89
رأي الخليفة في صوم رجب
عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر بن الخطاب يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعونها في الطعام ويقول: رجب وما رجب، إنما رجب شهر كان يعظمه أهل الجاهلية فلما جاء الاسلام ترك (1).
قال الأميني: لقد عزب عن الخليفة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خصوص صوم رجب والترغيب فيه وذكر المثوبات الجزيلة له من ناحية.
وما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في صوم ثلاثة أيام من الأشهر كلها وهو يعم رجبا وغيره من ناحية أخرى.
وما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في صوم خصوص الأشهر الحرم ومنها شهر رجب من ناحية ثالثة.
وما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الترغيب في صوم يوم وإفطار يوم من تمام السنة وفيها شهر رجب من ناحية رابعة.
وما جاء في التطوع بمطلق الصوم والترغيب فيه من أي شهر كان وهذه خامسة النواحي التي فاتت المانع عن صوم رجب فهلم معي فاقرأها.
الطائفة الأولى:
عن عثمان بن حكيم قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب فقال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر. ويفطر حتى نقول: لا يصوم.
وفي لفظ البخاري: كان يصوم حتى يقول القائل: لا والله: لا يفطر ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم.
راجع صحيح البخاري 3 ص 215، صحيح مسلم 1 ص 318، مسند أحمد 1 ص 326، سنن أبي داود 1 ص 381، سنن البيهقي 4 ص 291، تيسير الوصول 2 ص 328.
2 - عن أمير المؤمنين علي عليه السلام مرفوعا: رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، من صام يوما من رجب فكأنما صام سنة، ومن صام منه سبعة أيام غلقت
____________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي 3 ص 191، وكنز العمال 4 ص 341.
مجمع الزوائد 3 ص 191، الغنية للجيلاني 1 ص 198 وله هناك أحاديث بألفاظ أخر عن أمير المؤمنين، ورواه الجرداني في مصباح الظلام 2 ص 82 من طريق البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك.
3 - عن أبي هريرة مرفوعا: لم يتم صوم شهر بعد رمضان إلا رجب وشعبان. مجمع الزوائد 3 ص 191، الغنية 1 ص 200.
4 - عن أنس بن مالك مرفوعا: إن في الجنة قصرا لا يدخله إلا صوام رجب.
أخرجه ابن شاهين في الترغيب كما في كنز العمال 4 ص 341، وذكره الجيلاني في الغنية 1 ص 200.
وأخرج البيهقي عن أنس مرفوعا: إن في الجنة نهرا يقال له: رجب. أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر.
ورواه الشيرازي في الألقاب، وذكره الزرقاني في شرح المواهب 8 ص 108، والجيلاني في الغنية 1 ص 200، والسيوطي في الجامع الصغير وقال المناوي في شرحه 2 ص 470: هذا تنوية عظيم بفضل رجب ومزية الصيام فيه.
5 - أخرج ابن عساكر عن أبي قلابة إنه قال: إن في الجنة قصرا لصوام رجب.
وذكره القسطلاني في المواهب اللدنية كما في شرحه 8 ص 128، والسيوطي في جميع الجوامع كما في ترتيبه 4 ص 341.
6 - أخرج أبو داود عن عطاء بن أبي رباح: إن عروة بن الزبير قال لعبد الله بن عمر: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في رجب؟ قال: نعم ويشرفه. قالها ثلاثا.
وذكره القسطلاني في المواهب كما في شرحه 8 ص 128، والرفاعي في ضوء الشمس 2 ص 67.
7 - عن مكحول قال: سأل رجل أبا الدرداء رضي الله عنه عن صيام رجب، فقال له: سألت عن شهر كانت الجاهلية تعظمه في جاهليتها وما زاده الاسلام إلا فضلا
الحديث. ذكره الجيلاني في الغنية 1 ص 198.
وهناك أحاديث جمة في فضل صوم رجب وأول خميس منه ويوم السابع والعشرين.
