كلمة الماوردي
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية ص 4: اختلفت العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاما، والتسليم لإمامته إجماعا، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعة قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقد ها أحدهم برضى الأربعة استدلالا بأمرين: أحدهما: أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب.
وأبو عبيدة ابن الجراح. وأسيد بن حضير. وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم. الثاني: إن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضى الخمسة وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضى الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.
وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد لأن العباس قال لعلي رضي الله عنهما: أمدد يدك أبايعك فيقول الناس: عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان ولأنه حكم وحكم الواحد نافذ. ا ه.
م كلمة الجويني.
قال إمام الحرمين الجويني المتوفى 478 في " الارشاد " ص 424: باب في الاختيار وصفته وذكر ما تنعقد الإمامة به.
إعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الإمامة وإن لم تجمع الأمة على عقدها، والدليل عليه أن الإمامة لما عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين، ولم يتأن لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار، و لم ينكر عليه منكر، ولم يحمله على التريث حامل، فإذا لم يشترط الاجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود، ولا حد محدود، فالوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد
ثم قال بعض أصحابنا: لا بد من جريان العقد بمشهد من الشهود، فإنه لو لم يشترط ذلك لم نأمن أن يدعي مدع عقدا سرا متقدما على الحق المظهر المعلن. وليست الإمامة أحط رتبة من النكاح، وقد شرط فيه الاعلان، ولا يبلغ القطع، إذ ليس.
يشهد له عقل، ولا يدل عليه قاطع سمعي، وسبيله سبيل سائر المجتهدات. ا ه.
وقال الإمام ابن العربي المالكي في شرح صحيح الترمذي 13 ص 229: لا يلزم في عقد البيعة للإمام أن تكون من جميع الأنام بل يكفي لعقد ذلك اثنان أو واحد على الخلاف المعلوم فيه.
كلمة القرطبي.
وقال القرطبي في تفسيره 1 ص 230: فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله خلافا لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد، ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك (1) ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود، قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال: هذا مجمع عليه. ا ه. ].
قال الأميني: فما المبرر عندئذ لتخلف عبد الله بن عمر. وأسامة بن زيد. وسعد ابن أبي وقاص. وأبي موسى الأشعري. وأبي مسعود الأنصاري. وحسان بن ثابت.
والمغيرة بن شعبة. ومحمد بن مسلمة وبعض آخر من ولاة عثمان على الصدقات وغيرها عن بيعة مولانا أمير المؤمنين بعد إجماع الأمة عليها؟ وما عذر تأخرهم عن طاعته في حروبه، وقد عرفوا بين الصحابة وسموا المعتزلة لاعتزالهم بيعة علي؟ (2).
____________
(1) كان بني هاشم كلهم، والأنصار بأجمعهم إلا رجلين، والزبير وعمار وسلمان ومقدادا وأبا ذر وآخرين كثيرين من المهاجرين المتخلفين عن بيعة أبي بكر المنكرين إياها كما فصل في محله لم يكونوا من الصحابة عن القرطبي وإلا فلا يجوز للمفسر أن يكذب وهو يعلم أن التاريخ الصحيح سيكشف الستر عن دجله.
(2) المستدرك للحاكم 3: 115، تأريخ الطبري 5: 115، الكامل لابن الأثير 3:
80، تأريخ أبي الفدا ج 1: 115، 171.
رأي الخليفة الثاني
في الخلافة وأقواله فيها
عن عبد الرحمن بن أبزي قال: قال عمر: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيئ [ طبقات ابن سعد 3: 248 ] وفي كلمة له ذكرها ابن حجر في الإصابة 2: 305: إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء.
وقال: لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبي عبيدة الجراح. ولو كان سالم حيا ما جعلتها شورى (1).
وقال لما طعن: إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق الأجلح المستقيم: يعني عليا. فقال له ابن عمر: ما يمنعك أن تقدم عليا؟ قال: أكره أن أحملها حيا وميتا.
[ الأنساب للبلاذري 5: 16، الاستيعاب لأبي عمر 2: 419 ]
وقال: لوليتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس، والله لو فعلت لفعل ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتى يجزوا رأسه. فقالوا: علي؟ قال. رجل قعدد (2) قالوا: طلحة؟ قال: ذاك رجل فيه بأو (3) قالوا: الزبير؟ قال. ليس هناك.
قالوا: سعد؟ قال: صاحب فرس وقوس. فقالوا: عبد الرحمن بن عوف؟ قال: ذاك فيه إمساك شديد، ولا يصلح لهذا الأمر إلا معط في غير سرف، وممسك في غير تقتير.
