الصفحة 541
فكيف يحتاج إلى مَـنِّ أبي بكر؟!

وإنْ أُريد المنّة عليه بالإنفاق في سبيل الله، فهو ممّا لا وجه له، بل المنّة لله ورسوله عليه، كما أنّ أعظم المنّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه بالصحبة لا له، { قُل لا تمنّوا علَيَّ إسلامكم بل الله يمنُّ عليكم أنْ هداكم للإيمان... }(1)(2).

وليت شعري، لِـمَ لَم يتّخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خليلا؟! أبخلا منه بالخلّـة على مَن هو ـ بزعمهم ـ أهلٌ لها؟!

أم لمانع منها؟! وهو خلّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لله تعالى، كما يظهر من أخبارهم..

ففي حديث البخاري، في آخر باب قول النبيّ: " سدّوا الأبواب إلاّ باب أبي بكر "، قال فيه: " لو كنت متّخذاً خليلا غير ربّي لاتّخذت أبا بكر خليـلا "(3).

وهذا ليس بمانع; لأنّ خلّة المؤمنين ممّا يزيد في القرب إلى الله، والخلّة له، مع أنّ وصف الخليل مختصٌّ بإبراهيم (عليه السلام)، وليس من أوصاف نبـيّـنا المعروفة، وإنّما يوصف بأنّه حبيب الله.

ومن المشـتبه ما رواه البخاري أيضـاً: " لو كنت متّخذاً خليلا لاتّخـذته خليـلا، ولكن أُخـوّة الإسـلام أفضـل "(4).

فإنّ أُخـوّة الإسلام نفس الخلّة الإسلامية، فما وجه الاختلاف

____________

1- سورة الحجرات 49: 17.

2- راجـع ما تقـدّم في الصفحة 532 ـ 533 وما بعـدها.

3- صحيح البخاري 5 / 65 ح 154.

4- صحيح البخاري 5 / 66 ح 157.


الصفحة 542
الحقيقي بينهما والأفضلـيّـة؟!

ولو كانت الأُخـوّة أفضل من ذات الخلّة، لكانت أُخـوّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)لأبي بكر أفضل من خلّـتـه لله سـبحانه!(1).

وأمّـا قوله: " ثمّ لمّا أخذ المشركون في إيذاء المسلمين وتعذيبهم، قام أبو بكر بأعباء أذيّـة قريـش ".

فهو كسابقه في الكذب والهزل; لأنّ مَن لم يقدر على دفع الأذى عن نفسه حتّى أَدْمَـوْهُ وأوثقوه مع طلحة في حبل واحد، كيف يقدر على دفع الأذى عن غيره؟!(2).

وهل كان أعظمَ من شـيخ البطحاء(3)، وأَسَدَي الله ورسوله، حمزة وأمير المؤمنين، وهم لم يقدروا على دفع الأذى عن المسلمين؟!

فكيف قدر عليه أبو بكر، وهو من أرذل بيت في قريش، كما ترويـه(4)؟!

ومن هذا الباب ـ أو أكبر ـ، دعوى ذبّه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن غـرّه ما رواه البخاري، عن عروة بن الزبير(5)، قال: سألت ابن عمرو بن

____________

1- وراجـع: مبحث حديث سدّ الأبواب في الصفحات 105 ـ 121 من هذا الجزء; وكـذا ما كـتبه السـيّد عليّ الحسـيني الميلاني ـ حفظه الله ـ من مباحث حول حديث سدّ الأبواب، سـنداً ودلالة، في الأحاديث المقلوبة في مناقب الصحابة ": 28 ـ 73، وهي الرسالة السابعة من كـتابه: " الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة في كـتب السُـنّة ".

2- راجـع ما تقـدّم في الصفحـة 530 من هذا الجزء.

3- أي: أبو طالب عمّ النبيّ (عليه السلام); وانظر الصفحة 196 هـ 3 من هذا الجـزء.

4- راجـع الصفحة 529 من هذا الجـزء.

5- هو: أبو عبـد الله عروة بن الزبير بن العـوّام الأسدي القرشي، أُمّـه أسماء بنت أبي بكر، فهو أخو عبـد الله لأبيه وأُمّـه، لازم خالته عائشة وتفـقّه بها! ويعـدّ أحد الفقهـاء السـبعة عند الجمهور، عزم على القتال يوم الجمل ضدّ أمير المؤمنين (عليه السلام)فـرُدَّ لصغر سـنّه، سكن البصرة، ثمّ انتقل إلى مصر وتزوّج بها، وعاد إلى المدينـة، وتوفّي بها سـنة 93 هـ، وقيل غير ذلك.

انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 5 / 136 رقم 729، سـير أعلام النبلاء 4 / 421 رقم 168، تهذيب التهذيب 5 / 545 رقم 4698.


