الصفحة 509
ولكنّ أبا هريرة ينسج على منوال القصّاصين، ويمسخ معالم الله سـبحانه بما يقتضيه عقلُه وتحكم به مخيّـلَـتُه، فيلقي على أسماع القوم هذه السخافات والكذب الظاهر، فيقبلونها من دون التفات; لاعتمادهم على كلّ صحابيّ وإنْ ظهرت منه الكبائر بأنواعها، وجازَ في حديثه حدَّ العقـل.

ومنها: ما أخرجه البخاري(1)، عنه، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق، فقال له: أسـرقت؟!

قال: كلاّ والذي لا إله إلاّ هو.

فقال عيسى: آمنتُ بالله، وكـذّبتُ عيني "..

فإنّ الإيمان بالله لا ينافي صدق عينه، وأيُّ عقل يقتضي تكذيب العين ووجدانها، وتصديق الحالف بالله كذباً المسـتحقَّ للعقاب من جهة السرقة والحلف بالله كذباً؟!

ولكنّ وساوس أبي هريرة وخياليّـاته لم تقنع إلاّ بالكذب على نبيّ في نسـبة نبيّ آخرَ إلى الحُمق والجهل!

____________

1- في باب: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها)، من كتاب بدء الخلق [ 4 / 323 ح 240 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 510
ومنها: ما أخرجه البخاري(1)، ومسلم(2)، وأحمد(3)، عنه، قال: " كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما.

فقالت صاحبتها: إنّما ذهب بابنك.

وقالت الأُخرى: إنّما ذهب بابنك.

فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى.

فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكّين أشقّه بينهما.

فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها.

فقضى به للصغرى.

قال أبو هريرة: والله إنْ سمعتُ بالسكّين إلاّ يومئـذ، وما كـنّا نقول إلاّ: الـمُـدْيَـة ".

فإنّ داود (عليه السلام) إنْ حكم بلا دليل، فقد حكم بغير الحقّ الذي أمدّه الله تعالى به، وهو منـزّه عن ذلك.

وإنْ كان بدليل، فكيف نقض سليمان حكم الله بمجرّد إشفاق الأُخرى؟!

فالحديث طعنٌ من أبي هريرة بأحد النبيَّـين الأكرمَين.

ومن المضحك قوله: " والله إنْ سمعتُ بالسكّين إلاّ يومئذ "..

____________

1- في باب: (ووهبنا لداود سليمان).. الآية، من كتاب بدء الخلق [ 4 / 315 ح 225 ]. منـه (قدس سره).

2- في بيان اختلاف المجتهدين، من كتاب الأقضية [ 5 / 133 ]. منـه (قدس سره).

3- ص 322 ج 2 من المسـند. منـه (قدس سره).


الصفحة 511
فإنّ لفظ السكّين كـثير الدوران في كلام العرب، ولا يجهله أحد منهم، وقد نطق به الكتاب العزيز، فقال تعالى في سورة " يوسف ": { وآتت كلَّ واحدة منهنّ سكّيناً }(1)، وهي مكّـيّـة، نزلت قبل إسـلام أبي هريرة بعـدّة سـنين; لأنّـه أسلم سـنة سـبع للهجرة(2)، فما باله لم يسمع هذه الآية التي عمّ علمها المسلمين لقدمِها؟!

ولِـمَ لم يعلمها وقد زعم أنّه حفظ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاءين، بثّ أحدهما، ولو بثّ الآخر لقُطع منه البلعوم، كما رواه البخاري عنه(3)؟!

وليت شعري، ما هذه الأسرار الغريبة التي خصّ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بها أبا هريرة، وأخفاها عن المسلمين، فضاعت عنّـا؟!

فإنّـا لله وإنّـا إليه راجعـون!

ومنها: ما رواه البخاري(4)، عنه، قال: " وكّلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنّـك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال: إنّي محتاج، وعلَيَّ عيالٌ، ولي حاجةٌ شديدة.

فخلّيتُ عنه، فأصبحت، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا هريرة! ما فعل أسـيرك البارحة؟

قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدة [ وعيالا ]، فرحمتُه، فخلّيتُ

____________

1- سورة يوسف 12: 31.

2- انظر: المعارف: 158، الاستيعاب 4 / 1771 رقم 3208، أُسد الغابة 5 / 320 رقم 6319.

