الصفحة 412
فأمّا المهاجرون: فعليٌّ، وطلحة، والزبير ـ إلى أن قال: ـ وأمّا باقي المسلمين ففـرّوا ورسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوهم في أُخراهم(1)، حتّى انتهى منهم إلى قريب من المِـهْـراس(2) ".

وروى القوشجي في " شرح التجريد " ما يدلّ على فرار طلحة وسعد ـ عند ذِكر نصير الدين (رحمه الله) لغزاة أُحُـد ـ، قال: " جمع له ـ أي: لعليّ ـ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) بين اللواء والراية، وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة ـ وكان يُسمّى كبـش الكـتيبة ـ فقتله عليّ.

فأخذ الراية غيره فقتله عليّ، ولم يزل يقتل واحداً بعد واحد، حتّى قتل تسعة نفر; فانهزم المشركون واشـتغل المسلمون بالغنائم.

فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتّى غُشي عليه، فانهزم الناس عنه سوى عليّ.

فنظر إليه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إفاقته وقال له: اكفني هؤلاء; فهزمهم عليٌّ عنه، وكان أكـثر المقتولين منه "(3).

____________

1- إشارة إلى قوله تعالى: (إذ تُـصْعِدون ولا تَـلْـوُون على أَحَد والرسولُ يدعوكم في أُخراكم فأثـابكم غَمّـاً بِغَـمّ...) سورة آل عمران 3: 153.

2- المِـهْراس: موضع ماء بأُحُـد; وقال سُـدَيف بن إسماعيل بن مَيمون، مولى بني هاشم، في قصيدته المشهورة حين قدم على أبي العبّـاس السفّاح:


واذكروا مصرعَ الحسـين وزيدوقتـيلا بجانب المِـهْراسِ

وقد عنى به حمزة بن عبـد المطّلب (عليه السلام).

انظر مادّة " هرس " في: لسان العرب 15 / 75، تاج العروس 9 / 38; وانظر كذلك: تاريخ اليعقوبي 2 / 294، الكامل في التاريخ 5 / 77، تاريخ ابن خلدون 3 / 162.

3- شرح تجريد الاعتقاد: 486، وانظر: تجريد الاعتقاد: 260.


الصفحة 413
وبهذا جاءت أخبارنا، لكن مع ذكرها لثبات أبي دُجانة(1).

ولو سُلّم أنّ طلحة وسعداً ثبتا، فلا نعرف لهما بلاءً يُـذكر.

ودعوى أنّ طلحة أصابه شللٌ وقايةً لوجه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) محلُّ نظر، ولذا نسـبه الشعبي إلى الزعم.

فقد حكى في " كنز العمّال "(2)، في كتاب الغزوات، عن ابن أبي شيبة، عن الشعبي، قال: " أُصيب يوم أُحد أنفُ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ورباعيّـتُـه، وزُعِم أنّ طلحة وقى رسول الله بيده، فضُرب فشُـلّت يده(3) ".

ولعلّ الشلل كان حينما فـرّ!!

على أنّ عمدةَ المسـتند في ثباتهما وبلائهما هو نفسُهما، وهما محلّ التهمة، لا سـيّما مع العلم بكذبهما في بعض ما ادّعياه!

روى البخاري في غزاة أُحد، وفي مناقب المهاجرين، عن أبي عثمان، قال: " لم يبق مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض تلك الأيّام التي قاتل فيهنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غيرُ طلحة وسعد، عن حديثهما "(4).

إذ لا ريب ـ على تقدير ثباتهما في أُحد ـ قد ثبت معهما غيرهما

____________

1- انظر مثلا: الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 81 ـ 86، إعلام الورى 1 / 377 ـ 378.

2- ص 277 من الجزء الخامس [ 10 / 438 ح 30061 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: مصنّـف ابن أبي شـيبة 8 / 490 ح 34.

