هـذا، ولو أعرضنا عن طعن مَن سـبق ذِكرهم، فلا ريب أنّ أبا هريرة كان من أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنصار محاربيه، ومن مبغضيه، وقد عرفت أنّ بغضه علامة النفاق(2)، والنفاق أكبر الفسق المانع من قبول الروايـة.
وما زال أبو هريرة من المجاهرين بعداوة إمام الهدى وخذلانـه ونصرة أعدائه، حتّى إنّه كان يضع الحديث على رسول الله في نقصه!
نقل ابن أبي الحديد(3)، عن أبي جعفر الإسكافي، أنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، منهم: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: عروة بن الزبير.
ثـمّ ذَكر ما اختلقوه، وذَكر عن أبي هريرة ما اسـتحقّ به عند معاوية أن يولّيه إمارة المدينـة(4).
ثـمّ نقل عن أبي جعفـر، وابن قتيبة، أنّ سفيان الثوري روى عن عبـد الرحمن بن القاسم، عن عمر بن عبـد الغفّار، أنّ أبا هريرة لمّا قدم
____________
1- الصوارم المهرقة: 127، وانظر: مناقب الإمام الشافعي ـ للفخر الرازي ـ: 427 ـ 428، فتح الباري 4 / 459، إرشاد الساري 5 / 132 ذ ح 2151 ب 65.
2- راجع مبحث قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأميـر المؤمنين عليّ (عليه السلام): " لا يُحبّـك إلاّ مؤمـن، ولا يـبغـضُـك إلاّ منـافـق "، في الصفحات 147 ـ 151 من هذا الجزء.
3- ص 358 من المجلّد الأوّل [ 4 / 63 ]. منـه (قدس سره).
4- انظر: شرح نهج البلاغة 4 / 67.
فقال: اللّهمّ نعم.
قال: فأشهدُ بالله! لقد واليتَ عدوَّه وعاديتَ ولـيَّـه!
ثمّ قام عنه(1).
هذا كلّه مضافاً إلى شهادة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ أبا هريرة من أهل النار!
روى صاحبا " الإصابة " و " الاسـتيعاب "، وغيرهما، في ترجمة فرات، أنّ أبا هريرة، والرحّال بن عنفدة(2)، والفرات بن حبّـان(3)، خرجوا من مجلس النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال مشـيراً إليهم: لَضرسُ أحدكم في النار أعظم من أُحـد، وإنّ معه لقَـفَـا غادِر.
____________
1- شرح نهج البلاغة 4 / 68.
2- كذا في مطبوعة طهران; وقد وقع اضطراب في ضبط الاسم في المصادر كلّها، ففي " الاسـتيعاب " ورد الاسم بالحاء المهملة ـ كذلك ـ مجرّداً عن اسم أبيه، وفي " الإصابة ": " الرجّال بن عنْـفَـوة "، وفي " إتحاف السادة المتّقين ": " الرجّـال بن عنفوت " وقال عنه الزبيدي ما نصّه: " وهو بالجيم، وذكره عبـد الغني بالحاء المهملة، وسـبقه لذلك الواقدي والمدائني، والأوّل أصحّ وأكـثر ".
انظر: الاسـتيعاب 3 / 1258 رقم 2070، الإصابة 5 / 358 رقم 6969، إتحاف السادة المتّـقين 7 / 181.
3- كذا في مطبوعة طهران وإتحاف السادة المتّقين، والظاهر أنّه تصحيف، والصحيح هو: " حَـيّـان ".
انظر: معرفة الصحابة 4 / 2293 رقم 2412، الاسـتيعاب 3 / 1258 رقم 2070، أُسد الغابة 4 / 51 رقم 4199، الإصابة 5 / 357 رقم 6969، إتحاف السادة المتّـقين 7 / 181.
أقـول:
مـرادهمـا: تـأويـل الحـديـث بحمـل لفـظ " أحـدكم " على الواحـد لا الجميع، وهو خلاف الظاهر والاسـتعمال المسـتفيض.
قال تعـالى: { أيودُّ أحدُكم أن تكون له جنّـةٌ من نخيل وأعناب }(2)..
{ كُتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إنْ تركَ خيراً الوصيّـة }(3)..
