(المغالاة في الفضائل)
لما وقع غير واحد من شعراء الغدير نظراء المترجم البرسي - في شبك النقد والاعتراض، ورموا بالغلو، وجاء غير واحد من المؤلفين (1) فشن عليهم الغارات بالقذف والسباب المقذع فيهمنا إيقاف الباحث على هذا المهم حتى لا يستهويه اللغب و الصخب، ولا يصيخ إلى النعرات الطائفية الممقوتة، وقول الزور فنقول:
الغلو على ما صرح به أئمة اللغة كالجوهري والفيومي والراغب وغيرهم هو تجاوز الحد، ومنه غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها قال الحرث بن خالد المخزومي:
ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تغالوا في النساء فإنما هن سقيا الله (2) وقول عمر: لا تغالوا في مهور النساء (3) والغلو ممقوت لا محالة أينما كان وحيثما كان في أي أمر كان، ولا سيما في الدين وعليه ينزل قوله تعالى في موضعين (4) من الذكر الحكيم: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم. ويعني في ذلك كما ذكره المفسرون (5) غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا. فالافراط والتقصير كله سيئة. والحسنة بين السيئتين كما قاله مطرف بن عبد الله، وقال الشاعر:
____________
(1) كابن تيمية وابن كثير، والقصيمي وموسى جار الله. ومن لف لفهم.
(2) البيان والتبيين 2 ص 21.
(3) راجع الجزء السادس من الكتاب ص 96 ط 2.
(4) النساء: 171، المائدة: 77.
(5) تفسير القرطبي 6 ص 21.
وقال مولانا أمير المؤمنين: إن دين الله بين المقصر والغالي فعليكم بالنمرقة الوسطى فيها يلحق المقصر، ويرجع إليها الغالي (1) غير أن من الواجب تعيين الحد الذي لا يجوز في الدين أن يتجاوزه الانسان لاستلزام الغلو الكذب تارة، والاغراء بالجهل أخرى، وبخس الحقوق الواجبة آونة، لا ما دأبت عليه أمة من الرمي بالغلو كل قائل ما لا يروقها، وتحدوها العصبية العمياء إلى التجهم أمام القول بما لا يلائم ذوقها، ومن هذا الباب أكثر ما ترمى به الشيعة الإمامية من الغلو لاعتقادهم أو روايتهم فضائل لأئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد طفحت بها الصحاح والمسانيد، وتدفقت بنقلها الكتب والمؤلفات، حيث لم يقم من نبزهم به لأئمة الهدى وزنا تقيمه الحقيقة ويقتضيه مقامهم الأسمى، ذلك المقام الشامخ المستنبط من الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح والقضايا الخارجية الصادقة المتسالم عليها بين الأمة، لولا أن هناك من يتعامى أو يتصامم عن رؤية هذه وسماع هاتك، أو تقصر منته العلمية عن تحليل الفلسفة الصحيحة، أو يقصر باعه عن الإحاطة بالكائنات التاريخية، من الذين استأسرهم الهوى وتدهور بهم الجهل إلى هوة التيه والضلال، فعدوا من الغلو الفاحش القول بعلم الغيب فيهم أو إخبارهم عما في الضمير، أو تكلم الموتى معهم، أو علمهم بمنطق الطير والحيوانات، أو إحياء الله الموتى بدعائهم، أو استجابة دعواتهم في برء الأكمه والأبرص، وبل كل ذي عاهة، أو القول بالرجعة لهم، أو ظهور كرامة لهم تخرق العادة، أو الشخوص إلى زيارة قبورهم والتوسل بهم، والتبرك بتربتهم، والدعاء والصلاة عند مراقدهم، أو التلهف والتأسف على ما انتابهم من المصائب، إلى كثير من أمثال هذه من مبادئ تراها الشيعة في العترة الهادية من فضائلهم المدعومة بالبرهنة الصحيحة والحجج القوية مما أنكرته أبناء حزم وجوزي وتيمية وقيم وكثير ومن حذا حذوهم ولف لفهم.
ولعل لهم العذر في ذلك بأن الذي يرتأونه في الخليفة لا يزيد على أنه رجل يقطع
____________
(1) ربيع الأبرار للزمخشري.