3- في المصدر: " أَصْـبـعُـه "، وفي " المصنّـف ": " أصابعه ".

والأَصبـع: واحدة الأصابع، تذكّر وتؤنّث، وفيه لغات; انظر: لسان العرب 7 / 279 مادّة " صبع ".

4- صحيح البخاري 5 / 94 ح 216 و ص 219 ح 101.


الصفحة 414
كأمير المؤمنين (عليه السلام)، فكيف يقولان: لم يبق غيرُهما; وليس هناك مقامٌ آخـر فـرّ فيه المسلمون وثبتا فيه وحدهما؟!

فإذا عُلم كذبهما في ذلك، كانا محلّ التهمة في كلّ ما أخبرا به، ومنه دعوى سعد أنّ رسول الله جمع له أبويه وفداه بهما(1)!

ولو سُلّم أنّهما لم يفـرّا، وأنّ لهما بلاءً في أُحد، فلا يقاسان بأمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي عجبت الملائكة من حسن مواساته، وصاح بمدحه جبرئيل، حتّى يجعلهما الفضلُ في عرضه!

ولو أعرضنـا عن هذا كلّـه; فعمـدة المقصـود: تفضيـلُ أميـر المؤمنين (عليه السلام) على المشايخ الثلاثة في الشجاعة والجهاد، كسائر الصفات الحميدة، والآثار الجميلة، فلا ينفع الفضلَ إثباتُ شجاعةِ طلحةَ وسعد وبلائهما في أُحد وحدهما دون المشايخ!

فكيف يستحقّون التقدّم على يعسوب الدين، وليث العالمين، وزين العلماء العاملين، ونفس النبيّ الأمين؟!

لا سـيّما عثمان! الذي اتّفقت الكلمة والأخبار على فراره بأُحد، وأنّه إنّما رجع بعد ثلاثة أيّام، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " لقد ذهبت بها عريضـاً! "(2).

  وكذا عمر; فإنّ أكـثر أخبارهم تدلّ على فراره..

منها: جميع ما سـبق.

ومنها: ما ذكره السيوطي في " الدرّ المنثور "، بتفسير قوله سبحانه:

____________

1- انظر: صحيح البخاري 5 / 94 ح 218، صحيح مسلم 7 / 125.

2- تقـدّم تخريجـه في الصفحة 400 هـ 2; فراجـع!


الصفحة 415
{ وما محمّـد إلاّ رسول... }(1) الآية، قال: أخرج ابن المنذر(2)، عن كليب، قال: خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر " آل عمران " ويقول: إنّها أُحُـدية.

ثمّ قال: تفـرّقنا عن رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أُحد، فصعدتُ الجبل، فسمعت يهوديّـاً يقول: قُـتل محمّـد!

فقلت: لا أسمع أحداً يقول قُتل محمّـد إلاّ ضربت عنقه; فنظرت فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والناس يتراجعون إليه، فنزلت هذه الآية: { وما محمّـد إلاّ رسـولٌ قد خلت من قبله الرسل }(3).

وليت شعري من أين جاء اليهودي هناك؟!

وأين كانت هذه الحماسة عن قريش؟!

ومنها: ما نقله في " كنز العمّال "، في تفسير سورة آل عمران ـ بعدما ذكر حديث ابن المنذر المذكور(4) ـ، عن ابن جرير، عن كليب، قال:

____________

1- سورة آل عمران 3: 144.

2- هو: أبو بكر محمّـد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، نزيل مكّـة، والمتوفّى بها سـنة 318 هـ، كـان فقيـهاً حافظـاً محـدّثاً، أخـذ الفقـه عن أصحـاب الشـافعي، ولا يتقـيّـد في اختيار فتياه بمذهب بعينه، صنّف كـتباً عديدة في الإجماع والخلاف ومذاهب العلماء وغيرها، منها: الإشراف على مذاهب أهل العلم، الإقناع، الأوسط، الإجماع، المبسوط، تفسـير القرآن.