3- في باب حفظ العلم، من كتاب العلم [ 1 / 68 ح 61 ]. منـه (قدس سره).

4- في أوائل كتاب الوكالة [ 3 / 204 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 512
سـبـيله.

قال: [ أَمَـا ] إنّه قد كذبك وسـيعود.

فعرفتُ أنّه سـيعود; لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّه سـيعود.

فرصدتُه، فجاء يحثو من الطعام، فأخذتُه، فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال: دعني! فإنّي محتاج، وعلَيَّ عيال، لا أعود.

فرحمتُـه، فخلّيت سـبيله.

فأصبحت، فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا هريرة! ما فعل أسـيرك البارحـة؟

قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمتُه فخلّيت سـبيله.

قال: أَمَـا إنّـه قد كذبك وسـيعود.

فرصدتُه الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله، وهذا آخرُ ثلاث مرّات، إنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود.

قال: دعني أُعلّمك كلمات ينفعك الله بها.

قلت: ما هو؟

قال: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم... }(1) حتّى تختم الآية، فإنّك لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شـيطان حتّى تُصبح.

فخلّيتُ سـبيله.

____________

1- سورة البقرة 2: 255.


الصفحة 513
فأصبحتُ، فقال لي رسول الله: ما فعل أسـيرك البارحة؟

قلت: يا رسول الله! زعم أنّه يُعلّمني كلمات ينفعني الله بها، فخلّيت سـبيله.

إلى أن قال: تَعلمُ مَن تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟!

قال: لا.

قال: ذاك شـيطان ".

فليت شعري، أيّ حاجة للشـيطان في هذه السرقة الخاصّـة؟!

ولِـمَ لَم يسرق من حيث لا يراه أبو هريرة؟!

وكيف قدر أبو هريرة أن يأسره، وهو جسم شـفّـاف؟!

وكيف ساغ لأبي هريرة أن يرحمه وهو أمينٌ في الحفظ؟!

وكيف لم يصدّق رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: " قد كذبك "، وصدّق السارق في الدعوى التي كـذّبه النبيُّ فيها، ولا سـيّما بعد التكرار؟!

وكيف صدّق النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: " سـيعود "، ولم يصدّقه في قوله: " كذبك "، وكلٌّ منهما خبر للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلام واحـد؟!

وهل محـلٌّ لرحمته لو صدّق النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في تكذيبه؟!

وكيف جاز لأبي هريرة أن يحنث في يمينه ثـلاث مـرّات بعدمـا حلف ثلاثـاً أن يرفعه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

بل كيف صحّ للنبيّ ـ مع علمه بأنّه شـيطان ـ أن يسكت بعد المرّة الأُولى، ولا ينهـى أبـا هريـرة عـن مسـامحتـه بعـدها، والمال للفقـراء، وهـو (صلى الله عليه وآله وسلم) أمينهم في الجمع والحفظ؟!

فهل يشكّ عاقل ـ بعد هذه الأُمور ـ في أنّ ذلك من كذبات أبي

الصفحة 514
هريرة وسـخافاته؟!

ومنها: ما رواه الحاكم(1)، عنه، وصحّحه، قال: [ لمّا ] خلق الله آدم فمسح على ظهره، فسقط من ظهره كلُّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثالَ الـذَّرِّ، ثمّ جعل بين عيـنَي كلّ إنسان منهم وَبـيصاً ـ أي: بريقـاً(2) ـ من نور، ثمّ عرضهم على آدم، فقال آدم: من هؤلاء يا ربّ؟

قال: ذرّيّـتُـك.

فرأى آدم رجلا منهم أعجبه وبيصُ ما بين عينيه.

فقال: يا ربّ! من هذا؟

قال: هذا ابنك داود.

قال آدم: كم جعلت له من العمر؟

قال: سـتّين سـنة.

قال: يا ربّ! زِده من عمري أربعين سـنة حتّى يكون عمره مئـة سـنة.

فقال الله عـزّ وجـلّ: إذاً يُـكـتب ويُختم فلا يُـبـدّل.

فلمّـا انقضى عمر آدم جاء ملك الموت لقبض روحه، قال آدم: أَوَلَـمْ يَـبقَ من عمري أربعون سـنة؟!

