وأقـول:
ليس الغرض بيان زهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّه أشهر وأظهر من أن يذكر، وإنّما الغرض أزهديّته الكاشفة عن فضله الذاتي على من سواه، وقربِه الأقرب إلى الله تعالى; فإنْ أقـرّ القوم بذلك، فنِعـم الوفاق، وإلاّ فليأتوا بسـورة من مثله.
وتنزيه الفضل لأصحابه لا حقيقة له; فإنّهم أنكروا أعظم فضائله وأجمعها للمزايا، وهي خلافتُه بنصّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنكروا عصمته وفضله على من سواه، الذي هو من أظهر الضروريّـات.
والفضلُ بنفسه لم يسـتطع أن يقرّ لأمير المؤمنين، وإمام المتّقين، بالأفضلية في العلم، والشجاعة، والزهد; بل أثبت له ـ كما رأيت ـ أصل هذه الأُمور فقط.
فهل يرى أنّ إنكار فضائله إنّما هو بإنكار علمه، وشجاعته، وزهده؟! فهذا لا يقدر عليه حتّى الخـوارج!!
ثمّ إنّ الحديث الذي حكاه المصنّـف (رحمه الله) عن أخطب خوارزم قد حكاه في " كـنز العمّـال "(1)، ونقله ابن أبي الحديد في " شرح النهج "(2)، كلاهما عن أبي نعيم في " الحلية "، بسـنده عن عمّار، ولفظه هكذا:
" يا علي! إنّ الله قد زيّنك بزينة، لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إليه
____________
1- ص 159 من الجزء السادس [ 11 / 626 ح 33053 ]. منـه (قدس سره).
2- ص 449 من المجلّد الثاني [ 9 / 166 ]. منـه (قدس سره).
ثمّ قال ابن أبي الحديد: " وزاد فيه أبو عبـد الله أحمد بن حنبل في (المسـند): فطوبى لمن أحبّك وصدّق فيك، وويل لمن أبغضك وكـذّب فيك "(3).
وروى الحاكم هذه الزيادة فقط(4)، وقال: " هذا حديث صحيح الإسـناد ".
ونقلها أيضاً في " الكـنز "، عن الطبراني، والخطيب، مع الحاكم(5).
____________
1- يقال: ما رَزَأَ فلاناً شـيئاً، أي ما أصابَ من ماله شـيئاً ولا نَقَصَ منه; انظر: لسـان العـرب 5 / 200 مـادّة " رزأ " والمعنى هنا: أنّـك لا تصيب ولا تأخذ من الدنيا شـيئاً، ولا الدنيا تصيب منك أو تسـتحوذ عليك أو تأخذ منك مأخذها.
2- حلية الأولياء 1 / 71.
3- شرح نهج البلاغة 9 / 167; وانظر: فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ 2 / 846 ح 1162.
4- ص 135 من الجزء الثالث [ 3 / 145 ح 4657 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: مسـند أبي يعلى 3 / 179 ح 1602.
5- ص 158 من الجزء السابق [ 11 / 622 ـ 623 ح 33030 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: المعجم الأوسط 2 / 403 ح 2178، موضّح أوهام الجمع والتفريق 2 / 303 ـ 304 رقم 350، تاريخ بغـداد 9 / 72 رقم 4656.
كـرمُـه
قال المصنّـف ـ ضاعف الله أجره ـ(1):
المطلب السادس: في الكـرم
لا خلاف في أنّه كان أسخى الناس، جاد بنفسه فأنزل الله في حقّه: { ومن الناس من يشري نفسَه ابتغاءَ مرضاةِ الله }(2)(3).
وتصـدّق بجميع ماله في عـدّة مِـرار(4).
وجاد بقوته ثلاثة أيّـام(5).
وكان يعمل بيده حديقـةً حديقـةً ويتصـدّق بهـا(6).
____________
1- نهج الحقّ: 245.
2- سورة البقرة 2: 207.
3- انظر: المسـتدرك على الصحيحيـن 3 / 5 ح 4263 و 4264، تاريـخ دمشـق 42 / 67 ـ 68، تفسير الفخر الرازي 5 / 222، تفسير القرطبي 3 / 16.