انظر: طبقات الفقهاء ـ لأبي إسحاق ـ: 105، وفيات الأعيان 4 / 207 رقم 580، تهذيب الأسماء واللغات 2 / 196 رقم 301، سـير أعلام النبلاء 14 / 490 رقم 275، طبقات الشافعية الكبرى 3 / 102 رقم 118، لسان الميزان 5 / 27 رقم 104، طبقات الحفّاظ: 330 رقم 746.

3- الدرّ المنثور 2 / 334.

4- ص 238 من الجزء الأوّل [ 2 / 375 ح 4290 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 416
خطبنا عمر فقرأ آل عمران، فلمّا انتهى إلى قوله تعالى: { إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان... }(1) قال: لمّا كان يوم أُحد هزمناهم، ففررتُ حتّى صعدتُ الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنّني أَرْوى(2)... "(3).. الحـديث.

ومنها: ما ذكره ابن أبي الحديد(4)، نقلا عن الواقدي، قال: " لمّا صاح إبليس: إنّ محمّـداً قد قُتل; تفرّق الناس ـ إلى أن قال: ـ وممّن فـرّ عمر وعثمان ".

ومنها: ما حكاه أيضاً عن الواقدي، في قصّة الحُديبية، قال: " قال عمر: ألم تكن حدّثـتـنا أنّك سـتدخل المسجد الحرام؟! ـ إلى أن قال: ـ ثمّ أقبل على عمر فقال: أنسـيتم يوم أُحد { إذ تُصْعِدون ولا تَـلوون على أَحـد }(5) وأنا أدعوكم في أُخراكم؟! "(6).. الحـديث.

.. إلى غير ذلك من الأخبـار(7).

____________

1- سورة آل عمران 3: 155.

2- الأَرْوَى: جمع كـثرة للأُرْوِيَّـة، وهي الأَيايِـلُ التي تعيش في الجبال، وقيل: إنّـها غنم الجبال، والأُنثى من الوُعُول; انظر: لسان العرب 5 / 384 مادّة " روي ".

3- كنز العمّال 2 / 376 ح 4291، وانظر: تفسير الطبري 3 / 488 ح 8097.

4- ص 389 ج 3 [ 15 / 24 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: المغازي ـ للواقديـ 1 / 277 ـ 279.

5- سورة آل عمران 3: 153.

6- شرح نهج البلاغة 15 / 24، وانظر: المغازي ـ للواقدي ـ 2 / 609.

7- منها: ما أخرجه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 15 / 22، أنّ عمر جاءته في أيّام خلافته امرأة تطلب بُرداً من برود كانت بين يديه، وجاءت معها بنت لعمر تطلب بُرداً أيضاً، فأعطى المرأة وردّ ابنته، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ أبا هذه ثبت يوم أُحد، وأبا هذه فـرّ يوم أُحد ولم يثبت.

ومنها: ما رواه الواقدي في المغازي 1 / 237 ونقله عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 15 / 22 ـ 23، عن خالد بن الوليد، أنّه كان يقول: لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطّاب حين جال المسـلمون وانهزموا يوم أُحد وما معه أَحد، وأنّي لفي كـتيبة خشـناء، فما عرفه منهم أحد غيري، وخشـيت إنْ أغريت به مَن معي أن يصمدوا له، فنظرت إليه وهو متوجّـه إلى الشعب.


الصفحة 417
  وأمّـا أبو بكر; فيدلّ على فراره أيضاً أخبـار..

منها: بعض ما قـدّمناه في أدلّـة فرار سعد وطلحة(1).

ومنها: ما رواه الحاكم في " المستدرك "(2)، وصحّحه، عن عائشة، قالت: قال أبو بكر: لمّا جالَ الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أُحد كنت أوّلَ من فاء.

