وقال الفضـل(1):
لا يشكّ مؤمنٌ في فضائل عليّ بن أبي طالب، ولا في فضائل أكابر الصحابة، كالخلفاء; فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خصّ كلّ واحد منهم بالفضائل التي كانت فيه، وهي مذكورة في كتب الصحاح.
وكما إنّ هذا الرجل يذكر فضائل أمير المؤمنين من كتب أصحابنا، كذلك كلٌّ على حسـب مرادهم يذكرون فضائل من يريدون من الخلفاء الراشدين.
ولكن يشترط في ذِكر الفضائل، أن يروى من الصحاح المعتبرة، ومن العلماء الّذين اعتمدهم الناس، ويكونوا(2) صاحب قول مقبول، ويعرفون سقيم الأخبار من صحيحها، وجيّدها من رديئها، ومقبولها من مردودها.
فإنّ الممارس لفنّ الحديث، المبالغ في التتبّع والاقتفاء، لا يخفى عليه صحّة الحديث، وضعفه، ووضعه; فإنّ المنكَر(3) والشاذّ(4) معلومان موسومان بوسم الشذوذ; لأنّها غير المألوفة مثل هذه الأحاديث.
____________
1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 429 الطبعة الحجرية.
2- كذا في الأصل، وهو غير غريب من الفضل، فكلامه هنا مختلٌّ من الناحيتين اللغوية والنحوية; والصحيح ـ لغةً ونحواً ـ أن يقال: " ويكونون أصحاب قول مقبول... "; فلاحـظ!
3- الحديث المنكَر: هو ما رواه غير الثقة مخالفاً لِما عليه المشهور.
4- الحديث الشاذّ: هو ما رواه الثقة مخالفاً لِما عليه المشهور.
فإنّ هذه المبالغة التي نسبها للنبيّ في فضائل عليّ بقوله: " لو أنّ الرياض أقلام، والبحر مداد، والجنّ حُسّاب، والإنس كتّاب، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب " لا يخفى على الماهر في فنّ الحديث أنّ هذا ليـس من كلام رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولينصِـف المنُصِـف المتدرّب في معرفة الأخبار، أنّ من شـأن رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبالغ مثل هذه المبالغة في مدح أحد من المخلوقين، وهذا من أوصاف الخالق، { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماتُ ربّي }(1)؟!
ثمّ إنّ لفظ " الفضائل " لا يوجد في كلمات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومحال أن يحكم المحدّث أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تكلّم بلفظ " الفضائل "، فإنّ هذا من ألفاظ المحدَثين المولّدين وليـس من كلام العرب.
والمحدّث لا يخفى عليه أنّ هذا موضوع، وأكثر ما ذُكر من مناقب الخوارزمي موضوعات.
وأمّا الحديث الذي رواه الخوارزمي عن ابن مسعود، وهو أنّ الله خلق آدم لأجل محمّـد وعليّ، وأنّ العاصيَ لله إنْ أطاع عليّـاً فهو من أهل النجاة، والمطيع بعد أن عصى عليّـاً فهو من أهل النار(2)، فقد تحتّم الحكم بأنّه من الموضوعات; لأنّه مخالف لحكم الشرع، فإنّ عليّـاً عبـد من عباد
____________
1- سورة الكهف 18: 109.
2- تقـدّم آنفاً في الصفحتين 284 ـ 285; فراجـع!
ومحمّـدٌ لا يمكن أن يُـدّعى فيه أنّ من أطاعه وعصى الله فهو من أهل النجاة; لأنّ طاعة الله وطاعة رسوله واحد، فكيف يمكن الدعوى أنّ من أطاع عليّـاً وإنْ عصى الله فهو من أهل النجاة؟!
وهـذا من موضوعات غُـلاة الرفضـة، ذكره هذا الرجـل الرافضي، ولا اعتداد بهذا النقل ولا اعتبار.
ثمّ إنّ كلّ ما يذكره من هذه الفضائل ـ وإنْ صحّ ـ لا يدلّ على وجوب إمامتـه، كما لا يخفى.
وأقـول:
يَـرِد عليه أُمـور:
الأوّل: إنّ قوله: " كلّ على حسب مرادهم يذكرون فضائل من يريدون... " إلى آخـره..