قال له ملك الموت: أَوَلَمْ تجعلها لابنك داود؟!

[ قال: ] فجحدَ، فجحدت ذرّيّـتُـه ".. الحـديث.

____________

1- ص 325 ج 2 من المسـتدرك [ 2 / 355 ح 3257 ]. منـه (قدس سره).

2- الوبِـيصُ: الـبَريق، وَبَصَ الشيءُ يَـبِـصُ وَبْصاً ووَبِـيصاً وبِـصَـةً: بَـرَقَ ولَـمَـعَ; انظر: لسان العرب 15 / 200 مادّة " وبص ".


الصفحة 515
فانظـر إلى هـذه القصّـة الخياليـة، واعتبـر في آخـرها كيف نسـب أبو هريرة نبيَّ الله إلى الكذب، وجحود ما فعل، وكُتب عليه وخُتم، كراهة للموت الذي بعده الكرامة التي رآها قبل الهبوط إلى الدنيا الدنية وبكى شـوقاً إليها!!

ولو فُرض نسـيان آدم، فما معنى جحوده، وقد ذكّره ملك الموت، وهو الصادق الأمين؟!

ولكنّ أبا هريرة لا يبالي بنقص الأنبياء حتّى جعل جحود آدم (عليه السلام)سـبباً لجحود ذرّيّـته الباطل!

وليت شعري، لِـمَ دخل في خيال أبي هريرة أنّ وبيصَ ما بين عينَي داود أعجـبُ إلى آدم من وبيصِ ما بين عيون الأنبـياء، حتّى سـيّدهم محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحدهم يوسف، ومَن زاده الله بَسطة في العلم والجسـم(1)؟!

ومنها: ما رواه البخاري(2)، عنه، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " بَـينا أيّوب يغتـسل عرياناً، فخرّ عليه جرادٌ من ذهب، فجعل أيّوب يحثي في ثوبه، فناداه ربّه: يا أيّـوب! ألم أكن أغنيـتُـك عمّا ترى؟!

قال: بلى وعزّتك، ولكن لا غنى بي عن بركـتك ".

فإنّ جمعه للمال; إنْ كان رغبةً في الدنيا، فالأنبياء أجلّ قدراً من ذلـك.

وإنْ كان للآخرة ـ ولو بإظهار الحاجة إلى كرمه تعالى، وتلقّي النعمة

____________

1- أي: نبيّ الله طالوت (عليه السلام).

2- في باب من اغتسل عرياناً وحده، من كتاب الغسل [ 1 / 129 ح 30 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 516
بإعظامها ـ، فما وجهُ عتاب الله تعالى له؟!

واحتمال أنّ العتاب للاختبار، ليـس في محلّه; لأنّـه إنّ أُريد الاختـبار حقيقةً، فالله عالم بما في نفسه من دون اختبار.

وإنْ أُريد كشف ما في نفسه للناس، إظهاراً لفضله، فهو قد اغتسل وحدَه عُرياناً.

وقصص أبي هريرة الخرافية لا تنتهي حتّى ينتهي عنها!

وأمّـا تكذيب الصحابـة والتابعين له، عموماً أو خصوصاً، فالأخبار به مسـتفيضة، وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخصوص، وعمر وابنه، وعائشة، وأفرادٌ أُخر من الصحابة يكـذّبونه، أو يتّـهمونه بالكذب(1).

  نقل ابن أبي الحديد(2)، عن أبي جعفر الإسكافي، وابن قتيبة في كتاب " المعارف "، أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ألا إنّ أكذب الناس ـ أو قال: أكذب الأحياء ـ على رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو هريرة الدوسي.

  وإنّ عمر بن الخطّاب ضرب أبا هريرة بالـدِّرّة(3)، وقال: " قد

____________

1- فممّن اتّـهمه بالكذب من الصحابة والتابعين ـ على سـبيل المثال لا الحصر ـ غير مَن ذُكر في المتن:

1 ـ سعد بن أبي وقّـاص: فقد ردّ عليه حديثه حتّى تواثبا، وقامت الحجزة بينهما، وأُرتِـجَـت الأبوابُ بينهما.

انظر: تاريخ دمشق 67 / 346، سـير أعلام النبلاء 2 / 603.