وهم لا يوجبون في الخليفة قوة في النفس منبعثة عن نزاهة وقداسة وعصمة يتصرف بها صاحبها في الكائنات كيفما اقتضته المصلحة، ويبصر المغيب بعين بصيرته، أو بنور بصره الذي لا يقل عن أشعة (رنتجن) التي يبصر صاحبها الأمعاء من وراء الجلد الغليظ وتري ما في قبضة المسك بيده من ظهر اليد، وبلغت بها القوة حتى أخذت بها الصورة الشمسية من وراء سياج الصندوق الحديدي.
والذي يخبت في القوى النفسية إلى مثل التنويم المغناطيسي الصناعي أو استحضار الأرواح واستخدامها للجواب عن كل مسألة يريدها الانسان مما في وراء عالم الشهود بقوة نفسه كيف يسعه إنكار رد الأرواح إلى الأجسام بإذن ربها لدعاء ولي، أو مقدرة صديق موهوبة له من بارئ كيانه؟ وليس على الله بعزيز، هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
وكذلك من يشهد: إن الطائرات الجوية تطوي مئات من الفراسخ في آونة قصيرة، وكان يستدعي ذلك إشغال أشهر من الزمن يوم كانوا يطوونها على الظهور، أنى يسيغ له حجاه أن ينكر طي الأرض لمن يحمل بين جنبيه قوى مفاضة من المبدء الحق سبحانه؟ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب (2).
ومثله: الذي يبصر المذياع وهو ينقل الأصوات من أبعد المسافات فيسمعها كأنه يتلو القرآن الكريم، أو يلقي خطابته، أو يسرد أخباره، أو يغني بأهازيجه إلى جنبه فهو لا يسعه إنكار ما يشابه ذلك في إمام حق مؤيد من عند الله، إن الله يسمع من يشاء وما أنت بسمع من في القبور (3).
____________
(1) راجع الجزء السادس من الكتاب ص 191 ط 2 وهذا الجزء فيما يأتي.
(2) سورة النمل آية 88.
(3) سورة فاطر آية 22
وأمثال هذه في المكتشفات الحديثة من آثار الكهرباء وغيره كثيرة ذللت فيهم المعضلات التي كانت تقصر عنها العقول السذج قبل هذا اليوم، ولعل في المستقبل الكشاف يكون ما هو أعظم وأعظم من هذه كلها، فإن العلم لم يقف على حد، ولا دلت البرهنة على وصول الكشف إلى غايته المحدودة، فمن الجائز أن يتدرج إلى الإمام كما تدرج في هذه القرون الأخيرة جلت قدرة بارئها.
أنا لا أحاول جعل تلكم المعاجز وكرامات الأولياء من قبيل ما ذكرته من مجاري الناموس الطبيعي، ولو أنها لا يعدوها الاعجاز حتى لو كانت على تلك المجاري، لأنها حدثت يوم لم تكن هذه الآثار مكتشفة، ولا عرفها أحد من الناس، حتى أنه لو فاه بها أحد لما كانوا يحفلون به إلا بالهزء والسخرية معتقدين بأنه يلهج بالمحال فصدورها من إنسان هذا ظرفه وتلك أحوال أمته، ولم يعهد أنه دخل كلية أو تخرج على يد أستاذ لا يعدوه أن تكون معجزة، لكنا نعتقد أن أولئك الأئمة بما أنهم مقيضون لإصلاح الأمة ولا يكون إلا بخضوعها لهم، وأقوى الحجج لاستلانة جماحها لذلك الخضوع هو صدور المعجزات والخوارق - لهم صلة بالمبدء الأقدس يسددهم بها من فوق عالم الطبيعة، وهو لازم اللطف الواجب على الله سبحانه من تقريب البعيد إلى ما ذكرناه من الاكتشافات الحديثة لتقريب الأذهان وتشحيذها، وإيقاف المنصف على الحقايق. وقد فصلنا القول في بعض الموضوع في الجزء الخامس 52، 65 ط 2.