أخرجه القاضي أبو يوسف الأنصاري المتوفى 182 في كتابه " الآثار " نقلا عن شيخه إمام الحنفية أبي حنيفة.
____________
(1) طبقات ابن سعد 3: 248، التمهيد للباقلاني 204، الاستيعاب لأبي عمر 2: 561، طرح التثريب 1: 49، أسد الغابة 2: 246.
(2) القعدد الجبان الخامل. كأن الخليفة نسي سوابق، مولانا أمير المؤمنين في المغازي و الحروب وعزمه الماضي وبسالته المشهودة إلى غيرها من صفاته الكمالية وتغافل عن أن الذي أقعده عن مناجزته بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله هو خوف الردة من الناس بوقوع الفتنة لا حذار بارقة عمر وراعدته وشجاعته التي هو سلام الله عليه جد عليم بكمها وكيفها، نعم: الجو الخالي يبعث الانسان على أن يقول هكذا.
(3) البأو: الكبر والتعظيم فيه.
وعن ابن عباس قال: قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد؟ وذلك قبل أن يطعن، فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ يعني عليا قلت: نعم، هو أهل لها في قرابته برسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره وسابقته وبلائه. فقال عمر إن فيه بطالة وفكاهة. قلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: أين الزهو والنخوة؟ قلت عبد الرحمن بن عوف؟ قال: هو رجل صالح على ضعف قلت: فسعد؟ قال: ذاك صاحب مقنب وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها. قلت: فالزبير؟ قال: لقيس مؤمن الرضى كافر الغضب شحيح. إن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت: فأين عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه.
ذكره البلاذري في الأنساب 5: 16، وفي لفظ آخر له ص 17: قيل: طلحة؟
قال: أنفه في السماء وإسته في الماء.
نظرة في الخلافة التي جاء بها القوم
قال الأميني: هذا ما جاء به القوم من الخلافة الإسلامية والامامة العامة فهي عندهم ليست إلا رياسة عامة لتدبير الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، والأخذ للمظلوم، وإقامة الحدود، وقسم الفئ بين المسلمين، والدفع بهم في حجهم وغزوهم، ولا يشترط فيها نبوغ في العلم زايدا على علم الرعية، بل هو والأمة في علم الشريعة سيان، و يكفي له من العلم ما يكون عند القضاة، وهؤلاء القضاء بين يديك وأنت جد عليم بعلمهم ويسعك إمعان النظر فيه من كثب، ولا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه وجوره وفجوره، ويجب على الأمة طاعته على كل حال برا كان أو فاجرا، ولا يسوغ لأحد مخالفته ولا القيام عليه والتنازع في أمره.
فعلى هذا الأساس كان يزحزح خلفاء الانتخاب الدستوري في القضاء والافتاء عن حكم الكتاب والسنة ولم يكن هناك أي وازع، ولم يكن يوجد قط أحد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، خوفا مما افتعلته يد السياسة وجعلت به على الأفواه
ورواية عبد الله مرفوعا: ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا: يا رسول الله!
كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم. " صحيح مسلم 2 ص 118 "
وعلى هذا الأساس تمكن معاوية بن أبي سفيان من أن يجلس بالكوفة للبيعة و يبايعه الناس على البراءة من علي بن أبي طالب. " البيان والتبيين 2: 85 "
وعلى هذا الأساس أقر عبد الله بن عمر بيعة يزيد الخمور، قال نافع: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه ومواليه. وفي رواية سليمان: حشمه و ولده وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة.
زاد الزهراني: قال: وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن تبايع رجلا على بيعة الله ورسوله ثم تنصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلع ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل فيما بيني وبينه.
وفي لفظ: إن عبد الله بن عمر جمع أهل بيته حين انتزى أهل المدينة مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وخلعوا يزيد بن معاوية، فقال: إنا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر بعد الاشراك بالله أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله، ثم ينكث بيعته، ولا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يشرفن أحد منكم في هذا الأمر فيكون صيلما بيني وبينه (2).
وعلى هذا الأساس جاء عن حميد بن عبد الرحمن إنه قال: دخلت على يسير الأنصاري (الصحابي) حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: إنهم يقولون: إن يزيد ليس بخير أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنا أقول ذلك ولكن لإن يجمع الله أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن يفترق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يأتبك في الجماعة إلا خير (3).
____________
(1) صحيح مسلم 2 ص 121، سنن أبي داود 2: 283
(2) صحيح البخاري. 1: 166 سنن البيهقي 8: 159، 160، مسند أحمد 2 96.
(3) الاستيعاب 2 ص 635 أسد الغابة 5: 126.
