الصفحة 322

وأقـول:

لا يخفى ما في كلامه من التنافي; لأنّ قوله: " إنّه من علماء الأُمّة " يدلّ على أنّه فرد من جماعة لا فضل له عليهم; وقوله: " كيف لا؟! وهو وصيّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في إبلاغ العلم وودائع حقائق المعارف " يدلّ على فضـله على غيره!

وقد اسـتدلّ المصنّف (رحمه الله) على أعلميّـة أمير المؤمنين بأُمور:

الأوّل: " إنّه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلّم... " إلى آخـره.

وهو دليل إقناعي، ذكره تقريباً إلى أذهان السامعين، وإلاّ فعِلم أمير المؤمنين (عليه السلام) كعِلم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رشحةٌ من الفيض الإلهي، سوى إنّ عِلم عليّ (عليه السلام) بواسطة النبيّ، وعِلم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة جبرئيـل.

فكما إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحتاج في عِلمه إلى ملازمة جبرئيل، فكذا عليٌّ لا يحتاج إلى ملازمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

كيف؟! وقد علّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام واحد ألف باب من العلم، يُفتح له من كلّ باب ألف باب(1)!

____________

1- الرسالة اللدنّـيّـة ـ للغزّالي ـ: 232، تاريخ دمشق 42 / 385، مطالب السؤول: 118، فرائد السمطين 1 / 101 ح 70، البداية والنهاية 7 / 286، شرح المقاصد 5 / 297، سير أعلام النبلاء 8 / 24، كنز العمّال 13 / 114 ـ 115 ح 36372.


الصفحة 323
الثاني: إنّه قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أقضاكم عليّ " كما في " الاسـتيعاب " بترجمة عليّ(1)..

وفي " الصواعق "(2)، نقلا عن الطبراني، وأبي يعلى، والعقيلي، وابن عساكر..

ورواه الحاكم في " المسـتدرك "(3).

وروى البخاري في تفسير قوله تعالى: { ما ننسخْ من آية أو نُنسِها } من سورة البقرة(4)، أنّ عمر قال: أَقرأُنا أُبَيّ، وأقضانا عليّ(5).

ونحوه في " الاسـتيعاب "(6).

ووجه الاسـتدلال به ظاهر من كلام المصنّف (رحمه الله).

الثالث: ما رواه الترمذي وذكره البغوي، وقد سبق الكلام في سنده ودلالته في الحديث التاسع عشـر(7).

ولا يفترق الحال بين الحديثين، حيث قال في أحدهما: " أنا مدينة العلم "، وفي الآخر: " أنا دار الحكمة "; وذلك للتلازم بينهما; فإنّ مَن يكون باباً لعِلم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بُـدّ أن تنكشف له وجوه الحكمة، فيكون

____________

1- الاسـتيعاب 3 / 1102.

2- في الفصل الثالث، من الباب الثالث، في الحـديث الرابع والتسـعين [ ص 120 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: المعجم الصغير 1 / 201، مسند أبي يعلى 10 / 141 ح 5763، الضعفاء الكبير 2 / 159 رقم 664، تاريخ دمشق 47 / 112.

3- ص 553 ح 3 [ 3 / 616 ح 6281 ]. منـه (قدس سره).

4- سورة البقرة 2: 106.

5- صحيح البخاري 6 / 46 ح 8.

6- الاسـتيعاب 3 / 1102.

7- راجع مبحث الحديث 19، في الصفحات 171 ـ 181 من هذا الجزء.


الصفحة 324
بابـاً لحكمتـه.

وإنّما لم يذكر المصنّف (رحمه الله) قول البغوي: " وإسـناده مضطرب "; لأنّ الاضطراب الذي أراده، هو روايـة بعضهم للحديث عن سـويد(1)، عن عليّ (عليه السلام); وروايـة بعض آخـر له عـن سـويد، عن الصنـابحي(2)، عن عليّ (عليه السلام); وهو ليـس بعيب في الحديث بعد اعتبار الصنابحي.

على أنّه لو كان عيباً، لم يلزم التعرّض لمثله بعد اسـتفاضة طرق الحديث، وتصحيح جماعة من علمائهم لبعضها(3).