فهلم معي إلى أناس يشنعون على الشيعة باثبات تلكم النسب ويقذفونهم بالغلو والكفر والشرك وهم يثبتونها لغير واحد من أولياءهم، وذكروا أضعاف ما عند الشيعة من تلكم الفضائل المرمية بالغلو في تراجم العاديين من رجالهم، ونشروها في الملأ واتخذوها تاريخا صحيحا من دون أي غمز وإنكار في السند، ومن غير مناقشة و نظرة صحيحة في المتون، كل ذلك حبا وكرامة لأولئك الرجال، وحب الشيئ يعمي
____________
(1) سوره الأنعام آية 75.
(الغلو في أبي بكر)
ليس من العسير الشديد عرفان حدود أي فرد شئت من الصحابة، إذ التاريخ - مع ما فيه من الخبط والخلط، مع ما نسجت عليه أيدي المعرة الأثيمة، مع ما طمس صحيحه بالفتن المظلمة في أدوارها وقرونها الخالية، مع ما لعبت به الأهواء المضلة بالتحريف والاختلاق، مع ما دس فيه عباقية الإفك والافتعال، مع ما سودت صفحاته بآراء تافهة، و نظريات سخيفة، ومبادئ فاسدة، ونعرات طائفية، ومخاريق قومية، وجنايات شعوبية - فيه رمز من الحقيقة، لا يختلط للناقد البصير زبده بخاثره، وصحيحه بسقيمه، ويسع له أن يستخرج المحض بالمخض، يتخذ منه دروس الحقايق، ويعرف به حدود الرجال، ومقاييس السلف، ومقادير الأمم الغابرة.
ومن اللازم المحتوم علينا النظرة في تراجم الشخصيات البارزة من رجال الاسلام سلفا وخلفا بعين الإكبار دون عين رمصة، ولا سيما من عرف منهم بالخلافة الراشدة بين الملأ الديني ولو بالانتخاب الدستوري الذي ليس له أي قيمة وكرامة في سوق الاعتبار، وميزان العدل، ربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة (1) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (2) ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهو وليهم بما كانوا يعملون، وكذبوا وأتبعوا أهوائهم وكل أمر مستقر.
____________
(1) سورة القصص آية 68.
(2) سورة الأحزاب آية 36.
ونحن لا نحوم حول موضوع الخلافة وإنها كيف تمت؟ كيف صارت؟ كيف قامت؟ كيف دامت؟ وإن الآراء فيها هل كانت حرة؟ ووصايا المشرع الأعظم هل كانت متبعة؟ أو كانت للأهواء والشهوات يوم ذاك حكومة جبارة هي تبطش وتقبض، وهي ترفع وتخفض، وهي ترتق وتفتق، وهي تنقض وتبرم، وهي تحل وتعقد.
لا يهمنا البحث عن هذه كلها بعد ما سمعت أذن الدنيا حديث السقيفة مجتمع الثويلة، وقرطت بنبأ تلك الصاخة الكبرى، والتحارش العظيم بين المهاجرين والأنصار، إذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة.
ما عساني أن أقول؟ والتاريخ بين يدي الباحث يدرسه بأن كل رجل من سواد الناس يوم ذاك كان يرى الفوز والسلامة لنفسه في عدم التحزب بأحد من تلكم الأحزاب المتكثرة، وترك الاقتحام في تلك الثورات النائرة، وكانت الخواطر تهدده بالقتل مهما أبدى الشقاق، أو التحيز إلى فئة دون فئة، بعد ما رأت عيناه فرند الصارم المسلول، وسمعت أذناه نداء محز (1) يتوعد بالقتل كل قائل بموت رسول الله ويقول: لا أسمع رجلا يقول: مات رسول الله. إلا ضربته بسيفي. أو يقول: من قال: إنه مات. علوت رأسه بسيفي، وإنما ارتفع إلى السماء (2).
بعد ما تشازرت الأمة وتلاكمت وتكالمت وقام الشيخان يعرض كل منهما البيعة
____________
(1) المحز: الرجل الغليظ الكلام.
