الصفحة 394

وقال الفضـل(1):

عبادة أمير المؤمنين، لا يقاربه العابدون، ولا يُدانيه الزاهدون، الملائكة عاجزون عن تحمّل أعبائها، وأهل القُدس مغترفون من بحار صفائها.

وكيف لا؟! وهو أعرف الناس بجلال القدس، وجمال الملكوت، وأعشق النفوس إلى وصال الجبروت.

وأمّا ما ذكر أنّه عَبَـدَ الله حقّ عبادته، فهو لا يصحّ; لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)قال ـ مع كمال العبادة ـ: " ما عبـدناك حقّ عبادتك "(2).

واتّفق العارفون أنّ الله لا يقدر أحد أن يعبده حقّ عبادته، والدلائل على هذا مذكورٌة في محالّـه.


*  *  *

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 455 الطبعة الحجرية.

2- انظر: الكافي 2 / 99 ح 1 وفيه: " إنّ الله لا يُـعبـد حـقّ عبادتـه ".


الصفحة 395

وأقـول:

إنّما الممتنع هو العبادة بحقّها من جميع الوجوه، كمّاً وكيفاً، وأمّا من جهة خاصّة فلا، كعبادته سبحانه لذاته لا خوفاً ولا طمعاً، وهي التي أرادها المصنّـف (رحمه الله); ولذا جعل قوله (عليه السلام): " ما عبـدتُك خوفاً من نارك... " إلى آخره، تعليلا لكونه عَبَـدَ الله حقّ عبادته; وهي عبادة الأحرار، لا عبادة العبـيد والتجّـار.

قال ابن أبي الحديد في مقدّمة " الشرح ": " كان أعبـدَ الناس، وأكـثرَهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد، وقيام النافلة.

وما ظـنّك برجل يبلغ من محافظته على وِرْدِه(1)، أن يُبـسَط له نطع(2) بين الصَّـفَّين ليلة الهرير(3)، فيصلّي عليه وِرْدَه، والسهام تقع بين

____________

1- الـوِرْدُ ـ والجمع: الأَوراد ـ: النصيـب أو الجزء أو المقدار المعلوم من القرآن، وما يكون على الرجل أن يصلّيه في الليل; انظر: لسان العرب 15 / 269 مادّة " ورد ".

2- الـنَّـطْـعُ والـنَّـطَـعُ والـنِّـطْـعُ والـنِّـطَـعُ ـ والجمع: نُـطُوعٌ وأَنْـطاعٌ وأَنْـطُـعٌ ـ: بساط من الأديم; انظر مادّة " نطع " في: الصحاح 3 / 1291، لسان العرب 14 / 186، تاج العروس 11 / 482.

3- ليلة الهَرِيْر: ليلة من ليالي معركة صِفّين، في صفر من سـنة 37 هـ، اقتتل الجيشان في تلك الليلة حتّى الصباح، فتطاعنوا بالرماح حتّى تقصّفت وتكسّرت واندقّت، وتراموا حتّى نفد النبل، ثمّ مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسـيوف وعُمُد الحديد، فلم يسمع السامع إلاّ وقع الحديد بعضِه على بعض، فكُشف في صبيحتها عن ما يقرب من سـبعين ألف قتيل.

انظر: وقعة صفّين: 475، الكامل في التاريخ 3 / 191، تاج العروس 7 / 621 مادّة " هرر ".


الصفحة 396
يديه، وتمرّ على صِماخَيه(1) يميناً وشمالا، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفـته؟!

وما ظنّك برجل كانت جبهته كَـثَـفِـنة البعير(2)، لطول سجوده؟!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سـبحانه وإجلاله، وما تتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته، والاسـتحذاء له(3)، عرفتَ ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمتَ من أيّ قلب خَـرَجَت، وعلى أيّ لسان جَـرَت!

وقيل لعليّ بن الحسـين (عليه السلام) ـ وكان الغايةَ في العبادة ـ: أين عبادتُك من عبادة جـدّك؟

قال: عبادتي عند عبادة جدّي، كعبـادة جـدّي عند عبـادة رسـول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(4).