الصفحة 543
العاص(1): أخبرني بأشـدّ شيء صنعه المشركون بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

____________

1- هو: أبو محمّـد عبـد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي، كان أصغـر من أبيـه باثنتي عشرة سـنة! أسلم قبل أبيه.

وهو الذي اسـتأذن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يكتب عنه حديثه، فأذن له، قال: يا رسول الله! أكـتبُ كلَّ ما أسمع منك في الرضا والغضب؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم، فإنّي لا أقول إلاّ حقّـاً!

كان مع أبيه في صِفّين في جانب معاوية، وكانت الراية بيده يومئذ، وندم بعد ذلك على قتاله مع معاوية، وكان يقول: ما لي ولِصِفّين؟! ما لي ولِقتال المسلمين؟! لَودِدتُ أنّي مـتُّ قبله بعشرين سـنة.

وقال لجماعة كان فيهم لمّا مـرّ بهم الإمام الحسـين (عليه السلام) يوماً: ألا أُخبركم بأحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟

قالوا: بلى.

قال: هو هذا الماشي، ما كلّمني كلمةً منذ ليالي صِفّين، ولأَنْ يرضى عنّي أحبُّ إليَّ من أن يكون لي حُمرُ النَّـعَم...

فقال له الإمام الحسـين (عليه السلام): أعلمتَ يا عبـد الله أنّي أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟!

قال: إي وربّ الكعبـة!

قال: فما حملك على أن قاتلتني وأبي يوم صِفّين؟! فوالله لأبي كان خيراً منّي!

قال: أجـل!

مات ابن أبي العاص سـنة 63 هـ، وقيل غير ذلك.

انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 4 / 197 رقم 447، معرفة الصحابة 3 / 1720 رقم 1699، الاسـتيعاب 3 / 956 رقم 1618، أُسد الغابة 3 / 245 رقم 3090، الإصابة 4 / 192 رقم 4850.


الصفحة 544
قال: بَـيْـنا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي في حجر الكعبـة، إذ أقبل عقبة بن أبي مُعيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتّى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: { أتقتلُون رجلا أن يقول ربّيَ اللهُ }(1)؟!(2).

وما أدري أَأَنظرُ إلى متن الحديث ودلالته على أنّ هذا أشدّ شيء صنعـه المشركون بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والحال أنّهم صنعوا معه أشدّ منه أضعافاً كـثيرة; كحصاره وأهله وقومه بالشِعب سـنين(3)، وتشـريده من مكّـة مراراً(4)، ورميه بالحجارة حتّى أَدْمَـوْا جبهته الشريفة وساقَـيـه(5)، وكسروا رباعـيّـته(6)، وأدخلوا حَـلَق المِـغْـفَرِ في وجهه الشـريف(7).

.. إلى غير ذلك من أفعالهم الشـنيعة(8).

____________

1- سورة غافر 40: 28.

2- صحيح البخاري 5 / 134 ح 338، ونحوه في ص 75 ح 175.

3- تاريخ الطبري 1 / 550، الكامل في التاريخ 1 / 604، البداية والنهاية 3 / 67.

4- تاريخ الطبري 1 / 554، السـيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 90، الكامل في التاريخ 1 / 607.

5- المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 244، تاريخ الطبري 2 / 67، البداية والنهاية 4 / 19 ـ 20.

6- مسـند أحمد 3 / 99، المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 248، تاريخ الطبري 2 / 65، البداية والنهاية 4 / 19.

7- المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 246 ـ 247، الكامل في التاريخ 2 / 49.

8- كإلقائهم سَلَى جزور وفرثه وقذره على ظهره ورقبته وهو ساجد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاءت ابنته وبضعته فاطمـة الزهـراء (عليها السلام) فألقتـه عنه.

والسَّـلَى، أو: السُّـلَيّ: الجلدة الرقيقـة التي يكون فيها الولد من الدوابّ والإبل، وهو من الناس المَشِـيمة.

انظر: السـيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 83، عيون الأثر 1 / 128، السـيرة النبوية ـ لابن كثير ـ 1 / 468، لسان العرب 6 / 353 مادّة " سلا ".

هـذا فضلا عن وصفهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّـه ساحر، وكـذّاب، وشاعر، ومجنون، ومعلَّم..

قال تعالى: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كـذّاب) سورة ص 38: 4.

وقال عـزّ وجلّ: (ويقولون أإنّـا لَـتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) سورة الصافّات 37: 36.

وقال سـبحانه: (ثمّ تولَّوا عنه وقالوا معلَّـم مجنون) سورة الدخان 44: 14.