(2) تأريخ الطبري 3: 198، شرح ابن أبي الحديد 1: 128، تاريخ ابن كثير 5:
242، تأريخ أبي الفدا ج 1: 156، المواهب اللدنية للقسطلاني، روضة المناظر لابن شحنة هامش الكامل 7: 164، شرح المواهب للزرقاني 8: 280، السيرة النبوية لزيني دحلان هامش الحلبية 3: 371 - 374، ذكرى حافظ للدمياطي ص 36 نقلا عن الغزالي.
(3) من أبيات القصيدة العمرية لحافظ إبراهيم شاعر النيل.
بعد ما رأى الرجل عمر بن الخطاب محتجرا يهرول بين يدي أبي بكر وقد نبر حتى أزبد شدقاه (11).
بعد ما قرعت سمعه عقيرة صحابي بدري عظيم - الحباب بن المنذر - وقد انتضى سيفه على أبي بكر ويقول: والله لا يرد علي أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف،
____________
(1) راجع الجزء الخامس من هذا الكتاب ص 314، 315 ط 2.
(2) تأريخ الطبري 3: 199.
(3) سيرة ابن هشام 4: 336، الرياض النضرة 1: 163.
(4) طبقات ابن سعد ص 821 ط ليدن ج 2 من القسم الثاني ص 76.
(5) تاريخ ابن كثير 5 ص 271، تاريخ أبي الفدا ج 1: 152.
(6) طبقات ابن سعد ط ليدن ج 2 ص 58، 79، سيرة ابن هشام 4 ص 343، 344، مسند أحمد 6: 274، سنن ابن ماجة 1 ص 499، سيرة ابن سيد الناس 2 ص 340، تأريخ أبي الفداء 1: 152 وقال: الأصح دفنه ليلة الأربعاء، تاريخ ابن كثير 5 ص 171 وقال: هو المشهور عن الجمهور. وقال: والصحيح أنه دفن ليلة الأربعاء، السيرة الحلبية 3 ص 394، شرح المواهب للزرقاني 8 ص 284، سيرة زيني دحلان هامش الحلبية 3 ص 380.
(7) طبقات ابن سعد ص 824، ط ليدن 2 من القسم الثاني ص 78.
(8) سنن ابن ماجة 1 ص 499، مسند أحمد 6: 274.
(9) الطبقات لابن سعد ص 824 ط ليدن 2 من القسم الثاني ص 78، مسند أحمد 6: 274، سيرة ابن هشام 4 ص 344، تأريخ ابن كثير 5 ص 270.
(10) أخرجه ابن أبي شيبة كما في كنز العمال 3 ص 140.
(11) طبقات ابن سعد ص 787، ط ليدن ج 2 من القسم الثاني ص 53، شرح ابن أبي الحديد 1 ص 133.
بعد ما شاهد ثالثا يخالف البيعة لأبي بكر وينادي: أما والله أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل. وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي (4).
بعد ما رأى رابعا يتذمر على البيعة، ويشب نار الحرب بقوله: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم (5).
بعد ما نظر إلى مثل سعد بن عبادة أمير الخزرج وقد وقع في ورطة الهون ينزى عليه، وينادى عليه بغضب: اقتلوا سعدا قتله الله إنه منافق. أو: صاحب فتنة. وقد قام الرجل على رأسه ويقول: لقد هممت أن أطئك حتى تندر عضوك. أو تندر عيونك (6).
بعد ما شاهد قيس بن سعد قد أخذ بلحية عمر قائلا: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة. أو: لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارحة (7)
____________
(1) الجذل بالكسر والفتح: أصل الشجرة والعود الذي ينصب للإبل الجربى لتحتك به فتستشفى به، فالقول مثل يضرب لمن يستشفى برأيه ويعتمد عليه، والتصغير للتعظيم.
وكذلك عذيقها المرجب. والعذق: النخلة بحملها والترجيب أن تدعم الشجرة إذ أكثر حملها لئلا تنكسر أغصانها.
(2) صحيح البخاري 10 ص 45، مسند أحمد 1 ص 56، البيان والتبيين 3 ص 181.