خطأٌ ظاهر; لأنّ ذِكرنا لفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) من كتبهم يُفيدنا حجّةً عليهم، بخلاف ذِكرهم لفضائل أصحابهم من كتبهم; فإنّه لا يفيدهم حجّةً علينا، لا سـيّما مع معارضتها بما في كتبهم من مطاعنهم.
الثاني: إنّ قوله: " ولكن يشـترط في ذِكر الفضائل أن يروى من الصحـاح... " إلى آخـره..
مخالفٌ لِما ذكره ابن حجر في أوائل الفصل الأوّل من كتابه المسمّى بـ " تطهير الجَنان واللسان عن الخطور والتفوّه بثلب معاوية بن أبي سفيان "، قال بعد نقل حديث في فضل معاوية: " فإنْ قلت: هذا الحديث المذكور سـنده ضعيف، فكيف يُحتج به؟!
قلت: الذي أطبق عليه أئـمّـتنا الفقهاء والأُصوليّون والحفّاظ أنّ الحديث الضعيف حجّـة في المناقب "(1).
ثـمّ إنّه إنْ أراد بالصحاح: صحاحَهم السـتّة، فهو ظاهر البطلان; إذ ليسـت الرواية عنها شرطاً في الأحكام فضلا عن الفضائل.
وإنْ أراد بها الأخبار الصحيحة ـ وإنْ لم توجد في صحاحهم السـتّة،
____________
1- تطهير الجَنان واللسان: 16.
وقد اكتفوا في ثبوتها بغير الأخبار الصحيحة; لعدم انحصار الحجّة بها; فإنّ الخبر الحسن كاف في الثبوت، وكذا الخبر الكـثير الطرق; فإنّ الأخبار إذا كـثرت في معنىً واحد، قوّى بعضها بعضاً، وصارت حجّةً وإنْ كان سـندُ كلّ منها ضعيفـاً.
ونحن كما رأيت نذكر كثيراً من أخبار الصحاح السـتّة، ومسـتدرك الحاكم، ومسند أحمد، ونحوها من كتبهم المعتبرة عندهم، ونذكر غيرها ممّا يؤيّد بعضها بعضاً، أو قامت قرينة على قوّتها، والجميع حجّةٌ عليهم.
الثالث: إنّ ما جعله أمارة للوضع ـ من المبالغة الواقعة في ما حكى عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ لا محلّ له; إذ لا مبالغة فيه، ولا سـيّما إذا أُريد عدم إحصاء الثواب على فضائله، لا عدم إحصاء أنفسها، فإنّ مَن كان عبارةً عن الإيمان كلّه، وله ضربةٌ واحدةٌ تعدل عبادة الـثَّـقَـلَـيْن، لا يكون ذلك مبالغةً في حقّـه.
وهل يكون ذلك مبالغة في مَن هو نفس النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخوه، وعديل القرآن؟!
على أنّهم رَوَوْا نحو ذلك في حقّ الشيخين، وما حكموا بوضعه! فقد نقل ابن حجر في " الصواعق "(1)، عن أبي يعلى، عن عمّار بن ياسر، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل آنفاً فقلت: يا جبرئيل! حدّثني بفضائل عمر بن الخطّاب.
____________
1- في الفصل 3 من الباب 3 [ ص 121 ح 101 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: مسـند أبي يعلى 3 / 179 ح 1603، مجمع الزوائد 9 / 68.
ومن أعجب العجب روايتهم لهذا الحديث عن عمّار، وهم يعلمون انحرافه عن خلفائهم وسوءَ رأيه فيهم، فلو رَوَوْه عن غيره لكان أَوْلى لهم!
ومن هذا الحديث ونحوه، يعلم وجود لفظ " الفضائل " عندهم في ما نسـبوه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد روى أحمد في " مسـنده "(1)، عن ابن عمر، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)حديثاً قال في آخره: " وركعتا الفجر حافظوا عليهما، فإنّهما من الفضـائل "(2).
____________
1- ص 82 من الجزء الثاني. منـه (قدس سره).
وفي مسـند أحمد 3 / 438 عن معاذ بن أنس، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: " أفضل الفضائل أن تصل من قطعك... "، وفي سنن أبي داود 4 / 352 ح 5196 قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هكذا تكون الفضائل ".
