الصفحة 305
ولو سُلّم ولادة حكيم بالكعبة، فهي من باب الاتّفاق، كما يدلّ عليه خبر ولادته، لا لكرامة له، فإنّه من مسلمة الفتح، ومن المؤلّفة قلوبهم، كما ذكره في " الاسـتيعاب "(1).

وهذا بخلاف ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام); فإنّها كجنابته في المسجد، من طهارته وعناية الله به، كما يشهد له ما رواه صاحب كتاب " بشائر المصطفى " على ما حكاه عنه في " كشف الغمّة "، قال:

ومن " بشائر المصطفى "، مرفوعاً إلى يزيد بن قعنب، قال: كنت جالسـاً مع العبّـاس بن عبـد المطّـلب وفريـق من بنـي عبـد العزّى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أُمّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت حاملا به لتسعة أشهر، وقد أخذها الطلق، فقالت: يا ربّ! إنّي مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رُسُل وكُـتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل، وإنّه بنى بيتك العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت، والمولود الذي في بطني، إلاّ ما يسّرت علَيَّ ولادتي.

قال يزيد بن قعنب: فرأيت البيت قد انشقّ من ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، وعاد إلى حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك من أمر الله تعالى.

ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.

ثمّ قالت: إنّي فُضّلت على من تقدّمني من النساء; لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله سرّاً في موضع لا يحبُّ الله أن يُعبد فيه إلاّ اضطراراً.

____________

1- الاسـتيعاب 1 / 362 رقم 535.


الصفحة 306
وإنّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطبـاً جنـيّـاً.

وإنّي دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنّة وأرزاقها، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة! سمّيه عليّـاً، فهو عليٌّ، والله العليُّ الأعلى يقول: شققت اسمه من اسمي، وأدّبته بأدبي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذّن فوق ظهر بيتي، ويقدّسـني، ويمجّدني، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه(1).

ثمّ ذكر فِعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) معه وقوله فيه، كما ذكره المصنّف (رحمه الله)(2).

ونقل أيضاً في " كشف الغمّة " خبر ولادته (عليه السلام) في الكعبة عن ابن المغازلي(3).

ورواه سـبط ابن الجوزي في " تذكرة الخواصّ "(4).

____________

1- كشف الغمّـة 1 / 60.

2- تقـدّم آنفاً في الصفحـة 300.

3- كشف الغمّة 1 / 59، وانظر: مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 58 ح 3.

وقد تقدّمت ترجمة ابن المغازلي في الصفحة 20 هـ 1 من هذا الجزء; فراجع!

4- تذكرة الخواصّ: 20.

وسـبط ابن الجوزي هو: أبو المظـفّر شمس الدين يوسف بن قُزُغلي ـ أو: قُـزْأُغلي ـ بن عبـد الله، التركي، البغـدادي، الحنبلي ثمّ الحنفي.

وُلد ببغـداد سـنة 581 أو 582 هـ، ونشأ بها، ربّـاه جـدّه أبو الفرج، سمع من جدّه وطائفة، وحدّث عنه كـثيرون، انتقل إلى دمشق سـنة 607 هـ فاسـتوطنها حتى آخـر حياته.

كان محدّثاً فقيهاً مؤرّخاً واعظاً، انتهت إليه رئاسة الوعظ وحسن التذكير ومعرفة التاريخ والإفتاء، وافر الحرمة عند الملوك والعامّـة، كان أوّل أمره حنبلياً ثمّ تحـوّل حنفياً، له مصنّفات عديدة، منها: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، تفسـير كبير، إيثار الإنصاف في آثار الخلاف ـ في الفقه على المذاهب الأربعة ـ، مناقـب أبي حنيفة، تذكرة الخـواصّ.

ترجم له الذهبي في بعض كـتبه وأثنى عليه ثناءً جميلا، ثمّ عـدّه في الضعفاء فقال: " ثمّ إنّـه ترفّـض، وله مؤلّـف في ذلك، نسأل الله العافية "! ولم يضـعّـفه إلاّ لتأليفه في تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) وسـيرتهم! فانظر إلى مدى غلّ الذهبيّ وحقـده، بل تعصّبه ونصبـه!!