2 ـ إبراهيم النخعي، الفقيه: كان لا يأخذ بحديث أبي هريرة، ويقول: " دعني من أبي هريرة! "; ويقول: " كانوا يتركون كـثيراً من حديثه ".

انظر: تاريخ دمشق 67 / 360 ـ 361، شرح نهج البلاغة 4 / 68، سـير أعلام النبـلاء 2 / 608.

2- ص 360 ج 1 [ 4 / 68 ]. منـه (قدس سره).

3- الـدِّرّةُ ـ والجمع: دِرَرٌ ـ: دِرّةُ السلطان، التي يُضـرَب بها، عربية معروفة; انظر مادّة " درر " في: لسان العرب 4 / 327، تاج العروس 6 / 397.


الصفحة 517
أكثرت من الرواية، وأَحْرِ بك أن تكون كاذباً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "(1).

وحكى في " كنز العمّال "(2)، عن ابن عساكر، أنّ عمر قال له: " لتتركنّ الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لأُلحقنّـك بأرض دوس!

[ وقال لكعب: لتتركنّ الحديث، ] أو [ لأُلحقنّك ] بأرض القردة! ".

  وروى مسلم(3)، عن ابن عمر، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتل الكلاب إلاّ كلبَ صيد أو كلب غنم أو ماشـية; فقيـل لابن عمر: إنّ أبا هريرة يقـول: أو كلب زرع.

فقال ابن عمر: إنّ لأبي هريرة زرعاً!

ثمّ روى مسلم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من اتّخذ كلباً إلاّ كلب ماشية، أو صيد، أو زرع، نقص من أجره قيراط.

قال الزهري: فذُكر لابن عمر قول أبي هريرة، فقال: يرحم الله أبا هريرة، كان صاحب زرع(4).

وروى أيضاً، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من اقتنى كلباً إلاّ كلب ضار، أو ماشية، نقص من عمله كلّ يوم قيراطان.

____________

1- شرح نهج البلاغة 4 / 67 ـ 68.

2- ص 239 ج 5 [ 10 / 291 ح 29472 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: تاريخ دمشق 50 / 172 ترجمة كعب بن ماتع، و ج 67 / 343 ترجمة أبي هريرة.

وانظر: تاريخ المدينة ـ لابن شـبّة ـ 3 / 800، سـير أعلام النبلاء 2 / 600 ـ 601 رقم 126، البداية والنهاية 8 / 87.

3- في كتاب البيوع، في باب الأمر بقتل الكلاب [ 5 / 36 ]. منـه (قدس سره).

4- صحيح مسلم 5 / 38.


الصفحة 518
قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرث; وكان صاحب حـرث "(1).

وروى أحمد(2)، عن ابن عمر، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: " من اتّخذ [ أو قال: اقتنى ] كلباً ليس بضار، ولا كلب ماشية، نقص من أجـره كلّ يوم قيراطان.

فقيل له: إنّ أبا هريرة يقول: وكلب حرث، فقال: أنّى لأبي هريرة حـرثٌ! ".

  وروى أحمـد أيضاً(3)، عن عبـد الرحمن بن عتاب، ما حاصله أنّ أبا هريرة أفتى بشيء، فأرسل مروان إلى أُمّ سلمة وعائشة، فذكرتا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلافه، فقيل لأبي هريرة في ذلك، فقال: كذا كنت أحسـب، وكذا كـنت أظنّ.

فقال له مروان: بأظنّ وأحسـب تفتي الناس؟!

  وروى أحمد أيضاً(4)، عن أبي حسّان الأعرج، أنّ رجلين دخلا على عائشة فقالا: إنّ أبا هريرة يحدّث أنّ نبيّ الله كان يقول: إنّما الطِـيرة في المرأة، والدابّـة، والدار.

قال: فطارت شِـقّـةٌ منها في السماء وشِقّـةٌ في الأرض(5)، فقالت:

____________

1- صحيح مسلم 5 / 37.

2- ص 4 من الجزء الثاني. منـه (قدس سره).

3- ص 184 من الجزء السادس. منـه (قدس سره).

4- ص 246 من الجزء السادس. منـه (قدس سره).

5- هذا ممّـا يقال للإنسان عند المبالغة في الغضب والغيظ.

والـشِّـقّـةُ: الشَّـظِـيّـة أو القِطعة المَشقوقة من لوح أو خشـب أو غيره; انظر: لسان العرب 7 / 165 مادّة " شقق ".