فلاحـظ وتدبّـر!
2- نـقـول ـ علاوة على ما نمّقه يراع الشيخ المظفّر (قدس سره) ـ:
إنّ ما ادّعاه الفضل من أنّ لفظ " الفضائل " ليـس من كلام العرب، وأنّه من كلام المُحدَثين المولّدين; ليـس بصحيح; فإنّ لفظ " الفضائل " عربيٌّ فصيحٌ قد ورد في كلام العرب القدماء الّذين يُسـتـشهَد بكلامهم وأشعارهم على اللغة، ومنه قول عنـترة بن شدّاد العبـسـي الشاعر الجاهلي:
فضائلُ عَـزْم لا تُباعُ لِضارِعِ | وأسرارُ حزم لا تُذاعُ لِعائبِ |
و " الفضائل " ـ على وزن " الفعائل " إحدى صيغ منتهى الجموع ـ: جمع الفضيلة خلاف النقيصة; وهي الدرجة الرفيعة في الفضل.
ويُجمع على هذا الوزن شـيئان:
1 ـ اسم مؤنّث على أربعة أحرف قبل آخره حرف مدّ زائد، سواء كان مؤنّثاً بالعلامة، أم كان بلا علامة، مثل: صحيفة.. صحائف، وعجوز.. عجائز.
2 ـ صفة على وزن فعيلة بمعنى فاعلة، مثل: كريمة.. كرائم.
انظر: تاج العروس 15 / 578 مادّة " فضل "، جامع الدروس العربية 2 / 55 ـ 56، جواهر الأدب: 509، ديوان عنـترة: 40.
لا يُعرف له معنىً، ولعلّه يريد أنّ الله جلّ وعلا يوصف بأنّه متكلّم بكلمـات لا تـنفد بنفـاد البحـر، فكـيف يقـال: إنّ عليّـاً متّـصف بفضائـل لا تُحصى وإنْ كان البحر مداداً؟!
وفيه ما لا يخفى.
الخامـس: إنّ قوله: " أكـثر ما ذُكر من (مناقب الخوارزمي) موضوعـات "..
دعوى بلا دليل، وطعنٌ مُجمَلٌ غيرُ مقبول.
السادس: إنّ حكمه بوضع حديث ابن مسعود خطأٌ، ويُعلم وجهه بعد بيان مقـدِّمة، فنقول:
لا شكّ أنّ الإقرار بالله وبنبوّة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) شرطٌ للإيمان، وكذا الإقرار بإمامة عليّ (عليه السلام); بناءً على أنّ إمامته بنصّ الله ورسوله، وأنّها كالنبـوّة، أصلٌ من أُصول الدين، لكنّ الإقرار بها فرع الإقرار بالله ورسوله، ومن أقرّ بها تمّ إيمانه، ومن لم يقرّ بها كان ناقص الإيمان وإنْ أقرّ بالله ورسـوله.
فإذا عرفتَ هذا، عرفتَ أنّ من أطاع عليّـاً عارفاً بحقّه ـ كما هو المراد بالحديث ـ كان مؤمناً مطيعاً لله ورسوله بطاعة عليّ (عليه السلام); لأنّ طاعته له ـ بما هو إمامٌ مِن الله تعالى ـ مسـتلزمة للإيمان بهما وطاعتهما، فيكون صالحاً لدخول الجنّـة وإنْ عصى الله في بعض الأحكام، وعصى بها عليّـاً
كما أنّ مَن عصى عليّـاً جاحداً لإمامته، عاص لله ورسوله، ومحلٌّ لدخول النار وإنْ أطاعهما في الظاهر(1); لأنّ طاعته لهما ليسـت طاعة مؤمن حتّى تكون مقبولة، كمن أطاع الله في الظاهر وعصى رسول الله جاحداً لرسـالته، كأهل الكتاب.
فصحّ ما في الحديث من قوله سبحانه: " أقسمت أن أُدخل الجنّة مَن أطاعه وإنْ عصاني، وأنْ أُدخل النار مَن عصاه وإنْ أطاعني "(2) أي في الظاهر.
كما يصحّ القول بأنّ مَن أطاع عليّـاً كان مِن أهل النجاة والجنّة، وإنْ عصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ مَن عصى عليّـاً كان مِن أهل النار وإنْ أطاع رسول الله في الظاهر.