منه خاصة من طريق أبي سعيد الخدري. والإمامين السبطين. وأنس بن مالك. وأبي هريرة. وسلمان الفارسي. وأبي ذر الغفاري. وسلامة بن قيس. وابن عباس. أسلفنا شطرا منها في الجزء الأول ص 407. وجمعها الجيلاني في الغنية 1 ص 196 - 205، وذكر بعضها صاحب مفتاح السعادة ج 3 ص 46، وأورد عدة منها الجرداني في مصباح الظلام 2 ص 81، 82، والرفاعي في ضوء الشمس 2 ص 67 ثم قال:
ذكر في طبقات السبكي: إن البيهقي ضعف حديث النهي عن صوم رجب ثم حكى عن الشافعي في القديم أنه قال: أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر كامل غير رمضان لئلا يظن الجاهل وجوبه. وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رضي الله تعالى عنه: من نهي عن صوم رجب فهو جاهل. والمنقول استحباب صيام الأشهر الحرم وهي أربعة: رجب.
وذو القعدة. وذو الحجة. والمحرم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: رجب شهر الله، قيل: ما معناه؟ قال: لأنه مخصوص بالمغفرة وفيه تحقن الدماء. وفي الحديث: أخبرني جبريل إذا كان أول ليلة من رجب أمر الله ملكا ينادي: ألا إن شهر التوبة قد استهل فطوبى لمن استغفر الله فيه. وروي أنه قال آدم عليه الصلاة والسلام: يا رب أخبرني بأحب الأوقات إليك وأحب الأيام إليك. قال: أحب الأيام إلي النصف من رجب فمن تقرب إلي يوم النصف من رجب بصيام وصلاة وصدقة فلا يسألني شيئا إلا أعطيته ولا استغفرني إلا غفرت له، يا آدم من أصبح يوم النصف من رجب صائما ذاكرا حافظا لفرجه متصدقا من ماله لم يكن له جزاء إلا الجنة. إلخ.
وقد ذهب فقهاء المذاهب الأربعة إلى استحباب صوم رجب وعدوها من الصوم المندوب غير إن الحنابلة قالوا بكراهة إفراد رجب بالصوم إلا إذا أفطر في أثنائه فلا
الطائفة الثانية:
1 - عن معاذة العدوية قالت: سألت عائشة أكان النبي يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. قلت من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي الأيام يصوم.
وفي لفظ أبي داود والبيهقي: ما كان يبالي من أي أشهر كان يصوم.
وفي لفظ ابن ماجة: قلت: من أيه؟ قالت: لم يكن يبالي من أيه كان.
أخرجه مسلم في صحيحه 1 ص 321، والترمذي في صحيحه 1 ص 147، وابن داود في سننه 1 ص 384، وابن ماجة في سننه 1 ص 522، والبيهقي في سننه 4 ص 295، والخطيب التبريزي في المشكاة ص 171.
2 - عن أبي ذر الغفاري مرفوعا: من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر.
وفي لفظ آخر له: أوصاني حبيبي بثلاثة لا أدعهن إن شاء الله تعالى أبدا، أوصاني بصلاة الضحى، وبالوتر قبل النوم، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر.
أخرجه الترمذي في صحيحه 1 ص 146، وابن ماجة في سننه 1 ص 522، والنسائي في سننه 4 ص 218، 219، والمنذري في الترغيب والترهيب 2 ص 31، وابن الأثير في جامع الأصول كما في تلخيصه 2 ص 330.
3 - عن عثمان بن أبي العاص مرفوعا: صيام حسن ثلاثة أيام من كل شهر.
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، والنسائي في سننه 4 ص 219، والمنذري في الترغيب والترهيب 2 ص 13.
4 - عن أبي هريرة مرفوعا: صوم الشهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر.
وعنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاثة: صيام ثلاث من كل شهر. الحديث. وفي لفظ الترمذي: عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة: وصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
____________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1 ص 439.
5 - عن أبي الدرداء قال: أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن ما عشت، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر.
أخرجه مسلم في صحيحه 1 ص 200، والمنذري في الترغيب 2 ص 30.