توفّي سـنة 654 هـ بمنزله بسفح جبل قاسـيون، ودُفن هناك، وشـيّعه السلطان والقضـاة.

انظر: وفيات الأعيان 3 / 142 رقم 96، سـير أعلام النبلاء 23 / 296 رقم 203، العبر 3 / 274، ميزان الاعتدال 7 / 304 رقم 9888، الجواهر المضيّـة في طبقات الحنفية 3 / 633 رقم 1851، المختصر في أخبار البشر 3 / 197، مرآة الجنـان 4 / 104، طبقات المفسّرين ـ للداودي ـ 2 / 383 رقم 700.


الصفحة 307
وقال عبـد الباقي العُمَري(1) مادحاً لأمير المؤمنين (عليه السلام) [ من البسـيط ]:


أنتَ العليُّ الذي فوقَ العُلى رُفِعابِبطنِ مكّةَ وَسْطَ البَيتِ إذْ وُضِعا(2)

وقال الحِميـري(3) في مدحـه (عليه السلام) ومدح والدتـه الطاهـرة [ من

____________

1- هو: عبـد الباقي بن سليمان بن أحمد العُمَريّ الموصلي، أديب، وشاعر، ومؤرّخ.

وُلد بالموصل عام 1204، كان من وجهاء الموصل، تولّى المناصب العالية، فقد عُـيّن معاوناً للوالي العثماني، وانتقل إلى بغـداد وولي بها أعمالا حكومية، وتوفّي فيها عام 1278 هـ، وله مؤلّفات عديدة منها: الباقيات الصالحات ـ قصائد في مدح أهل البيت (عليهم السلام) ـ، الترياق الفاروقي ـ وهو ديوان شعره ـ، نزهة الدهر في تراجم فضلاء العصر، وغيرهـا.

انظر: معجم المؤلفين 2 / 42 رقم 6507، الأعلام 3 / 271.

2- الترياق الفاروقي: 96.

3- تقـدّمت ترجمته في ج 4 / 341 هـ 6 من هذا الكـتاب; فراجـع!


الصفحة 308
الكامـل ]:


وَلَـدَتْـهُ في حَرَمِ الإلهِ وأَمْنِهِوالبيتُ حيثُ فِناؤهُ والمَسجدُ
بيضاءُ طاهرةُ الثيابِ كريمةٌطابتْ وطابَ وليدُها والمولِدُ
في ليلة غابتْ نحوسُ نُجومِهاوبَدَتْ مع القمرِ المنيرِ الأَسْعُدُ
ما لُفَّ في خُرَقِ القَوابلِ مثلُهُإلاّ ابنُ آمِنـةَ النبيُّ محـمّـدُ(1)

وهذا كاشف عن معلومية ولادته بالكـعبة في الصدر الأوّل، كما هو كـذلك في جميع الأوقات(2).


*  *  *

____________

1- ديوان السـيّد الحميري: 155.

2- هذا، وقد أفاض الشيخ محمّـد عليّ الغروي الأُوردبادي (رحمه الله) الكلام عن تواتر حديث ولادة أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) في الكعبة المشـرّفة، وشهرته بين الأُمّة جمعاء، ولا سـيّما بين المحدّثين والمؤرّخيـن والشعراء; فراجـع كـتابه: " عليٌّ وليـد الكعبة ".

كما فنّد شاكر شَـبَع مزعمة ولادة حكيم بن حزام في الكعبة، في مقاله: " الولادة في الكعبة المعظّمة فضيلة لعليّ (عليه السلام) خصّه بها ربّ البيت "، المنشور في مجلّة " تراثنا "، العدد 26، السـنة السابعة، المحرّم 1412 هـ، ص 11 ـ 42، وأعلّها بالإرسال والنكارة والشذوذ والتحريف والوضع، وغير ذلك; فراجـع!

وكذا فعل الشـيخ محمّـد باقر الإلهي القمّي، في مقاله: " المَسْك الفتيق في ولادة عليّ (عليه السلام) بالبيت العتيق "، المنشور في مجلّة " تراثنا "، العدد المزدوج 63 ـ 64، السـنة السادسة عشرة، رجب 1421 هـ، ص 48 ـ 84; فراجــع!