{ شهادة بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ }(4)..
{ حتّى إذا جاء أحدَكم الموتُ توفّـته رُسلُـنا }(5)..
{ يودُّ أحدُهم لو يُـعَـمَّر ألـفَ سـنة }(6)..
{ وإذا بُشِّر أحدُهم بالأُنـثى ظلّ وجهُهُ مُسْوَدّاً وهو كظيم }(7).
____________
1- انظر: الاسـتيعاب 3 / 1258 رقم 2070، الإصابة 5 / 357 ـ 358 رقم 6969، إتحاف السادة المتّـقين 7 / 181.
2- سورة البقرة 2: 266.
3- سورة البقرة 2: 180.
4- سورة المائـدة 5: 106.
5- سورة الأنعام 6: 61.
6- سورة البقرة 2: 96.
7- سورة النحل 16: 58.
مضافاً إلى أنّ النبيّ لا يمكن أن يُسقط شأنَ جماعة من أُمّته بالإجمال، وهو يريـد واحـداً خاصّـاً(3).
____________
1- كقوله تعالى: (فلن يُـقـبَل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به) سورة آل عمران 3: 91.
وقوله تعالى: (حتّى إذا جاء أحدهم الموت قال ربِّ ارجعون) سورة المؤمنون 23: 99.
وقوله تعالى: (أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) سورة الحجرات 49: 12.
وقوله تعالى: (وأنفِقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) سورة المنافقون 63: 10.
2- فمن السُـنّة الشريفة، مثـلا:
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا صلّى أحدكم فلم يدرِ كيف صلّى، فليسجد سجدتين وهو جالس " انظر: سـنن الترمذي 1 / 243 ح 396، سـنن اين ماجة 1 / 380 ح 1204.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّ الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيلبس عليه حتّى لا يدري كم صلّى... " انظر: سـنن الترمذي 1 / 244 ح 397، مسند أحمد 2 / 283، سـنن ابن ماجة 1 / 384 ح 1216.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس " انظر: صحيح البخاري 1 / 193 ح 104، صحيح مسلم 2 / 155.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّ الملائكة تصلّي على أحدكم ما دام في مصلاّه الذي صلّى فيه ما لم يُحدِث... " انظر: صحيح البخاري 1 / 193 ح 105، صحيح مسلم 2 / 129.
3- نـقـول: وممّـا يعضد مـا أورده الشـيخ المظـفّر (قدس سره) في المتن، أنّ القوم قد رووا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبي هريرة وسمرة بن جندب وأبي محذورة: " آخركم موتـاً في النـار "; انظر: التاريخ الصغير ـ للبخاري ـ 1 / 106 ـ 107، المعجم الأوسط 6 / 283 ح 6206، دلائل النبـوّة ـ للبيهقي ـ 6 / 458 ـ 459.
فمات سمرة بن جندب سـنة 58 هـ; انظر: الاسـتيعاب 2 / 654، الكامل في التاريخ 3 / 362 حوادث سـنة 58 هـ، سـير أعلام النبلاء 3 / 186.
ومات أبو محذورة سـنة 59 هـ; انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 6 / 7 ـ 8 رقم 1494، الاسـتيعاب 4 / 1752، الكامل في التاريخ 3 / 366، سـير أعلام النبلاء 3 / 118.
وكان أبو هريرة آخرهم موتاً; إذ إنّه مات ـ على ما هو مشهور ـ في شهر ذي الحجّـة من سـنة 59 هـ، وهو آخر شهر منها; انظر: تاريخ دمشق 67 / 389 ـ 391، الاستيعاب 4 / 1772، الكامل في التاريخ 3 / 366، البداية والنهاية 8 / 93.
وإلاّ فإنّ أبا هريرة قد بقي حيّـاً إلى ما بعد وقعة الحـرّة سـنة 63 هـ; لأنّـه أقـرّ فقال عن نفسه: " أعطاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شـيئاً من تمر، فجعلته في مكتل لنا، فعلّقناه في سقف البيت، فلم نزل نأكل منه حتّى كان آخره أصابه أهلُ الشام حيث أغاروا على المدينـة ".
انظر: مسـند أحمد 2 / 324، مسـند ابن راهويه 1 / 126، سـير أعلام النبلاء 2 / 631، البداية والنهاية 6 / 90.