ولا غروَ فقد وحّد الله قبل الناس طفلا، وعبـده صبيّاً مع النبيّ سبع سـنين، في محلّ لم يعبده فيه عابد، ولم يسجد له من الملأ ساجد.

____________

1- الصِّماخ، والسِّماخ لغة فيه ـ والجمع: أصمخة وصُمِخ، وبالسـين لغة ـ: هو ثـقـب الأُذن الماضي إلى داخل الرأس، ويقال: إنّ الصمـاخ هو الأُذن نفسها; انظـر: لسان العرب 7 / 403 مادّة " صمخ ".

2- الـثَّـفِنة من البعير والناقة: الـرُّكْبة وما مَسَّ الأرض من جسمه وأُصول أفخاذه، والجمع: ثَـفِنٌ وثَـفِـنات; انظر: لسان العرب 2 / 108 مادّة " ثفن ".

3- الاسـتحذاء له: أي متابعة أوامره والانقياد لها; انظر: لسان العرب 3 / 98 مادّة " حذا ".

4- شرح نهج البلاغة 1 / 27.


الصفحة 397
وهذا بالضرورة لم يكن إلاّ من كمال النفس، وصفاء الذات، وتمام العلم والمعرفة، التي امتاز بها على مَن لم يعرف ضَعَةَ الحجارة في أكثر أعوامه، ولم يتّصف بأدنى مراتب تلك العبادة في باقي أيّـامه.

روى البخاري في: " بابٌ يفكّر الرجل الشيءَ في صلاته " ـ قبل أبواب السهو ـ، عن عمر، قال: " إنّي لأُجهّز جيشي وأنا في الصلاة "(1).

وروى في " كنز العمّال "(2)، أنّ عمر صلّى بالناس المغرب ولم يقرأ شـيئاً، فلمّا فرغ قيل له، فاعتذر بأنّي جهّزت عِيراً إلى الشام، وجعلت أنقلُها منقلةً منقلةً، حتّى قدمتُ الشام فبعتُها وأقتابها وأحلاسها وأحمالها.

فكيف يُـقاس هذا بصاحب تلك العبادة والمعرفة؟!

وهل يحسن بشريعة العقل أن يكون هذا رئيساً دينيّاً، وإماماً مذهبيّاً، وذاك مأموماً؟!

ما هذا بحكم عَـدْل، ولا قول فَـصْـل!!


*  *  *

____________

1- صحيح البخاري 2 / 148.

2- ص 213 من الجزء الرابـع [ 8 / 133 ح 22257 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: السـنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 2 / 382.


الصفحة 398

جهـاده في الحـروب


قال المصنّـف ـ طاب رمسـه ـ(1):

المطلب الثاني: في الجهـاد

وإنّما تشـيّدت مباني الدين، وثبتت قواعده، وظهرت معالمه، بسـيف مولانا أمير المؤمنين، وتعجّبت الملائكة من شدّة بلائه في الحـرب(2).

  ففي غزاة بدر ـ وهي الداهية العظمى على المسلمين، وأوّل حـرب ابتلوا بها ـ قتل صناديد قريش الّذين طلبوا المبارزة، كالوليد بن عتبة، والعاص(3) بن سعيد بن العاص ـ الذي أحجم المسلمون عنه ـ،

____________

1- نهج الحقّ: 248.

2- انظر: ربيع الأبرار 1 / 833، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 14 / 251.

ومـرّ تخريجه مؤدّاه مفصّـلا في مبحث الحديث الرابع عشر; فراجـع الصفحتين 133 ـ 134 هـ 1 من هذا الجـزء.

3- كذا في الأصل والمصدر.