الصفحة 309

فضـائله بعد الولادة

من فضائله النفسانية: إيمانُـه

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

وإمّـا بعد ولادته:

فأقسامها ثلاثة: نفسانية، وبدنية، وخارجية.

أمّـا النفسـانية: فَـيَـنْـظِـمُـهـا مطالـب:

الأوّل: الإيمان

وبواسطة سـيفه تمهّدت قواعده، وتشـيّدت أركانُـه(2)..

وبواسطة تعليمه الناس حصل لهم الإيمان، أُصولُـه وفروعُـه(3)..

____________

1- نهج الحقّ: 234.

2- وفي هذا المعنى قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 14 / 84:


ولولا أبو طالب وابنُـهُلَما مُـثِّـلَ الدِّينُ شخصاً فقاما
فذاكَ بمكّـةَ آوى وحامىوهذا بيثربَ جسَّ الحِماما

3- ذكر ابن أبي الحديد أنّ جميع العلوم; من العلم الإلهي، والفقه، والقضاء، والتفسيـر، وعلم الطريقة، وعلوم النحو والعربية، كلّها تنتهي إلى الإمام عليّ (عليه السلام)، وأنّ جميـع الفرق الإسـلامية أخذت علومها عنه، من المعتـزلة، والأشاعرة، والشـيعة، وغيـرهم.

انظر: شرح نهج البـلاغة 1 / 17 ـ 20.


الصفحة 310
لم يُشرك بالله طرفةَ عين، ولم يسجد لصنم، بل هو الذي كسر الأصنام لمّا صعد على كـتف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)..

(وهو أوّل الناس إسـلاماً)(2); روى أحمد بن حنبل، أنّـه أوّل من أسـلم، وأوّل من صـلّى مـع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

وفي " مسـنده "، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لفاطمـة: " أما ترضَـيْـنَ أنّي

____________

1- راجـع الحديث 23 في الصفحة 199 وما بعـدها من هذا الجزء.

2- ما بين القوسـين لم يرد في " نهج الحـقّ ".

3- انظر: مسند أحمد 1 / 99 و 141 و ج 4 / 368 و 371 و ج 5 / 26، فضائل الصحـابة ـ لأحمد ـ 2 / 728 ـ 730 ح 997 ـ 1000 و ص 732 ح 1003 و 1004 و ص 754 ح 1040; وانظر: سنن الترمذي 5 / 598 ح 3728 و ص 600 ح 3734 و 3735، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 43 ـ 44 ح 8137 و ص 105 ـ 107 ح 8391 ـ 8396، سـنن ابن ماجـة 1 / 44 ح 120، مسـند الطيـالسـي: 93 ح 678 و ص 360 ح 2753، مصنّف عبـد الرزّاق 5 / 325 ضمن ح 9719 و ج 11 / 227 ح 20392، مصنّـف ابن أبي شـيبة 7 / 498 ح 21 و 22 و ص 503 ح 49 و ص 505 ح 68، الطـبقـات الكبـرى ـ لابـن سـعد ـ 3 / 15، مسـنـد البـزّار 2 / 320 ح 751 و 752، مسـند أبي يعلى 1 / 348 ح 446 و 447، المعجم الكبير 5 / 176 ـ 177 ح 5002 و ج 11 / 21 ح 10924 و ص 321 ح 12151 و ج 19 / 291 ح 648 و ج 22 / 452 ح 1102، المعجـم الأوسـط 7 / 302 ح 7427، الأوائل ـ للطبراني ـ: 78 ـ 79 ح 51 ـ 53، المغازي النبوية ـ للزهري ـ: 46، السير والمغازي ـ لابن إسـحاق ـ: 137 ـ 138، السـيرة النبـويّـة ـ لابن هشـام ـ 2 / 84 ـ 85، المعـارف ـ لابن قتيبة ـ: 99، أنساب الأشراف 2 / 346 ـ 347، تاريخ اليعقوبي 1 / 343، تاريـخ الطبـري 1 / 537 ـ 539، العقـد الفريد 3 / 312، السـيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 67، الأوائل ـ للعسكري ـ: 91، المستدرك على الصحيحين 3 / 528 ح 5963 و ص 571 ح 6121، حلية الأولياء 1 / 66، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 6 / 206، الاستيعاب 3 / 1090 ـ 1096، تاريخ بغداد 4 / 233 رقم 1947، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 64 ـ 67 ح 17 ـ 22، فردوس الأخبار 1 / 34 ح 39 و ص 40 ح 95، تاريخ دمشق 42 / 26 ـ 45.