6 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله.
وفي لفظ آخر له: أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟.
وفي لفظ ثالث له: حسبك من كل شهر ثلاثا فذلك صيام الدهر كله.
وفي لفظ رابع له: أدلك على صوم الدهر ثلاثة أيام من الشهر.
وفي لفظ خامس له: صم من كل شهر ثلاثة أيام.
راجع صحيح البخاري 3 ص 219، صحيح مسلم 1 ص 320، سنن أبي داود 1 ص 380، سنن النسائي 4 ص 210 - 215، الترغيب والترهيب 2 ص 30.
7 - عن قرة بن إياس مرفوعا: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كله وإفطاره.
أخرجه أحمد في مسنده 5 ص 34، بإسناد صحيح، والبزار والطبراني وابن حبان في صحيحه كما في الترغيب والترهيب 2 ص 31، والجامع الصغير 2 ص 78.
8 - عن ابن عباس مرفوعا: صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر تذهبن وحر الصدر.
قال الحافظ المنذري في الترغيب 2 ص 31: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي الثلاثة من حديث الأعرابي ولم يسموه ورواه البزار أيضا من حديث علي.
9 - عن عمرو بن شرحبيل مرفوعا: ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر؟ صوم ثلاثة أيام من كل شهر.
10 - عن أبي عقرب مرفوعا: صم ثلاثة أيام من كل شهر.
أخرجه النسائي في سننه 4 ص 225.
11 - عن عبد الله بن مسعود قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر.
أخرجه أبو داود في سننه 1 ص 384، والترمذي في صحيحه 1 ص 143، والنسائي في سننه 4 ص 204، والبيهقي في سننه 4 ص 294، والخطيب التبريزي في المشكاة ص 172.
12 - عن عبد الله بن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
أخرجه النسائي في سننه 4 ص 219، وفي صحيح البخاري 3 ص 218 من طريقه مرفوعا: صم من الشهر ثلاثة أيام.
13 - عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام.
وبهذا اللفظ جاء عن حفصة أيضا، وفي لفظ لأم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
راجع سنن النسائي 4 ص 203، سنن البيهقي 4 ص 295، سنن أبي داود 1 ص 384، مشكاة المصابيح ص 172.
وقبل هذه كلها ما أخرجه أئمة الحديث عن عمر نفسه مرفوعا: ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله.
أخرجه مسلم في صحيحه 1 ص 321، وأبو داود في سننه 1 ص 380، والنسائي في سننه 4 ص 209، والمنذري في الترغيب 2 ص 31، والخطيب التبريزي في المشكاة ص 171.
الطائفة الثالثة:
عن الباهلي مرفوعا: صم شهر الصبر،. وثلاثة أيام بعده، وصم أشهر الحرم.
وفي لفظ آخر له: صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك.
وفي لفظ ثالث له: صم من الأشهر الحرم واترك. قالها ثلاثا.
أخرجه أبو داود في سننه 1 ص 381، وابن ماجة في سننه 1 ص 530، والبيهقي
2 - عن أنس مرفوعا: من صام ثلاثة أيام من شهر حرام: الخميس، والجمعة، والسبت كتب له عبادة سنتين.
أخرجه الطيالسي والأزدي، والغزالي في إحياء العلوم 1 ص 244، وحكاه عن الطيالسي السيوطي في الجامع الصغير وحسنه.
3 - ذكر أبو داود في سننه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم ورجب أحدها.
وحكاه عن أبي داود القسطلاني في المواهب اللدنية، والنووي في شرح صحيح مسلم هامش إرشاد الساري 5 ص 150.
الطائفة الرابعة:
1 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يفطر يوما ويصوم يوما.
وفي لفظ آخر له: صم صوم داود عليه السلام صم يوما وأفطر يوما.
وفي لفظ ثالث له: ثم أفضل الصيام عند الله صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما.