نـقـول: والصحيح في كتابته لغةً: " العاصي "; إذ إنّه من الأسماء المنقوصة، وهي كلّ اسم معرب في آخره ياءٌ ثابتة مكسور ما قبلها، وحكمه الإعرابي حذف الياء منه في حالتَي الرفع والجرّ، كقولنا: هذا قاض.. ومررتُ بقاض; وإثباتها عنـد الإضافة ودخول " أل " التعريف عليها، كقولنا: جئتُ من عند قاضي القضاة.. والقاضي العادل أمان للضعفاء; وثبوتها في حالة النصب ـ كذلك ـ كقولنا: رأيتُ قاضيـاً.

وقد شاع بين الكُـتّاب والمتأدّبين ـ من العصر الأوّل حتّى يومنا هذا ـ كتابته بحـذف اليـاء، وهو ليـس بصحيـح..

قال المبرّد: " هو العاصِـيُ، بالياء، لا يجوز حذفها، وقد لهجتِ العامّـةُ بحذفهـا ".

انظر: تاج العروس 19 / 682 مادّة " عصي ".

وما قلناه هنا ينطبق على الموارد نفسها التي تقـدّمت وسـتأتي; فلاحـظ!


الصفحة 399
ونوفل بن خويلد ـ الذي قرن أبا بكر وطلحة بمكّة قبل الهجرة، وأوثقهما بحبل وعذّبهما(1) ـ.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا عرف حضوره في الحرب: " اللّهمّ اكفني نوفلا "(2).

ولمّا قتله عليٌّ (عليه السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه "(3).

ولم يزل يقتل في ذلك اليوم واحداً بعد واحد، حتّى قتل نصف المقتولين، وكانوا سـبعين.

وقتل المسلمون كافّة، وثلاثةُ آلاف من الملائكة المسوّمين النصفَ الآخـر(4).

____________

1- انظر: المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 148 ـ 149، المستدرك على الصحيحين 3 / 416 ح 5586، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 70.

2- المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 91، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 3 / 94، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 14 / 143.

3- المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 92، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 3 / 95، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 14 / 144.

4- انظر: المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 147 ـ 152، أنساب الأشراف 1 / 355 ـ 360، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 70 ـ 72، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 24.


الصفحة 400
  وفي غـزاة أُحـد انهزم المسـلمون عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورُمي رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضربه المشركون بالسيوف والرماح، وعليٌّ يدافع عنه، فنظر إليه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إفاقته من غشـيته، وقال: ما فعل المسلمون؟

فقال: نقضوا العهد وولّـوا الـدُّبُـر.

فقال: اكفني هؤلاء; فكشـفهم عنه.

وصاح صائح بالمدينة: قُتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! فانخلعت القلوب، ونزل جبرئيل قائلا:


لا سـيفَ إلاّ ذو الفَـقَارِ، ولا فتىً إلاّ عليّ

وقال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله! لقد عجبت الملائكة من حُسن مواساة عليّ لك بنفسه.

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): ما يمنعه من ذلك وهو منّي وأنا منه؟!(1).

ورجع بعض الناس لثبات عليّ (عليه السلام)، ورجع عثمان بعد ثلاثة أيّام، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد ذهبت بها عريضـاً!(2).

  وفي غزاة الخندق أحدق المشركون بالمدينة كما قال الله تعالى: { إذ جاؤوكم مِن فوقكم ومِن أسفلَ منكم }(3)، ونادى المشركون

____________

1- راجع مبحث الحديث الرابع عشر، في الصفحات 133 ـ 141 من هذا الجـزء.

2- انظر: السير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ: 332، تاريخ الطبري 2 / 69، تفسير الفخر الرازي 9 / 64 تفسير الآية 159 من سورة آل عمران، شرح نهج البلاغة 15 / 21، الكامل في التاريخ 2 / 52، تفسير الطبري 3 / 489 ح 8102.

3- سورة الأحزاب 33: 10.


الصفحة 401
بالبـراز، فلم يخرج سوى عليّ، وفيه قتـل أمير المؤمنين (عليه السلام) عمرَو بنَ عبـدِ ودّ(1).