الصفحة 311
زوّجتـك أقدم أُمّـتي سلماً، وأكـثرهم علماً، وأعظمهم حلماً "(1).

وحـديث الدار يدلّ عليه أيضـاً(2).


*  *  *

____________

1- مسـند أحمد 5 / 26; وانظر: المعجم الكبير 20 / 230 ح 538، مجمع الزوائد 9 / 101 و 114، كنز العمّال 11 / 605 ح 32924 و 32926 و ج 13 / 135 ح 36423.

2- راجـع مبحث الحديث الثاني، في الصفحات 23 ـ 46 من هذا الجزء.


الصفحة 312

وقال الفضـل(1):

ما ذكر أنّ عليّـاً أوّل الناس إسلاماً، فهذا أمرٌ مختلَـفٌ فيه، وأكـثر العلماء على أنّ أوّل الناس إسلاماً هو خديجـة.

وقال بعضهم: أبو بكر.

وقال بعضهم: زيد بن حارثة.

وحاكم بعضهم فقال: أوّل الناس إسلاماً من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان عليّ، ومن النساء خديجة، ومن العبيـد زيد بن حارثة(2).

وقد حقّـقنا هذا في " تلخيص كـتاب كشف الغمّـة ".


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 438 الطبعة الحجرية.

2- تاريخ الطبري 1 / 540 ـ 541، الكامل في التاريخ 1 / 582 ـ 583، دلائل النبوّة ـ للبـيـهـقي ـ 2 / 163 ـ 165، السـيرة النبـويـة ـ لابـن كـثيـر ـ 1 / 432، الأوائـل ـ للطبراني ـ: 82.


الصفحة 313

وأقـول:

تعرّضه لتقدّم الإسلام خاصّة، ظاهرٌ في تسليمه ما عداه ـ ممّا ذكره المصنّف (رحمه الله) ـ، وهو كاف في المطلوب، ومن رام المناقشة في شيء من ذلك فقد كشف عن قصوره.

وأمّا ما ذكره من الخلاف في تقدّم إسلام أيِّ الجماعةِ فلا يضرّنا; لأنّا نحتجّ على الخصوم برواياتهم بلا حجّـة لهم علينا.

بل يظهر من بعضهم الإجماع على تقدّم إسلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما ذكره ابن حجر في " الصواعق "(1)، قال: " قال ابن عبّـاس، وأنس، وزيد بن أرقم، وسلمان الفارسي، وجماعة: إنّه أوّل من أسلم; ونقل بعضهم الإجماع عليه(2) ".

أقـول:

ويظهر من نفس الحاكم في " المسـتدرك "(3) دعوى الإجماع عليه، فإنّه روى عن زيد بن أرقم: " إنّ أوّل من أسلم مع رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عليّ ".

____________

1- في أوّل الفصل الأوّل من الباب التاسع [ ص 185 ]. منـه (قدس سره).

2- انظر: المعيار والموازنة: 66، معرفة علوم الحديث: 22، الاستيعاب 3 / 1092، شرح نهج البلاغة 1 / 30، تاريخ الخلفاء: 197.

3- ص 136 من الجزء الثالث [ 3 / 147 ح 4663 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 314
ثمّ قال: " هذا حديث صحيح الإسناد، وإنّما الخلاف في هذا الحرف أنّ أبا بكر الصدّيق كان أوّل الرجال البالغين إسلاماً، وعليّ بن أبي طالب تقـدّم إسلامه قبل البلوغ ".

فإنّ معنى هذا الكلام، أنّ عليّـاً (عليه السلام) تقدّم إسلامه قبل البلوغ على الناس جميعـاً بلا خلاف، وإنّما الخلاف في تقدّم إسلام أبي بكر على البالغين لا على عليّ (عليه السلام)(1).

وأمّا ما زعمه الفضل من المحاكمة، فخطأٌ; لأنّ حمل الأخبار المستفيضة في تقدّم إسلام عليّ على تقدّمه على الصبيان من المَضاحك، ولا يتفوّه به ذو رأيّ; إذ أيُّ صبيان أسلموا في ذلك الوقت حتّى يكون إسلام عليّ (عليه السلام) متقـدّماً لهم؟!