وعلى هذا الأساس يوجه قول مروان بن الحكم، قال: ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي، فقيل له: ما لكم تسبونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك (2).
وعلى هذا الأساس صح قتل معاوية عبد الرحمن بن خالد لما أراد البيعة ليزيد، إنه خطب أهل الشام وقال لهم: يا أهل الشام إنه قد كبرت سني، وقرب أجلي، وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم، إنما أنا رجل منكم فرأوا رأيكم فاصقعوا واجتمعوا وقالوا: رضينا عبد الرحمن بن خالد (3) فشق ذلك على معاوية وأسرها في نفسه، ثم إن عبد الرحمن مرض فأمر معاوية طبيبا عنده يهوديا وكان عنده مكينا أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات، ثم دخل أخوه المهاجر ابن خالد دمشق مستخفيا هو وغلام له فرصدا ذلك اليهودي فخرج ليلا من عند معاوية فهجم عليه ومعه قوم هربوا عنه فقتله المهاجر.
ذكره أبو عمر في الاستيعاب 2: 408 فقال: وقصته هذه مشهورة عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها، ذكرها عمر بن شبه في أخبار المدينة وذكرها غيره. ا ه. وذكرها ابن الأثير في أسد الغابة 3: 289.
وعلى هذا الأساس يتم اعتذار شمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام السبط فيما رواه أبو إسحاق، قال: كان شمر بن ذي الجوشن يصلي معنا ثم يقول: للهم إنك شريف تحب الشرف وإنك تعلم أني شريف فاغفر لي قلت: كيف يغفر لله لك و قد أعنت على قتل ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك فكيف نصنع؟ إن أمراءنا هؤلاء
____________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 6: 19.
(2) الصواعق المحرقة ص 33.
(3) صحابي من فرسان قريش له هدى حسن وفضل وكرم إلا أنه كان منحرفا عن علي و بني هاشم: أسد الغابة 3: 289.
وفي لفظ: أللهم اغفر لي فإني كريم لم تلدني اللئام. قلت له: إنك لسيئ الرأي والفكر تسارع إلى قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدعو بهذا الدعاء، فقال: إليك عني فلو كنا كما تقول أنت وأصحابك لكنا شرا من الحمر في الشعاب.
وعلى هذا الأساس جرى ما جرى على أبي بكر الطائي وأصحابه. قال سليمان ابن ربوة: اجتمعت أنا وعشرة من المشايخ في جامع دمشق فيهم أبو بكر بن أحمد بن سعيد الطائي فقرأنا فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوثب علينا قريب من مائة يضربونا ويسحبونا إلى الوالي فقال لهم أبو بكر الطائي: يا سادة اسمعوا لنا إنما قرأنا اليوم فضائل علي وغدا نقرأ فضائل أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وقد حضرتني أبيات فإن رأيتم أن تسمعوها؟ فقالوا له: هات فأنشأ بديها.
قالوا: فخلوا عنا. " تمام المتون للصفدي ص 188 "
وعلى هذا الأساس هتكت حرمات آل الله، وأضيعت مقدسات العترة والهادية، وسفكت دماء الأبرياء الأزكياء من شيعة أهل البيت الطاهر، وشاع وذاع لعن سيد العترة نفس النبي الأقدس، والمطهر بلسان الله، على صهوات المنابر، واتخذه خلفاء بني أمية سنة متبعة في أرجاء العالم الاسلامي، حتى وبخ معاوية سعد بن أبي وقاص لسكوته عن سب أبي السبطين مولانا أمير المؤمنين (2) حتى تمكن عبد الله بن الوليد ابن عثمان بن عفان من أن قام إلى هشام بن عبد الملك عشية عرفة وهو على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين! إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب (3).
____________
(1) تاريخ ابن عساكر 6: 338، ميزان الاعتدال للذهبي 1: 449.