قال ربيعة السعدي: أتيت حُذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبـد الله! إنّا لنتحدّث عن عليّ ومناقبه، فيقول أهل البصرة: إنّكم لتفرطون في عليّ; فهل تحدّثني بحديث؟

فقال حذيفة: والذي نفسي بيده، لو وُضع جميع أعمال أُمّة محمّـد في كفّة ميزان منذ بعث الله محمّـداً إلى يوم القيامة، ووُضع عمل عليّ في الكـفّة الأُخرى، لرجح عمل عليّ على جميع أعمالهم.

فقال ربيعة: هذا الذي لا يُـقام له ولا يُـقـعَـد [ ولا يُحمَـل ](2)!

فقال حذيفة: يا لُـكَـع(3)! وكيف لا يُحمَـل؟!

وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم عمرو بن عبـد ودّ وقد دعا إلى المبارزة، فأحجم الناس كلّهم ما خلا عليّـاً، فإنّـه نزل إليه فقتله.

والذي نفس حذيفة بيده، لَـعَـمَـلُـه ذلك اليوم أعظمُ أجراً مِن عمل

____________

1- انظر: تاريخ الطبري 2 / 94 ـ 95، الكامل في التاريخ 2 / 71 ـ 72، البداية والنهاية 4 / 85 ـ 87.

2- أثبتـناه من شرح نهج البلاغة.

3- الـلُّـكَـعُ: اللئيم في الأصل، والـعَيِـيُّ، أو الصغير في العِلم والعقل وإنْ كان كبيراً في السـنّ; وهو المراد هنا، وهو تعبير مسـتعمل وشائع في محاوراتهم بهذا المعنى.

انظر مادّة " لكع " في: الصحاح 3 / 1280، لسان العرب 12 / 321 ـ 322، تاج العروس 11 / 438.


الصفحة 402
أصحاب محمّـد إلى يوم القيامة(1).

  وفي يوم الأحزاب(2) تولّى أمير المؤمنين قتل الجماعـة(3).

  وفي غزاة بني المصطلق قَتل أميرُ المؤمنين مالكاً وابنـه، وسـبى جويرية بنت الحارث(4) فاصطفاها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(5).

____________

1- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 103، شرح نهج البلاغة 19 / 60.

2- يوم الأحزاب: هو يوم غزاة الخنـدق، سـنة 5 هـ; وقد تقـدّمت الإشارة إليها آنفـاً.

راجـع تفسـير سورة الأحـزاب من كـتب التفسـير، وانظر مثـلا: السـيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 4 / 170، تاريخ الطبري 2 / 90، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 254، الكامل في التاريخ 2 / 70، البداية والنهاية 4 / 76، سـبل الهدى والرشاد 4 / 363.

3- كعمرِو بن عبـدِ ودّ ونوفل بن عبـد الله بن المغيرة المخزومي; انظر: شرح نهج البلاغة 19 / 64، تاريخ الخميـس 1 / 487.

وانظر مبحث حـديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " برز الإيمانُ كلُّـه إلى الشرك كلِّـه " في الصفحـات 102 ـ 104 من هذا الجـزء.

4- هي: أُمّ المؤمنين زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جُـوَيْـرِيَـة بنت الحارث بن أبي ضِرار الخزاعية، أخذها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سـبي يوم المُـرَيْسـيع، وهي غزوة بني المصطلق، سـنة خمس أو سـتّ للهجرة، وكانت قبله عند ابن عمّ لها، وكان اسمها " بَـرّة " فسمّاها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) " جويرية "، وكان عمرها حين تزوّجها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)عشرين سـنة، بعد أن قضى عنها مكاتبتها لمن وقعت في سهمه، فأرسل الناس ما في أيديهم من سـبايا بني المصطلق بسـبب ذلك، فكانت عظيمة البركة على قومها; توفّيت سـنة 50 ـ وقيل: سـنة 56 هـ ـ ولها خمس وسـتّون سـنة، وصلّى عليها مروان بن الحكم وهو ـ يومئـذ ـ على المدينة المنـوّرة من قبل معاوية.