الصفحة 519
والذي أنزل القرآن على أبي القاسم (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هكذا كان يقول، ولكنّ نبيّ الله كان يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: الطيَرة في المرأة، والدار، والدابّـة "(1).

  وروى مسلم(2)، أنّ أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: من تبع جنازةً فله قيراطٌ من الأجر.

فقال ابن عمر: أَكْـثَـرَ علينا أبو هريرة!

نعم، ذكر في ذيل الحديث أنّ ابن عمر أرسل إلى عائشة يسألها فصدّقت أبا هريرة، لكـنّه لا يُخرج أبا هريرة عن كونه مـتّهماً بالكذب.

  وروى مسـلم أيضـاً(3)، عـن ابـن شـهاب، أنّ أبـا سـلمة بـن عبـد الرحمن حدّثه، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا عدوى ".

ويحدّث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا يُورد مُمرَض على مُصحّ ".

قـال أبـو سـلمـة: كـان أبو هريـرة يُحـدّثهـما ـ كلتيـهما ـ عـن رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ صمت بعد ذلك أبو هريرة عن قوله: " لا عدوى "، وأقام على أن " لا يُورد مُمرض على مُصحّ "، قال: فقال الحارث: قد كنتُ أسمعك يا أبا هريرة تُحدّثنا مع هذا الحديث حديثاً آخر قد سكتَّ عنه،

____________

1- نـقـول ـ علاوة على ما جاء في المتن ـ: لقد ردّت عائشة كثيراً من أحاديث أبي هريرة حتّى قالت: " ألا تعجب من هذا؟! وإنْ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحدّث الحديث لو شاء العادّ أن يحصيه أحصاه "!

وقالت: " لأُخالفـنّ أبا هريرة ".

انظر: سـنن أبي داود 3 / 319 ح 3654، الأُصول ـ للسرخسي ـ 1 / 341، تأويل مختلف الحديث: 32.

2- في كتاب الجنائز، في باب فضل الصلاة على الجنائز [ 3 / 51 ]. منـه (قدس سره) 3- في كتاب السلام، في باب لا عدوى ولا طيَرة [ 7 / 31 ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 520
كـنتَ تقول: " قال رسول الله: لا عدوى ".

فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك، [ وقال: لا يُورد مُمرض على مُصحّ ].

فماراه(1) الحارثُ في ذلك حتّى غضب أبو هريرة، فرَطَنَ(2)بالحبشـيّة، فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟!

قال: لا.

قال أبو هريرة: قلتُ: أَبَـيْـت.

قـال أبـو سـلمة: ولعمـري، لقـد كـان أبـو هريرة يُحـدّثـنا أنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا عدوى "; فلا أدري أَنسيَ أبو هريرة، أم نسخَ أحدُ القولين الآخرَ؟!

أقـول:

كِلا العـذرين باطـلٌ!..

أمّا النسخ; فلأنّه إنّما يدخلُ الأحكامَ، مع أنّ النسخ لو دعا أبا هريرة إلى الترك لاعتذر به عند الحارث، أو لم يروهما أوّلا.

____________

1- مَـاراهُ مُـمَـاراةً ومِـراءً: جادَلَـهُ ولاجَـهُ; والمِراء ـ في الأصل ـ: الجِدال، وأن يسـتخرج الرجلُ من مُناظرِه كلاماً ومعاني الخصومة وغيرها; انظر: لسان العرب 13 / 90 مادّة " مرا "، تاج العروس 20 / 183 مادّة " مري ".

وفي صحيح مسلم 7 / 31: " فما رآه "، وهو تصحيف.

2- رَطَـنَ العجميّ يَـرْطُـنُ رَطْـناً: تكلّم بلغتـه; والـرَّطانة والـرِّطانة والـمُـراطَنة: التكلّم بالعجمية; انظر: لسان العرب 5 / 239 مادّة " رطن ".


الصفحة 521
وأمّا النسـيان; فيبطله عندهم ما رواه البخاري(1)، عن أبي هريرة، قال: " قلت: يا رسول الله! إنّي أسمع منك حديثاً كـثيراً أنساه.

قال: ابسط رداءك!