تـنـبـيـه:

لفظ الحديث في النسخة التي عندنا من صحيح الترمذي: " أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها "(4)، والمصنّف (رحمه الله) نقله بلفظ: " أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها "، وصحّح الفضلُ نَـقْـلَه(5)، وقد نقله ابن حجر عن الترمذي باللفظين معـاً(6)، فلعلّـه رواه باللفظين في مقامين!

____________

1- هو: سويد بن غفلة بن عوسجة الجعفي الكوفي، وثّقه ابن معين والعجلي، وتوفّي سنة 80 هـ وقيل 82 هـ; انظر: تهذيب التهذيب 3 / 564 ـ 565 رقم 2771.

2- هو: أبو عبـد الله عبـد الرحمن بن عسـيلة المرادي، وثّقه ابن سعد; انظر: لسان الميزان 7 / 509 رقم 5835.

3- راجع الأجزاء 10 ـ 12 من موسوعة " نفحـات الأزهـار "، ففيـها تفصيل كلّ ما يتعلّق بحديث مدينـة العلم، سـنداً ودلالة، طرقاً ومتـناً، رواته، ألفاظه، شواهد الحديث، تصحيـح أسانيده، وتفنيد ما أُثير حوله من شكوك وشـبهات!

4- سـنن الترمذي 5 / 596 ح 3723.

5- تقـدّم آنفـاً في الصفحـة 321.

6- في الفصل الثاني من الباب التاسع [ الصواعق المحرقة: 189 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 325
كما إنّ البغوي ذكر الحديث في " الحسان " لا في " الصحاح "، بحسـب نسخة " المصابيح "(1) التي عندنا، فيُحتمل خطَـأُها، ويُحتمل خطأ المصنّـفِ (رحمه الله)، والفضلِ ـ أيضاً ـ بإقراره للمصنّـف على نقله!


*  *  *

____________

1- مصابيح السُـنّة 4 / 174 ح 4772.


الصفحة 326

قال المصنّـف ـ طاب ثراه ـ(1):

وفـيـه(2): عن أبي الحمراء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أراد أن ينـظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى يحيى بن زكريّا في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب "(3).

وروى البيهقي، بإسناده إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمـه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب "(4).


*  *  *

____________

1- نهج الحقّ: 236.

2- أي في حقّـه (عليه السلام)، عطفاً على قول العلاّمة الحلّي (قدس سره): " وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّـه:... " المتقـدّم آنفاً في الصفحة 319; فلاحـظ!

3- مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ للخوارزمي ـ: 83 ح 70، وانظر: مناقب الإمام عليّ (عليه السلام)ـ لابن المغازلي ـ: 200 ح 256، شواهد التنزيل 1 / 78 ـ 80 ح 116 و 117 و ص 106 ح 147، تاريخ دمشق 42 / 313، الرياض النضرة 3 / 196، ذخائر العقبى: 168، البداية والنهاية 7 / 283، ينابيع المودّة 1 / 363 ح 1.

4- رواه أحمد في " المسـند "، ورواه أحمد البيهقي في " الصحيح "، كما في شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 9 / 168.

وانظر: تفسـير الفخر الرازي 8 / 91، مطالب السؤول: 97، كفاية الطالب: 121 ـ 122 ب 23، الفصول المهمّـة: 123، نزهة المجالس 2 / 207.


الصفحة 327

وقال الفضـل(1):

خان في هذا النقل; لأنّه ذكر أنّ في " صحاح البغوي " هذا الحديث، وهذا كذب باطل; فإنّ الحديث لم يذكره البغوي أصلا، لا في " صحاحه " ولا في " حسانه "، وأثر الوضع على هذا الحديث ظاهر.

ولا شكّ أنّه منكَر ـ مع ما نسبه إلى البيهقي ـ; لأنّه يوهم أنّ عليّ بن أبي طالب أفضل من هؤلاء الأنبياء، وهذا باطل; فإنّ غير النبيّ لا يكون أفضل من النبيّ.