انظر: المنتخب من أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): 45 رقم 6، الاسـتيعاب 4 / 1804 رقم 3282، صفة الصفوة 1 / 360 رقم 132، أُسد الغابة 6 / 56 رقم 6822، السمط الثمين: 135، الإصابة 7 / 565 رقم 11002.

5- انظر: تاريخ الطبري 2 / 111، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 4 / 257، البداية والنهاية 4 / 128 حوادث سنة 6 هـ، السـيرة الحلبية 2 / 586.


الصفحة 403
  وفي غزاة خيبر كان الفتح فيها لأمير المؤمنين (عليه السلام)، قتل مرحباً، وانهزم الجيش بقتله، وأغلقوا باب الحصن، فعالجه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ورمى به، وجعله جسراً على الخندق للمسلمين، وظفروا بالحصن، وأخذوا الغنائم، وكان يقلّـه(1) سـبعون رجـلا(2).

وقال (عليه السلام): والله ما قلعتُ باب خيبر بقـوّة جسمانـيّـة، بل بقـوّة ربّـانـيّـة(3).

  وفي غزاة الفتح قَـتل أميرُ المؤمنين (عليه السلام) الحويرثَ بن نفيل بن كعب(4) ـ وكان يؤذي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ، وقتل جماعة، وكان الفتح على يـده(5).

____________

1- يقلبه / خ ل. منـه (قدس سره).

2- انظر: مسند أحمد 6 / 8، شرح نهج البلاغة 1 / 21، الرياض النضرة 3 / 151 ـ 152، المقاصد الحسـنة: 230.

3- انظر: المطالب العالية 1 / 258، المواقف: 412، شرح المواقف 8 / 371.

4- هو: الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبـد قصيّ ـ ويبـدو أنّ ما في المتن تصحيـف ـ، كان يُعْظِم القول في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وينشـد الهجاء فيه، ويكـثر أذاه وهو بمكّـة، فلمّا كان يوم الفتح هرب من بيته فلقيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)فقتله.

انظر: أنساب الأشراف 1 / 456، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 103، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 5 / 70، تاريخ الطبري 2 / 160.

5- انظر: السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 5 / 66 و 72، تاريخ الطبري 2 / 161، تاريخ دمشـق 29 / 32، الكامـل في التاريـخ 2 / 122 و 125، البدايـة والنهايـة 4 / 236 و 238.


الصفحة 404
  وفي غزاة حُنين حين اسـتظهر(1) النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكـثرة، فخرج بعشرة آلاف من المسلمين، فعانَهم(2) أبو بكر، وقال: لن نُغلب اليوم من قلّة(3); فانهزموا بأجمعهم، ولم يبق مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى تسعة من بني هاشم، فأنزل الله تعالى: { ثمّ ولّيتم مدبرين * ثمّ أنزل الله سكينته على رسـوله وعلى المؤمنين }(4)، يريد عليّـاً ومَن ثبت معه.

وكان عليٌّ يضرب بالسيف بين يديه، والعبّـاس عن يمينه، والفضل عن يساره، وأبو سفيان بن الحارث يُمسك سرجه، ونوفل وربيعة ابنا الحارث، وعبـد الله بن الزبير بن عبـد المطّـلب، وعـتبة ومعـتّـب ابنا أبي لهـب.

  وقَتل أميرُ المؤمنين جمعاً كـثيراً، فانهزم المشركون وحصل الأسـر(5).

  وابتُلي بجميع الغزوات، وقتال الناكثين والقاسطين والمارقين(6).

____________

1- اسْـتَـظْـهَـر به: اسـتعان واسـتنصر به; انظر: لسان العرب 8 / 277 ـ 278 مادّة " ظهر ".

2- عانَـهم: أصابهم بعينه; انظر مادّة " عين " في: الصحاح 6 / 2171، لسان العرب 9 / 504.

والمراد هنا أنّـه أصابهم بعينه فبان أثر ذلك في المنظور.