سيرة ابن هشام 4 ص 339 العقد الفريد 2 ص 248، الإمامة والسياسة 1 ص 9، تأريخ الطبري 3 ص 209، 210، تاريخ ابن الأثير 2 ص 136، 137، الرياض النضرة 1 ص 162، 164، تاريخ ابن كثير 5 ص 246 ج 7 ص 142، الصفوة 1 ص 97، تيسير الوصول 2 ص 45، شرح ابن أبي الحديد 1 ص 128 و ج 2 ص 4، السيرة الحلبية 3 ص 387، أبو بكر الصديق للأستاذ محمد رضا المصري ص 25.
(3) شرح ابن أبي الحديد 2 ص 16.
(4) الإمامة والسياسة 1 ص 11، تاريخ الطبري 3 ص 210، تاريخ ابن الأثير 2 ص 137، شرح ابن أبي الحديد 1 ص 128، السيرة الحلبية 3 ص 387.
(5) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا صفحة 253 ط 2.
(6) مسند أحمد 1 ص 56، العقد الفريد 2 ص 249، تاريخ الطبري 3 ص 210، سيرة ابن هشام 4 ص 339، الرياض النضرة 1: 162، 164، السيرة الحلبية 3 ص 387.
(7) تاريخ الطبري 3 ص 210، السيرة الحلبية 3 ص 387.
عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده ويضرب به الحجر ويكسر (1).
بعد ما بصر مقدادا ذلك الرجل العظيم وهو يدافع في صدره أو نظر إلى الحباب ابن المنذر وهو يحطم أنفه، وتضرب يده. أو إلي اللائذين بدار النبوة، مأمن الأمة، وبيت شرفها، بيت فاطمة وعلي سلام الله عليهما وقد لحقهم الارهاب والترعيد (2) وبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب وقال لهم: إن أبوا فقاتلهم. فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت: يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمة (3).
بعد ما رأى هجوم رجال الحزب السياسي دار أهل الوحي وكشف بيت فاطمة (4) وقد علت عقيرة قائدهم بعد ما دعا بالحطب: والله لتحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة. أو لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقنها على من فيها، فيقال للرجل: إن فيها فاطمة فيقول: وإن (5).
بعد قول ابن شحنة: إن عمر جاء إلى بيت علي ليحرقه على من فيه فلقيته فاطمة فقال: ادخلوا فيما دخلت فيه الأمة " تاريخ ابن شحنة هامش الكامل 7 ص 164 ".
بعد ما سمع أنة وحنة من حزينة كئيبة - بضعة المصطفى - وقد خرجت عن خدرها وهي تبكي وتنادي بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟ (6).
____________
(1) الإمامة والسياسة 1 ص 11، تاريخ الطبري 3 ص 199، الرياض النضرة 1 ص 167، شرح ابن أبي الحديد 1 ص 58، 132، ج 2 ص 5، 19.
(2) تاريخ الطبري 3: 210، شرح ابن أبي الحديد 1: 58.
(3) العقد الفريد 2: 250 تاريخ أبي الفدا ج 1: 156، أعلام النساء 3: 1207.
(4) الأموال لأبي عبيد ص 131، الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 18، تاريخ الطبري 4: 52 مروج الذهب 1: 414، العقد الفريد 2: 254، تاريخ اليعقوبي 2: 105.
(5) تاريخ الطبري 3: 198، الإمامة والسياسة 1: 13، شرح ابن أبي الحديد 1: 134.
ج 2: 19 أعلام النساء 3: 1205.
(6) الإمامة والسياسة 1: 13 أعلام النساء 3: 1206. الإمام على لعبد الفتاح عبد المقصود 1: 225
" شرح ابن أبي الحديد 1 ص 134 ج 2 ص 19 "
بعد ما شاهد هيكل القداسة والعظمة أمير المؤمنين يقاد إلى البيعة كما يقاد الجمل المخشوش (1) ويدفع ويساق سوقا عنيفا واجتمع الناس ينظرون ويقال له: بايع: فيقول: إن أنا لم أفعل فمه؟ فيقال: إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك فيقول: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله (2).
بعد ما رأى صنو المصطفى عليا لاذ بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصيح ويبكي و يقول: يا ابن أم! إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني (3).