وراجـع: ج 4 / 393 ـ 398 من هذا الكـتاب.
4- انظر: أُسد الغابة 3 / 598 رقم 3783، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 22 و 26 و ج 15 / 147، مناقب آل أبي طالب 2 / 84 ـ 94 و 108 ـ 120.
5- انظر: تفسير الفخر الرازي 30 / 244 ـ 245، تفسير البغوي 4 / 397، الكشّاف 4 / 197، فتح القدير 5 / 348 ـ 349، الدرّ المنثور 8 / 371، أسباب النزول: 247.
وراجع مبحث سورة (هل أتى) في ج 5 / 50 من هذا الكـتاب.
6- انظـر: شـرح نهج البـلاغة ـ لابن أبي الحديـد ـ 15 / 147، وفاء الوفا 4 / 1150 و 1271.
وقال الفضـل(1):
جُـودُ أمير المؤمنين أشهرُ من سخاء البحر والسحاب، وأظهرُ من موج القاموس العُبـاب(2)، فهو أسخى من مدرار الهواطل إذا فاض على الرمال، وأجودُ من سَـيل دَمِـث(3) يسـيل بين الجبال.
____________
1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 453 الطبعة الحجرية.
2- القاموس: وسط البحر ومعظمُه، وقيل: قعر البحر الأقصى، وقيل: أبعد موضع غَـوْراً في البحر; انظر: لسان العرب 11 / 302 مادّة " قمس ".
والـعُباب: كـثرة الماء وارتفاع موجه; انظر: لسان العرب 9 / 7 مادّة " عبب ".
3- الـدَّمِـثُ: السَّـهلُ الـلَّـيِّـنُ; انظر: لسان العرب 4 / 400 مادّة " دمث ".
وأقـول:
قد عرفتَ أنّ الكلام ـ في هذا ونحوه ـ في الأفضلـيّة، فإنْ أقـرّ به الفضـلُ، فهو المراد، وإلاّ فليأتِ بشُـبهة.
وكيف يُقاس بمَن جاد بنفسه في جميع مواقف الزحام، مَن بخل بها في كلّ مَقام، وفـرّ مراراً عن سـيّد الأنام(1)؟!
أو يُقاس بمَن سخا بجميع ماله على الأباعد، مَن ضنّ ببعضه على الأقارب، وحمل يوم الهجرة مالَه كلَّـه وترك بلا قوت أهلَه(2)؟!
وهل يلحق مَن آثر على نفسه ولم يعزّ عليه قُوته، مَن كانت في أموال المسلمين نهمتُـه حتّى كَـبَتْ به بِـطْـنَـتُـه(3).
____________
1- إشارة إلى الشـيخين وأغلب الصحابة، حين فـرّوا من الزحف، كيوم أُحد وخيبر وحنيـن; راجـع: ج 5 / 57 هـ 1 و ص 77 هـ 1 و ص 82 من هذا الكتاب، و ص 89 وما بعـدها من هذا الجـزء.
2- إشارة إلى أبي بكر، الذي احتمل ماله كلّه ولم يترك لعياله منه شـيئاً; انظر: البداية والنهاية 3 / 141 ـ 142.
3- إشارة إلى عثمان بن عفّان، فقد وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية بقوله: " إلى أن قام ثالثُ القوم نافِجاً حِضنيه، بين نَثِـيلِهِ ومُعتلفه، وقام معه بنو أبيـه يخضمون مال الله خِضمة الإبل نِـبتة الربيع، إلى أن انتـكث عليـه فَـتْـلُه، وأجهـز عليه عملُـه، وكَـبَتْ به بِطنـتُـه ".
انظر: نهج البلاغة: 49 الخطبة 3.
اسـتجابةُ دعائه، وحُسـنُ خُـلُـقِه، وحِلـمُه
قال المصنّـف ـ قـدّس الله روحه ـ(1):
المطلب السابع: في اسـتجابة دعائه
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اسـتَـسْـعَدَ به(2) وطلب تأمينه على دعائه يـوم المباهلة، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة(3).