3- انظر: المغازي ـ للواقدي ـ 3 / 890، أنساب الأشراف 1 / 463، زاد المسير 3 / 314، تفسير الخازن 2 / 209، الإرشاد في معرفة حجج الله على العبـاد 1 / 140.

4- سورة التوبة 9: 25 و 26.

5- انظر: السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 5 / 111 ـ 113، أنساب الأشراف 1 / 464، تاريخ اليعقوبي 1 / 381، شواهد التنزيل 1 / 252 ح 340 ـ 341، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 140 ـ 141.

6- انظر: مسند البزّار 2 / 215 ح 604 و ج 3 / 27 ح 774، مسند أبي يعلى 1 / 397 ح 519، المعجم الكبير 10 / 91 ح 10053 و 10054، المعجم الأوسط 8 / 253 ـ 254 ح 8433، السُـنّة ـ لابن أبي عاصم ـ: 425 ح 907، المستدرك على الصحيحين 3 / 150 ح 4674 و 4675، الاستيعاب 3 / 1117، تاريخ بغداد 8 / 340 رقم 4447 و ج 13 / 187 رقم 7165، موضّح أوهام الجمع والتفريق 1 / 393 رقم 13، تاريخ دمشق 42 / 468 ـ 473، مجمع الزوائد 6 / 235، كنز العمّال 11 / 292 ح 31552 و31553 و ص 300 ح 31570 و ص 352 ح 31720 و 31721 و ج 13 / 112 ـ 113 ح 36367.


الصفحة 405
  وروى أبو بكر الأنبـاري في " أماليه "، أنّ عليّـاً (عليه السلام) جلس إلى عمر في المسجد وعنده ناس، فلمّا قام عَرّض واحدٌ بذِكره، ونَسـبَه إلى الـتِّـيـه والعُـجْـب.

فقال عمر: حُـقَّ لمثله أن يتيه، والله لولا سـيفه لَما قام عمود الإسلام، وهو بعدُ أقضى الأُمّة، وذو سـبقها(1)، وذو شرفها.

فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه؟!

فقال: كرهناه على حداثة السـنّ، وحـبّـه بني عبـد المطّلب(2).

  وحمله سورة براءة إلى مكّة، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنفذ بها أبا بكر، فنزل عليه جبرئيل وقال: إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول لك: لا يؤدّيها إلاّ أنت أو واحـد منـك(3).

وفي هذه القصّة وحدها كفايةٌ في شرف عليّ وعلوّ مرتبته، بأضعاف كـثيرة على مَن لا يُـوثَـق على أدائـها ولم يؤتمن عليها.

  وهذه الشجاعة، مع خشونة مأكله; فإنّه لم يطعم البُرّ ثلاثة أيّام،

____________

1- سابقتها / خ ل. منـه (قدس سره).

2- شرح نهج البلاغة 12 / 82.

3- راجع مبحث الحديث السادس، في الصفحات 61 ـ 70 من هذا الجـزء.


الصفحة 406
وكان يأكل الشعير بغير إدام، ويختم جريشه لئلاّ يؤدمه الحسـنان (عليهما السلام)(1).

  وكان كـثير الصوم، كـثير الصلاة(2)، مع شدّة قوّته حتّى قلع باب خيبر، وقد عجز عنه المسلمون(3).

وفضـائله أكـثر من أن تُحصـى.


*  *  *

____________

1- انظر: الغارات: 56 ـ 57، حلية الأولياء 1 / 82، صفة الصفوة 1 / 133، شرح نهج البلاغة 1 / 26.

2- شرح نهج البلاغة 1 / 27.

3- انظر: الكامل في التاريخ 2 / 102; وراجع ما مرّ آنفاً في الصفحة 402 ـ 403 مـن هـذا الجـزء.


الصفحة 407

وقال الفضـل(1):

مـا ذكر من بلاء أمير المؤمنين في الحروب مع رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فهذا أمر لا شـبهة فيه، وكان في أكـثر الحروب صاحبَ الظفر، وهذا مشـهور مسلّم لا كلامَ لأحد فيه.