ومنها: ما نقله في " كـنز العمّـال "(3)، في غزاة أُحد، عن أبي داود الطيالسي، وابن سعد، والبزّار، والدارقطني، وابن حبّان، وأبي نعيم، والضياء في " المختارة "، وغيرهم، بأسانيدهم عن عائشة، قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أُحد بكى، ثمّ قال: ذاك كان كلّه يومَ طلحة!

ثمّ أنشأ يحدّث، قال: كنت أوّل من فاءَ يوم أُحد، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) [ دونه ]، فقلت: كنْ طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلا من قومي أحبّ إليَّ ".. الحديث.

____________

1- راجع ما مـرّ آنفاً في الصحفة 410 وما بعـدها من هذا الجزء.

2- ص 27 ج 3 [ 3 / 29 ح 4315 ]. منـه (قدس سره).

3- ص 294 ج 3 [ 10 / 424 ـ 425 ح 30025 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: مسـند أبي داود الطيالسي: 3، مسـند البزّار 1 / 132 ح 63، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 163، الأوائل ـ للطبراني ـ: 91 ح 63، معرفة الصحابة 1 / 96 ح 369، المستدرك على الصحيحين 3 / 298 ح 5159، تاريخ دمشق 25 / 75.


الصفحة 418
ومنهـا: ما رواه مسلم، في أوّل غزوة أُحد، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أُفـرد يوم أُحـد في سـبعة من الأنصار ورجلين من قريـش(1).

ومن المعلوم أنّ أحد الرجلين عليٌّ، والآخر ليس أبا بكر; إذ لا رواية ولا قائل في ثباته، وفرار سعد أو طلحة.

ومنها: ما رواه الحاكم في فضائل أبي بكر من " المستدرك "(2)، عن ابن عبّـاس، في قوله تعالى: { وشاورهم في الأمر }(3)، قال: " أبو بكر وعمر "; ثمّ قال الحاكم: " صحيح على شرط الشـيخين ".

ونقله السيوطي في " الدرّ المنثور "، عن الحاكم، قال: " وصحّحه "، وعن البيهقي في " سـننه "، عن ابن عبّـاس، قال: نزلت هذه الآية في: أبي بكر وعمر(4).

ونقل الرازي في " تفسيره "، عن الواحدي في " الوسيط "، عن عمرو ابن دينار، أنّه قال: الذي أمر الله(5) بمشاورته في هذه الآية: أبو بكر وعمر(6).

ووجه الدلالة في ذلك على فرار أبي بكر وكذا عمر، أنّ من أمر الله سـبحانه بمشاورته هم المنهزمون في أُحد، الّذين أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو عنهم.

____________

1- صحيح مسلم 5 / 178.

2- ص 70 من الجزء الثالث [ 3 / 74 ح 4436 ]. منـه (قدس سره).

3- سورة آل عمران 3: 159.

4- الدرّ المنثور 2 / 359، السـنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 10 / 108 ـ 109.

5- في المصدر: " النبيّ ".

6- تفسير الفخر الرازي 9 / 70، وانظر: الوسـيط 1 / 512 ـ 513.


الصفحة 419
ولذا اسـتـشكل الرازي في رواية الواحدي فقال: " وعندي فيـه إشكال; لأنّ الّذين أمر اللهُ رسولَه بمشاورتهم في هذه الآية هم الّذين أمره أن يعفو عنهم ويسـتغفر لهم، وهم المنهزمون.

فهب أنّ عمر كان من المنهزميـن فدخل تحت الآيـة، إلاّ أنّ أبا بكر ما كان منهم، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟! والله أعلم "(1) انتهى.

وفـيـه: إنّ الإشكال موقوف على تقـدير ثبات أبي بكر، وهو خـلاف الحقيقـة!

هذا، والآية ظاهرة في الأمر بمشاورتهم للتأليف، كما يظهر من كـثير من أخبارهم(2).