ودعا على أنس بن مالك لمّا اسـتـشـهده على قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " مَـن كـنتُ مولاه فعليٌّ مولاه "; فاعتـذر بالنسـيان..
فقال: اللّهمّ إنْ كان كاذباً فاضربه ببـياض لا تواريه العمامة; فبـرص(4).
____________
1- نهج الحقّ: 246.
2- اسـتَـسْـعَـدَ به: عَـدَّهُ سَـعْـداً ويُـمنـاً; انظر مادّة " سعد " في: الصحاح 2 / 487، لسـان العرب 6 / 262، تاج العـروس 5 / 16.
3- راجع: ج 4 / 399 من هذا الكـتاب.
4- انظر: جمهرة النسب 2 / 395، المعارف ـ لابن قتيبة ـ: 320، أنساب الأشراف 2 / 386، شرح نهج البلاغة 4 / 74 و ج 19 / 217 ـ 218.
وهناك مَن روى المناشدة، وأنّ أنساً كان أحد الحاضرين حينها، ولكـنّه تكـتّم عليه فلم يذكر أنّ من أصابته الدعوة هو أنس! انظر: حلية الأولياء 5 / 26 ـ 27.
ومنهم مَن روى أنّ أنساً كان به برص، ولم يذكر سـبب ذلك! انظر: تاريخ دمشـق 9 / 375 ـ 377.
ومنهم مَن روى عن زيد بن أرقم أنّـه ـ أي: زيد ـ كان أحد الموجودين حين المناشدة، فكتم الشـهادة، فعمي; انظر: المعجم الكبير 5 / 171 ح 4985 و ص 174 ـ 175 ح 4996، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 74 ح 33، شرح نهج البلاغة 4 / 74، مجمع الزوائـد 9 / 106.
وعاد الطبراني فأورد قصّـة المناشدة عن زيد نفسه، إلاّ أنّـه لم يذكر كتمان الشهادة بالحديث ودعاء الإمام عليّ (عليه السلام) وذهاب البصـر! انظر: المعجم الأوسط 2 / 324 ـ 325 ح 1987.
وراجـع: ج 4 / 328 من هذا الكـتاب.
____________
1- المغيـرة / خ ل. منـه (قدس سره).
نـقـول: ورد الاسم مصحّفاً تصحيفاً بيّـناً في مصادر هذه الحادثة، ففي بعضها: " الغرار "، وفي بعضها الآخر غير ذلك، والمنقول في أغلبها: " العَـيْـزار "، حتّى إنّ العلاّمة الحلّي (قدس سره) ضبطه كذلك في كـتابه " كـشف اليقين ".
ولعلّ المقصود هو، " العَـيْـزار بن جَرول الـتِّـنْـعي "، الذي قالوا عنه إنّـه يروي عن الإمام عليّ (عليه السلام)، وقد سكت عنه بعض علمائهم ووثّـقه آخرون!! فإن كان هو المقصود، فلا بُـدّ أن يكون توثيقهم له بسـبب ميله إلى معاوية!
انظر: التاريخ الكبير 7 / 79 رقم 361، الجرح والتعديل 7 / 37 رقم 197، الثقات ـ لابن حبّان ـ 7 / 302، تاريخ أسماء الثقات ـ لابن شاهين ـ: 252 رقم 1003، الإكمال: 229 رقم 686.
أمّا " المغيرة " فلم يذكر لنا التاريخ أنّـه عمي، بل وليَ الكوفةَ لمعاوية إلى أن مـات بها سـنة 50 هـ.
وممّا يقـوّي احتمال التصحيف هنا; أنّ قضية " البراء " ـ وفق ما جاءت به الروايات، إنْ صحّت ـ كانت في رحبة مسجد الكوفة عند مناشدة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) الصحابةَ عن حديث الغـدير، وهذه القضيةُ كانت في نقل أخبار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية.
أمّا إذا كان ورود اسم " البراء " هنا صحيحاً، فـيُحتمل ـ حينها ـ أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد دعا على " البراء " مـرّتين، مـرّة بعد المناشدة، وأُخرى بعد نقل الأخبار، فعمـي; فـلاحــظ!