ولهذا الحديث ألفاظ كثيرة توجد في الصحاح والمسانيد راجع صحيح البخاري 3 ص 217، صحيح مسلم 1 ص 319 - 321، صحيح الترمذي 1 ص 148، مسند أحمد 2 ص 205، 225، سنن الدارمي 2 ص 20، سنن أبي داود 1 ص 383، سنن النسائي 4 ص 209 - 215، سنن ابن ماجة 1 ص 523، سنن البيهقي 4 ص 296، 299، الترغيب والترهيب 2 ص 32، 36، 37، مشكاة المصابيح ص 171.
2 - أخرج مسلم والنسائي بالإسناد عن عمر في حديث قال: كيف بمن يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذلك صوم داود عليه السلام.
صحيح مسلم 1 ص 321، سنن النسائي 4 ص 209.
الطائفة الخامسة:
1 - عن أبي أمامة قال قلت: يا رسول الله! مرني بأمر ينفعني الله تعالى به فقال:
عليك بالصوم فإنه لا عدل له.
2 - عن أبي سعيد مرفوعا: من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا.
أخرجه مسلم في صحيحه 1 ص 318، وأحمد في مسنده 3 ص 83، والبيهقي في سننه 9 ص 173، و ج 4 ص 296، والنسائي في سننه 4 ص 173، وابن ماجة في سننه 1 ص 525، والتبريزي في مصابيح السنة 1 ص 135.
3 - عن أبي هريرة مرفوعا: من صام يوما في سبيل الله عز وجل زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفا.
وفي لفظ آخر له: من صام يوما في سبيل الله تعالى جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض.
راجع صحيح الترمذي 1 ص 145، سنن النسائي 4 ص 172، سنن ابن ماجة 1 ص 525، مشكاة المصابيح ص 172، تاريخ الخطيب البغدادي 4 ص 8.
م 4 - عن عبد الله بن سفيان الأزدي مرفوعا: ما من رجل يصوم يوما في سبيل الله إلا باعده الله عن النار مقدار مائة عام. أخرجه الطبراني كما في الإصابة 2 ص 319).
أضف إلى هذه طوائف أخرى تعم بإطلاقها صوم رجب منها ما ورد في صوم الأربعاء والخميس والجمعة من دون اختصاص بأيام شهر دون آخر.
ومنها ما ورد في صوم الأيام البيض من كل شهر وإنه صيام الشهر.
ومنها ما ورد في صوم كل أربعاء والخميس من الأيام.
ومنها ما ورد في صوم أربعة أيام من كل شهر.
ومنها ما ورد في صوم الاثنين والخميس في أيام السنة بأسرها.
توجد أحاديث هذه الطوائف في صحيح البخاري 3 ص 219، صحيح مسلم 1 ص 321، 322، سنن الدارمي 2 ص 19، سنن أبي داود 1 ص 380 - 383، صحيح الترمذي 1 ص 143، 144، سنن ابن ماجة 1 ص 522، 529، سنن النسائي 4 ص 217 - 223، سنن البيهقي 4 ص 294، الترغيب والترهيب 2 ص 30 - 37.
ولا أحسبك بعد ذلك كله تقيم وزنا لما انفرد به ابن ماجة عن ابن عباس من
حديث لا يصح، فيه را وضعيف متروك، وقد أخذ به الحنابلة فقالوا: يكره إفراده بالصوم على أنه من متفردات ابن ماجة ولا يأبه بها عند نقاد الفن، قال أبو الحجاج المزي: كل ما انفرد به ابن ماجة فهو ضعيف يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة الخمسة - أصحاب الصحاح - (2) ولذلك نص غير واحد من الأعلام - وحديث النهي نصب أعينهم - على عدم النهي عن صوم رجب كما في المواهب اللدنية، وإرشاد الساري 5 ص 148، وشرح المواهب للزرقاني 8 ص 127.
فبعد هذه كلها لا أدري ما محل ضرب الأيدي حتى يضعونها في الطعام؟ وما معنى قول القائل: رجب وما رجب شهر كان يعظمه أهل الجاهلية فلما جاء الاسلام ترك؟ راجع ص 282 وتأمل فيما جاء به الخليفة فعلا وقولا.