ومثله الأمر بالعفو عنهم والاسـتغفار لهم، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وقال ابن أبي الحـديـد(3): " قال الجاحظ: وقد ثبت أبو بكر مع النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أُحد كما ثبت عليٌّ، فلا فخر لأحدهما على صاحبه.

قال شـيخنا أبو جعفر: أمّا ثباته يوم أُحد فأكثر المؤرّخين وأرباب السِـيَر ينكرونه، وجمهورهم يروي أنّه لم يبق مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ عليٌّ وطلحة والزبير وأبو دُجانة.

وقد روى عن ابن عبّـاس أنّه قال: ولهم خامس، وهو عبـد الله بن

____________

1- تفسير الفخر الرازي 9 / 70.

2- انظر مثلا: تفسير الماوردي 1 / 433، تفسير الطبري 3 / 495 ـ 496، تفسير القرطبي 4 / 161.

3- ص 281 من المجلّد الثالث [ 13 / 293 ـ 294 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 420
مسعود; ومنهم من أثبت سادساً، وهو المقداد بن عمرو.

وروى يحيى بن سلمة بن كُهيل، قال: قلت [ لأبي ]: كم ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أُحد؟

فقال: اثنان.

قلت: من هما؟

قال: عليٌّ وأبو دجانـة.

وهب أنّ أبا بكر ثبت يوم أُحد كما يدّعيه الجاحظ، أيجوز له أن يقول: (ثبت كما ثبت عليٌّ، فلا فخر لأحدهما على الآخر)؟! وهو يعلم آثارَ عليّ ذلك اليوم، وأنّه قتل أصحاب الألوية من بني عبـد الدار، منهم: طلحة بن أبي طلحة، الذي رأى رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه أنّه مردِفٌ كبشاً، فأَوّله وقال: كبـش الكـتيبة نقـتلُه; فلمّـا قتله عليٌّ مبارزةً ـ وهو أوّل قتيل قُتل من المشركين ذلك اليوم ـ كبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هذا كبـش الكـتيـبة!

وما كان [ منه ] من المحاماة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد فرّ المسلمون وأسلموه، فتصمد له كتيبة من قريش، فيقول: يا عليّ! اكفني هذه; فيحمل عليها فيهزمها، ويقتل عميدها، حتّى سمع المسلمون والمشركون صوتاً من قبل السماء:


لا سيفَ إلاّ ذو الفَقارِ ولا فتىً إلاّ علي

وحتّى قال النبيّ عن جبرئيل ما قال!

أتكون هذه آثاره وأفعاله ثمّ يقول الجاحظ: لا فخر لأحدهما على صاحبه؟!


الصفحة 421
{ ربّـنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنتَ خيرُ الفاتحين }(1) ".

وليت شعري، كيف يتصوّر ثبات أبي بكر في ذلك اليوم الهائل وحومة الحرب الطاحنة وما أصابَ ولا أُصيب؟!

أتراهم ينعون شلل أصبع طلحة، ولا ينعون جرح أبي بكر لو أُصيب؟!

وكيف يسلم وهو قد ثبت للحرب ومحاماة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يرى ما جنى عليه الكافرون؟! ولا سيّما قد زعم أولياؤه أنّه قرين النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)فـي طلـب قـريـش لـه، حـتّى بـذلـوا فـي قـتـلـه مـا بـذلـوا فـي قـتل النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(2)!

وأمّا تكذيب الفضل للمصنّف (رحمه الله) في دعوى أنّ أبا بكر عانَهم يوم حنين، فمن الجهل; لأنّ الرازي والزمخشري ذكرا من الأقوال: إنّ أبا بكر هو القائل: " لن نُـغلب اليوم عن(3) قلّـة "(4).

وروى القوشجي في " شرح التجريد "، عند تعرّض المصنّف لغزاة حنين، قال: " سار النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في عشرة آلاف، فتعجّب أبو بكر من كـثرتهم وقال: (لن نُغلب اليوم لقلّـة)، فانهزموا بأجمعهم، ولم يبـق مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى تسعة نفر: عليٌّ، والعبّـاس، وابنه الفضل، وأبو سفيان

____________

1- سورة الأعراف 7: 89.