فإذا كان هذا حال أبي هريرة ـ وهو أكثر رواتهم رواية ـ، فكيف يحلف المنصف على صدور جميع ما في صحاحهم؟!
وأمّـا ما ذكره الفضل من اتّصال نسـب أبي بكر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في الأب الثامن، فغيرُ نافع ما لم تحصل التقوى وطاعة المولى، وقد كان أبو لهب أقربَ منه نسـباً!
على أنّ أبناء تيم من أرذل بيت في قريش(2)، فلا يفيدهم شرف
____________
1- ولتفصيـل أحواله، راجع الكـتابَـين القـيّـمَـين: " أبو هريرة " للسـيّد عبـد الحسـين شرف الدين الموسوي العاملي (قدس سره)، و " شـيخ المضيرة أبو هريرة " للشـيخ محمـود أبو ريّـة.
2- انـظر: الاسـتيعـاب 3 / 974 و ج 4 / 1679، مصنّـف عبـد الرزّاق 5 / 451 ح 9767، أنساب الأشراف 2 / 271، مروج الذهب 2 / 299، الكامل في التاريخ 2 / 189 حوادث سنة 11 هـ، شرح نهج البلاغة 2 / 45 و ج 6 / 40.
وراجـع: ج 4 / 289 و ج 5 / 68 من هذا الكـتاب!
وأمّـا قوله: " كان أبو بكر قبل البعثة من أكابر قريش وأشرافها وصناديدها... " إلى آخـره..
فيكـذّبه ما رواه الجاحظ مفاخراً به ـ كما في " شرح النهج "(1) ـ، من أنّ أبا بكر كـان مـن المعـذَّبين بمكّـة قبل الهجرة، وأنّ نوفل بن خويلد، المعروف بابن العَـدَويّة(2)، ضربه مرّتين حتّى أدماه، وشدّه مع طلحة بن عبيـد الله(3) في قَـرَن(4)، وجعلهما في الهاجرة عميرُ بنُ عثمان(5)، ولذلك كانـا يُدعيـان القريـنَـين.
فإنّ مثل ذلك لم يفعلوه إلاّ بأذلاّئهم وعبيـدهم، لا بأشرافهم وصنـاديدهم(6).
____________
1- ص 267 من المجلّد الثالث [ 13 / 253 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: العثمانية: 27 ـ 28.
2- هو: نوفل بن خويلد بن أسد القرشي، أحد كـفّار قريش وأشدّهم عداوةً وأذىً للمسلمين، وكانت أُمّـه من بني عديّ بن خزاعة، فنُسـب إليها، وهو الذي دعا عليه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر بقوله: " اللّهمّ اكـفنا ابنَ العدويّة "; قتله أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) يوم بـدر.
انظر: نسـب قريش: 229 ـ 230، المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 149، أنساب الأشراف 1 / 357، عيون الأثر 1 / 342.
3- سـيأتي تفصيـل أحواله في محلّـه من الجـزء السابع إن شاء الله تعالى.
4- الـقَـرَنُ: الحبـل الذي يُـشَـدُّ به الأسـيران إلى بعضهما بعضاً; انظر: لسان العرب 11 / 139 مادّة " قرن ".
5- هو: عُـمَـير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَـيم، من بني تَـيْم بن مُـرّة، قتله أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) يوم بـدر.
انظر: المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 149، السـيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 3 / 266، أنساب الأشراف 1 / 357، عيون الأثر 1 / 342.
6- انظر: شرح نهج البلاغة 13 / 255.
وقد تبـيّن لك مقدار شرف أبي بكر ممّا تقـدّم آنفاً!
وأمّـا بطولاته; فإنّـه لم يؤثَر عنه أنّـه بارز رجلا واحداً، فضلا عن أن يُـعَـدّ صنديـداً، بل ثبت فراره في عـدّة غزوات; فراجـع الصفحات 417 ـ 425 من هذا الجـزء!
وأمّـا قول الفضل عن أبي بكر ـ المتقـدّم في الصفحة 486 من هذا الجزء ـ: " وكان قاضياً حكماً بينهم "..