الصفحة 545
ودلالته أيضاً على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا حراك به ولا قوّة حتّى يخنقه عقبةُ خنقاً شديداً ولا يقدر على تخليص نفسه، وأنّ أبا بكر شجاعٌ قويُّ القلب والبدن والجانب، حتّى أخذ بمنكب عقبة ودفعه من دون أن يلاقيه بالمثل؟!

أم أنظر إلى سـنده ورجاله وهم من أسوأ الرجال؟!

فإنّ منهم: عروة(1)، وابن أبي العاص(2)، الخارجـيَّـين(3).

ومنهم مَن تقدّمت ترجمته في مقدّمة الكتاب، وهما:

يحيى بن أبي كـثير، المدلّـس(4)..

والوليد بن مسلم، مولى بني أُميّة، الكذّاب، المدلّس عن الكذّابين، ولا سـيّما في روايته عن الأوزاعي(5)، كهذه الرواية.

____________

1- تقـدّمت ترجمته آنفاً في الصفحة 542 هـ 5.

2- أي: عبـد الله بن عمرو بن العاص.

ونسـبه الشـيخ المظـفّر (قدس سره) إلى أبيه بكـنيته، وإنّما كان اسمه " العاص " قبل أن يغـيّره رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى " عبـد الله ".

وقد تقـدّمت ترجمته آنفاً في الصفحـة 543 هـ 1; فراجـع!

3- وصفهما الشيخ المظفّر (قدس سره) بـ " الخارجـيَّـين " لانحرافهما عن أهل البيت (عليهم السلام).

4- انظر: ج 1 / 275 رقم 346 من هذا الكـتاب.

5- انظر: ج 1 / 267 ـ 268 رقم 336 من هذا الكـتاب.


الصفحة 546
ومنهم: محمّـد بن إبراهيم التيمي، راوي المناكير، كما قاله أحمد بن حنبل(1); مع أنّـه متّهمٌ في حـقّ أبي بكر، كعروة.

وأمّـا قوله: " كان يشـتري المعذَّبين من الكـفّار... " إلى آخـره..

فقـد أجـاب عنه أبو جعفـر، كما حكاه عنه ابن أبي الحـديد(2)، بعـد قـول الجاحـظ: " أعتـق أبو بكر جماعـةً مـن المعـذَّبيـن فـي الله، وهم سـتُّ رقاب، منهم: بلال(3)، وعامر بن فُـهَيرة(4)، وزبيـرة

____________

1- انظر: الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ 4 / 20 رقم 1574، الكامل في ضعفاء الرجال 6 / 131 رقم 1633، ميزان الاعتدال 6 / 32 رقم 7103، تهذيب التهذيب 7 / 6 ـ 7 رقم 5890، لسان الميزان 5 / 20 رقم 76.

2- ص 274 ج 3 [ 13 / 273 ]. منـه (قدس سره).

وانظر: العثمانية: 33 ـ 34.

3- هو: أبو عبـد الله بلال بن رَباح، الحبشي، واسم أُمّـه: حمامة، كان آدَمَ شديد الأدمة، نحيفاً طُوالا، خفيف العارضين، من السابقين إلى الإسلام، شهد بدراً وأُحـداً والمشاهد كلّها مع رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو من مولّدي السَّراة، وقيل: من مولّدي مكّـة، وكان يؤذّن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حياتَـه سفراً وحضراً، وكان خازنه على بيت المال، آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينه وبين عبـيدة بن الحارث بن عبـد المطّلب، ولم يُعقِب بلال ولداً، توفّي بدمشـق سـنة 20 هـ، وهو ابن بضع وسـتّين سـنة، ودُفن بمقبرة الباب الصغير، وقيل غير ذلك.

انظر: تاريخ الصحابة: 43 رقم 106، معرفة الصحابة 1 / 373 رقم 271، الاسـتيعاب 1 / 178 رقم 213، أُسد الغابة 1 / 243 رقم 493، الإصابة 1 / 326 رقم 736.

4- هو: أبو عمرو عامر بن فُـهَـيْـرَة، من المهاجرين الأوّلين، كان مولّداً من مولّدي الأزد، أسود اللون، وكان مملوكاً للطفيل بن عبـد الله بن سَـخْـبَـرَة، وهو أخو عائشة وعبـد الرحمن لأُمّـهما، شهد بدراً وأُحـداً، ثمّ قُـتل يوم بئر معونة سـنة أربـع للهجرة وهو ابن أربعين سـنة.

انظر: معرفة الصحابة 4 / 2051 رقم 2131، الاسـتيعاب 2 / 796 رقم 1338، أُسد الغابة 3 / 32 رقم 2722، الإصابة 3 / 594 رقم 4418.


الصفحة 547
النهديّـة(1)، وابنتها، ومـرَّ بجارية يعذّبها عمر بن الخطّاب، فابتاعها منه، وأعتـقها، وأعتـق أبـا عيسـى(2) ".