وأمّا أنّه موهم لهذا المعنى; لأنّه جمع فيه من الفضائل ما تفرّق في الأنبياء، والجامع للفضائل أفضل ممّن تفرّق فيه الفضائل، وأمثال هذا من موضوعات الغُلاة، وإنْ صحّ فيمكن حمله على أنّ له كمال هذه الفضائل.


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 440 الطبعة الحجرية.


الصفحة 328

وأقـول:

لم يفهم الفضلُ مرادَ المصنّف (رحمه الله); فإنّ الضمير في قوله: " فيه " لو رجع إلى " صحاح البغوي " لقال: " وفيها ".

كما إنّه لا يرجع إلى " صحيح الترمذي "; لعدم ذكره للحديث في مناقب عليّ (عليه السلام)، ويبعد ذِكره له في محلّ آخـر.

فالظاهر أنّه راجع إلى " حقّه " في قول المصنّـف سابقاً: " وقال رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّـه "(1)، وما أبعد الخيانة عن المصنّـف (رحمه الله)!

ويُحتمل سقوطُ حديث آخرَ نقله المصنّف من كتاب آخر، فيعود الضميـر إلى ذلك الكـتاب، ولا يبعـد ـ على هذا ـ أنّـه " مسـند أحمد "; فإنّ المصنّف (رحمه الله) ينقل عنه كـثيراً، وهو موجود فيه بحسـب ما ذكره ابن أبي الحديد(2)، وصاحب " ينابيع المودّة"(3)، كما نقلاه أيضاً عن البيهقي.

لكنّي لم أجده في " المسـند "، ولا يبعد أنّـه من يد التصرّف!

ونقل السيوطي في " اللآلئ المصنوعة "، عن الحاكم، أنّه أخرج عن أبي الحمراء مرفوعاً: " من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، ونوح في فهمه، وإبراهيم في حلمه، ويحيى في زهده، وموسى في بطشه، فلينظر إلى عليّ "(4).

____________

1- تقـدّم آنفاً في الصفحة 319.

2- ص 449 من المجلّد الثاني [ 9 / 168 ]. منـه (قدس سره).

3- في الباب الأربعين [ 1 / 363 ح 1 ]. منـه (قدس سره).

4- اللآلئ المصنوعة 1 / 325.


الصفحة 329
ونقل عن ابن الجوزي، أنّه قال: " موضوع "; متعلّلا باشتمال سنده على أبي عمر الأزدي، وهو متروك(1).

وتعقّبه السـيوطي بأنّ له طريقاً آخر عن أبي سعيد، أخرجه ابن شـاهين في " السُـنّة " عنه، قال: كنّا حول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقبل عليٌّ، فأدام رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النظر إليه، ثمّ قال: " من أراد أن ينظر إلى آدم في عِلمه، وإلى نوح في حكمه، وإلى إبراهيم في حلمه، فلينظر إلى هـذا "(2).

ونقل السـيوطي طريقاً آخر لابن شاهين عن أبي الحمراء(3).

فعليـه يكون الحديث كـثير الطرق ومعتبراً، وإنْ فُرض ضعفُ كلّ من أسـانيـده(4)، مـع أنّـه قـد رواه صاحـب " المواقـف " ومـا أعـلَّ سـنده هـو ولا الشـارح(5).

ولا يضرّ اختلاف خصوصيّاته بحذف بعض الأنبياء وتبديل صفاتهم; لجواز تعـدّد أقوال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو خطأ بعض الرواة.

ولا ريب بدلالة الحديث على فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) على الأُمّة

____________

1- الموضوعات 1 / 370.

2- اللآلئ المصنوعة 1 / 325.

3- اللآلئ المصنوعة 1 / 325.

4- لقد روى هذا الحديث الشريف الصحيح طائفة كبيرة من الرواة والحفّاظ والعلماء المعتمَـدين عند أهل السُـنّة، فبلغوا أكـثر من أربعين رجلا، من رجال الصحاح، وأصحاب المسانيد، ومشاهير العلماء; فراجع الجزء 19 من " نفحات الأزهـار " لترى أسانيد حديث التشـبيه، وأسماء أشهر رواته ومخـرّجيه، وكذا دلالة الحديث على إمامـة الإمـام أميـر المؤمنين عليّ (عليه السلام).