فجوابـه: إنّـه لم يُـعهد لأبي بكر عِلم أو حكمة تؤهّـله ليكون قاضياً حكماً بين الناس، ولم يروِ لنا التاريخ مورداً واحداً من ذلك; وإلاّ لاحتكم إليه عتبة بن ربيعة ـ أبو هند، أُمّ معاوية ـ لمّـا اتّـهمها زوجها الفاكه بن المغيرة بالفجور، ولم يتكلّف عناء السفر إلى أحد كُـهّـان اليمن لإظهار براءتها!!
انظر: الأغاني 9 / 66 ـ 67، المسـتطرف 2 / 92.
فلا أدري مَن هؤلاء أرباب التواريخ؟! فإنّي لم أجد أحداً ذَكره!!
وغاية ما ادّعاه الجاحظ في مقام المفاخرة ـ كما ذكره ابن أبي الحديد في " الشرح "(1) ـ، أنّ ماله كان أربعين ألف درهم.
وهذا لا يُعـدّ مالا في قريش، لو سلّمنا أنّ أبا بكر يملكه(2).
____________
1- ص 274 من المجلّد الثالث [ 13 / 273 ]. منـه (قدس سره).
وانظر: العثمانية: 35 ـ 36.
2- تقـدّم أنّ أبا بكر من أقـلّ حيّ وأذلّ وأرذل بيت في قريش، وقد كان بزّازاً يدور في السوق حاملا على رقبته أثواباً ليبيعها، وقيل: كان خيّـاطاً ومعلّماً للصبيان!
انظر: الأعلاق النفيـسـة: 215، كنز العمّال 4 / 33 ح 9360، الصوارم المهرقة: 324، الصراط المسـتقيم 3 / 104.
وراجـع: ج 4 / 289 و ج 5 / 60 هـ 4 و 68 من هـذا الكـتاب، والصفحـة 529 هـ 2 من هذا الجـزء!
نـقـول: لو صحَّ أنّ أبا بكر كان يملك هذا المبلغ من المال، فلا بُـدّ أن يكون قد جمعه من التقتير على العيال، وإشفاقه من تقديم الصدقات، كما سـيأتي بيانه; فلاحـظ!
فكغيره من دعاواه الكاذبة; إذ كيف يصحّ ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرضَ أن يأخذ من أبي بكر بعيراً إلاّ بالثمن عند الهجرة في تلك الحال الشـديدة، كما رواه البخاري(1)، وأحمد(2)، عن عائشة; وذكره ابن الأثير في " الكامل "(3)، والطبري في " تاريخـه "(4)؟!..
وكيف يمكن أن يدّعي لأبي بكر بذل المال(5)، وقد أشفق أن يقدّم بين يدَي نجواه صدقة يسـيرة(6)، وترك أهله المحاويج بلا شيء يوم الهجرة وأخذ ماله معه، وكان خمسة آلاف أو سـتّة آلاف درهم، كما رواه أحمد، عن أسماء بنت أبي بكر(7)، ورواه الحاكم، وصحّحه على شرط
____________
1- في باب هجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، من أواخر أبواب الجزء الثاني من صحيحه [ 5 / 156 ضمن ح 387 ]. منـه (قدس سره).
2- ص 245 ج 5. منـه (قدس سره).
مسند أحمد 6 / 198 و 212.
3- ص 49 من الجزء الثاني [ 2 / 5 ]. منـه (قدس سره).
4- ص 245 و 247 من الجزء الثاني [ 1 / 568 ]. منـه (قدس سره).
5- ولمّا كان بذل ماله من الكـذب البيّن، اضطُـرّ ابن تيميّة إلى تأويل إنفاق أبي بكر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال في منهاج السُـنّة 8 / 551: " إنّ إنفاق أبي بكر لم يكن نفقة على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في طعامه وكسوته; فإنّ الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين، بل كان معونـةً لـه على إقامة الإيمان، فكان إنفاقه في ما يحبّـه الله ورسوله، لا نفقة على نفس الرسـول ".
نـقـول: فلا فرق ـ حينـئـذ ـ بين أبي بكر وبين سائر الصحابة الّـذين كانوا ينفقون أموالهم في سـبيل الإسلام; فلاحـظ!
6- راجـع مبحث آية النجوى في ج 5 / 29 ـ 38 من هذا الكـتاب!