قال أبو جعفر: " أمّا بلال وعامر فإنّما أعتقهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، روى ذلك الواقدي، وابن إسحاق، وغيرهمـا.

وأمّا باقي مواليهم الأربع، فإن سامحناكم في دعواكم، لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال ـ لشدّة بغض مواليهم لهم ـ إلاّ مئـة درهم أو نحوها، فأيُّ

____________

1- كذا في الأصل، وضُبط اسمها في نسخة في هامش " الاسـتيعاب " ـ كما في المتـن ـ: " زبيرة " فقط بلا لقب، وقد اختلفت المصادر في ضبط اسمها ولقبها، والمشـهور هو: " زِنِّـيْـرة ".

وهي: زِنّـيرة، الـنَـهْـديّـة، الـُّروميّـة، مولاة بني مخزوم، وقيل: كانت مولاة بني عبـد الدار، كانت من السابقات إلى الإسلام، وممّن عُـذّب في سـبيل الله، وكان أبو جهل يعـذّبها، ولمّا أسلمت ذهب بصرها، فقال المشركون: أعمتها اللات والعزّى لكفرها بهما; فقالت: وما يُدري اللات والعزّى مَن يعبدهما؟! فـردّ الله عليها بصـرها.

انظر: السـير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ: 191، العثمانية: 33، معرفة الصحابة 6 / 3345 رقـم 3893، الاسـتيعاب 4 / 1849 رقم 3354، الـروض الأُنُـف 2 / 85 و 88، أُسد الغابة 6 / 123 رقم 6940، شرح نهج البلاغة 13 / 273، الإصابة 7 / 664 رقم 11216.

2- كذا في الأصل والمصدر; وفي الروض الأُنف: " أُمّ عميس "; وفي المصادر الأُخرى: " أُمّ عُـبَـيْـس "; والتصحيف في الاسم بـيّـن; فلاحـظ!

وهي ممّن سـبق إلى الإسلام وعُـذّب في الله، وهي زوج كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبـد شمس، ولدت لهُ عبيساً فكُـنّيت به، كانت أَمةً لبني تيم بن مـرّة، وقيل: لبني زهرة، وكان الأسود بن عبـد يغوث يعـذّبها.

انظر: السـير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ: 191، العثمانية: 34، معرفة الصحابة 6 / 3542 رقم 4151، الاسـتيعاب 4 / 946 رقم 4182، أُسد الغابة 6 / 365 رقم 7526، شرح نهج البلاغة 13 / 273، الإصابة 8 / 257 رقم 12159، الروض الأُنف 2 / 88.


الصفحة 548
فخر في هذا؟! ".

وأمّا قوله: " فأنزل الله فيه: { ثانيَ اثنين... }(1)... " إلى آخره..

فـيَـرِدُ عليه: إنّ الاسـتدلال على فضله بهذه الآية بأُمور كلّها باطلةٌ:

الأوّل: قوله تعالى: { ثانيَ اثنين } بدعوى دلالته على أنّ أبا بكر أحد اثنين في الفضل والشرف، ولا فضل أعظم من كون أبي بكر قريناً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفضل.

وفيـه: إنّـه لو أُريد الاثـنينيّة في الفضل والشرف، لكان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ بلحاظ أنّه المراد بالثاني ـ متأخّراً رتبة عن أبي بكر في الفضل والشرف; وهو كـفـرٌ!

فليس المراد بـ { ثانيَ اثنين } إلاّ ما هو ظاهر اللفظ; أعني مجـرّد الإخبار عن العـدد، وهو لا يدلّ على الفضل بالضرورة!

الثاني: إنّه جعله صاحباً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والصحبة في هذا المقام العظيـم منزلـةٌ عظمى.

وفيـه: إنّ الصحبة ـ بما هي صحبة ـ لا تدلُّ على أكثر من المرافقة والاصطحاب، وهو قد يكون بين المؤمن وغيره، كما قال تعالى: { قال له صاحبُـه وهو يحاوره أَكفرتَ بالذي خلقك... }(2).

وأمّـا خصوصيّـة المقام، فلا أثر لها إلاّ إذا كانت لحاجة ورغبة في أبي بكر لذاته، فيكون الدالّ على الفضل هو الرغبة في صحبة أبي بكر لذاتـه، وهو ممنـوعٌ; إذ لا إشارة في الآية الكريمة إليه، وأخبارهم

____________

1- سورة التوبة 9: 40.

2- سورة الكهف 18: 37.


الصفحة 549
مدخـولة!

على أنّ رواية البخاري وغيره، الواردة في هجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، مصرّحةٌ بأنّ أبا بكر هو الذي طلب الصحبة لمّا قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " قد أُذن بالخروج إلى المدينـة "(1).