5- المواقف: 410، شرح المواقف 8 / 369.


الصفحة 330
وإمامته لهم; لدلالته على فضله على هؤلاء الأنبياء العِظام، فكيف بآحاد الأُمـم؟!

وذلك لأنّـه صـرّح بأنّ عليّـاً (عليه السلام) جمع ما تفـرّق في أعاظم الأنبياء من الأوصاف، التي كلّ واحدة منها أعظمُ الأفراد من نوعها.

ودعوى أنّ غير النبيّ لا يكون أفضل منه، دعوىً بلا حجّـة.

نعم، لا يجوز أن يكون النبيّ مفضولا لواحد من أُمّته، كما يحكم به العقل، وإنْ خالف به بعض القوم كما سـبق في " مباحث النبـوّة "(1).

وقد بـيّـنّـا في آية " المباهلة " وغيرها، أنّ عليّـاً أفضل من جميع النبـيّـين سوى ابن عمّـه سـيّد المرسلين(2).

وقد تواتر عندنا أنّ عليّـاً سـيّد الوصيّين(3)، ومن جملتهم الأنبياء، كيوشع بن نون وصيّ موسى (عليه السلام).


*  *  *

____________

1- راجـع: ج 4 / 33 من هذا الكـتاب.

2- راجـع: ج 4 / 402 ـ 408 من هذا الكـتاب.

3- انظـر مثـلا: شـرح الأخبـار 1 / 223 ذ ح 207، الأمـالي ـ للصدوق ـ: 61 ح 20 و ص 74 ذ ح 42، الخصال: 575، معاني الأخبار: 373، الأمالي ـ للطوسي ـ: 442 ح 991، الحائريات ـ ضمن " الرسائل العشر " للشيخ الطوسي ـ: 306، تفصيل وسائل الشـيعة 7 / 20 ح 6.


الصفحة 331

العلوم كلّها مسـتندة إليه

قال المصنّـف ـ قـدّس سرّه ـ(1):

وأيضاً: جميع العلوم مسـتندة إليه..

أمّا الكلام وأُصول الفقه; فظاهر، وكلامه في " النهج " يدلّ على كمال معرفته في التوحيـد والعدل، وجميع جزئيات علم الكلام والأُصول.

وأمّـا الفـقـه; فالفقهاء كلّهم يرجعون إليه..

أمّـا الإماميـة; فظاهـرٌ(2)..

وأمّـا الحنفية; فإنّ أصحاب أبي حنيفة أخذوا عن أبي حنيفة(3)، وهـو تلميـذ الصـادق (عليه السلام)(4)..

وأمّـا الشافعية; فأخذوا عن محمّـد بن إدريس الشافعي(5)، وهو

____________

1- نهج الحقّ: 237.

2- انظر: شرح نهج البلاغة 1 / 17 و 18.

3- هو: أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، مولى تيم، إمام الحنفية وأصحاب الرأي، وأحد الأئمّة الأربعة عند أهل السُـنّة والجماعة; وُلد سـنة 80 هـ، ونشأ بالكوفة، طلبه المنصور العبّـاسي لتولّي القضاء فأبى، فحبسه إلى أن مات سـنة 150 هـ، وقيل: إنّ المنصور سـمّه.

انظر: تاريخ بغـداد 13 / 323 رقم 7297، المنتظم 5 / 185، البداية والنهاية 10 / 87.

4- انظر: شرح نهج البلاغة 1 / 18، تهذيب التهذيب 2 / 68 رقم 994.

5- هو: أبو عبـد الله محمّـد بن إدريس الشافعي، إمام الشافعية، وأحد الأئمّة الأربعة عند أهل السُـنّة والجماعة; وُلد بفلسطين، وحُمل منها إلى مكّة، وانتقل إلى مصر سـنة 199 هـ حتّى توفّي بها سـنة 204 هـ، من أشهر آثاره: كـتاب الأُمّ، المسـند، أحكام القرآن، الرسالة في أُصول الفقه.

انظر: تاريخ بغداد 2 / 56 رقم رقم 454، المنتظم 6 / 137، البداية والنهاية 10 / 210.