7- ص 350 من الجزء السادس. منـه (قدس سره).
وأيضاً: قد تزوّجت ابنـتُه أسماءُ الزبيرَ وهو فقير لا يملك سوى فرسه، فكانت تخدم البيت وتسوس الفرس وتدقّ النوى لناضحه وتعلفه وتسـتقي الماء، وكانت تنقل النوى على رأسها من أرض الزبير التي أقطعها إيّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي على ثلثَي فرسخ من منزلها، كما رواه البخاري(2)، ومسلم(3)، وأحمـد(4).
فلو كان أبو بكر من أهل البذل، فأين هو عن ابنته وهي بتلك الحـال؟!
نعـم، ادّعت أسماء أنّ أباها أرسل إليها بعـد ذلك خادماً كـفتها سـياسة الفرس، قالت: فكأنّما أعتقني(5).
وأمّـا ما نقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: " ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلاّ أظهر تردّداً ما خلا أبا بكر "..
فكذبٌ ظاهر; فإنّ عليّـاً وخديجـة أظهر منه سلماً وتسليماً.
وكيف يدّعي التردّد لأبي ذرّ وأشـباهه ممّن جاءوا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)قاصدين الإسـلام رغبـةً فيـه(6)؟!
____________
1- ص 5 ج 3 [ المسـتدرك على الصحيحين 3 / 6 ح 4267 ]. منـه (قدس سره).
2- في باب الغيرة من كتاب النكاح [ 7 / 63 ح 153 ]. منـه (قدس سره).
3- في كتاب النكاح، في باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق [ 7 / 11 ]. منـه (قدس سره).
4- ص 347 في الجزء السادس. منـه (قدس سره).
5- انظر المصادر المتقـدّمة.
6- انظر: صحيح البخاري 5 / 136 ح 344، صحيح مسلم 7 / 155 ـ 156، المستدرك على الصحيحين 3 / 382 ح 5456.
____________
1- انظر: معرفة الصحابة 1 / 445، رقم 352، أُسد الغابة 1 / 199 رقم 371، السـيرة الحلبيـة 1 / 198 و 443.
نـقـول: كلام الشـيخ المظـفّر (قدس سره) دقيق; فقد قال: " لِما سمعه من بَحِـيرا الراهب وغيره... وكذلك... "; إذ الحقّ أنّهما سمعا ذلك من غير بَحِـيرا، فقد شاع خبر نبـوّته وانتـشار أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ولادته وبعـدها، في الجزيرة العربيـة وغيرها; إذ بشّـرت به الكـتب السماوية، وتناقل أخباره اليهود والنصارى، كما صرّحت بذلك كـتب القوم.
وإنّما ذكر الشـيخ المظـفّر (قدس سره) بَحِـيرا هنا احتجاجاً على القوم بما زعموه من كون أبي بكر مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره إلى الشام، أو مجاراةً لهم، وإلاّ فإنّ دعوى كونه معه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ سواء في السفرة الأُولى أو الثانية ـ باطلـة; إذ لم يأتِ ذلك في رواية أحدِ نقلة الأخبار، وقد كان عمره الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة أعوام أو اثني عشر عاماً، وأبو بكر أصغر منه سـنّـاً.
وما رواه الترمذي وغيره عن أبي موسى الأشعري ـ مرسلا ـ، من أنّ أبا بكر أرسل بلالا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا أرجعه عمّه أبو طالب إلى مكّـة، فباطل كذلك; لِما تقـدّم من صغر سـنّ أبي بكر حينذاك; فقد كان ابن سـتّ أو تسع سـنين، وبلال أصغر منه سـنّـاً ولم يكن قد وُلد في ذلك الوقت; وبذلك اعترف الحفّاظ وحكموا ببطلان الحـديث..
قال الحافظ شمس الدين الذهبي في ذلك: " وممّا يدلّ على أنّـه باطل قوله: وردّه أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وبلال لم يكن خُلق بعد، وأبو بكر كان صبيّـاً " انظر: ميزان الاعتدال 4 / 306 ـ 307 رقم 4939 ترجمة عبـد الرحمن بن غـزوان.