وذلك كلّه لا ينافي أكرميّـة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) من عليّ (عليه السلام)، كما هو ظاهـر.
وبالجملة: المراد بالحديث: أنّ من أطاع الله في الظاهر، وعصى عليّـاً منكِراً لحقّه، فهو من أهل النار; لعدم إيمانه.
وأنّ من أطاع عليّـاً عارفاً بحقّه، فهو من أهل الجنّة، وإنْ عصى الله في بعض الفروع; لأنّ عصيانه عصيان مؤمن، فيكون أهلا للمغفرة والرحمـة.
فذلك إشارة إلى إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنّ الإقرار بها شرطٌ للإيمان، وأنّـه لا عبرة بطاعة المسلمين ظاهراً الّـذين لم يُـقِـرّوا بالنصّ
____________
1- أي وإنْ صام وصلّى وحجّ وزكّى.
2- تقـدّم انفاً في الصفحة 285.
ويشهد لإرادة الإمامة من الحديث، وصفه لعليّ في ما كُتب على العرش، بأنّه مقيم الحجّة في عرض وصف الله تعالى بالوحدانية، ومحمّـد بالنبـوّة(1)، فإنّـه من أوضح ما يدلّ على الإمامـة!
مضافاً إلى تصريحه بأنّ محمّـداً وعليّـاً علّـةٌ لخلق آدم; فإنّه دليل الفضل على آدم، فضلا عن الأُمّـة.
فلا بُـدّ أن يكون عليٌّ سـيّدَها وإمامَها، بل علّـةَ خلقِـها بالأَوْلويّة، كمـا قال (عليه السلام) في " نهج البلاغة " بكتابه إلى معاوية: " نحن صنائع الله، والناس بعـدُ صنائـعُ لنا "(2).
ثـمّ إنّ الخبرين الأوّلين ظاهران أيضاً في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام); لاقتضائهما فضله على غيره، مع تصريح ثانيهما بأنّ الله تعالى لا يقبـل إيمانَ عبـد إلاّ بولايته والبراءة من أعدائه، كما هو شأنّ الإمام; ولذا كان بغضـه علامةَ النفاق.
هذا، وقد نقل الذهبيّ هذين الخبرين في " ميزان الاعتدال " بترجمة محمّـد بن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان، عن نور الهدى أبي طالب الزيني، ثمّ قال بعد الخبر الثاني: " هذا من أفظع ما وُضع، ولقد ساق خطيب خوارزم من طريق هذا الدجّال ابن شاذان أحاديثَ كثيرةً باطلةً
____________
1- راجع مبحث حديث المؤاخاة، في الصفحة 122 وما بعـدها من هذا الجزء.
2- نهج البلاغة: 386 رقم 28.
وهذه المؤاخذة لابن شاذان، إنّما هي لروايته في فضل أمير المؤمنين ما لا يتحمّله اعتقاد الذهبيّ فيه، وإلاّ فالرجل لا ذنب له سواه.
وقد عرفت في مقدّمة الكتاب، أنّ رواية الشخص لفضائل أمير المؤمنين دليل على وثاقته، ولا فظاعة ولا ركاكة في هذه المناقب التي يسطع من خلالها نورُ إمامة المرتضى عند من عرف بعض حقّـه(2).
وقد نقل سبط ابن الجوزي في أوائل " تذكرة الخواصّ " نحو أوّل الحديثين، عن ابن عبّـاس(3).
ونقله في " ينابيع المودّة "، في الباب السادس والخمسـين، آخر المناقب السـبعين(4)، التي حكاها عن كـتاب إمام الحـرم الشريف بمكّـة أبي جعفر أحمد بن عبـد الله الطبري الآملي الشافعي(5)، رواه عن الديلمي
____________
1- ميزان الاعتدال 6 / 55 رقم 7196.
2- راجـع: ج 1 / 7 ـ 25 من هذا الكـتاب.
3- تذكرة الخواصّ: 23.
4- كتاب " السبعين في مناقب أمير المؤمنين "، للسـيّد علي بن شهاب الدين بن محمّـد بن عليّ الحسـيني الهمداني، الصوفي، المولود سـنة 714 هـ، والمتوفّى سـنة 786 هـ، طاف في البلاد، وجال في الآفاق، له مؤلّفات، منها: كـتاب " مـودّة القربى ".