ولا شكّ عندنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصحبه إلاّ خشـية أن يُطْلِـع عليه أحداً حيث أحسّ بخروجه، وجاءت به بعض روايات القوم، كما نقله السـيّد السعيد (رحمه الله) عن أبي القاسم الصبّاغ(2)، من علماء الجمهور، في كتابه " النـور والبرهـان "(3).

وكيف يكون في صحبة أبي بكر خيرٌ للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ابتُـلي به فوق بلائـه، واحتاج إلى مداراته في دفع الخوف عنه؟!

ولو كان لأبي بكر فضلٌ لعبَّر الله سـبحانه عنه ببعض ألفاظ التعظيم والإكرام، كـ " الأخ " و " النفس "، ونحوهما، لا بـ " الصاحـب "، كما عبَّـر

____________

1- انظر: صحيح البخاري 5 / 156 ح 387، مسند أحمد 6 / 198 و 212، تاريخ الطبري 1 / 568.

2- هو: أبو القاسم عليّ بن أبي نصر عبـد السـيّد بن محمّـد بن عبـد الواحد بن الصبّـاغ البغـدادي (461 ـ 542 هـ).

كان شـيخاً فاضلا محترماً، حسن السـيرة، تبعه خلق عظيم، سمع من أبيه شـيخ الشافعية أبي نصر ابن الصبّاغ والصريفيني والزينبي، وحدّث عنه جمعٌ، منهم: السلفي وابن عساكر والسمعاني; وقد ذكره السـبكي في عدّة مواضع من كـتابه " طبقات الشافعية "، وكان هو آخر من روى ببغداد كتابَ ابن مجاهد في القـراءات.

انظر: سـير أعلام النبلاء 20 / 167 رقم 102، العبر 2 / 462، شذرات الذهب 4 / 131.

3- انظر: إحقاق الحقّ: 479 الطبعة الحجرية.


الصفحة 550
عن عليّ بـ " الأنفـس "(1) و " الّـذين آمنـوا "(2).

الثالث: إنّه قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): { لا تحزنْ إنّ الله معنا }(3)، أي: معنا بلحاظ نصرته ورعايته لنا، ومَن كان شريكاً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في نصرة الله له كان من أعظم الناس.

وفيـه: إنّ المقصود بالنصرة والرعاية واقعاً هو النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمّا أبو بكر فتابِـعٌ مَـحْـضٌ; ولذا خصّه الله تعالى بقوله: { فقد نصرهُ الله إذ أخرجه الّـذين كفروا ثانيَ اثـنين }(4).. الآيـة.

والتبعيّة في النصرة ـ لأجل الاجتماع ـ لا تدلّ على فضل بالضرورة.

الرابع: قوله تعالى: { فأنزل الله سَكينته عليه }(5)، فإنّ كـثيراً من الناس قالوا: إنّ السَـكينة مخصوصةٌ بأبي بكر; لأنّه المحتاج إليها لِما تداخله من الحزن والهلع، بخلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه عالِمٌ بأنّه محـروسٌ من الله تعالى(6).

وفيه: إنّه لا يتّجه إرجاع السَكينة إلى أبي بكر; لأنّ بعدها { وأيّده بجنود لم تروها }(7)..

____________

1- إشارة إلى قوله تعالى: (فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم...) سورة آل عمران 3: 61.

راجـع مبحث آية المباهلة في ج 4 / 399 ـ 410 من هذا الكـتاب!

2- إشارة إلى قوله تعالى: (إنّما وليّـكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) سورة المائـدة 5: 55.

راجـع مبحـث الآية في ج 4 / 297 ـ 313 من هذا الكـتاب!

(3 ـ 5) سورة التوبة 9: 40.

6- انظر مثلا: تفسير الماوردي 2 / 364، تفسير البغوي 2 / 250، تفسير الفخر الرازي 16 / 67 ـ 68، تفسير القرطبي 8 / 95، تفسير ابن كـثير 2 / 343.

7- سورة التوبة 9: 40.


الصفحة 551
ودعوى عدم حاجة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الى السَكينة، باطلة; إذ لا يسـتغني أحـدٌ عن لطف الله وتأييده وتثبيت قلبه، كما قال تعالى في قصّة حُنين: { وضاقت عليكم الأرضُ بما رحُبت ثمّ ولّيتم مدبرين * ثمّ أنزل الله سَـكينته على رسوله وعلى المؤمنين }(1).

فلمّا خصّ اللهُ نبيّه بالسَكينة في آية الغار، ولم يُـجْرِ أبا بكر مجرى المؤمنين في ثبوت السَـكينة له معه، كَشف عمّا لا خفاء به عليك!

