من السفاسـف.

وأمّا دلالته على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) فأجلى من الشمس; لأنّه من أعظم الأدلّـة على الاهـتمام بشـأنه وفضـله على جميع الأصحـاب بمـا لا يحلم أن يناله أحدٌ منهم.

هـذا كلّه في ردّها له في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)..

ويُروى ردُّها له بعد وفاتـه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذكره المصنّف (رحمه الله)(2)، وحكاه ابنُ أبي الحـديد في " شرح النهج "(3)، عن نصر بن مزاحم، بسـنده عن عبـد خير، قال: " كنت مع عليّ في أرض بابل وحضرت صلاة العصر، فجعلنا لا نأتي مكاناً إلاّ رأيناه أقبح من الآخر، حتّى أتينا على مكان أحسن مـا رأينا، وقد كادت الشمس أن تغيـب..

قال: فنزل عليٌّ فنزلت معه، فدعا الله فرجعت الشمسُ كمقدارها من

____________

1- ينابيع المودّة 1 / 417 ح 3، أرجح المطالب: 686 عن الدولابي وابن شاهين وابن منـدة وابن مردويه.

2- منهاج الكرامة: 172.

3- ص 277 من المجلّد الأوّل [ 3 / 168 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: وقعة صِفّين: 135 ـ 136.


الصفحة 223
صلاة العصر، فصلّيت العصرَ ثمّ غابت ".

ونقل في " ينابيع المودّة "(1)، عن " المناقب "، عن الحسـين (عليه السلام)، قال: " لمّا رجع أبي من قتال النهـروان سار في أرض بابـل، وحَضَرَتْ صلاةُ العصر، فقال: هذه أرضٌ مخسوفةٌ، وقد خسفها الله ثلاثاً، ولا يحلّ لوصيّ نبيّ أن يُصلّـيَ فيها.

قال جويريةُ بن مُسْهِر العَبدي(2): صلّى الناس هنا، وتبعتُ بمئـة فارس أميرَ المؤمنين إلى أن قطعنا أرض بابل، والشمسُ قد غرُبت، فنزل وقال: آتني الماء; فآتيته الماء، فتوضّأ وقال: يا جويرية! أَذِّن للعصر.

فقلت في نفسي: كيف يصلّي العصر وقد غربت الشمسُ؟!

فأذّنتُ، وقال لي: أَقِم; فأَقمت، وإذا أنا في الإقامة تحرّكت شفتاه، وإذا رجعت الشمس وصلّينا وراءه.

فلمّا فرغنا من الصلاة غابت الشمس بسرعة كأنّها سراجٌ وقعت في طشـت ماء واشـتبكت النجومُ، والتفت إليّ وقال: أَذِّن للمغرب يا ضعيفَ اليقين! ".

ونقل في " الينابيع " أيضاً، عن أخطب خوارزم، بسـنده عن مجاهد، أنّ ابن عبّـاس أثنى على أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام قال فيه: " ورُدّتْ عليه

____________

1- في الباب السابع والأربعين [ 1 / 418 ـ 419 ح 6 ]. منـه (قدس سره).

2- جويرية بن مسهر العبدي، من أصحاب أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، وشهد مشاهده، وكان من ثقاته، وكان من خيار التابعين، صلبه زياد ابن أبيه إلى جذع وقطع يديه ورجليـه (رضي الله عنه).

انظر: لسان الميزان 2 / 144 رقم 634، معجم رجال الحديث 5 / 151 ـ 152 رقم 2420.


الصفحة 224
الشمـسُ مرّتين "(1).

4 ـ حديث السطل والماء والمنديل

وأمّا الحديث الرابعُ; وهو حديث السطل والماء والمنديل..

فقد حكاه أيضاً في " الينابـيع "(2)، عن ابن المغازلي، وصاحب " المناقب "، وأخطب خوارزم، بأسانيدهم عن أنـس.

5 ـ لا سـيف إلاّ ذو الفَـقار
ولا فتىً إلاّ عليّ

وأمّا الحديثُ الخامسُ; وهو حديثُ النداء يومَ أُحـد..

فقد رواه الطبري في " تاريخـه "(3)..