انظر: الذريعة 12 / 132 رقم 898، أهل البيت (عليهم السلام) في المكتبة العربية: 209 ـ 212 رقم 355.
5- هو الإمام الحافظ المحدّث المفتي أبو جعفر محبّ الدين أحمد بن عبـد الله بن محمّـد بن أبي بكر بن محمّـد بن إبراهيم الطبري الآملي المكّي الشافعي (615 ـ 694 هـ).
فقيه الحرم بمكّة ومحدّث الحجاز، نشأ بمكّة حيث وُلد وطلب العلم وسمع الكثير ورحل إلى البلاد، كان زاهداً كبير الشأن، درّس وصنّف كـتباً مفيدة، منها كـتابه: ذخائر العقبى في فضائل ذوي القربى.
انظر: تذكرة الحفّاظ 4 / 1474 رقم 1163، العبر 3 / 382، مرآة الجنان 4 / 168، طبقات الشافعية الكبرى ـ للسبكي ـ 8 / 18 رقم 1046، طبقات الشافعية ـ للأسـنوي ـ 2 / 72 رقم 796، النجوم الزاهرة 8 / 62.
وأمّـا الحـديث الثـاني، فأكـثر مضامينه قد وردت من عـدّة طرق، ولا سـيّما قوله: " النظر إلى عليّ عبادة "، فإنّه ورد مسـتفيضاً بلفظه، أو بلفظ: " النظر إلى وجـه عليّ عبـادة "(2).
وقد أخرجه الحاكم في " المسـتدرك "(3)، بطريق عن عمران بن حصين، وطريقين عن ابن مسعود، وصحّحها جميعاً، وتعقّبه الذهبي بعد حديث عمران، وأحد حديثَي ابن مسعود بقوله: " ذا موضوع "، ولم يذكر له علّـةً!
وغايـة ما يوجّه به: دعوى أنّ بعض رجال الحديثين ضعيف، وهو
____________
1- ينابيع المودّة 2 / 254 ح 713.
2- انظر: المعجم الكبير 10 / 76 ـ 77 ح 10006 و ج 18 / 109 ـ 110 ح 207، أخبار القضاة ـ لوكيع ـ 2 / 123، حلية الأولياء 2 / 183 و ج 5 / 58، تاريخ بغداد 2 / 51 رقم 448، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 196 ـ 199 ح 244 ـ 254، محاضرات الأُدباء 2 / 495، فردوس الأخبار 2 / 375 ح 7117 و 7118، تاريخ دمشق 42 / 350 ـ 355، التدوين ـ للرافعي ـ 2 / 44 رقم 867، مجمع الزوائد 9 / 119، عمدة القاري 16 / 215، كنز العمّال 11 / 601 ح 32895 و ص 624 ح 33039.
3- ص 141 من الجزء الثالث [ 3 / 152 ح 4681 ـ 4683 ]. منـه (قدس سره).
وقد سـبقه إلى دعوى الوضع إمامُـه في النصـب ابنُ الجوزي(1)،
____________
1- إنّ محقّـقي أهل السُـنّة ونـقّـادهم لا يعـتـدّون بكلام ابن الجوزي، ولا يعبأُون بقدحه وطعنه في الأحاديث; لأجل تسرّعه في الحكم بالوضع على مجموعة كبيرة منها، فإنّ كبار علماء القوم في علم الحديث نصّوا على اشـتمال كـتابيه " الموضوعات " و " العلل المتناهية " على الصحاح والحسان من الأحـاديث، بل منهـا أحاديث أخرجها الشـيخان وغيرهما من أرباب الصحاح والمسانيد والسـنن; هـذا فضـلا عن طعنهم فيه لنصبـه وتعـصّـبه..
1 ـ قال عنه ابن الأثير (ت 630 هـ): " وكان كـثير الوقيعة في الناس، لا سـيّما في العلماء المخالفين لمذهبه، والموافقين له! ". انظر: الكامل في التاريخ 10 / 276 حوادث سـنة 597 هـ.
2 ـ وقال ابن الصلاح (ت 643 هـ): " ولقد أكـثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلّدين، فأودع فيها كـثيراً ممّا لا دليل على وضعه ". انظر: مقـدّمة ابن الصلاح: 59 وفي طبعة: 279.