الصفحة 332
قـرأ على محمّـد بن الحسـن(1) تلميذ أبي حنيفة، وعلى مالك; فرجع فـقهـه إليهمـا(2)..

وأمّـا أحمد بن حنبل(3); فقرأ على الشافعي; فرجع فقهه إليه(4).

وأمّـا مالك(5); فقرأ على اثنين:

____________

1- هو: أبو عبـد الله محمّـد بن الحسن بن فرقد الشـيباني، مولاهم، صاحب أبي حنيفة، وإمام أهل الرأي، أصله من دمشق من قرية حَرَسْـتا، ووُلد بواسط، ونشأ بالكوفة، سمع من أبي حنيفة وغلب عليه مذهبه، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة; انتقل إلى بغـداد وولاّه الرشـيد القضاء بالرقّـة، ثمّ عزله، ولمّا خرج الرشـيد إلى خراسان صحبه فمات في الريّ سـنة 189 هـ.

انظر: تاريخ بغداد 2 / 172 رقم 593، البداية والنهاية 10 / 167، المنتظم 5 / 532، الجواهر المضيّـة 3 / 122 رقم 1270.

2- انظر: حلية الأولياء 9 / 75، شرح نهج البلاغة 1 / 18، تاريخ دمشق 51 / 267 رقم 6071.

3- هو: أبو عبـد الله أحمد بن محمّـد بن حنبل، إمام أهل الحديث، وأحد أئمّة المذاهب الأربعة عند أهل السُـنّة والجماعة، أصله من مرو، وكان أبوه والي سرخس، توفّي سـنة 241 هـ; ومن أشهر مصنّفاته " المسـند ".

انظر: تاريخ بغداد 4 / 412 رقم 2317، المنتظم 6 / 488، البداية والنهاية 10 / 273.

4- شرح نهج البلاغة 1 / 18.

5- هو: أبو عبـد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، إمام المالكية، وأحد أئمّة المذاهب الأربعة عند أهل السُـنّة والجماعة، وُلد سنة 93 هـ بالمدينة ونشأ بها، ورووا أنّ أُمّـه حملت به ثلاث سـنين; صنّف " الموطّـأ " بأمر من المنصور العبّـاسي، وتوفّي سـنة 179 هـ.

انظر: حلية الأولياء 6 / 316، ترتيب المدارك 1 / 110 ـ 112، المنتظم 5 / 426، البداية والنهاية 10 / 143.


الصفحة 333
أحدهما: ربيعة الرأي(1)، وهو تلميذ عكرمة، وهو تلميذ عبـد الله ابن عبّـاس، وهو تلميـذ عليّ (عليه السلام)(2).

والثاني: مولانا جعفـر بن محمّـد الصـادق..

وكان الخوارج تلامذة لـه(3).

وأمّـا النحـو; فهو واضعـه(4).

وكذا علم التفسـير(5)..

قال ابن عبّـاس: حدّثني أمير المؤمنين (عليه السلام) في باء { بسـم الله الرحمن الرحيم } من أوّل الليل إلى الفجر ولم يُـتِـمّ(6).


*  *  *

____________

1- هو: أبو عثمان ربيعة بن أبي عبـد الرحمن فرّوخ التيمي المدني، مولى آل المنكدر، صاحب الرأي والقياس، أدرك بعض الصحابة والتابعين، وكان صاحب الفتوى بالمدينة المنوّرة، روى عنه مالك بن أنس وسفيان الثوري وشعبة بن الحجّاج والليث بن سعد وغيرهم، قدم على أبي العبّـاس السفّاح في الأنبار ليولّيه القضاء; وتوفّي في الأنبار سـنة 136 هـ.

انظر: تاريخ بغـداد 8 / 420 رقم 4531، تذكرة الحفّاظ 1 / 157 رقم 153، تهذيب التهذيب 3 / 83 رقم 1973.

2- انظر: شرح نهج البلاغة 1 / 18.

3- انظر: مطالب السؤول: 111 ـ 112، شرح المقاصد 5 / 297 ـ 298.

4- انظر: شرح نهج البلاغة 1 / 20.