(2) راجع الجزء الثالث ص 200 ط 2
(3) رسائل الجاحظ ص 92، أنساب البلاذري 5: 116
وعلى هدا الأساس من معنى الخلافة لا عسف ولا حزازة في رأي الخليفة الأول ومن حذا حذوه من صحة اختيار المفضول على الفاضل، وتقديم المتأخر على المتقدم بأعذار مفتعلة، وأوهام مختلقة، ومرجحات واهية، وسياسة وقتية، إذ الأمر الذي لا يشترط في صاحبه شئ من القداسة الروحية، والملكات الفاضلة، والخلايق الكريمة، والنفسيات الشريفة، ومعالم ومعارف، ومدارج ومراتب، ولا يؤاخذ هو بما فعل، ولا يخلع بتعطيل الأحكام، وترك إقامة، الحدود، ولا ينابذ ما دام يقيم في أمته الصلاة كما سمعت تفصيل ذلك كله لا وازع عندئذ من أن يكون أمثال أبي عبيدة الجراح حفار القبور حاملا لهذا العبء الثقيل، متحليا بأبراد الخلافة، ولا مانع من تقديم الخليفة الأول إياه أو صاحبه على نفسه في بدء الأمر، ولا حاجز من اختيار أي مستأهل لتنفيذ ما ذكر ص 138 مما يقام له الإمام ولو بمعونة سماسرته وجلاوزته ومن يهمه أمره، بل من له الشدة والفظاظة والعنف والتهور إلى أمثالها ربما يكون أولى من غيره مهما اقتضته السياسة الوقتية.
واتبع الأكثرون الخليفة في تقديم المفضول على الفاضل، قال القاضي في المواقف: جوز الأكثرون إمامة المفضول مع وجود الفاضل، إذ لعله أصلح للإمامة من الفاضل، إذا المعتبر في ولاية كل أمر معرفة مصالحه ومفاسده، وقوة القيام بلوازمه، ورب مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف، وشرائطها أقوم، وفصل قوم فقالوا: نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب وإلا وجب. وقال الشريف الجرجاني: كما إذا فرض أن العسكر والرعاية لا ينقادون للفاضل بل للمفضول. " شرح المواقف 3. 279 "
قال الأميني: إنا لا نريد بالأفضل إلا الجامع لجميع صفات الكمال التي يمكن اجتماعها في البشر لا الأفضلية في صفة دون أخرى، فيكون حينئذ الأفقه مثلا هو الأبصر بشئون السياسة، والأعرف بمصالح الأمور ومفاسدها، والأثبت في إدارة الصالح العام، والأبسل في مواقف الحروب، والأقضى في المحاكمات، والأخشن في ذات الله، والأرأف بضعفاء
____________
(1) تاريخ ابن كثير 9: 432.
إلخ. وعلى المولى سبحانه أن لا يخلي الوقت عن إنسان هو كما قلناه، بعد أن أثبتنا إن تقييضه من اللطف الواجب عليه سبحانه، وهو عديل القرآن الكريم ولا يفترقا حتى يردا على النبي الحوض.
وأما من لا ينقاد له من الجيش وغيره فهو كمن لا ينقاد لصاحب الرسالة، لا يزحزح بذلك صاحب الأمر عما قيضه الله له من الولاية الكبرى، بل يجب على بقية الأمة إخضاعهم كما أخضعوا أهل الردة أو من حسبوه منهم، وأن يفوقوا إليه سهم الجن كما فوقوه إلى سعد بن عبادة أمير الخزرج.
ولم تكن للخليفة مندوحة عن رأيه في تقديم المفضول، وما كان إلا تصحيحا لخلافة نفسه، ولتقدمه على من قدسه المولى سبحانه في كتابه العزيز، ورآه نفس النبي الأقدس وقرن طاعته بطاعته، وولايته بولايته، وأكمل به الدين، وأتم به النعمة، وأمر نبيه بالبلاغ وضمن له العصمة من الناس، وهتف هاتف الوحي بولايته وأولويته بالمؤمنين من أنفسهم في محتشد رهيب بن مائة ألف أو يزيدون قائلا: يا أيها الناس! إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم من كنت مولاه فعلي مولاه، أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.
ولم تكن تخفى لأي أحد فضائل أبي السبطين وملكاته وروحياته، وطيب عنصره، وطهارة محتده، وقداسة مولده، وعظمة شأنه، وبعد شأوه في حزمه وعزمه وسبقه في الاسلام، وتفانيه في ذات الله، وأفضليته في العلم والفضائل كلها.
نعم: على رأي الخليفة في تقديم المفضول على الفاضل وقع الانتخاب من أول يومه، فبويع أبو بكر بعقد رجلين ليس إلا: عمر بن الخطاب وأبي عبيدة الحفار ابن الجراح، وكان الأمر أمر نهار قصي ليلا، مدبرا بين أولئك الرجال مؤسسي الانتخاب الدستوري، وما اتبعهما يوم ذاك إلا أسيد بن حضير، وبشر بن سعد، ثم دردب الناس لما عضه الشفاف (1) واتسع الخرق على الراقع، وما أدركت القويمة حتى أكلتها
____________
(1) مثل يضرب لمن يمتنع مما يراد منه ثم يذل وينقاد.