بعد نداء أبي عبيدة الجراح لعلي عليه السلام يوم سيق إلى البيعة: يا بن عم إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا واستطلالا، فسلم لأبي بكر هذا الأمر فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في حصلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك (4).
بعد رفع الأنصار عقيرتهم في ذلك اليوم العصبصب بقولهم: لا نبايع إلا عليا. و بعد صياح بدريهم: منا أمير ومنكم أمير، وقول عمر له: إذ كان ذلك فمت إن استطعت (5).
بعد قول أبي بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم
____________
(1) العقد الفريد 2 ص 285، صبح الأعشى 1 ص 228. شرح ابن أبي الحديد 3 ص 407.
(2) الإمامة السياسة 1 ص 13، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 8 و 19، أعلام النساء 3 ص 1206.
(3) الإمامة والسياسة 1: 14.
(4) الإمامة والسياسة 1 ص 13، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 5.
(5) صحيح البخاري في مناقب أبي بكر وفي باب رجم الحبلى ج 10 ص 45، طبقات ابن سعد 2 ص 55 و ج 3 ص 129، البيان والتبيين للجاحظ 3 ص 181، سيرة ابن هشام 4 ص 339.
التمهيد للباقلاني ص 197، تاريخ الطبري 3 ص 206 و 209، مستدرك الحاكم 3 ص 67، الرياض النضرة 1 ص 162، 163، 164، تاريخ ابن كثير 5 ص 146، تيسير الوصول 2 ص 41، 45،
بعد قول أم مسطح بن أثاثة واقفة عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وهي تنادي: يا رسول الله!
هذه كلها كانت تهدد السواد، وتروع عامة الناس وما كان لأحد في إصلاح القوم مطمع، ولا لأي من الأمة بعد ما شاهد الحل يوم ذاك حسبان حرمة ولا كرامة لنفسه يقوم بها تجاه ذلك التيار المتدفق.
وكانت هناك أمة تراها سكارى - وما هي بسكارى - من حراجة الموقف تسارها هواجسها بالتربص إلى حين، حتى تضع الغائلة أوزارها، ويتضح مآل أمر دبر بليل، ويتبين الرشد من الغي، وهواجس تجعل جماعة كالنزيعة تجهش وتحن وتقرع سن الأسف، وكم حنون لا يجديه حنينه.
وما عساني أن قول في تلك الخلافة؟ بعد ما رآها أبو بكر وعمر بن الخطاب فلتة كفلتة الجاهلية وقى الله شرها (5).
بعد ما حكم عمر بقتل من عاد إلى مثل تلك البيعة (6).
بعد قوله يوم السقيفة: من بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا
____________
(1) صحيح البخاري في مناقب أبي بكر البيان والتبيين 1 ص 181، عيون الأخبار لابن قتيبة 2 ص 234، طبقات ابن سعد 2 ص 55، ج 3 ص 129، العقد الفريد 2 ص 158، تيسير الوصول 2 ص 452، السيرة الحلبية 3 ص 386، نهاية ابن الأثير 1 ص 13 فيه: كقد الأبلمة. تاج العروس 8 ص 205.
(2) من أبيات القصيدة العمرية الحافظ إبراهيم شاعر النيل.
(3) الهنبثة: الأمر الشديد والاختلاط في القول.
(4) طبقات ابن سعد ص 853، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 17، و ج 1 ص 132، وقد يعزى البيتان مع أبيات أخرى إلى الصديقة فاطمة سلام الله عليها.
(5) التمهيد للباقلاني ص 196، شرح ابن أبي الحديد 2: 19، الغدير لنا ج 5: 370.
(6) التمهيد ص 196 شرح ابن أبي الحديد 1: 123، 124، الصواعق لابن حجر ص 21.
بعد قوله لابن عباس: لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر (2) بعد قوله: إنا والله ما فعلناه عن عداوة ولكن استصغرناه، وحسبنا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها.
بعد قول ابن عباس له في جوابه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعثه فينطح كبشها فلم يستصغره، أفتستصغره أنت وصاحبك؟ (3).