فبسـطته; قال: فغرف بيديه، ثمّ قال: ضمّه; فضممته; فما نسـيتُ شـيئاً بعده ".

وأقـول:

هذا أيضاً من حديث خُرافة(2)، فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لو كان مريداً له الحفـظ، كفاه أن يدعو له به، كما فعل مع أميـر المؤمنيـن لمّا بعثه قاضياً إلى اليمـن(3)، ولمّـا نزل قولـه: { وتعيـها أُذنٌ واعيـة }(4).

____________

1- في باب حفظ العلم، من كتاب العلم [ 1 / 67 ـ 68 ح 60 ]، وفي موارد كـثيرة باختلاف فيـه [ 5 / 62 ح 148 و ج 9 / 194 ح 122 كـتاب الاعتصام ]. منـه (قدس سره).

2- مثلٌ يُضرب لكلّ ما لا يمكن وقوعه.

وقد مـرّت الإشارة إليه مفصّـلة في ج 3 / 43 هـ 1 من هذا الكـتاب; فراجـع!

3- انظر: سنن أبي داود 3 / 300 ح 3582، سنن ابن ماجة 2 / 774 ح 2310، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ 5 / 116 ـ 117 ح 8417 ـ 8422، مسـند أحمد 1 / 83 و 88 و 90 و 96 و 111 و 156، مسند البزّار 3 / 125 ح 912، مسند أبي يعلى 1 / 252 ح 293 و ص 268 ح 316، المعجم الأوسط 4 / 348 ح 3892، مسند الطيالسي: 16 ح 98، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 257، مصنّف ابن أبي شيبة 7 / 13 ح 57 و ص 495 ح 5، مسند عبـد بن حميد: 61 ح 94، تأويل مختلف الحديث ـ لابن قتيبة ـ: 145، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 7 / 260 ح 5042، أخبار القضاة ـ لوكيع ـ 1 / 84 ـ 88، المستدرك على الصحيحين 3 / 145 ـ 146 ح 4658 و ج 4 / 99 ح 7003، حلية الأولياء 4 / 381 ـ 382 رقم 284، السـنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 10 / 140، تاريخ بغداد 12 / 444 رقم 6916.

4- سورة الحاقّـة 69: 12.

وراجع مبحث الآية ذاتها في ج 5 / 45 ـ 49 من هذا الكـتاب!


الصفحة 522
فلم يحتج إلى هذا الفضول، من البسط والاغتراف من الهواء والضمّ، اللواتي لا تشـبه أفعال العقلاء، بل المشعبذين والخرافـيّين، فكيف يُنسـب إلى نبيّ الـهُـدى؟!

وأمّـا تكذيب الصحابة والتابعين له عموماً، أو اتّهامهم له، فيـدلّ عليه ما أقرّ به هو بنفسه في ما رواه مسلم(1)، عن أبي رزين، قال: " خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته، فقال: إنّكم تحدّثون أنّي أكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتهتدوا وأَضِلَّ ".. الحـديث.

وما رواه البخاري(2)، عن أبي هريرة، قال: " يقولون: إنّ أبا هريرة يكـثر الحـديـث! والله المـوعـد; ويقـولـون: مـا للمهـاجـرين والأنـصـار لا يُحـدِّثون مثـلَ أحاديثـه؟!

وإنّ إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنّ إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنتُ امرأً مسكيناً ألزم رسول الله على مِـلْءِ بطـني، فأحضر حين يغيـبون، وأعي حين ينـسـون... ".. الحـديث.

فهذا الحديث صريح باتّهامهم له، كما إنّ الحديث الذي قبله صريح في تكذيبهم له!

فالعجب من السُـنّة! كيف يعتبرون حديثه، وهم يطعنون في الراوي باتّهام بعض علمائهم له، فضلا عن التكذيب له؟!

فكيف، وقد اتّهمه الصحابة والتابعون، وكـذّبوه عموماً وخصوصاً؟!

____________

1- في باب إذا انتعل فليبدأ باليمين، من كتاب اللباس والزينة [ 6 / 153 ]. منـه (قدس سره).

2- في آخر أبواب المزارعة [ 3 / 219 ح 29 ]، وباب حفظ العلم [ 1 / 67 ح 59 ]، وغيره باختلاف [ 3 / 111 ـ 112 أوّل كـتاب البيوع ]. منـه (قدس سره).