2- انظر: الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 350 ـ 351، الخرائج والجرائح 1 / 207 ح 48، مناقب آل أبي طالب 2 / 314، كشف اليقين ـ للعلاّمة الحلّي ـ: 111، إرشاد القلوب 2 / 40، أرجح المطالب: 681.
ودعا في زيادة الماء لأهل الكوفة حتّى خافوا الغرق، فنقص حتّى ظهرت الحيتان، فكلّمته إلاّ الجِرّي والمارماهي والزمّار(2)، فتعجّب الناس من ذلك(3).
وأمّـا حُسـن الخُلق; فبلغ فيه الغايـة، حتّى نسـبه أعداؤه إلى الدعابـة(4).
وكذا الحلـم; قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام): " إنّي زوّجتكِ مِن أقدم الناس سِلماً، وأكـثرهم عِلماً، وأعظمهم حِلماً "(5).
____________
1- انظر: وقعة صِفّين: 135 ـ 136، منهاج السُـنّة 8 / 191 ـ 192، البداية والنهاية 6 / 65 و 66، مزيل اللبس عن حديث ردّ الشمس: 149، الإرشاد في معرفة حجـج الله على العباد 1 / 345 ـ 346.
وراجع مبحث حديث ردّ الشمس في الصفحات 200 هـ 1 و 207 ـ 223 من هذا الجـزء، وانظر: ج 5 / 286 هـ 2 من هذا الكـتاب.
2- الجِـرّي والمارماهي والزمّـار: ضروب من الأسماك، لا فلس لها.
3- انظر: الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 347 ـ 348.
4- انظر: نهج البلاغة: 115 الخطبة 84، العقد الفريد 3 / 290، النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 118 مادّة " دعب "، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6 / 326 ـ 330، لسان العرب 4 / 349 مادّة " دعب " و ج 15 / 321 مادّة " وصي ".
5- مسند أحمد 5 / 26، مصنّف عبـد الرزّاق 5 / 490 ح 9783، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 505 ح 68، المعجم الكبير 1 / 94 ح 156 و ج 20 / 230 ح 538، تلخيص المتشابه 1 / 472 رقم 786، مناقب الإمام عليّ (عليه السلام) ـ لابن المغازلي ـ: 129 ح 144، تاريخ دمشق 42 / 126 و 131 ـ 133.
وقال الفضـل(1):
ما ذكره في هذا المطلب من اسـتجابة دعاء أمير المؤمنين; فهذا أمر لا ينبغي أن يرتاب فيه، وإذا لم يكن دعاء سيّد الأولياء مستجاباً، فمن يسـتجاب له الدعاء؟!
وأمّا ما ذكر أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) اسـتـسعد بدعائه; فقد ذكرنا سرّ هذا الاسـتـسعاد والاشـتراك في الدعاء في المباهلة، أنّ هذا من عادات أهل المباهلة، أن يشاركوا القوم والنساء والأولاد في الدعاء(2).
ويُفهـم منـه أنّ النبيّ اسـتـسـعد بدعائـه لاحتيـاجـه إلى ذلـك الاسـتـسعاد، وهذا باطل عقـلا ونقـلا.
أمّـا عقلا; لأنّ النبيّ لا شكّ أنّه كان مسـتجاب الدعوة، ومن كان مسـتجاب الدعوة فلا يحتاج إلى اسـتـسـعاد الغير.
وأمّا نقلا; فلأنّ الاشـتراك في الدعاء في المباهلة لم يكن للاسـتـسـعاد، بل لِما ذكرنا.
وأمّا ما ذكر أنّ أمير المؤمنين اسـتـشهد من أنـس بن مالك، فاعتذر بالنسـيان، فدعا عليه; فالظاهر أنّ هذا من موضوعات الروافض; لأنّ خبر " من كنت مولاه فعليّ مولاه " كان في غدير خُـمّ.
____________
1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 454 الطبعة الحجرية.
2- راجـع: ج 4 / 401 من هذا الكـتاب.
ولو فُرض أنّه اسـتَـشهدَ ولم يشهد أنـس، لم يكن من أخلاق أمير المؤمنين أن يدعو على صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومَن خدَمه عشر سـنين، بالبرص; ووَضْـعُ الحـديثِ ظاهر.