مـع أنّ من جملـة ما ورد في تقـدّم إسـلامه، ما دلّ على تفضيـل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) له به على الأُمّة، كما في خطابه لفاطمة (عليها السلام)، وما اشتمل على افتخار عليّ (عليه السلام) به على الناس(2)، فإنّ التفضيل والافتخار إنّما يناسبان تقدّم إسلامه على جميع الأُمّة، لا على الصبيان لو فرض إسلامهم.

كما أنّ أكثر الأخبار صريح في سـبق إسلامه على المسلمين جميعـاً(3).

____________

1- هذا فضلا عن أنّهم رووا بإسـناد صحّحوه ورجال وثّقوهم، أنّ أبا بكر أسلم بعـد أكـثر من خمسـين أسلموا قبله; فانظر: تاريخ الطبري 1 / 540، البداية والنهاية 3 / 24.

وكان خالد بن سعيد بن العاص بن أُميّة أحد هؤلاء الّذين أسلموا قبل أبي بكر; انظر: المعارف ـ لابن قتيبة ـ: 168.

2- انظر ما تقـدّم آنفاً في الصفحة 311.

3- تقـدّم تفصيلـه في الصفحـة 310 هـ 3.


الصفحة 315
على أنّ تلك المحاكمة لو صحّت في نفسها لم تمنع من تقدّم إسلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على أبي بكر وخديجـة وزيد; لأنّ تقدّم إسلامهم على أمثالهم لا ينافي تقدّم إسلام صبيّ على إسلامهم، كما صرّح بعض الأخبـار بتقـدّم إسلامه على إسلام أبي بكر(1).

والحقّ أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وُلد مسلماً مقـرّاً بشهادة: أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّـداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كالنبيّ، فإنّهما معصومان طاهران من حين ولادتهما.

أتُرى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان غيرَ مؤمن بربّه، ولا عارفاً بنبوّته، كما يتخيّله الجاهلون، حتّى زعموا أنّ خديجة وورقة علّماه نبوّته، كما سـبق في آخر " مباحث النبـوّة "(2)؟!

كيف لا؟! وقد خلقهما الله سبحانه نوراً واحداً قبل أن يخلق آدم كما مـرّ(3)..

وهما خيرة الله من أرضه; روى الحاكم في " المسـتدرك "(4)، عن أبي هريرة، وصحّحه على شرط الشيخين، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمَا تَرْضَيْنَ أنّ الله اطّلع إلى أهل الأرض فاختار رجلين، أحدهما أبـوك، والآخـر بعلك ".

____________

1- المعارف ـ لابن قتيبة ـ: 99، تاريخ دمشق 42 / 33، الرياض النضرة 3 / 110، ذخائر العقبى: 111، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 13 / 200 و 228، كنز العمّال 13 / 164 ح 36498.

2- راجـع: ج 4 / 137 ـ 141 من هذا الكـتاب.

3- تقـدّم في مبحث حديث النور، في الصفحات 5 ـ 22 من هذا الجـزء.

4- ص 129 من الجزء الثالث [ 3 / 140 ح 4645 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 316
وحكاه في " كنز العمّال "(1) عن الحاكم، عن أبي هريرة; وعن الطبراني، والحاكم، والخطيب، عن ابن عبّـاس.

وحكى في " الكنز " أيضاً ـ قبل هذا بحديث ـ، عن الطبراني، عن أبي أيّـوب، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لفاطمة: " أمَا علمت أنّ الله عزّ وجلّ اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيّـاً، ثمّ اطّـلع الثانية فاختار بعلك، فأوحى إليَّ فأنكحته واتّخذته وصيّـاً "(2).

وحكى في " الكـنز " الحديث الأوّل أيضاً(3)، عن الخطيب، وقال: " سـنده حسـن ".

ونقله ابن أبي الحـديد(4)، عن أحمـد في " مسـنده "(5).

فكيف يُتصـوّر في مَن اختاره الله تعالى مِن جميع بريّته ـ حتّى الأنبيـاء ـ أن لا يكـون مؤمنـاً عالِمـاً بالحـقّ حين ولادتـه، وقد كان عيسـى ـ وهما مختاران عليه ـ مؤمناً عالِماً بأنّه رسول الله ساعة الولادة؟!