الصفحة 523
مع أنّ السُـنّة رأَوْه في هذا الحديث قد كذب كذباً ظاهراً; إذ نسـب إلى جميع المهاجرين الصفق بالأسواق، وإلى عامّة الأنصار العمل بأموالهم(1) ـ أي: بسـاتينهم ـ، والحال أنّ الّذين كانوا كذلك إنّما هم القليل.

ونسـب إلى نفسـه ملازمـة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن يمـلأ بطـنه; وهـذا أمـرٌ ـ لو تمّ ـ زاد عليه فيه أنسٌ، وشاركه فيه جماعةٌ من أهل الصُّـفّـة!

وما أدري كيف زاد حضوره على سائر المهاجرين والأنصار، والحال أنّ أيّام إسلامه ثلاث سـنين قبل وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(2)، وهم حضروا عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من مبدإ الهجـرة، وبعضهم قبلها؟!

ولو سُلّم، فليس هذا جواباً عن إشكال عدم تحديث المهاجرين والأنصـار مثل حديثـه في الغرابـة; فإنّ زيـادة حضـوره عنـد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)لا يقتضي أن يختصّ بالغرائب دون بطانة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهله وأكابر الصحـابة!

وليت شعري، كيف يرتضون عذره، وهم يزعمون أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)لا يصنع شـيئاً إلاّ بمشاورة أبي بكر، وأنّ أبا بكر لا يفارق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا ولا نهاراً طول أيّـام إسلامه، بل قبل البعثة، وهو لم يرو إلاّ أقلّ القليل بالنسـبة إلى روايات أبي هريرة؟!

فهل يرون أنّ أبا هريرة أوعى منه للعلم وأحفظ؟!

____________

1- المالُ: ما ملكـته من جميع الأشـياء، وهو في الأصل ما يُملك من الذهب والفضّـة، ثمّ أُطلق على كلّ ما يُـقتـنى ويُملك من الأعيان.

انظر: لسان العرب 13 / 223 مادّة " مول ".

2- راجـع الصفحة 511 هـ 2 من هذا الجـزء.


الصفحة 524
وكذا الحال في عظماء الصحابة، ولا سـيّما أمير المؤمنين، عديل القرآن، وصاحب الأُذن الواعية، الذي لم يفارق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من طفولـيّته إلى ساعة وفاته، وهو لم تكن له من الرواية عندهم إلاّ القليل بالنسـبة إلى ما رواه أبو هريرة!

ثمّ إنّ عدم الاعتداد بأبي هريرة لا يختصّ بالصحابة والتابعين، بل يعمّ غيرهم..

فقد حكى ابن أبي الحديد(1)، عن أبي جعفر، وابن قتيبة، أنّ أبا يوسف ذكر عن أبي حنيفة أنّه قال: " الصحابة كلّهم عدول ما عدا رجالا، ثمّ عدَّ منهم أبا هريرة، وأنس بن مالك!

وأنّ أبا أُسامة روى عن الأعمش، قال: كان إبراهيم صحيح الحـديث، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوماً بأحاديث عن أبي هريرة، فقال: دعني من أبي هريرة! إنّهم يتركون كثيراً من حديثـه ".

ويؤيّد ما عن أبي حنيفة، ما نقله السـيّد السعيد (رحمه الله)، عن فخر الدين الرازي، في مسألة الـتَّـصْرِيَـة(2)، من رسالته المعمولة لتفضيل مذهب

____________

1- ص 360 مجلّد 1 [ 4 / 68 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: الميـزان الكبـرى ـ للشـعراني ـ 1 / 45، فقـد ورد فيه أنّ أبا حنيفة كان لا يعتـدّ بحـديث أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب.

2- الـتَّـصْـرِيَـةُ: هي إذا لم تُحلب ذوات اللبن ـ الناقة أو البقرة أو الشاة ـ أيّـامـاً وتُصَـرُّ أخلافُها حتّى يجتمع اللبن في ضَـرْعِها، فإذا حلبها المشـتري اسـتغزرها.

والـمُـصَـرّاةُ: هي الناقة أو البقرة أو الشاة يُـصَـرّى اللبنُ في ضرعها، أي: يُـجمَـعُ ويُـحبَـس.

انظر: لسان العرب 7 / 337 مادّة " صري ".