5- انظر: شرح نهج البلاغة 1 / 19.

6- ينابيع المودّة 1 / 214 ح 19 و ج 3 / 211.


الصفحة 334

وقال الفضـل(1):

ذكـرَ أنّ أبا حنيفة قرأ على الصادق، ثمّ ذكـرَ أنّ الشافعي قرأ على محمّـد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وعلى مالك، فرجع فقـهُـهُ إليهما.

ويُفهـم من هذا أنّ كلّ مَن قرأ على أحد يرجع فقـهه إليه، فيرجع فقـه جميع الأئمّـة على هذا التقدير إلى الصـادق.

وفقه الصادق عنده لا شكّ أنّه حـقٌّ وصدق، فلم يبق له بعد هذا الكلام اعتراض على الأئمّـة الأربعـة.

وأمّا قوله: إنّ الشافعي قرأ على محمّـد بن الحسن; فهو كذبٌ وباطـل.

وأمّا قوله: إنّ جميع العلوم من الفقه والأُصول والكلام يرجع إلى أمير المؤمنين..

فإنْ أراد أنّ أصحاب هذه العلوم ما اسـتفادوا في تدوين هذه العلوم من غير كلام أمير المؤمنين; فهو ممنوع.

وإنْ أراد أنّهم اسـتفادوا من كلامه أيضاً كما اسـتفادوا من كلام باقي علماء الصحابة; فهو حـقٌّ لا شكّ فيـه.


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 443 الطبعة الحجرية.


الصفحة 335

وأقـول:

ما فهمه من كلام المصنّف (رحمه الله)، وزعم أنّه لا يبقى بعـده اعتراض على أئمّتهم، خطأٌ ظاهر; إذ ليس معنى الرجوع إليه اتّـفاق فتاويهم معه، بل معنـاه أنّـه أساس تحصيلهم ومنـشأ قـوّتهم، وإن خالفوه في أُمور خطيرة وأحكام كـثيرة اسـتحسـنوها بآرائهم، وقاسوها بمقاييـسـهم!(1).

ومنه يُعلم أنّ ترديده في معنى رجوع العلوم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)غيرُ حاصِـر.

فإنّ مراد المصنّف (رحمه الله): أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أساسُ تلك العلوم،

____________

1- ومن أمثلة مخالفة الطلاّب لشـيوخهم:

مخالفة الشافعي لمالك في مسائل كثيرة جدّاً، كالمسح، ووقت صلاة المغرب، وعدد كلمات الأذان، فعنده تسعة عشر كلمة وعند مالك سـبعة عشر كلمة، وخالفه بالجهر بالبسملة، وعند مالك لا تُقرأ من أصلها، وفي الجمع بين الظهر والعصر، وفي الكلام حال خطبة الجمعة، والتكبير في العيدين، وفي مسائل الصيام، والزكاة، والحجّ، وناقضه في مسائل كثيرة في كتاب البيوع إلى الإجارة; فقال الشافعي باشـتراط الإيجاب والقبول قولا بين البائع والمشـتري ليدلّ على تراضيهما; وقال مالك: لا يشـترط; وكذا في باقي أبواب الفقه.

انظر: طبقات الفقهاء 1 / 49 ـ 94.

وخالف أبو يوسف والشـيباني شـيخَهما أبا حنيفة بمسائل كـثيرة جدّاً، كما هو واضح لمن تـتـبّع موارد فـتياهم.

وهذا أبو الحسن الأشعري، إمام الأشاعرة، الذي أنهى شطراً من حياته يأخذ من المعتزلة وشـيخهم الجُـبّائي، إلاّ أنّـه تبرّأ من الاعتزال وردّ على المعتزلة في مصنّفاته; وبالرغم من ذلك نرى أنّ الأشعري يخالف عقيدة أهل الحديث في مسائل كثيرة، وما ذلك إلاّ بسـبب الاعتزال وأثره فيه.


الصفحة 336
ومنشأُ قـوّة البحـث والاجتهاد فيها، وإنِ اسـتفاد العلماءُ روايةَ بعضِ الأحكام أو روايةَ تفسـيرِ بعض الآيات مِن غيره; وهو غير ما أراده في شـقَّي الترديـد.