وحينـئـذ، فهل يمكن أن يسـبق عليّـاً في الإسلام غيرُه ممّن نشأ

____________

1- ص 153 من الجزء السادس [ 11 / 605 ح 32925 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: المستدرك على الصحيحين 3 / 140 ح 4645 أ، المعجم الكبير 11 / 77 ح 11153 و 11154، تاريخ بغـداد 4 / 196 رقم 1886.

2- كنز العمّال 11 / 604 ح 32923; وانظر: المعجم الكبير 4 / 171 ح 4046.

3- ص 291 ج 6 [ 13 / 108 ـ 109 ح 36355 ]. منـه (قدس سره).

وانظـر: تاريخ بغـداد 4 / 195 رقم 1886.

4- ص 451 من المجلّد الثاني [ 9 / 174 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: تاريخ دمشق 42 / 135 ـ 136.

5- لم نعثر عليه في " المسـند " المطبوع، ولعلّه كان ضحية الإسقاط والحذف!


الصفحة 317
على عبـادة الأوثان؟!

وكيف يُتصوّر أن يكون مسبوقاً وقد امتاز على الناس بالصلاة قبلهم بسـبع سـنين؟!..

روى الحاكم في " المسـتدرك "(1)، عن عليّ (عليه السلام)، قال: " إنّي عبـدُ اللهِ وأخو رسولِه، وأنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها أحدٌ بعدي إلاّ كاذب، صلّيت قبل الناس بسـبع سـنين قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأُمّـة ".

ونقله في " الكنز "(2)، عن ابن أبي شيبة، والنسائي في " الخصائص "، وأبي نعيم، وغيرهم.

وروى الحاكم ـ بعد الحديث المذكور ـ، أنّ عليّـاً (عليه السلام) قال: " عبدتُ الله مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سـبع سـنين قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأُمّـة "(3).

ونقله في " الكنز "، عن الحاكم وابن مردويـه(4).

ونقل أيضاً عن الطبراني، وأحمد وأبي يعلى في " مسـنديهما "،

____________

1- ص 112 من الجزء الثالث [ 3 / 121 ح 4584 ]. منـه (قدس سره).

2- ص 394 من الجزء السادس [ 13 / 122 ح 36389 ]. منـه (قدس سره).

وانـظر: مصنّـف ابـن أبي شـيـبـة 7 / 498 ح 21، خصـائـص الإمـام عليّ (عليه السلام)ـ للنسائي ـ: 21 ـ 22 ح 6، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 584 ح 1324، المستدرك على الصحيحين 3 / 121 ح 4584، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 1 / 86 ح 339، سنن ابن ماجة 1 / 44 ح 120، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 106 ح 8395، فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 2 / 726 ح 993، تاريخ الطبري 1 / 537، المعـارف ـ لابـن قـتـيـبة ـ: 98، الكـنى والأسـماء ـ للدولابي ـ 2 / 81، الأوائـل ـ للعسكري ـ: 91، تفسـير الثعلبي 5 / 85.

3- المسـتدرك على الصحيحين 3 / 121 ح 4585.

4- كنز العمّال 13 / 122 ح 36390.


الصفحة 318
والحاكم في " المسـتدرك "، أنّ عليّـاً قال: " اللّهمّ ما أعرف أنّ عبداً لك من هذه الأُمّة عَـبَـدَك قبلي غير نبيّـك ـ ثلاث مرّات ـ، لقد صلّيتُ قبل أن يُصلّي الناس سـبعاً "(1).

.. إلى غيـرها من الأخبـار(2).

وليت شعري، كيف يُـدّعى أنّ أحداً أسـبق من أمير المؤمنين (عليه السلام)في الإسلام، وهو كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة هارون من موسى؟!


*  *  *

____________

1- كنز العمّال 13 / 126 ح 36400، وانظر: المعجم الأوسط 2 / 240 ح 1767، مسند أحمد 1 / 99، مسند أبي يعلى 1 / 348 ح 447، المستدرك على الصحيحين 3 / 121 ح 4585، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 107 ح 8396، مسند البزّار 2 / 319 ـ 320 ح 751، مسند الطيالسي: 26 ح 188، فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 2 / 848 ح 1164، تاريخ دمشق 42 / 31 ـ 32، مجمع الزوائد 9 / 102.