____________
1- الحديث المسـتفيض: هو ما زاد عدد رواته عن ثلاثة في كلّ طبقة من الطبقات، وبذلك يختلف عن الحديث المشهور، الذي هو أعمّ من ذلك، فقد تطرأ الشهرةُ على جزء منه، كوسطه دون طرفيه.
ويقال: فاضَ الخبرُ يَـفِـيضُ، واسْـتَـفاضَ، أي شاعَ وذاعَ، وهو حديثٌ مُسْـتَـفِـيضٌ، أي منـتـشر شائع ذائع بين الناس; ولا يقال: مُسْـتَـفاضٌ ـ فذلك لحـنٌ ـ إلاّ أن يقال: مُـسْـتَـفاضٌ فيه.
وهو على المجاز هنا، مأخوذ من " فاض الماء يفيض فيضاً "، أي كـثُر حتّى سال على طرف الوادي.
انظر: شرح شرح نخبة الفكر: 192، شرح البداية في علم الدراية: 70، مقباس الهداية في علم الدراية 1 / 128، ومادّة " فيض " في: الصحاح 3 / 1099، لسان العرب 10 / 367، تاج العروس 10 / 131.
وأقـول:
استجابة الدعاء في مثل هذه الأُمور الخارقة للعادة لا تقع إلاّ لنبيّ أو وصيِّ نبيّ; لاشتمالها على المعجِز، وليس مثلها لغير أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيكون هو الإمام.
وأمّا ما ذكره من سرّ الاسـتـسعاد، فهو من الأسرار الخاصّة بضمائر المخالفين لأهل البيت; إذ لم يظهر علمه لغيرهم، كما عرفتـه في الآية السادسـة(1)، والحـديث الثـامن(2).
كما إنّ الاسـتـسعاد لا يتوقّف على الحاجة الواقعيّة، بل هو من أمر الله تعالى; لبيان شرف آل محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) عنده وعنايته بهم..
ومن كمال الرسول، حيث لا يظهر منه الاعتماد على نفسه، وأنّ له حقّـاً على الله في الإجابة، كما سـبق موضّحاً(3).
وأمّـا تكذيبه للدعاء على أنس بحجّـة أنّ حديث الغدير مسـتفيض لا يحتاج إلى الاسـتـشهاد; ففيه:
إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما أراد بيان اسـتفاضته، وكثرة المطّلعين عليه; لتظهر إمامته بالنصّ، وهذا ممّا يحتاج إلى أعظم الشواهد عند مَن نشَـأُوا على موالاة الأوّلين، ولولا هذا ونحوه لم يكثر الشـيعة بالكوفة،
____________
1- راجـع: ج 4 / 402 وما بعدها من هذا الكـتاب.
2- راجـع مبحث حديث المباهلة في الصفحات 74 ـ 79 من هذا الجزء.
3- تقـدّم في ج 4 / 402 ـ 410 من هذا الكـتاب، والصفحات 74 ـ 79 من هذا الجـزء.
ولا ريب برجحان الدعاء بمثل البرص; ليكون شاهداً عيانيّاً مستمرّاً على صدق حديث الغدير، وإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وظلم السابقين له.
ولا يسـتبعد منه الدعاء على خادم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم); فإنّ ضرر كتمانه في مثل المقام أشدُّ من غيره، وهو أَوْلى بالعقوبة، ولذا كان عذاب العاصية من أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ضعفين(1).
وليس هذا أوّلَ سيّئة من أنس مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل له نحوها في قصّة الطائر(2)، وغيرها(3)، وهو من المنحرفين عنه.
قال ابن أبي الحديد(4): " ذكر جماعةٌ من شيوخنا البغداديّين أنّ عدّةً من الصحابة والتابعين والمحدّثين كانوا منحرفين عن عليّ (عليه السلام)، قائلين فيه السـوء، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه; ميلا مع الدنيا وإيثاراً للعاجلة، فمنهم: أنس بن مالك، ناشد عليٌّ الناس في رحبة القصر ـ أو قالوا: برحبة الجامع ـ بالكوفة: أيّـكم سمع رسول الله يقول: " مَن كنت مولاه فعليٌّ
____________
1- إشارة إلى قوله تعالى: (يا نساء النبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسـيراً) سورة الأحزاب 33: 30.