ولا يمكن أن يُنكر أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) منـشأُ التحصيل وسـبب قـوّة البحث والاسـتنباط والاجتهاد في علم الكلام، والأُصول، والنحو، بل والفقه والتفسـير، فإنّ أعظم من يُـنظر إليه فيهمـا هو ابن عبّـاس، وهو تلميـذ أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا في عرضـه(1).

وأمّا ابن مسعود; فعِلمه بالنسبة إلى علم أمير المؤمنين به كقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط; إذ ليس هو بأعظم من ابن عبّـاس، وهو قد كان كذلك(2).

قال ابن أبي الحديد في مقدّمة " شرح نهج البلاغة ": " ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أُخذ ومنه تفرّع، وإذ رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّـة ذلك; لأنّ أكـثره عنه وعن عبـد الله بن عبّـاس.

وقد علم الناس حال ابن عبّـاس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنّه تلميذه وخرّيجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمّـك؟

فقال: كـنسـبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط "(3).

بل علمه وعلم جميع الصحابة بالنسبة إلى علم أمير المؤمنين (عليه السلام)

____________

1- مراد الشـيخ المظفّر (قدس سره) أنّ ابن عبّـاس في العلم ليس في مصافّ ومنزلة الإمام أميـر المؤمنين عليّ (عليه السلام) العلميّة، أي أنّه لا يترتّب معه ترتيباً عرضياً، بل يترتّب معه ترتيباً طولياً; لأنّ علمه امتداد من علم أمير المؤمنين (عليه السلام).

2- أي: ابن عبّـاس.

3- شرح نهج البلاغة 1 / 19.


الصفحة 337
كـذلك..

فأين هم ممّن عنده عِلم الكـتاب(1)، وباب مدينة عِلم الرسول(2)، ومَن يقول: " سلوني قبل أن تـفـقـدوني "(3)؟!

وهل يتصوّر منصف أن يكون أصلا في الكلام والتفسـير والفقه مَن لا يعرف أنّ الله سـبحانه لا يحويه مكان؟! ويقول: هو في السماء على العرش!! في جواب السائل: أين هو؟(4)..

ومَن لا يعرف مفردات الكتاب ـ كالأَبّ(5)، والكَلالة(6) ـ فضلا عن مركّـباته المتشـابهة؟!..

ويضرب السائل عن تفسـير: { والذاريات ذرواً }(7)، فراراً عن

____________

1- راجع مبحث آية (ومَن عِندَه عِلمُ الكتاب)، في ج 5 / 115 ـ 119 من هذا الكـتاب.

2- راجع مبحث حديث " أنا مدينـة العلم وعليٌّ بابها "، في الصفحات 171 ـ 182 من هذا الجـزء.

3- سـيأتي في الصفحـة 354 من هذا الجـزء.

4- هو عمر بن الخطّاب.

انظر مثلا: شرح أُصول اعتقاد أهل السُـنّة والجماعة ـ لللالكائي ـ 3 ـ 4 / 430 و 438 رقم 658، النقض على بشر المريسي 1 / 517، اجتماع الجيوش الإسلامية: 84 ـ 86.

5- انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 249، تفسير الطبري 12 / 451 ح 36367 ـ 36372، المستدرك على الصحيحين 2 / 559 ح 3897، تفسير الثعلبي 10 / 134، تفسير الماوردي 6 / 208، شعب الإيمان 2 / 424 ح 2281، تاريخ بغـداد 11 / 468 ـ 469، كنز العمّـال 2 / 328 ح 4154 و 4155.

6- انظر: صحيح مسلم 5 / 61، مسند أحمد 1 / 48، سنن ابن ماجة 2 / 910 ـ 911 ح 2726 و 2727، المستدرك على الصحيحين 2 / 332 ـ 333 ح 3186 ـ 3188، السـنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 6 / 224 و ج 8 / 150.

7- سورة الذاريات 51: 1.


الصفحة 338
جوابـه(1)؟!..

ويُـقـرّ بأنّ المخـدَّرات أفـقـه منه(2)؟!.