كما إنّ ظهور الحزن منه في موطن لا ينبغي للمؤمن حقّاً أن يحزن فيه، دليـلٌ على نقصانه; فإنّه قد ظهر على يد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من الآيات البيّـنة والكرامات الظاهرة ما يشهد لكلّ مؤمن بالحفظ والسلامة; كإنبات الشجرة، ونسج العنكبوت، وتعشـيـش الطائر، وخروج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين القوم في حال لا يُرجى لغيره الخروج فيها.. إلى غير ذلك(2).

فالآيـة من أوضح الأدلّة على ذمّ أبي بكر; لعدم إدخالها له بالسَـكينة; ودلالتها على حزنه في مقام لا يحزن فيه كاملُ الإيمان، بل المؤمن; وإعراضها عن مدحه أصلا; ودلالتها على حزنه المحـرّم، كما يقتضيـه النهي..

فكيف يُـقاس مَن يحزن ويهلع ـ مع هذه الآيات الواضحة ـ بمن شرى نفسه ابتغاءَ مرضاةِ الله، وبات على زِيّ(3) النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بين مَن

____________

1- سورة التوبة 9: 25 و 26.

2- انظر: السـيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 126 وما بعدهـا، الروض الأُنف 2 / 319 وما بعـدها، البدايه والنهاية 3 / 141 ـ 143.

3- الـزِّيُّ: الـهَـيْـئـة من الناس، والجمع: أَزياء; انظر: لسان العرب 6 / 130 مادّة " زيا ".


الصفحة 552
يطلبون سفك دمه، ولا يُرجى منهم الخروج؟!

فإنْ قلت: يَـرِدُ النقضُ على بعض ما ذكرته بما جاء في الأنبـياء، قال تعالى: { فأَوجسَ في نفسهِ خيفةً موسى * قلنا لا تَخَفْ }(1)، فإنّ موسى ـ مع نبوّته، وعظيم شأنّه، وثبات إيمانه، ووعد الله له ولأخيه بأن يجعل لهما سلطاناً، وأنّهم لا يصلون إليهما، وأنّهما ومَنِ اتّبعهما الغالبون ـ أوجـس في نفسه خيفةً، حتّى نهاه الله تعالى; فكيف يُنكر على أبي بكر حـزنه عند ظهور الآيات له؟!

وأيضاً: فقد نهى اللهُ سـيّدَ رسله فقال: { ولا تَحزنْ عليهم ولا تَكُ في ضَـيْـق ممّا يمكُرون }(2)..

وقال تعالى: { ومَن كفرَ فلا يحزنـك كفـرُهُ }(3)..

وقال تعالى: { قد نعلمُ إنّه ليحـزُنـكَ الذي يقولون }(4)..

[ وقال تعالى: ](5) { فلا يحزُنـكَ قولُهم }(6)..

فكيف يُـلام أبو بكر ويُـنكر عليه، وهو مِن أُمّـته؟!

قلـت: أمّا موسى فلم يحزن خوفاً على نفسه، أو من عدم غلبته، بل خاف إيقاع السحرة في أوهام البسطاء إمكانَ معارضةِ آياته تشـبّـثاً في مقام الجدال بالأُمور الصورية الكاذبة، فيعسر عليه الانتصار والغلبة سريعاً;

____________

1- سورة طـه 20: 67 و 68.

2- سورة النحل 16: 127.

3- سورة لقمان 31: 23.

4- سورة الأنعام 6: 33.

5- أثبـتـناه لتوحيـد النسـق.

6- سورة يـس 36: 76.


الصفحة 553
ولذا قال سـبحانه: { لا تخف إنّك أنتَ الأعلى * ... إنّما صنعوا كيدُ ساحر ولا يُفلح الساحرُ حيثُ أتى }(1).

فليـس نهيه نهي تحريم، بل للتطمين بالنصر السريع بإلقاء عصاه.

ومنه يُعلم الوجه في قوله تعالى: { ولا تكُ في ضَيْـق ممّا يمكُرون }(2)، وقوله سـبحانه: { فلا يحزنـكَ قولُهم... }(3).

وأمّا نهي الله تعالى له عن الحزن على الكافرين وكفرهم، فالمراد به التنبيه على عدم الاعتناء بهم، وعدم اسـتحقاقهم للحزن والأسف عليهم بإهلاكهم أنفسَهم، كما قال تعالى: { فلا تذهبْ نفسُكَ عليهم حسرات }(4).

وهـذا هـو ظاهـر الآيات بلا حاجة إلى تكلّف، بخلاف نهي أبي بكر!

على أنّ تلك الآيات لو لم تكن ظاهرة بما قلنا، فلا بُـدّ من حملها عليه; للعلم بكمال الأنبياء وعصمتهم، بخلاف أبي بكر، ولا سـيّما مع سهولة الحمل في تلك الآيات دون ما يتعلّق بأبي بكر، بل هو متّضح الحال، وأنّ حزنه لإشفاقه من القتل، كما تدلّ عليه الأخبار.