ومـا ذكر من بلائه يوم بدر، وأنّه قتل الرجال من صناديد قريش، فهو صحيح; وهو أوّل من بارز الصفَّ يوم بدر حين خرج عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم فئة من الأنصار، فقالوا: نحن لا نبارزكم; ثمّ نادوا: يا محمّـد! فلتخرج إلينا أَكْفاءَنا من قريش.

فقال رسول الله: يا عبيـدة! يا حمزة! يا عليّ! اخرجوا..

فخرجوا، وبارز عبيـدةُ بن الحارث عتبةَ، وحمزةُ شيبةَ، وعليٌّ الوليدَ.

فقتل عليٌّ الوليدَ، وحمزةُ شيبةَ، واختلف الضرب بين عتبة وعبيـدة، فعاونه عليٌّ وحمزة وقتلوا عتبة(2).

وهذا أوّل مبارزة وقع في الإسلام، وكان أمير المؤمنين فارسه.

وأمّـا ما ذكر من بلائه يوم أُحد، فهو صحيح; ولكن كان الصحابة ذلك اليوم صاحبِـي بلاء، وكان طلحة بن عبيـد الله صاحب البلاء ذلك

____________

1- إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ: 457 الطبعة الحجرية.

2- انظر: الكامل في التاريخ 2 / 22.


الصفحة 408
اليوم، وكذا سعد بن أبي وقاص، وأبي دُجانة(1)، وجماعة من الأنصار.

وأمّـا ما ذكر من أمر حُنين، وأنّ أبا بكر عانَهم، فهذا من أكاذيبه.

وكيف يَعينُ أبو بكر أصحابَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان هو ذلك اليوم شيخ المهاجرين وصاحب رايتهم؟! ولكن رجل من المسلمين أعجبه الكـثرة فأنزل الله تلك الآيـة(2).

وأمّا ما ذكر من أنّ عتبة ومعتّب ابنَي أبي لهب وقفوا عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)يوم حُنين، فهذا من عدم علمه بالتاريخ!

ألم يعلم أنّ عتبة دعا عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُسلّط الله عليه كلباً من كلابه، فافترسه الأسد ـ وذلك قبل الهجرة ـ ومات في الكفر; فكيف حضر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة حُنين؟!

وهذا من جهله بأحوال السابقين!

وأمّا قصّة سورة براءة فقد ذكرنا حقيقته قبل هذا; وأنّه كان لأجل أن يعتبر العرب على نبذ العهود، لا لأنّه لم يكن أبو بكر موثوقاً به في أداء

____________

1- كذا في الأصل، وهو ليـس بغريب من ابن روزبهان! والصواب: أبو دجـانة; وهو: أبو دُجانة سِمَاك بن خَـرْشَـة الأنصاري الخزرجي الساعدي، شهد بدراً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان من الأبطال الشجعان، وله مقامات محمودة في مغازي رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان من الثابتين يوم أُحد دفاعاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد آخى بينه وبين عتبة بن غزوان، اسـتُشهد يوم اليمامة، وقيل: بل عاش حتّى شهد مع الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) صِفّين.

انظر: معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 3 / 1435 رقم 1353، الاسـتيعاب 2 / 651 رقم 1060 و ج 4 / 1644 رقم 2938، أُسد الغابة 2 / 299 رقم 2235 و ج 5 / 95 رقم 4856، الإصابة 7 / 119 رقم 9857.

2- راجـع الصفحـة 403 ـ 404 من هذا الجـزء.


الصفحة 409
سـورة براءة(1).

وهذا كلام لا يرتضيه أحد من المسلمين أنّ مثل أبي بكر ـ وكان شيخ المهاجرين، وأمين رسول الله ـ لا يثق عليه رسول الله في نبذ العهد وقراءة سورة براءة; وهذا من غاية تعصّبه وجهله بأحوال الصحابة!