وابن الأثير في " كامله "(4)..

وكذا ابن أبي الحديد في " شرح النهج "(5)، ناقلا له عن غلام ثعلب،

____________

1- ينابيع المودّة 1 / 419 ح 7، وانظر: مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 330 ح 349.

2- في الباب التاسع والأربعين [ 1 / 428 ـ 429 ح 6 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 125 ح 139، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 304 ح 300.

3- ص 17 من الجزء الثالث [ 2 / 65 ]. منـه (قدس سره).

4- ص 74 من الجزء الثالث [ 2 / 49 ]. منـه (قدس سره).

5- ص 372 من المجلّد الثالث [ 14 / 251 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: وقعة صِفّين: 315، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 4 / 51، الأغاني 15 / 187، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 190 ـ 191 ح 234 ـ 236، تاريخ دمشق 39 / 201 و ج 42 / 71، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 301، الروض الأُنف 3 / 288، الرياض النضرة 3 / 155 ـ 156، ذخائر العقبى: 137، البداية والنهاية 4 / 38، شرح المقاصد 5 / 298، نزهة المجالس 2 / 209.


الصفحة 225
ومحمّـد بن حبيب في " أماليه "، وجماعة من المحـدّثين..

ثمّ قال: " وهو من الأخبار المشهورة، ووقفت عليه في بعض نسخ (مغازي محمّـد بن إسحاق)، ورأيت بعضها خالياً عنه.

وسألتُ شـيخي عبـد الوهّاب بن سُكَينة(1) عن هذا الخبر، فقال: صحيـح ".

أقول: ويكفي في صحّته اسـتفاضته، لا سـيّما بضميمة أخبارنا(2).

وأمّا صدور النداء يومَ بدر فقد تقدّمت روايته في أوّل المبحث(3)، وأشار إليها سـبطُ ابن الجوزي في " تذكرة الخواصّ "(4).

ونَـقل أيضاً عن أحمد في " الفضائل "، وصحّحه، وقوعَ النداء يومَ

____________

1- هو: ضياء الدين أبو أحمد عبـد الوهّاب بن علي بن عبـد الله البغدادي الصوفي الشافعي (519 ـ 607 هـ)، المعروف بابن سُكَينة، وسُكَينة هي والدة أبيه، وكان فقيهاً محدّثاً، لبس خرقة التصوّف عن جدّه، حدّث في مصر والشام والحجاز، صاحَبَ أبا الفرج ابن الجوزي ولازم مجلسه.

انظر: سـير أعلام النبلاء 21 / 502 رقم 262، البداية والنهاية 13 / 53، طبقات الشافعية ـ للأسنوي ـ 1 / 340 رقم 647.

2- انظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 / 81، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 84، إعلام الورى بأعلام الهدى 1 / 378.

3- راجع الصفحة 202 من هذا الجزء.

4- تذكرة الخواصّ: 34; وكان في الأصل: " الحفّاظ " بدل " الخواصّ "، وهو من سهو القلم.


الصفحة 226
خيبر، وأنّهم سمعوا تكبيراً من السماء في ذلك اليوم، وقائلا يقول:


لا سيفَ إلاّ ذو الفَقارِ ولا فتىً إلاّ علي

فاستأذن حسّان رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُنشد شعراً، فأَذِنَ له فقال [ من مجـزوء الكامل ]:


جبريلُ نادى مُعْلِناًوالنَّـقْعُ(1) ليس ينجلي
والمسلمون أحدقواحولَ النبيّ المُرسَلِ
لا سيفَ إلاّ ذو الفَقارِ ولا فتىً إلاّ علي(2)

فلا ريب بصدور النداء بذلك من جبرئيل ولو في أحد هذه المواطن الثـلاثـة، وهو صريـحٌ في نفي الفتـوّة ـ أي: السـخاء بالنفـس ـ عن غير عليّ (عليه السلام)، فيدلّ على أنّه أسخى الناس بنفسه وأطوعهم له، والفضل في الطاعة فرعُ الفضل الذاتي; والأفضل أحقّ بالإمامـة.

ويشهد لفضله الذاتي قولُ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث: " هو منّي وأنا منـه "، وقول جبرئيل: وأنا منكما(3).