2- فقد ردّ أنسٌ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) ثلاثاً مدّعياً انشغال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليصرفه عن الدخول متمنّياً أن يكون الآتي واحداً من قومه; انظر مبحث حديث الطائر المشوي في الصفحات 159 ـ 170 من هذا الجزء.
3- كبعث أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنس إلى طلحة والزبير لمّا جاء إلى البصرة يذكّرهما شـيئاً ممّا سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمرهما، فلوى عن ذلك، فرجع إليه، فقال: إنّي أُنسـيتُ ذلك الأمر!
انظر: نهج البلاغـة 530 رقم 311.
4- ص 361 من المجلّد الأوّل [ 4 / 74 ]. منـه (قدس سره).
فقام اثنا عشر رجلا، فشهدوا بها، وأنس بن مالك في القوم لم يقم.
فقال له: يا أنس! ما يمنعك أن تقوم فتشهد، ولقد حضرتَها؟!
فقال: يا أمير المؤمنين! كبرتُ ونسـيت.
فقال: اللّهمّ إن كان كاذباً فارمه بها بيضاءَ لا تُواريها العِمامة.
قال طلحة بن عمير: فوالله لقد رأيتُ الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه.
وروى عثمان بن مطرّف: إنّ رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن عليّ بن أبي طالب، فقال: إنّي آليتُ أن لا أكتم حديثاً سُئلتُ عنه في عليّ بعد يوم الرحبة، ذاك رأس المتّقين يوم القيامة، سمعته والله من نبيّـكم.
وروى أبو إسرائيل، عن الحكم، عن أبي سليمان المؤذّن، أنّ عليّـاً نَشَدَ الناس: مَن سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: مَن كنت مولاه فعليٌّ مـولاه؟
فشهد له قوم، وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد، وكان يعلمها، فدعا عليٌّ عليه بذهاب البصر، فعمي، فكان يحدّث الناس بالحديث بعدما كُـفَّ بصـرُه ".
وذكر فيه أمر البرص بمحلّ آخر(1)، ثمّ قال: " ذكر ابن قتيبة حديث البرص والدعوة في كـتاب (المعارف) في باب الـبُـرْص من أعيـان
____________
1- ص 388 من المجلّد الرابع [ 19 / 218 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: المعارف: 320.
وقد روى أحمد في مسنده من عدّة طرق استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)بالرحبـة، وقيام مَن قام للشهادة، وفي بعضها: " فقام إلاّ ثلاثـة، ودعا عليهـم فأصابتهم دعوته "، كما سـبق في الآيـة الثانيـة(1).
هـذا، وقد أغـفل الفضلُ ما ذكره المصنّف (رحمه الله) من فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) بالحِلم وحُسن الأخلاق المطلوبَين في الأئمّة، ولا ريب بامتيـازه على غيره بهما(2).
وأمّا الحديث الذي نقله المصنّف (رحمه الله) في تفضيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لحلم أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد رواه أحمد في مسـنده(3).
____________
1- انظر: مسند أحمد 1 / 119، و ج 4 / 370; وراجع: ج 4 / 327 ـ 329 من هذا الكـتاب.
2- لا سـيّما على عمر; فإنّـه معروف بالغلظة وسوء الخُلق، كما سـبق ويأتي; ومن سـبر سـيرة عمر ظهر له صدق ما ذكرنا.
كما يُـعـرف حال عثمان من سـيرته.
وأمّا أبو بكر; فقد كان ـ أيضاً ـ حادّاً، كما يدلّ عليه قوله: " إنّ لي شـيطاناً يعتريني، فإذا غضبت فاجتنبوني لا أُؤثِّر في أشعاركم وأبشاركم " [ شرح نهج البلاغة 17 / 159 ].