وأمّا تكذيبه للمصنّف (رحمه الله) في دعوى قراءة الشافعي على محمّـد بن الحسن، فمن الجهل!..

قال ابن أبي الحديد في مقدّمة " شرح النهج ": " ومن العلوم: علم الفقه، وهو (عليه السلام) أصله وأساسه، وكلّ فقيه في الإسلام عيال عليـه ومسـتفيد من فقهـه.

أمّا أصحاب أبي حنيفة; كأبي يوسف(3)، ومحمّـد(4)، وغيرهما(5)، فأخذوا عن أبي حنيفة.

____________

1- انظر: مسـند البزّار 1 / 423 ح 299، تفسير القرطبي 17 / 21، تفسير ابن كثير 4 / 233، الدرّ المنثور 7 / 614.

2- انظر: سنن سعيد بن منصور 1 / 166 ـ 167 ح 598، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7 / 233، تمهيد الأوائل: 501، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 2 / 303 ـ 304، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 12 / 208، مجمع الزوائد 4 / 284 وقال: " رواه أبو يعلى ".

3- هو: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الكوفي البغدادي، القاضي، صاحب أبي حنيفة وتلميذه، وهو أوّل من نشر مذهبه، وُلد بالكوفة سنة 113 هـ، وتفـقّه بالحديث والرواية، ثمّ لزم أبا حنيفة فغلب عليه الرأي، ولي القضاء ببغداد أيّام المهدي والهادي والرشيد العبّـاسـيّين، وهو أوّل من دُعي قاضي القضاة، ومات في أيّام الرشيد العبّـاسي وهو على القضاء سنة 182 هـ; ومن مصنّـفاته: الخراج، الآثار، الردّ على مالك بن أنـس.

انظر: تاريخ بغداد 14 / 242 رقم 7558، المنتظم 5 / 451، البداية والنهاية 10 / 148، الجواهر المضيّـة 3 / 611 رقم 1825.

4- هو: محمّـد بن الحسن الشـيباني; انظر ترجمته المتقـدّمة آنفاً في الصفحة 317.

5- مثل: زفر بن الهذيل، المتوفّى سنة 158 هـ; والحسن بن زياد اللؤلؤي، المتوفّى سنة 204 هـ; انظر مثلا: الجواهر المضيّة 2 / 56 رقم 448 و ص 207 رقم 596.


الصفحة 339
وأمّا الشافعي; فقرأ على محمّـد بن الحسن(1)، فيرجع فقهه ـ أيضاً ـ إلى أبي حنيفة.

وأمّـا أحمد بن حنبل; فقرأ على الشافعي، فيرجـع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة; وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمّـد، وقرأ جعفر على أبيه، وينـتهي الأمر إلى عليّ (عليه السلام).

وأمّـا مالك بن أنس; فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبـد الله بن عبّـاس، وقرأ عبـد الله بن عبّـاس على عليّ(2).

وإن شـئتَ رددتَ إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك، كان لك ذلـك "(3)(4).


*  *  *

____________

1- انظر: تاريخ بغـداد 2 / 56 رقم 454، تاريخ دمشق 51 / 267 رقم 6071، تهذيب الكمال 16 / 40 رقم 5636، سير أعلام النبلاء 10 / 7 رقم 1، تذكرة الحفّاظ 1 / 362 رقم 354، البداية والنهاية 10 / 211 حوادث سنة 204 هـ.

2- بل أخذ مالك عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) مباشرة، حاله كحال أبي حنيفة.

انظر: التاريخ الكبير 2 / 198 رقم 2183، الجرح والتعديل 2 / 487 رقم 1987، الثقات ـ لابن حبّان ـ 6 / 131، حلية الأولياء 3 / 199 رقم 236، تهذيب الكمال 3 / 419 رقم 933، ميزان الاعتدال 2 / 144 رقم 1521، تهذيب التهذيب 2 / 68 رقم 994.

3- شرح نهج البلاغة 1 / 18.

4- وانظر: نفحات الأزهار 1 / 103 ـ 105 رقم 8، في بيان انتشار العلوم في البلاد الإسلامية بواسطة الإمام عليّ (عليه السلام).