وقال ابن القيّم الجوزية: " ووقع في كـتاب الترمذي وغيره، أنّـه [ أي: أبو بكر ]بعث معه بـلالا; وهو من الغلط الواضح; فإنّ بلالا إذ ذاك لعلّه لم يكن موجوداً " انظـر: زاد المعاد في هدي خير العباد 1 / 37.
وكـذا قال غيرهما; انظر: عيون الأثر 1 / 55، سـبل الهدى والرشاد 2 / 144، تاريخ الخميـس 1 / 258 ـ 259.
وكان القوم قد وضعوا هذه الأخبار ليثبتوا تقدّم إسلام أبي بكر، لكنّهم أخطأوا في كيفية الوضع; لأنّـهم قد نصّوا على تأخّر إسلامه عن أكـثر من خمسـين رجلا، ولا خلاف بأنّ عمر ـ الذي لم يكن قد وُلد حين السفرة الأُولى، وكان صغير السـنّ أوان السفرة الثانية، وقد سمع أخبار النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير بَحِـيرا ـ قد تأخّر إسلامه عن إسلام أبي بكر!!
انظر: السـير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ: 73 ـ 75 و 81 ـ 82، السـيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 1 / 319 ـ 322 و ج 2 / 5 ـ 6، سـنن الترمذي 5 / 550 ح 3620، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 2 / 24 ـ 29، تاريخ الطبري 1 / 540، المسـتدرك على الصحيحين 2 / 672 ح 4229، تاريخ دمشـق 3 / 425، الكـامل في التـاريخ 1 / 567 ـ 569، الاسـتيعاب 3 / 1155 ـ 1156، البدايـة والنهاية 2 / 225 ـ 228 و ج 7 / 112.
وراجع: ج 5 / 259 هـ 2 من هذا الكـتاب، والصفحة 314 هـ 1 من هذا الجزء!
وإنْ تعجب فاعجب ممّا رووه عن الفرات بن السائب، أنّـه قال: " سألتُ ميمونَ ابن مهران، فقلت: كان عليٌّ أوّل إسلاماً أو أبو بكر؟
فقال: والله لقد آمن أبو بكر بالنبيّ (عليه السلام) زمن بَحِـيرا الراهب، واختلف في ما بيننه وبين خديجـة حتّى أنكحها إيّاه، وهذا كلّه قبل أن يولد عليّ بن أبي طالب ".
وهذا في غاية النكارة; لِما تقـدّم آنفاً، فضلا عن أنّ ميمون بن مهران كان ناصبياً، فقد كان يحمل على عليّ (عليه السلام)، كما عن العجلي وابن حجر; فلا يُقبل له قـول!
انظر: تاريخ الثقات ـ للعجلي ـ: 445 رقم 1669، تاريخ دمشق 30 / 42 ـ 43، تهذيب التهذيب 8 / 447 رقم 7331.
ففيه نظر; قال ابن أبي الحديد(1)، في " شرح الخطبة التي مدح أمير المؤمنيـن (عليه السلام) في بعضها النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) " بقولـه: " لم يُسـهِم فيه عاهرٌ،
____________
1- ص 23 من المجلّد الثالث [ 11 / 67 و 68 ]. منـه (قدس سره).
قال: " في الكلام رمز إلى جماعـة من الصحابة في أنسابهم طعن، كما يقال: إنّ آل سعد بن أبي وقّاص ليسوا من بني زهرة بن كلاب، وإنّهم من بني عُذرة من قحطان.
وكما قالوا: إنّ آل الزبير بن العـوّام من أرض مصر، من القبط.
وقال الهيثم بن عديّ في كتاب (مثالب العرب): إنّ خُويلد بن أسد ابن عبـد العزّى، كان أتى مصراً، ثمّ انصرف منه بالعـوّام فتبـنّـاه.
فقال حسّان يهجو آل العـوّام [ من الطويل ]:
بني أسد! ما بالُ آلِ خُوَيْلِد | يَحنّون شوقاً كلَّ يوم إلى القِبْطِ؟! |
إلى أن قال:
لَعَمْرُ أبي العوّام إنّ خُويلداً | غَداةَ تَبنّاهُ لَيوثَقُ في الشُّرْطِ(1) " |
أقـول:
ولو سامحنا الفضل في أنّ هؤلاء من عيون الرجال، وأنّ كلّ قبائلهم من أشراف القبـائل، فلا نسـلّم أنّ إسلامهم بدعوة أبي بكر، كما يشهد له
____________
1- انظر: ديوان حسّان 1 / 374 رقم 202.