2- زعموا فضيلةً اختلقوها له! اسـتندوا فيها إلى قوله تعالى: (إذ أخرجه الّذين كـفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار...) سورة التوبة 9: 40; انظـر مؤدّى ذلك في العثمانية: 28 وما بعـدها.

3- كذا في الأصل، وفي المصدرين: " من "; وكلاهما بمعنى!

4- تفسير الفخر الرازي 16 / 22، تفسير الكشّاف 2 / 182.


الصفحة 422
ابن الحارث، ونوفل بن الحارث(1)، وربيعة بن الحارث(2)، وعبـد الله بن الزبير(3)، وعتبة ومعتّب(4) ابنا أبي لهب.

____________

1- هو: أبو الحارث نوفل بن الحارث بن عبـد المطّلب بن هاشم القُـرَشي الهاشمي، ابن عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان أسـنّ مِن إخوته ومِن سائر مَن أسلم مِن بني هاشم، أُسر يوم بدر وفداه عمّه العبّـاس، وقيل: بل هو الذي فدى نفسه برماح كانت له، ثمّ أسلم وهاجر أيّام الخندق، وقيل: بل أسلم يوم فدى نفسه، شهد فتح مكّـة وحنيناً والطائف، آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه وبين العبّـاس، وكان ممّن ثبت يوم حنين مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأعان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، توفّي بالمدينة سـنة 15 هـ.

انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 4 / 33 رقم 347، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 5 / 2687 رقم 2897، الاسـتيعاب 4 / 1512 رقم 2642، أُسد الغابة 4 / 593 رقم 5310.

2- هو: أبو أَروى ربيعة بن الحارث بن عبـد المطّلب بن هاشم القُـرَشي الهاشمي، كان أسـنّ من عمّه العبّـاس بسـنتين، كان غائباً بالشام حين خرج المشركون إلى بدر فلم يشهدها معهم، ثمّ أسلم مع عمّه العبّـاس وأخيه نوفل أيّام الخندق، شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكّة والطائف وحنين، وتوفّي بالمدينة سـنة 23 هـ أيّام عمر ابن الخطّاب بعد أخويه نوفل وأبي سفيان.

انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 4 / 35 رقم 348، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 2 / 1085 رقم 943، الاسـتيعاب 2 / 490 رقم 756، أُسد الغابة 2 / 57 رقم 1635.

3- هو: عبـد الله بن الزبير بن عبـد المطّلب بن هاشم القُـرَشي الهاشمي، لا عقب له، ويروى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول له: ابنُ عمّي وحِـبّي; اسـتُـشهد يوم أجنادين سـنة 13 هـ، ووُجد عنده عصبة من الروم قد قتلهم، ثمّ أثخنته الجراح فمات، وكان أوّل من برز يومئـذ، وكانت سِـنّـه يوم توفّي رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحواً من ثلاثيـن سـنة.

انظر: جمهرة النسـب 1 / 21، الاسـتيعاب 3 / 904 رقم 1534، التبيين في أنساب القرشـيّين: 140، أُسد الغابة 3 / 137 رقم 2946، الإصابة 4 / 89 رقم 4684.

4- في المصدر: " مصعب "، وهو تصحيف ظاهر.


الصفحة 423
فخرج أبو جرول وقتله عليٌّ، فانهزم المشركون، وأقبل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وسار نحو العدوّ، فقتل عليٌّ منهم أربعين وانهزم الباقون وغنمهم المسلمون "(1).

ومن المعلوم أنّ الإصابة بالعين تحصل من نحو هذا التعجّب; ولذا ساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " لن نُغلب اليوم عن قلّـة ".