90
إجتهاد الخليفة في السؤال عن مشكلات القرآن
1 - عن سليمان بن يسار. إن رجلا يقال له: صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ: فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه وقال: أنا عبد الله عمر. فجعل له ضربا حتى دمي رأسه فقال: يا أمير المؤمنين! حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي.
____________
(1) راجع تهذيب التهذيب 3 ص 194.
(2) تهذيب التهذيب 9 ص 531.
أن قد حسنت توبته، فكتب عمر: أن يأذن الناس بمجالسته.
وعن السائب بن يزيد قال: أتي عمر بن الخطاب فقيل: يا أمير المؤمنين! إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل مشكل القرآن فقال عمر: أللهم مكني منه. فبينما عمر ذات يوم جالسا يغدي الناس إذ جاء (الرجل) وعليه ثياب وعمامة صفدي حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين! والذاريات ذروا فالحاملات وقرا؟ فقال عمر: أنت هو؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ألبسوه ثيابا واحملوه على قتب وأخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيب ثم يقول: إن صبيغا ابتغى العلم فأخطأه. فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه.
وعن أنس: إن عمر بن الخطاب جلد صبيغا الكوفي في مسألة عن حرف من القرآن حتى اضطربت الدماء في ظهره.
وعن الزهري: إن عمر جلد صبيغا لكثرة مساءلته عن حروف القرآن حتى اضطربت الدماء في ظهره (2).
____________
(1) في سنن الدارمي: وبرة وفي حاشيته: أي ذات فروج: وفي لفظ ابن عساكر والسيوطي دبرة. وهو الصحيح والمعنى واضح.
(2) سنن الدارمي 1 ص 54، 55، تاريخ ابن عساكر 6 ص 384، سيرة عمر لابن الجوزي ص 109، تفسير ابن كثير 4 ص 232، اتقان السيوطي 2 ص 5، كنز العمال 1 ص 228، 229 نقلا عن الدارمي. ونصر المقدسي. والاصبهاني. وابن الأنباري. والالكلائي. وابن عساكر، الدر المنثور 6 ص 111، فتح الباري 8 ص 17، الفتوحات الإسلامية 2 ص 445.
وصبيغ هذا هو صبيغ بن عسل. ويقال: ابن عسيل. ويقال: صبيغ بن شريك من بني عسيل.
2 - عن أبي العديس قال: كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! ما الجوار الكنس؟ فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن رأسه فقال عمر: أحروري؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقا لأنحيت القمل عن رأسك.
كنز العمال 1 ص 229 نقلا عن الكنى للحاكم، الدر المنثور 6 ص 321.
3 - عن عبد الرحمن بن يزيد: إن رجلا سأل عمر عن فاكهة وأبا فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة (1).
قال الأميني: أحسب أن في مقول العراجين، ولسان المخصرة، ومنطق الدرة الجواب الفاصل عن كل ما لا يعلمه الانسان، وإليه يوعز قول الخليفة: نهينا عن التكلف.
في الجواب عن أبسط سؤال يعلمه كل عربي صميم ألا وهو معنى الأب المفسر في نفس الكتاب المبين بقوله تعالى: متاعا لكم ولأنعامكم.
وأنا لا أعلم أن السائلين بماذا استحقوا الادماء والإيجاع بمحض السؤال عما لا يعلمونه من مشكل القرآن أو ما غاب عنهم من لغته؟ وليس في ذلك شئ مما يوجب الالحاد، لكن القصص جرت على ما ترى.
ثم ما ذنب المجيبين بعلم عن السؤال عن الأب؟ ولماذا أقبل عليهم الخليفة بالدرة؟
وهل تبقى قائمة لأصول التعليم والتعلم والحالة هذه؟ ولعل الأمة قد حرمت ببركة تلك الدرة عن التقدم والرقي في العلم بعد أن آل أمرها إلى أن هاب مثل ابن عباس أن يسأل الخليفة عن قوله تعالى: وإن تظاهرا عليه (2) وقال: مكثت سنتين أريد أن
____________
(1) فتح الباري 13 ص 230، الدر المنثور 6 ص 317.