والـشُّـرُطُ: جمع الشَّريطة، وهي شـبه خيوط تُـفتل من الخوص والليف، وقيل: هو الحبل ما كان، سُـمّي بذلك لأنّـه يُشرط خوصُه; أي يُشقّ ثمّ يُـفتل، ويُجمع على شرائط وشريط أيضاً; وقد سكّن الشاعر الراء للضرورة.
انظر: لسان العرب 7 / 85 مادّة " شرط ".
كما أنّ إسلام هؤلاء لم يكن في أوّل يـوم.
ولو كان أبو بكر بهذه المنزلة من لطف الدعوة بحيث أسلم بسببه هؤلاء الجماعة في أوّل إسلامه، لظهر له الأثر الكثير الكبير بعد ذلك بحيث تُسلم مكّـةُ عامّـتها في أقلّ من مدّة سـنة، وما رأيناهم نقلوا إسلامَ أحد بسـببه غير هؤلاء الّذين سمّاهم مع عبـد الرحمن بن عوف!
وقد كشف عن كذب هذه الدعوى أبو جعفر الإسكافي، في ردّه على رسالة الجاحظ، كما حكاه ابن أبي الحديد(2) عنه، قال:
" ما أعجب هذا القول; إذ تدّعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء وحسـن الاحتجاج، وقد أسلم ومعه ابنه عبـد الرحمن فما قدر أن يُدخله في الإسلام طوعاً برفقه ولطف احتجاجه، ولا كرهاً بقطع النفقة عنه وإدخال المكروه عليه، ولا كان له عند ابنه عبـد الرحمن من القدر ما يطيعه في ما يأمره به "..
إلى أنْ قال: " وكان أبو قحافة فقيراً مُدْقعاً سـيّئَ الحال، وأبو بكر عندهم مُثْرِياً فائضَ المال، فلم يمكنه اسـتمالته إلى الإسلام بالنفقة والإحسان، وقد كانت امرأة أبي بكر أُمُّ عبـد الله ابنه... لم تُسلم، وأقامت
____________
1- السـيرة الحلبية 1 / 446 و 448، السـيرة النبوية ـ لدحلان ـ 188 و 189.
2- ص 272 ج 3 [ 13 / 269 ـ 271 ]. منـه (قدس سره).
ثمّ قال أبو جعفر: " وكيف أسلم سعد، والزبير، وعبـد الرحمن، بدعـاء أبي بكر، وليـسـوا من رهـطه، ولا من أترابـه، ولا من جلسـائه، ولا كانت بينهم صداقـة متقـدّمـة [ ولا أُنـس وَكِيـد ]؟!...
وكيف ترك أبو بكر عُتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، لم يدخلهما في الإسلام برفقه وحسن دعائه، وقد زعمتم أنّهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثـه(2)؟!
وما باله لم يدخل جُبير بن مطعم في الإسلام، وقد ذكرتم أنّه أدّبه وخـرّجه، ومنه أخذ جُبير العلم بأنساب قريـش ومآثرها(3)؟!
فكيف عجز عن هؤلاء الّذين عَدَدْناهم، وهم منه بالحال التي وصفنا، ودعا مَن لم يكن بينه وبينه أُنسٌ ولا معرفةٌ إلاّ معرفة عيان؟!
وكيف لم يقبـل منه عمر بن الخطّاب، وقد كان شَكْـلَـه(4)، وأقربَ الناس شـبهاً به في أغلب أخلاقـه؟!
ولَـئِـنْ رجعتم إلى الإنصـاف لَتعلَـمُـنّ أنّ هـؤلاء لم يكن إسـلامهم إلاّ بدعاء الرسول [ لهم ] وعلى يديـه ".
وأمّـا قـولـه: " ولا يـقـدِم رسـولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) [ على أمـر ] إلاّ
____________
1- سورة الممتحنة 60: 10.
2- انظر: العثمانية: 25.
3- انظر: العثمانية: 25، عمدة التحقيق: 28، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ: 51.