*  *  *

____________

1- الـنَّـقْـعُ: الـغُـبار الساطع، والـقَـتْـل; انظر مادّة " نقع " في: لسان العرب 14 / 267، تاج العروس 11 / 486.

والمعنى هنا كـناية عن اشـتداد القتال.

2- تذكرة الخواصّ: 33 ـ 34.

3- مـرّ تخريجه في الصفحة 134 هـ 1 من هذا الجزء; فراجـع!


الصفحة 227

24 ـ حـديث: الحـقّ مع عليّ

قال المصنّـف ـ رفع الله درجته ـ (1):

الرابـع والعشـرون: في " الجمـع بيـن الصحـاح السـتّـة "، عـن النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " رحم الله عليّـاً، اللّهمّ أَدِر الحقّ معه حيثُ دار "(2).

وروى الجمهور: قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمّار: "ستكون في أُمّتي بعدي هناةٌ واختلاف حتّى يختلف السيفُ بينهم، حتّى يقتل بعضُهم بعضاً، ويتبرّأ بعضُهم من بعض.

يا عمّار! تقتلك الفئة الباغية، وأنت إذ ذاك مع الحقّ والحقُّ معك، إنّ عليّـاً لن يدُنيك من ردىً، ولن يُخرجك من هدىً.

يا عمّار! مَن تقلّد سيفاً أعان به عليّـاً على عدوّه قلّده الله يوم القيامة وشاحين من درّ، ومن تقلّد سيفاً أعان به عدوّه قلّده الله

____________

1- نهج الحقّ: 224.

2- انظر: سنن الترمذي 5 / 592 ح 3714، المحاسن والمساوئ ـ للبيهقي ـ: 41، الإنصاف ـ للباقلاّني ـ: 66، المستدرك على الصحيحين 3 / 134 ـ 135 ح 4629، فردوس الأخبار 1 / 410 ح 3050، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 104 ح 107، تاريخ دمشق 42 / 448، جامع الأُصول 8 / 572 ح 6382، تفسير الفخر الرازي 1 / 210، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6 / 376، فرائد السمطين 1 / 176 ح 138، الصواعق المحرقة: 119، كنز العمّال 11 / 643 ح 33124.


الصفحة 228
وشاحين من نار.

فإذا رأيـتَ ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني ـ يعني: عليّـاً ـ، وإنْ سلك الناسُ كلُّهم وادياً وسلك عليٌّ وادياً، فاسلك وادياً سلكه عليٌّ، وخلِّ الناس طُـرّاً.

يا عمّار! إنّ عليّـاً لا يزال على الهدى.

يا عمّار! إنّ طاعة عليّ من طاعتي، وطاعتي من طاعة الله تعالى "(1).

وروى أحمدُ بن موسى بن مردويه، من الجمهور، من عدّة طرق، عن عائشة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "الحقّ مع عليّ، وعليٌّ مع الحقّ، لن يفترقا حتّى يَرِدا علَيَّ الحوض "(2).


*  *  *

____________

1- تاريخ بغداد 13 / 186 ـ 187 رقم 7165، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 105 ح 110، تاريخ دمشق 42 / 472، فرائد السمطين 1 / 178 ح 141، البداية والنهاية 7 / 244، كنز العمّال 11 / 613 ـ 614 ح 32972.

2- انظر: كشف الغمّة 1 / 146 عن ابن مردويه، مسند أبي يعلى 2 / 318 ح 1052، المعجم الكبير 23 / 330 ح 758 و ص 396 ح 946، المعجم الصغير 1 / 255، الإمامة والسياسة 1 / 98، الكنى والأسماء ـ للدولابي ـ 2 / 89، المستدرك على الصحيحين 3 / 134 ح 4628، تاريخ بغداد 14 / 321 رقم 7643، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 220 ح 291، ربيـع الأبرار 1 / 828 ـ 289، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 177 ح 214، تاريخ دمشق 42 / 449، فرائد السمطين 1 / 177 ح 140، مجمع الزوائد 7 / 235 ـ 236، كـنز العمّال 11 / 621 ح 33018.