قال ابن أبي الحديد ـ ص 168 من المجلّد الرابع [ 17 / 161 ]، بعد قول المرتضى: " إنّها صفة طائش لا يملِك نفسَه " ـ قال: " لعمري، إنّ أبا بكر كان حديداً، وقد ذكره عمرُ بذلك، وذكره غيرُه من الصحابة [ بالحـدّة والسرعة ] ". انـتهى.
منـه (قدس سره).
نـقـول: راجع ما تقـدّم في ج 4 / 238 هـ 1 و 2 و ج 5 / 213 هـ 5، وسـيأتي تفصيل ذلك في موضعه من الجزء السابع من هذا الكـتاب.
3- ص 26 من الجزء الخامس. منـه (قدس سره).
ونقله أيضاً في " الكنز "(2)، عن الطبراني، بلفظ: " إنّه لأوّل أصحابي سِلْماً، وأكثرهم عِلماً، وأعظمهم حِلماً ".
ولولا خوف الإطالة والملال، لَـذكرت في حِلمه من الأخبار والآثـار ما كـثر..
وقد ذكر ابن أبي الحديد ـ في " مقدّمة الشرح "، وفي أثنائه ـ نُـبَـذاً من حِلم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصفحِه، وحُسن أخلاقه; فراجـع(3).
____________
1- ص 392 من الجزء السادس [ 13 / 114 ح 36370 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: الذرّيّـة الطاهرة: 93 ح 83.
2- ص 153 من الجزء المذكور [ 11 / 605 ح 32927 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: المعجم الكبير 1 / 94 ح 156.
3- شـرح نهـج البلاغـة 1 / 22 ـ 24 و ج 3 / 330 ـ 331 و ج 6 / 146 و 313 ـ 314 و 316 و ج 14 / 24.
عبادته من فضائله البدنية
قال المصنّـف ـ شـرّف الله قدره ـ(1):
القسم الثاني: في الفضائل البدنية، وينظمها مطلبان:
الأوّل: في العبـادة
لا خلاف أنّه (عليه السلام) كان أعبـدَ الناس، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل، والأدعية المأثورة، والمناجاة في الأوقات الشريفة، والأماكن المقدّسة(2).
وبلغ في العبادة إلى أنّه كان يؤخذ النشّاب من جسده عند الصلاة; لانقطاع نظره عن غير الله تعالى بالكلّـيّـة(3).
وكان مولانـا زين العابـدين (عليه السلام) يُصـلّي في اليـوم والليـلة ألفَ ركعـة، ويدعو بصحيفته، ثمّ يرمي بها كالمتضجّر ويقول: أنّى لي بعبـادة عليّ (عليه السلام)(4).
قال الكاظم (عليه السلام): إنّ قوله تعالى: { تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلا من الله ورضواناً سـيماهم في وجوههم من أثر السجود }(5) نزلـت
____________
1- نهج الحقّ: 247.
2- انظر: مطالب السؤول: 124 و 131 ـ 132 و 136، شرح نهج البلاغـة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 27، كفاية الطالب: 399 ـ 400.
3- المناقب المرتضوية: 364.
4- كشف الغمّة 2 / 85 و 86، ينابيع المودّة 1 / 446 ح 12.
5- سورة الفتح 48: 29.
وكان يوماً في صِفّين مشتغلا بالحرب، وهو بين الصفّين يراقب الشمس، فقال ابن عبّـاس: ليس هذا وقت صلاة، إنّ عندنا لشغلا!
فقال عليٌّ (عليه السلام): فعلام نُقاتلُهم؟! إنّما نقاتلهم على الصلاة(2)!
وهو الذي عَبَـدَ الله حقّ عبادته حيث قال: ما عبـدتُك خوفاً من نارك، ولا شوقاً إلى جنّـتك، ولكن رأيتُـك أهلا للعبادة فعبدتُك(3).
____________
1- شواهد التنزيل 2 / 181 ـ 183 ح 886 ـ 888، روح المعاني 26 / 194، أرجح المطالب: 37 و 67 و 86، المناقب المرتضوية: 66.
2- إرشاد القلوب 2 / 22.
3- شرح مائة كلمة ـ لابن ميثم البحراني ـ: 219.