3 ـ وقال سـبط ابن الجوزي (ت 654 هـ) ـ في معرض الكلام على حديث ردّ الشمس ـ: " إنّ قول جـدّي: (هذا حديث موضوع بلا شكّ) دعوى بلا دليل ". انظر: تذكرة الخواصّ: 54.
4 ـ وقال بدر الدين بن جماعة (ت 733 هـ): " وصنّف الشـيخ أبو الفرج ابن الجوزي كـتابه في الموضوعات، فذكر كـثيراً من الضعيف الذي لا دليل على وضعه ". انظر: المنهل الروي: 54.
5 ـ وقال ابن كـثير (ت 774 هـ): " وقد صنّف الشـيخ أبو الفرج ابن الجوزي كـتاباً حافلا في الموضوعات، غير إنّـه أدخل فيه ما ليـس منه، وخرَجَ عنه ما كان يلزمه ذِكره، فسقط عليه، ولم يهتدِ إليه ". انظر: الباعث الحثيث: 75.
6 ـ وقال ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ـ في معرض الكلام على حديث سدّ الأبواب ـ: " قول ابن الجوزي: إنّـه باطل، وإنّـه موضوع; دعوى لم يسـتدلّ عليها إلاّ بمخالفة الحديث الذي في الصحيحين، وهذا إقدام على ردّ الأحاديث الصحيحة بمجـرّد التوهّم ". انظر: القول المسـدّد: 53.
7 ـ وقال كذلك: " وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث [ أي حديث سـدّ الأبواب ] في الموضوعات... وأخطأ في ذلك خطـأً شـنيعاً، فإنّـه سلك في ذلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهّمه المعارضة ". انظر: فتح الباري 7 / 18.
8 ـ وقال السـيوطي (ت 911 هـ): " وقد أكـثر جامع الموضوعات... فذكرَ في كـتابه كـثيراً ممّا لا دليل على وضعه، بل هو ضعيف، بل وفيه الحسن والصحيح، وأغرب من ذلك أنّ فيها حديثاً من صحيـح مسلم... قال الذهبي: ربّما ذكر ابن الجوزي في الموضوعات أحاديث حساناً قويّـة ". انظر: تدريب الراوي 1 / 278.
9 ـ وقال السمهودي (ت 911 هـ) ـ في معرض الكلام على حديث الثِّـقْلَين ـ: " ومن العجيب ذِكـر ابن الجوزي له في (العلل المتناهية)! فإيّـاك أن تغتـرّ به، وكأنّـه لم يسـتحضره حينـئـذ إلاّ من تلك الطريق الواهيـة، ولم يذكر بقـيّـة طرقه، بل في صحيح مسلم وغيره، عن زيد بن أرقم، قال: قام فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... " انظر: جواهر العقدين: 232.
10 ـ وقال القاري (ت 1014 هـ): " ولكن تعـقّبـه [ أي: ابن الجوزي ] العلماءُ في كـثير من الأحاديث التي ذكرها في كـتابه ". انظر: شرح شرح نخبة الفـكر: 447.
ولمزيد التفصيل انظر: نفحات الأزهار 2 / 49 ـ 54 و ج 11 / 118 ـ 129 و ج 12 / 135 ـ 138.
وتعـقّبه السيوطي بالجـواب عن بعض مَن طعن بهم، وبإخراج عشـرة طرق أُخرى عن كثير من هؤلاء الصحابة، منها روايات الحاكم الثـلاث(1).
وليت شعري، كيف يكون الحديث موضوعاً مع اسـتفاضة طرقه وصحّة بعضها؟!
____________
1- اللآلئ المصنوعة 1 / 313 ـ 317، وانظر: الموضوعات 1 / 358 ـ 361.
____________
1- فرسٌ جَموح: هو الذي إذا حَـمَـلَ لا يَـرُدُّه لجام، والجَموح من الرجال: الذي يركب هواه فلا يمكن رَدُّه; انظر مادّة " جمح " في: لسان العرب 2 / 346، تاج العروس 4 / 29.
فضـائلـه حال الولادة
قال المصنّـف ـ أعلى الله مقامه ـ(1):
وإمّا حال ولادته..