2- انظر: السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 105 ـ 107 ح 8391 ـ 8396، المستدرك على الصحيحين 3 / 120 ح 4582 و ص 147 ح 4662، حلية الأولياء 1 / 66، تاريخ بغداد 2 / 81 رقم 459 و ج 4 / 233 رقم 1947، الاستيعاب 3 / 1091، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 67 ح 22، تاريخ دمشـق 42 / 36 و 42 و 44 و 45 و 81 و 132، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 13 / 225، الرياض النضرة 3 / 111، فرائد السمطين 1 / 245 ح 190، مجمع الزوائد 9 / 101 و 102 و 114، كنز العمّال 11 / 605 ح 32926.


الصفحة 319

عِـلـمــه (عليه السلام)

قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):

المطلب الثاني: العِلـم

والناس كلّهم ـ بلا خلاف ـ عيالٌ عليه في المعارف الحقيقية، والعلوم اليقينـيّة، والأحكام الشرعيّة، والقضايا النقلـيّة(2); لأنّه (عليه السلام) كان في غاية الذكاء والحرص على التعلّم، وملازمته لرسـول الله ـ وهو أشـفق الناس عليـه ـ، لا ينفكّ عنه ليلا ولا نهاراً; فيكون بالضرورة أعلم من غيره.

وقال رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّـه: " أقضاكم عليّ "(3)، والقضـاء يسـتلزم العلم والدين.

وروى الترمذي في " صحيحه "، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أنا مدينـة العلم وعليٌّ بابها "(4).

____________

1- نهج الحقّ: 235.

2- راجـع ما مـرّ في الصفحـة 311.

3- انظـر: سـنن ابن ماجـة 1 / 55 ح 154، المعجـم الصغير 1 / 201، أخبار القضاة ـ لوكيع ـ 1 / 88 ـ 90، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: 127، الاستيعاب 3 / 1102، الفقيه والمتفقّه ـ للخطيب البغدادي ـ 2 / 291 ح 992، التبصير في الدين ـ للأسفراييني ـ: 179، مفردات ألفاظ القرآن ـ للراغب ـ: 422، مصابيح السُـنّة 4 / 180 ح 4787، تاريخ دمشق 47 / 112، أُسد الغابة 3 / 597، شرح نهج البلاغة 1 / 18.

4- انظر: جامع الأُصول 8 / 657 ح 6501، مطالب السؤول: 69 و 98، منهاج السُـنّة 7 515/، تاريخ الخلفاء: 202، جواهر العقدين: 57، الصواعق المحرقة: 189، شرح المواهب اللدنّـيّـة ـ للزرقاني ـ 4 / 215، مرقاة المفاتيح 10 / 470، كلّهم عن الترمذي بلفظ: " أنا مدينـة العلم وعليٌّ بابها ".

وسـيأتي الكلام على رواية الترمذي هذه في الصفحة 324، وراجع مبحث الحـديث 19 في الصفحات 171 ـ 181 من هذا الجـزء.


الصفحة 320
وذكر البغوي في " الصحاح "، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أنا دار الحكمـة وعليٌّ بابها "(1).


*  *  *

____________

1- مصابيح السُـنّة 4 / 174 ح 4772.


الصفحة 321

وقال الفضـل(1):

ما ذكره من علم أمير المؤمنين، فلا شكّ أنّه من علماء الأُمّة والناس محتاجون إليه فيه، وكيف لا؟! وهو وصيُّ النبيّ في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف، فلا نزاع لأحد فيه.

وأمّـا ما ذكره من صحيح الترمذي، فصحيح.

وأمّـا ما ذكـره من صحـاح البغـوي، فإنّـه قـال: " الحـديث غريب، لا يُعرف هذا عن أحد من الثقات غير شريك، وإسـناده مضطرب "(2).

فكان ينبغي أن يذكر ما ذكروه من معائب الحديث; ليكون أميناً في النقـل.


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 439 الطبعة الحجرية.

2- مصابيح السُـنّة 4 / 174 ح 4772.