(2) مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي 5 ص 8.
91
رأي الخليفة في السؤال عما لم يقع
أضف إلى اجتهاد الخليفة في مشكلات القرآن رأيه الخاص به في السؤال عما لم يقع فإنه كان ينهى عنه قال طاووس: قال عمر على المنبر: أحرج بالله على رجل سأل عما لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن (3).
وقال: لا يحل لأحد أن يسأل عما لم يكن، إن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن.
وقال: أحرج عليكم أن لا تسألوا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا.
وجاء رجل يوما إلى ابن عمر فسأله عن شئ لا أدري ما هو فقال له ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن (4).
فساق اللعن أعلام الصحابة إلى هذا الحادث، وعمت البلية، وطفقوا لم يجيبوا عن السؤال عما لم يكن، فهذا ابن عباس سأله ميمون عن رجل أدركه رمضانان فقال:
أكان أو لم يكن؟ قال: لم يكن بعد. قال: اترك بلية حتى تنزل. قال: فدلسنا له رجلا فقال: قد كان. فقال: يطعم من الأول منهما ثلاثين مسكينا لكل يوم مسكين (5).
وهذا أبي بن كعب سأله رجل فقال: يا أبا المنذر ما تقول في كذا وكذا؟ قال:
يا بني أكان الذي سألتني عنه؟ قال: لا. قال: أما لا فأجلني حتى يكون فنعالج أنفسنا حتى نخبرك (6).
وقال مسروق: كنت أمشي مع أبي بن كعب فقال فتى: ما تقول يا عماه كذا وكذا؟
قال: يا بن أخي أكان هذا؟ قال: لا. قال: فاعفنا حتى يكون (7)
____________
(1) كتاب العلم لأبي عمر ص 56.
(2) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 118.
(3) سنن الدارمي 1 ص 50، جامع بيان العلم 2 ص 141.
(4) سنن الدارمي 1 ص 50، كتاب العلم لأبي عمر 2 ص 143، وفي مختصره ص 190، فتح الباري 13 ص 225، كنز العمال 2 ص 174
(5) سنن الدارمي 1 ص 57.
(6) سنن الدارمي 1 ص 56.
(7) سنن الدارمي 1 ص 56.
92
نهي الخليفة عن الحديث
وأردف الحادثين في مشكل القرآن والسؤال عما لم يقع، بثالث أفظع وهو نهي الخليفة عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عن إكثاره، وضربه وحبسه وجوه الصحابة بذلك.
قال قرظة بن كعب لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر وقال: أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا: نعم مكرمة لنا. قال: ومع ذلك إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم. فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدثنا. فقال: نهانا عمر رضي الله عنه (1).
وفي لفظ أبي عمر: قال قرظة: فما حدثت بعده حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ الطبري: كان عمر يقول: جردوا القرآن ولا تفسروه وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم (2).
م - ولما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل فدعهم على ماهم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث وأنا شريكك في ذلك. ذكره ابن كثير في تاريخه 8 ص 107 فقال: هذا معروف عن عمر رضي الله عنه.
وأخرج الطبراني عن إبراهيم بن عبد الرحمن إن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود.
وأبا الدرداء. وأبا مسعود الأنصاري، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبسهم بالمدينة حتى استشهد (3).
وفي لفظ الحاكم في المستدرك 1 ص 110:
إن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب.
____________
(1) سنن الدارمي 1 ص 85، سنن ابن ماجة 1 ص 16، مستدرك الحاكم 1 ص 102، جامع بيان العلم 2 ص 120، تذكرة الحفاظ 1 ص 3.
(2) شرح ابن أبي الحديد 3 ص 120.
(3) تذكرة الحفاظ 1 ص 7، مجمع الزوائد 1 ص 149 وصححه محشى الكتاب فقال: هذا صحيح عن عمر من وجوه كثيرة وكان عمر شديدا في الحديث.