فإنّه وُلد يوم الجمعة، الثالث عشر من شهر رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سـنة، في الكعبة، ولم يولد فيها أحد سواه قبله ولا بعـده(2).
وكان عمرُ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثين سـنة(3)، فأحبّه وربّاه، وكان يطـهّره وقت غسله، ويوجره(4) اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره، ويقول: هذا أخي، ووليّي، وناصري، وصفـيّي، وذخري، وكهفي، وصهري، وزوج كريمتي، وأميني على وصيّـتي، وخليفتي.
وكان يحمله دائماً ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها.
رواه صاحب كـتاب " بشائر المصطفى " من الجمهـور(5).
____________
1- نهج الحقّ: 232.
2- الكافي 1 / 514، الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد 1 / 5، تهذيب الأحكام 6 / 19، كشف الغمّة 1 / 59، إعلام الورى 1 / 306، الفصول المهمّة: 30.
3- وقيل: ثمان وعشرين سـنة، أي إنّ عمر أمير المؤمنين (عليه السلام) وقت البعثة اثـنتي عشرة سـنة كما في إقبال الأعمال: 155 ب 8 الفصل 51 في فضل صوم ثلاثة عشر يوماً من رجب.
4- الـوَجْـرُ: جَـعْـلُ الماء أو الدواء في وسط حلق الصبي; انظر: لسان العرب 15 / 220 مادّة " وجر ".
5- انظر: كشف الغمّـة 1 / 60 ـ 61.
وقال الفضـل(1):
المشهور بين الشـيعة أنّ أمير المؤمنين وُلد في الكعبة، ولم يصحّحه علماء التواريخ، بل عند أهل التواريخ أنّ حكيم بن حزام وُلد في الكعبة، ولم يولد فيها غيره.
وأمّا ما ذكره من أحوال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إليه في صغره، فلا يصحّ به نقل إلاّ ما ذكره.
ولا ردّ عليه إلاّ في قوله: " وخليفتي " إنْ أُريد به الخلافة بعده..
وإنْ أُريد أنّه من الخلفاء، فهذا صحيح لا شكّ فيه.
____________
1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 437 الطبعة الحجرية.
وأقـول:
يكفي في الجزم بولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكعبة، موافقة بعض الجمهور فيها، وروايتهم لها(1)، فإنّها منقبة تُنكرها أسماعُ أعداءِ فضله، وتتداعى لدرسها نفوسُ حسّادِ مجده; إذ بها الشرف الأعلى، والدلالة على أنّه محلّ عناية الله سبحانه من يوم ولادته، وأنّه قد طهّره بطهارته، حتّى جعل مولده أعظم بيوت عبادتـه.
فإذا رواه واحد منهم كانت حجّـةً عليهم، فكيف وقد ادّعى الحاكم في " المسـتدرك " تواترهـا؟!..
فإنّه روى(2) في مناقب حكيم، عن مصعب بن عبـد الله، أنّ أُمّ حكيم ولدته في الكعبة، ضربها المخاض وهي في جوفها فولدته فيها، وحُملت في نِـطْـع(3).
قال مصعب: ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد.
فقال الحاكم: " وهمَ مصعب في الحرف الأخير، فقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كـرّم الله وجهه
____________
1- انظـر مثلا: تاريخ الموصل ـ للأزدي ـ: 58، المسـتدرك على الصحيحين 3 / 550 ح 6044، مروج الذهب 2 / 349، مطالب السؤول: 63، نزهة المجالس 2 / 204 ـ 205، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 58 ح 3، كفاية الطالب: 406، الفصول المهمّة ـ لابن الصبّاغ المالكي ـ: 30، نزهة المجالس 2 / 204 ـ 205، نور الأبصار: 85.
2- ص 483 من الجزء الثالث [ 3 / 550 ح 6044 ]. منـه (قدس سره).
3- الـنِّـطْـعُ: بساطٌ من الأديم; انظر: تاج العروس 11 / 482 مادّة " نطع ".
وأقـول:
الحقّ أنّ حكيماً لم يولد في الكعبة، لكنّ المنحرفين عن الإمام المطـهّر ذكروا ذلك لينقضـوا فضله!
فعن ابن الصبّاغ المالكي، في كـتابه " الفصول المهمّـة في معرفة الأئمّـة "، ص 14، قال: " لم يولد أحد قبله في البيت سواه "(1).