وأمّـا قوله: " وأثنى عليه في كـتابه العزيز في مواضعَ عديدة "..

فهو كذبٌ مفترىً، بدليل ما رواه البخاري في سورة الأحقاف من

____________

1- سورة طـه 20: 68 و 69.

2- سورة النحل 16: 127.

3- سورة يـس 36: 76.

4- سورة فاطر 35: 8.


الصفحة 554
" كتاب التفسـير "، عن يوسف بن ماهك، أنّ مروان قال: " إنّ هذا ـ يعني عبـد الرحمن بن أبي بكر ـ الذي أنزل الله فيه: { والذي قال لوالديه أُفّ لكما أَتعِدانِـني }(1)، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شـيئاً من القرآن، إلاّ أنّ الله أنزل عذري "(2).

إذ لو نزلت آيةٌ في مدح أبيها لاسـتـثـنـتها أيضاً، فمن أين جاؤوا بالآيـات العديـدة؟!

ولا ينافي هذا العمومُ آيةَ الغار; لنزولها في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكـنّها دلّت على خطابه لأبي بكر، وهو ليـس نزولا فيه!

وأشـهر ما زعموا نزوله في أبي بكر قوله تعـالى: { وسـيجـنّـبـها الأتقى * الذي يؤتي مالَه يتزكّى * وما لأحد عندهُ من نعمة تُجـزى }(3).

رَوَوْا ذلك عن عروة وعبـد الله، ابنَي الزبير(4)، وهو ـ مع كونه عن رأيهما قول ـ محلُّ التهمـة، وأعدى عـدوّ لعليّ، وممّـن حاربه يوم الجمـل.

وقد مرّ أنّ بغضه ـ فضلا عن حربه ـ علامةُ النفاق(5)، والمنافق فاسق لا يُـقبل رأيه في التفسـير وروايـتِـه، ولا كرامـة!

____________

1- سورة الأحقاف 46: 17.

2- صحيح البخاري 6 / 237 ح 323.

3- سورة الليل 92: 17 ـ 19.

4- انظر: تفسير الطبري 12 / 620 ح 37490، لباب النقول: 230.

5- راجع مبحث حديث: " لايحبّك إلاّ مؤمن... "، في الصفحات 147 ـ 151 من هـذا الجـزء.


الصفحة 555
على أنّه معـارَضٌ برواية أُخرى; فقد رووا نزولها في عليّ (عليه السلام)، أو أبي الدحداح(1)، أو غيرهـم(2).

وقال ابن حجر في " الصواعق "(3): " ولا يمكن حملها على عليّ خلافاً لِما افتراه بعض الجهلة; لأنّ قوله: { وما لأحد عنده من نعمة تجـزى }(4) يصرفه عن حمله على عليّ; لأنّ النبيّ ربّاه فله عليه نعمة، أي نعمة تجزى، وإذا خرج عليٌّ تعيّن أبو بكر; للإجماع على أنّ ذلك { الأتقى } أحدهما لا غيـر ".

____________

1- هو: أبو الـدَّحْداح الأنصاري، وقيل: أبو الـدَّحْداحة بن الـدَّحْداحة الأنصاري، وقيل: اسمه " ثابت بن الـدَّحْداح "، ولم يُـذكر له اسم ولا نسـب، ولم يُـذكر عنه أكـثر من أنّـه من الأنصار، حليف لهم، وقيل: قتل شهيداً في يوم أُحد، وقيل: بـل بقي إلى زمان معاوية.

انظر: معرفة الصحابة 5 / 2882 رقم 4196 و ج 1 / 472 رقم 382، الاسـتيعاب 4 / 1645 رقم 2939 و ج 1 / 203 رقم 251، أُسد الغابة 5 / 96 رقم 5857 و ج 1 / 267 رقم 545، الإصابة 7 / 119 رقم 9858 و ص 121 رقم 9859 و ج 1 / 386 رقم 879.

2- انظر: مسند أحمد 3 / 146، تفسير الثعلبي 10 / 220 ـ 221، تفسير الفخر الرازي 31 / 205، الدرّ المنثور 8 / 532 ـ 538، مجمع البيـان 10 / 335.

وقد تكلّم السـيّد عليّ الحسـيني الميلاني ـ حفظه الله ـ على الاسـتدلال بما روي في نزول هذه الآية، في كـتابيه: الإمامة في أهمّ الكـتب الكلامية: 119 رقم 366، محاضرات في الاعتقادات 1 / 341.

وكذا فعل السـيّد حسن الحسـيني آل المجدّد الشـيرازي ـ حفظه الله ـ فقد فصّل الكلام على هذه الرواية سـنداً ومتـناً وما يتعلّق بذلك من مباحث، في مقاله: " نقض رسالة (الحبـل الوثيق في نصرة الصدّيق) للسـيوطي "، المنشور في مجلّة " تراثـنا "، العدد المزدوج 43 ـ 44، السـنة 11، رجب 1416 هـ، ص 86 ـ 143.