4- الـشَـكْـلُ: الـشِّـبْـهُ والمِـثْـلُ; انظر: لسان العرب 7 / 176 مادّة " شكل ".
فـإن أراد بـه المشـاورة عـن حـاجـة، فهـو ظاهـر البطـلان; لأنّ النبـيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم قدراً وأجلّ شأناً من ذلك; كيف؟! وهو مؤيّـد بالوحي، مسـدَّد بالعصمة.
وإنْ أراد به المشاورة لا عن حاجة، فوقوعها في الجملة مسلّم كما أمـره عـزّ وجلّ بقوله: { وشاورهم في الأمر }.
ولا ريب أنّ هذه المشاورة المنـزَّهة عن الحاجة إنّما هي للتأليف، كما يدلّ عليه نفس الآية الكريمة، قال تعالى: { فبما رحمة من الله لِنتَ لهم ولو كُـنتَ فظّـاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك فاعفُ عنهم واسـتغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكّل على الله }(1).
فإنّ قوله سبحانه: { ولو كنت فظّـاً... لانفضُّوا } دليل على ضعف إيمانهم، وأنّـه غيرُ ثابت عن صميم القلب.
فلا بُـدّ أن يكون الأمر بمشاورتهم للتأليف، مضافاً إلى أنّها نازلةٌ في العصاة المنهزمين في أُحـد(2)، ومثلهم يحتاج إلى التأليف.
وقد أخذ الفضل قوله: " لا يقدِم... إلاّ بمشاورته " ممّا ورد عندهم من نزول قوله تعالى: { وشاورهم في الأمر } بأبي بكر وعمر، كما سـبقت روايته قريباً عن الحاكم، والبيهقي، والواحدي، في جهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، من القسم الثاني المتعلّق بالفضائل البدنـيّـة(3).
____________
1- سورة آل عمران 3: 159.
2- انظر: تفسير الفخر الرازي 9 / 63 و 70.
3- راجع الصفحة 418 من هذا الجـزء، وانظر: المسـتدرك على الصحيحين 3 / 74 ح 4436، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 10 / 108 ـ 109، الوسيط 1 / 512 ـ 513، تفسـير الفخر الرازي 9 / 70، الدرّ المنثور 2 / 359.
فيظهـر لك ما فيـه ممّـا ذكرنـا.
وقال أبو جعفر ردّاً على زعم الجاحظ، أنّ مال أبي بكر كان أربعين ألفَ درهم، فأنفقه في نوائب الإسلام، كما في " شرح النهج "(1).
قال أبو جعفر: " أخبِـرونا على أيّ نوائب الإسلام أنفق هذا المال؟! وفي أيّ وجه وضعه؟! فإنّه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويَـدْرُسَ حتّى يفـوت حفـظه، ويُنسـى ذِكـره، وأنـتم لم تـقفوا على شيء أكـثر من عتـقه ـ بزعمكم ـ سـتّ رقاب، لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مئـة درهم ".
وأمّا ما رواه من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّ مِنْ أَمَنِّ الناسِ علَيَّ في صحبته وماله، أبو بكر ".
فهو بالهزل أشـبه! لأنّه إنْ أُريد المنّة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإنفاق عليه، فيبطله روايتهم السابقة امتناع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من أخذ البعير منه إلاّ بالثمـن(2).
على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غنيٌّ عنه وعن أمثاله، وقد تكفّل عليّـاً (عليه السلام) في حياة عمّه شـيخ البطحاء، وطَما(3) فضله على المسلمين عامّة بعد الهجـرة(4).
____________
1- ص 274 من المجلّد الثالث [ 13 / 273 و 274 ]. منـه (قدس سره).
2- راجـع ما تقـدّم آنفاً في الصفحـة 532.
3- طَـمَى الماءُ يَـطْمِـي طَـمْياً، وطَـمَـا يَـطْـمُو طُـمُـوّاً: عَلا وارتفع، وطَـمَـتْ به همّـتُـه: أي عَـلَـتْ به; انظر: تاج العروس 19 / 642 مادّتَي " طمى " و " طمو ".
4- انظر: تفسـير الفخر الرازي 31 / 205، السـيرة الحلبية 1 / 432.