ونحوه عن الكَـنْـجي الشافعي، في كـتابه " كفاية الطالب "، ص 361(2).
____________
1- الفصول المهمّة: 30.
وابن الصبّاغ هو: نور الدين عليّ بن محمّـد بن حمد بن عبـد الله السفاقسي، الغـزّي، المكّي، المالكي.
وُلد سـنة 784 هـ بمكّة المكـرّمة، ونشأ بها، حفظ القرآن، وأخذ النحو والفقه عن جملة من العلماء، فكان من أعلام المحدّثين وكبار فقهاء المالكية، قال عنه السخاوي: " أجاز لي "; وله مؤلّفات، منها: الفصول المهمّـة، العبر في مَن شَـفّـه النظـر.
وكـتابه " الفصول المهمّـة " من المصادر المعتمَـدة، فقد نقل عنه الصفوري الشافعي في " نزهة المجالس "، والسمهودي في " جواهر العقدين "، وبرهان الدين الحلبي في " إنسـان العيون في سـيرة الأمين المأمون "، وغيرهـم ممّن ألّـف في مناقب أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم.
توفّي سـنة 855 هـ ودُفن بالمعـلاّة من مكّـة.
انظر: الضوء اللامع 5 / 283 رقم 958، نزهة المجالس 2 / 204 ـ 205، كشف الظنون 2 / 1271، هديّـة العارفين 5 / 732، الأعلام 5 / 8، معجم المؤلّفين 2 / 492 رقم 9871، نفحات الأزهار 19 / 217 ـ 223 رقم 27.
2- كفاية الطالب: 407.
والكنجي هو: أبو عبـد الله فخر الدين محمّـد بن يوسف بن محمّـد الكـنجي الشافعي.
كان من أهل العلم، فقيهـاً حافظاً محدّثاً، فاضلا أديباً، وله نظم حسـن، ونسـبته إلى بلدة " كنج " بين أصبهان وخوزسـتان، له مصنّفات عديدة، منها: كـفاية الطالـب في مناقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، البيـان في أخبار صاحـب الزمـان.
أثنى عليه كلُّ مَن ترجم له، واتّهمه بعضهم بالرفض والتشـيّع لِما ألّـفه في مناقب أهل البيـت (عليهم السلام)!
قـتـله أهل دمشـق في جامعها سـنة 658 هـ بعد صلاة الصبـح!
انظر: تذكرة الحفّاظ 4 / 1441، البداية والنهاية 13 / 184، النجوم الزاهرة 7 / 75، كشف الظنون 1 / 263 و ج 2 / 1497، هديّـة العارفين 6 / 127، الأعلام 7 / 150، معجم المؤلّـفين 3 / 787 رقم 16482، مقـدّمة تحقيـق كفاية الطالب: 12 ـ 35.
ومحـمّـد بـن طلـحـة الشـافعي، فـي كـتابه " مـطـالب السـؤول "، ص 11(2).
____________
1- نور الأبصار: 85.
والشـبلنجي هو: مؤمن بن حسـن مؤمن الشـبلنـجي.
وُلد سـنة 1252 هـ، وكان حيّـاً سـنة 1322 هـ; فقد ذكر إسماعيل باشا كتابه " فتح المنّـان " وقال: " وهو الآن ـ أعني في سـنة 1322 ـ موجود بالأزهـر ".
فاضل من أهل شـبلنجة، وهي قرية من قرى مصر، قرب بنها العسل، تعلّم في الأزهر، وأقام في جواره، وأخذ عن علماء عصره، كان يميل إلى العزلة، ويألف زيارة القبور والمشاهد، ذا خلق رفيع، له عـدّة مصنّفات، منها: نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار، فتح المنّان في تفسـير غريب القرآن، مختصر " عجائب الآثار " للجبرتي.
انظر: إيضاح المكنون 4 / 174 و 683، هديّـة العارفين 6 / 483، الأعلام 7 / 334، معجم المؤلّفين 3 / 941 رقم 17444، مقـدّمة نور الأبصار: 3 ـ 4.
2- مطالب السؤول: 63.
وقد تقـدّمت ترجمة ابن طلحة في ج 5 / 160 هـ 2 من هذا الكـتاب; فراجـع!