فراجـع!

3- في الفصل الثاني من الباب الثالث [ ص: 98 ]. منـه (قدس سره).

4- سورة الليل 92: 19.


الصفحة 556

وأقـول:

تكـرّر هذا الكلام بينهم وتشدّقوا به، وهو جهل وتعصّب; إذ ليس المراد بقوله تعالى: { وما لأحد عنده مِن نعمة تُجزى } هو الثناء على الأتقى بأنّه لا يد لأحد عنده; إذ لا يوجد أحد من بني آدم إلاّ ولأحد نعمةٌ عليه، إذ لا أقـلّ من أحد أبويه، أو غيرهما من المربّين والكافلين، سواء في ذلك عليٌّ، أم أبو بكر، أم غيرهما!

بل المراد: هو الثناء عليه بأنّه لم ينفق ماله لأجل مكافأة أحد بنعمة له عليه، بل أنفق ماله ابتغاء وجه ربّـه الأعلى.

ولذا صحَّ الاسـتثناء في الآية، فإنّه لا معنى لاسـتثناء قوله: { إلاّ ابتـغاء وجه ربّه الأعلى }(1) من مجـرّد مدح الشخص بأن لا يد لأحد عليـه.

ثمّ كيف جاز لهم أن ينفوا نعمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أبي بكر؟!

ألَـمْ ينعم عليه بدعوته إلى الإسـلام ورفع شأنه؟!

ألَـمْ ينعم عليه بالغنائم وغيرها؟!

{ وما نقموا إلاّ أن أغناهم اللهُ ورسولُه من فضله... }(2).

وأمّـا قولـه: " ولـم يـقـدر أحـد مـن الشـيـعـة أن يـدّعـي أنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غزا غزوةً وتخلّف عنه أبو بكر "..

فلو صحَّ، فهم يقدرون على إثبات تخلّفه عن أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في

____________

1- سورة الليل 92: 20.

2- سورة التوبة 9: 74.


الصفحة 557
الخروج تحت لواء أُسامة(1).

ويقدرون على إثبات أنّه ما قاتل ولا هَمّ بقتال إلاّ مرّةً واحدةً ـ كما رواه القوم ـ لمّا تقدّم ابنه عبـد الرحمن في غزاة أُحد، وطلب المبارزة، فقـام إليه أبو بكر، فقـال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " شِمْ(2) سَـيفَـك وأَمتِـعنا بنفسـك "(3) ـ مشـيراً إلى جبنـه ـ مع حُـنُـوّ(4) الولد على أبـيـه.

ويقدرون على إثبات أنّه فـرّ في مقامات الزحام، كخيبر وأُحـد وحُنين ـ كما سـبق نقله من أخبارهم(5) ـ، وتسـتّر بالعريش في بدر(6).

فأيُّ فائـدة في عدم تخلّـفه؟!

وأمّـا قوله: " وإجماع الأُمّة على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقدّمه

____________

1- انظر: تاريخ دمشق 8 / 60 ـ 63، شرح نهج البلاغة 1 / 160 و ج 5 / 52 و ج 17 / 175.

وقد مـرّ تخريج ذلك مفصّـلا في ج 4 / 319 هـ 6 و ج 5 / 213 هـ 1 من هذا الكـتاب; فراجـع!

2- شامَ السـيفَ شَـيْماً: سَـلَّه وأغمده، وهو من الأضداد; وهو هنا فعلُ أمـر بمعنى: أَغمِـد; انظر: لسان العرب 7 / 262 ـ 263 مادّة " شـيم ".

3- انظر: شرح نهج البلاغة 13 / 281، البداية والنهاية 4 / 12.

قال أبو جعفر الإسكافي ـ كما في " شرح النهج " ـ: " لم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأمتِعنا بنفسك; إلاّ لعلمه بأنّه ليس أهلا للحرب وملاقاة الرجال، وأنّـه لو بارز لـقُـتل ".

4- الـحُـنُـوُّ: العطف والشفقة; يقال: حَـنا يَـحْـنو حُـنُـوّاً، وحَـنا عليه يَـحْـنو، وأَحْنى يُـحْـني; انظر: لسان العرب 3 / 371 مادّة " حنا ".

5- راجـع: ج 5 / 57 هـ 1 و ص 77 هـ 1 و ص 82 من هذا الكـتاب، ومبحث حـديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّي دافـع الراية غداً... " في الصفحات 89 ـ 101 من هذا الجـزء!

6- انظر: تاريخ الطبري 2 / 33، المغازي ـ للواقدي ـ 1 / 55، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 3 / 173، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ: 167، عيون الأثر 1 / 306.