إن عمر حبس أبا مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر حتى أصيب. وقال: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال: ومما روي عنه أيضا أن عمر قال لابن مسعود وأبي ذر:
ما هذا الحديث؟ قال: أحسبه حبسهم حتى أصيب. فقال:
وكذلك فعل بأبي موسى الأشعري مع عدله عنده (المعتصر 1 ص 459).
وقال عمر لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس (1).
م - وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.
تاريخ ابن كثير 8 ص 106).
وأخرج الذهبي في التذكرة 1 ص 7 عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة:
أكنت تحدث في زمان عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته.
وأخرج أبو عمر عن أبي هريرة: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة (جامع بيان العلم 2 ص 121).
م - وفي لفظ الزهري: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي أما والله إذا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري. وفي لفظ ابن وهب: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي. تاريخ ابن كثير 8 ص 107).
فمن جراء هذا الحادث قال الشعبي: قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصفا فما سمعت يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا (2).
وقال السائب بن يزيد: صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث بحديث واحد (سنن ابن ماجة 1 ص 16).
وقال أبو هريرة: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر.
____________
(1) أخرجه ابن عساكر كما في كنز العمال 5 ص 239، وأخرجه أبو زرعة كما في تاريخ ابن كثير 8 ص 106.
(2) سنن الدارمي 1 ص 84، سنن ابن ماجة 1 ص 15.
قال الأميني: هل خفي على الخليفة أن ظاهر الكتاب لا يغني الأمة عن السنة، وهي لا تفارقه حتى يردا على النبي الحوض، وحاجة الأمة إلى السنة لا تقصر عن حاجتها إلى ظاهر الكتاب؟ والكتاب كما قال الأوزاعي ومكحول: أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب (جامع بيان العلم 2 ص 191).
أو رأى هناك أناسا لعبوا بها بوضع أحاديث على النبي الأقدس - وحقا رأى - فهم قطع جراثيم التقول عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وتقصير تلكم الأيدي الأثيمة عن السنة الشريفة؟
فإن كان هذا أو ذاك فما ذنب مثل أبي ذر المنوه بصدقه بقول النبي الأعظم: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على رجل أصدق لهجة من أبي ذر (1) أو مثل عبد الله بن مسعود صاحب سر رسول الله، وأفضل من قرء القرآن، وأحل حلاله، وحرم حرامه، الفقيه في الدين، العالم بالسنة (2) أو مثل أبي الدرداء عويمر كبير الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3) فلماذا حبسهم حتى أصيب؟ ولماذا هتك أولئك العظماء في الملأ الديني وصغرهم في أعين الناس؟ وهل كان أبو هريرة وأبو موسى الأشعري من أولئك الوضاعين حتى استحقا بذلك التعزير والنهر والحبس والوعيد؟ أنا لا أدري.
نعم: هذه الآراء كلها أحداث السياسية الوقتية سدت على الأمة أبواب العلم، وأوقعتها في هوة الجهل ومعترك الأهواء وإن لم يقصد ها الخليفة، لكنه تترس بها يوم ذاك، وكافح عن نفسه قحم المعضلات، ونجابها عن عويصات المسائل. م - وبعد نهي الأمة المسلمة عن علم القرآن، وإبعادها عما في كتابها من المعاني الفخمة والدروس العالية من ناحية العلم والأدب والدين والاجتماع والسياسة والأخلاق والتاريخ، وسد باب التعلم والأخذ بالأحكام والطقوس ما لم يتحقق ويقع موضوعها، والتجافي عن التهيؤ للعمل بدين الله قبل وقوع الواقعة، ومنعها عن معالم السنة الشريفة والحجز عن نشرها في الملأ، فبأي علم ناجع، وبأي حكم وحكم تترفع وتتقدم
____________
(1) مستدرك الحاكم 3 ص 342، 344، ويأتي تفصيل هذا الحديث ومصادره.
(2) مستدرك الحاكم 3 ص 312، 315