قال السيوطي في " الدرّ المنثور ": أخرج البيهقي في " الدلائل "، عن الربيع، أنّ رجلا قال يوم حُنين: " لن نغلب اليوم عن قلّة "، فشقّ ذلك على رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فـأنـزل الله: { ويـوم حـنـيـن إذ أعـجـبـتـكم كـثـرتُـكم }(2)(3).

ونحوه في " حاشـية صحيح البخاري " للسـندي(4).

والظاهر أنّ الراوي أراد بالرجل أبا بكر، وعبّر عنه برجل احتشاماً له في مثل المقام، كما يشهد له التصريح باسمه في بعض الروايات!

وقول الفضل: " كيف يَعين أبو بكر أصحابَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان ذلك اليوم شـيخ المهاجرين؟!... " إلى آخره..

خطأٌ; إذ لا يُسـتبعد ذلك ممّن لم ينشأ على الحروب ومقارعة الجيوش، ولا تتوقّف إصابة العين على العداوة، بل تنشأ من أُمور نفسـيّة في العائن!

____________

1- شرح تجريد الاعتقاد: 487.

2- سورة التوبة 9: 25.

3- الدرّ المنثور 4 / 158، وانظر: دلائل النبـوّة ـ للبيهقي ـ 5 / 123.

4- حاشـية السـندي على صحيح البخاري 3 / 110 ب 56.


الصفحة 424
راجع شرح ابن أبي الحديد لقوله (عليه السلام): " الـعَـيْـنُ حَـقٌّ "(1)(2).

وأمّا ما زعمه الفضل من أنّ أبا بكر كان صاحب رايتهم يوم حُنين، فلم أجد أحداً قاله أو رواه، وإنّما صاحبها عليٌّ (عليه السلام).

روى الحـاكم(3)، عن ابن عبّـاس، قال: " لعليّ أربـع خصـال ليسـت لأحد: هو أوّل عربي وأعجمي صلّى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الذي كان لواؤه معه في كلّ زحف، والذي صبر معه يوم المِهْراس(4)، وهو الذي غسّله وأدخله قبره ".

وروى الحاكم أيضاً(5)، عن مالك بن دينار، قال: " سألت سعيد بن جبير: مَن كان حاملَ راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! ـ إلى أن قال: ـ فقال: كان حاملَها عليٌّ، هكذا سمعت من عبـد الله بن عبّـاس ".

ثمّ قال الحاكم: " هذا صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث زَنْـفَل

____________

1- ص 430 من المجلّد الرابع [ 19 / 372 الخطبة 408 ]. منـه (قدس سره).

2- فمن العجيب ما جعله الرازي والزمخشري قولا لبعضهم ـ وإنِ اسـتبعده الرازي ـ [ انظر: تفسير الفخر الرازي 16 / 22، تفسير الكشّاف 2 / 182 ]، وهو أنّ الذي تعجّب من الكـثرة وقال: " لن نغلب اليوم من قلّة " هو رسول الله!! فما أجرأهم على الله ورسوله!! كيف ينسـبون إليه هذه الكلمة الدالّة على عدم التوكّل على الله، وعلى صدور العين منه، الكاشفة عن خبث النفس؟!

وكلّ هذا حفظاً لشأن أبي بكر! فهم مرّة ينسـبون الكلمة إلى رجل مجمل تبعيداً لها عن أبي بكر، ومرّة ينسـبونها إلى سـيّد النبيّـين، المطهّر من كلّ عيب، تبعيداً لها عن الدلالة على النقص!

منـه (قدس سره).

3- ص 111 من الجزء الثالث [ 3 / 120 ح 4582 ]. منـه (قدس سره).

4- أي: يوم أُحـد، جاء فيه عليٌّ (عليه السلام) بماء من المهراس. منـه (قدس سره).

5- ص 137 ج 3 [ 3 / 147 ح 4665 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 425
العَـرَفي، وفيه طولٌ فلم أُخرجه "(1).