*  *  *

____________

1- تقـدّم ذلك في الصفحة 62 ـ 63 من هذا الجزء; فراجـع!


الصفحة 410

وأقـول:

لا نعرف بلاءً لأَحد يوم أُحد إلاّ لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأبي دُجانة، والمسـتـشـهَـدين.

وما قيل من بلاء طلحة وسعد فمحلّ نظر; لأنّهما ممّن فـرّوا.

روى الطبري في " تأريخه "(1)، عن القاسم بن عبـد الرحمن، قال: " انتهى أنس بن النضر ـ عمّ أنس بن مالك ـ إلى عمر بن الخطّاب وطلحة ابن عبيـد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسـكم؟

قالوا: قُـتل محمّـد رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!

قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله.

ثمّ اسـتقبل القوم حتّى قُـتل ".

ومثله في " كامل " ابن الأثير(2)، وفي " الدرّ المنثور " للسـيوطي، عن ابن جرير(3).

____________

1- ص 19 من الجزء الثالث [ 2 / 66 حوادث سـنة 3 هـ ]. منـه (قدس سره).

2- ص 75 من الجزء الثاني [ 2 / 50 ـ 51 حوادث سـنة 3 هـ ]. منـه (قدس سره).

3- الدرّ المنثور 2 / 336 تفسـير الآية 144 من سورة آل عمران; وانظر: السـير والمغازي ـ لابن إسـحاق ـ: 330، المغـازي ـ للواقدي ـ 1 / 280، السـيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 4 / 31 ـ 32، الثقات ـ لابن حبّان ـ 1 / 228، الأغاني 15 / 189، البداية والنهاية 4 / 28، تاريخ الخميـس 1 / 434.


الصفحة 411
هـذا ممّـا دلّ على فرار طلحة وعدم بلائـه.

  وأمّـا ما دلّ على فرار سعد..

فمنه: ما رواه الطبري، عن السُدّي، قال: " لم يقف إلاّ طلحة، وسهل بن حُنيف(1) "(2).

ومنه: ما رواه الحاكم، في كتاب المغازي من " المستدرك "(3)، عن سعد، قال: " لمّا جالَ(4) الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الجولة [ يوم أُحـد ]، تنحّيت فقلت: أذود عن نفسي، فإمّا أن أُستشهَد، وإمّا أن أنجو " الحـديث.

ومنه: ما نقله ابن أبي الحديد(5)، عن الواقدي، قال: " بايعه يومئذ على الموت ثمانية; ثلاثة من المهاجرين، وخمسة من الأنصار.

____________

1- هو: سهل بن حُنَيف بن واهب الأنصاري الأوسي، شهد بدراً والمشاهد كلّها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثبت يوم أُحد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا انهزم الناس، وكان بايعه يومئذ على الموت، وكان يرمي بالنبل عن رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ صحب الإمام أميـر المؤمنين عليّـاً (عليه السلام) حين بويع له، واسـتخلفه أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) على المدينة حين سار منها إلى البصرة، وشهد معه صِفّين، وولاّه بلاد فارس، وتوفّي في الكوفة سـنة 38 هـ، وصلّى عليه الإمام عليّ (عليه السلام).

انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 358 رقم 134، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 3 / 1306 رقم 1181، الاسـتيعاب 2 / 662 رقم 1084، أُسد الغابة 2 / 318 رقم 2288، الإصابة 3 / 198 رقم 3529.

2- ص 20 ج 3 [ تاريخ الطبري 2 / 67 ]. منـه (قدس سره).

3- ص 26 من الجزء الثالث [ 3 / 28 ح 4314 ]. منـه (قدس سره).

4- جالَ يَـجُولُ جَـوَلاناً وجَـوْلةً: إذا ذهب وجاء وانكشف ثمّ كَـرَّ; والمراد هنا: انهزم وانكشف وزال عن مكانه; انظر مادّة " جول " في: النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 317، تاج العروس 14 / 126.

5- ص 388 من المجلّد الثالث [ 15 / 20 ]. منـه (قدس سره).