بعد قول عمر لابن عباس: يا بن عباس! ما أظن صاحبك إلا مظلوما. وقول ابن عباس له: والله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر،
(شرح ابن أبي الحديد 2 ص 18)
بعد قول أبي السبطين أمير المؤمنين: أنا عبد الله وأخو رسول الله، أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، فيقول عمر: لست متروكا حتى تبايع.
فيقول علي: احلب يا عمر! حلبا لك شطره (4).
بعد قوله عليه السلام: الله الله يا معشر المهاجرين! ألا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره، وقعر بيته إلى دوركم، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين فنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت ونحن أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله، العالم بسنن الله، المتطلع لأمر الرعية الدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا (5)
بعد قوله عليه السلام: لما مضى - المصطفى - لسبيله تنازع المسلمون الأمر بعده، فوالله ما كان يلقى في روعى، ولا يخطر على بالي أن العرب تعدل هذ الأمر بعد محمد
____________
(1) صحيح البخاري 10: 44 باب رجم الحبلى من الزنا، مسند أحمد 1: 56، سيرة ابن هشام 4: 338 نهاية ابن الأثير 3: 175، تيسير الوصول 2: 45 شرح ابن أبي الحديد 1: 128، تاريخ ابن كثير 5: 246.
(2) شرح ابن أبي الحديد 1: 134 و ج 2: 20، الغدير كتابنا هذا ج 1: 389.
(3) راجع الجزء الأول من كتابنا هذا ص 389 ط 2، كنز العمال 6 ص 391.
(4) الإمامة والسياسة 1 ص 12، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 5.
(5) الإمامة والسياسة 1 ص 12، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 5.
بعد ما خرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي كرم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله صلى الله عليه وآله في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع سلطانه؟
فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (2).
بعد قوله عليه السلام: أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده.
((ثم تمثل بقول الأعشى)).
فيا عجبا يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن اشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذا سفوا، وطرت إذا طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن، إلى أن قام ثالث القوم نافجا
____________
(1) الإمامة والسياسة 1 ص 12.
(2) الإمامة والسياسة 1: 12، شرح ابن أبي الحديد 1: 131، ج 2: 5.
كلمتنا حول هذه الخطبة
هذه الخطبة تسمى بالشقشقية وقد كثر الكلام حولها فأثبتها مهرة الفن من - الفريقين ورأوها من خطب مولانا أمير المؤمنين الثابتة التي لا مغمز فيها، فلا يسمع إذن قول الجاهل بأنها من كلام الشريف الرضي، وقد رواها غير واحد في القرون الأولى قبل أن تنعقد للرضي نطفته، كما جاءت بإسناد معاصريه والمتأخرين عنه من غير طريقه و إليك أمة من أولئك:
1 الحافظ يحيي بن عبد الحميد الحماني المتوفى 228 كما في طريق الجلودي في العلل والمعاني.
2 - أبو جعفر دعبل الخزاعي المتوفى 246 رواها بإسناده عن ابن عباس كما في أمالي شيخ الطائفة ص 237، ورواها عنه أخوه أبو الحسن علي.
3 - أبو جعفر أحمد بن محمد البرقي المتوفى 274 / 80 كما في علل الشرايع.
4 - أبو علي الجبائي شيخ المعتزلة المتوفى 303 كما في الفرقة الناجية للشيخ إبراهيم القطيفي، والبحار للعلامة المجلسي 8: 161.
5 - وجدت بخط قديم عليه كتابة الوزير أبي الحسن علي بن الفرات المتوفى 312 كما في شرح ابن ميثم.
6 - أبو القاسم البلخي أحد مشايخ المعتزلة المتوفى 317 كما في شرح ابن أبي الحديد 1 ص 69.
7 - أبو أحمد عبد العزيز الجلودي البصري المتوفى 332 كما في معاني الأخبار.
8 - أبو جعفر ابن قبة تلميذ أبي القاسم البلخي المذكور رواها في كتابه (الانصاف) كما في شرح ابن أبي الحديد 1: 69 وشرح ابن ميثم.
9 - الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى 360 كما في طريق القطب الراوندي في شرح النهج.