ونقل في " كنز العمّال "(2)، عن ابن عساكر، عن ابن عبادة، قال: كانت راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المواطن كلّها ـ راية المهاجرين ـ مع عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام).

وأمّا ما أنكره على المصنّف (رحمه الله) من حضور عتبة بن أبي لهب في حُنين، فيبطله رواية القوشجي له كما سـبق(3).

وما ذكره في " الاستيعاب " بترجمة معتّب وعتبة، من أنّهما ما شهدا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حُنيناً(4)، وما زعمـه من أنّ عتبة افترسه الأسـد بدعـاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فباطلٌ; لأنّ ذلك هو لهب بن أبي لهب كما رواه الحاكم في " المسـتدرك " بتفسـير سورة { تبّت يدا أبي لهب }(5)(6).

واعلم أنّه لا خلاف في فرار عثمان يوم حنين، ويظهر من " الاسـتيعاب " أنّه لا إشكال أيضاً في فرار أبي بكر! وإنّما الكلام في فرار عمر..

قال في ترجمة العبّـاس بن عبـد المطّـلب: " انهزم الناس [ عن

____________

1- المسـتدرك على الصحيحين 3 / 147 ذ ح 4665.

2- ص 295 من الجزء الخامس [ 10 / 506 ح 30171 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: تاريخ دمشق 42 / 72.

3- تقـدّم ذلك آنفاً في الصفحتين 421 ـ 422.

4- الاستيعاب 3 / 1030 رقم 1766 و ج 3 / 1430 رقم 2459، وانظر: أُسد الغابة 3 / 465 رقم 3552 و ج 4 / 449 رقم 5011، الإصابة 4 / 440 رقم 5417 و ج 6 / 175 رقم 8126.

5- سورة المسـد 111: 1.

6- ص 539 من الجزء الثاني [ 2 / 588 ح 3984 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: دلائل النبـوّة ـ للبيهقي ـ 2 / 338.


الصفحة 426
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ] يوم حُنين، غيرَه(1)، وغيرَ عمرَ، وعليّ، وأبي سفيان ابن الحارث، وقد قيل: غيرَ سـبعة من أهل بيته..

وذلك مذكور في شعر العبّـاس، الذي يقول فيه [ من الطويـل ]:


أَلا هلْ أتى عِرْسي مَكَرِّي ومَقدميبِوادي حُنَين والأسنّةُ تُشْرَعُ "

إلى أن قال في " الاستيعاب ": " وهو شعر مذكور في (السيرة) لابن إسحاق، وفيـه:


نصرْنا رسولَ اللهِ في الحربِ سبعةٌوقد فَـرَّ مَن قد فَـرَّ عنه وأَقشَعُوا(2)
وثامنُـنا لاقى الحِمامَ بسيفهِبما مَسّهُ في اللهِ لا يَتوجّعُ

وقال ابن إسحاق: السبعة: عليٌّ، والعبّـاس، والفضل بن العبّـاس، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، وربيعة بن الحارث، وأُسامة بن زيد، والثامن أيمن بن عبيـد(3).

وجعلَ غيرُ ابن إسحاق في موضع أبي سفيان: عمرَ بن الخطّاب.

والصحيح أنّ أبا سفيان بن الحارث كان يومئذ معه، لم يُختلف فيه،

____________

1- أي: العبّـاس بن عبـد المطّـلب.

2- أَقْـشَـعَ القومُ: تفـرّقوا; انظر: لسان العرب 11 / 173 مادّة " قشع ".

3- هو: أيمن بن عبيـد بن عمرو بن بلال، وهو ابن أُمّ أيمن حاضنة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أخو أُسامة بن زيد بن حارثة لأُمّه، اسـتُشهد يوم حُنين.

انظر: معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ 1 / 318 رقم 197، الاسـتيعاب 1 / 128 رقم 131، أُسد الغابة 1 / 189 رقم 353، الإصابة 1 / 170 ـ 171 رقم 394.