بويع أبو بكر ودب قمله (3) وقسمت الوظايف الدينية من أول يومه بين ثلاث: له الإمامة، وقال عمر: وإلي القضاء. قال أبو عبيدة: وإلي الفئ. وقال عمر: فلقد كان يأتي علي الشهر ما يختصم إلي فيه اثنان (4) ولم يكن هناك من يزعم أو يفوه بأفضلية أبي بكر وعمر من مولانا أمير المؤمنين، هذا أبو بكر ينادي على صهوات المنابر: وليت ولست بخيركم، ولي شيطان يعتريني. ويطلب من أمته العون له على نفسه و إقامة أمته وعوجه (5).
وهذا عمر بن الخطاب ونصوصه بين يديك على أن الأمر كان لعلي غير أنهم زحزحوه عنه لحداثة سنه والدماء التي عليه (6) أو لما قاله لما عزم على الاستخلاف:
لله أبوك لولا دعابة فيك. كما في " الغيث المنسجم للصفدي 1: 168 " وكان يدعو الله ربه أن لا يبقيه لمعضلة ليس فيها أبو الحسن، ويرى أن عليا لولاه لضل هو (7) ولولاه لهلك هو، ولولاه لافتضح هو، وعقمت النساء أن تلدن مثل علي. إلى كثير مما مر عنه في الجزء السادس في نوادر الأثر، ولم يكن قط يختلج في هواجس ضميره ولن يختلج " وأنى يختلج " أنه كان يماثل مولانا عليا في إحدى فضائله، أو يدانيه في شئ منها، أو يبعد عنه بقليل.
وبعدما عرفت معنى الخلافة عند القوم، ووقفت على رأي سلفهم فيها وفي مقدمهم الخليفة الأول، هلم معي إلى التهافت بين تلكم الكلمات وبين مزاعم أخرى جنح إليها
____________
(1) أصل المثل: أدرك القويمة لا تأكلها الهويمة. والمراد: إدراك الرجل الجاهل حتى لا يقع في هلكة.
(2) مثل يضرب لمن لا يقبل الوعظ.
(3) مثل يضرب للانسان إذا سمن وحسن حاله.
(4) طبقات ابن سعد 3 ص 130.
(5) راجع ما مر في هذا الجزء ص 118.
(6) راجع ما مر في الجزء الأول ص 389، وفي هذا الجزء ص 80.
(7) التمهيد للباقلاني ص 199.
قال أحمد بن محمد الوتري البغدادي في روضة الناظرين ص 2: إعلم أن جماهير أمل السنة والجماعة يعتقدون أن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله تعالى عنهم، وأن المتقدم في الخلافة هو المقدم في الفضيلة لاستحالة تقديم المفضول على الفاضل لأنهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل، والدليل عليه: إن أبا بكر رضي الله عنه لما نص على عمر رضي الله عنه قام إليه طلحة رضي الله عنه فقال له: ما تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا قال أبو بكر رضي الله عنه:
فركت لي عينيك، ودلكت لي عقبيك، وجئتني تكفني عن رأيي، وتصدني عن ديني أقول له إذا سألني: خلفت عليهم خير أهلك. فدل على أنهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل. ا ه.
وأنت ترى أن هذه المزعمة فيها دجل لإغراء البسطاء من الأمة المسكينة و هي تصادم رأي الجمهور ونظريات علماء الكلام منهم، وعمل الصحابة ونصوصهم، وقبل كل شيئ رأي الخليفة أبي بكر، وكأن ما حسبه من الاستحالة قد خفي علي الخليفة وعلى من آزره على أمره، واعتنق إمامته في القرون والأجيال من بعده وكأن أفضلية الرجل الفظ الغليظ كانت تخفى على الصحابة، ولم يكن يعلمها أحد فأعرب عنها أبو بكر، وكأن التاريخ ونوادر الأثر لم تكن بين يدي (الوتري) حتى يعرف مقادير الرجال، ولا يغلو فيهم ولا يتحكم ولا يجازف في القول ولا يسرف في الكلام ويعلم بأن عمر لو كان خير الأمة وتلك سيرته ونوادر أثره فعلى الاسلام السلام.
نعم: إنما هي أهواء وشهوات أخذ كل بطرف منها، وفتاوى مجردة هملج ورائها كل حسب ميوله، ونحن نضع عقلك السليم مقياسا بين هذين الإمامين: من نصفه نحن، ومن يقول به هؤلاء. فراجعه إلى أيهما يجنح، وأيا منهما يتخذه وسيلة بينه وبين ربه سبحانه، وأيهما يحق له أن يستحوذ على رقاب المسلمين ونفوسهم ونواميسهم وأحكامهم في دنياهم وأخراهم؟ إن لم تكن في ميزان نصفته عين. فويل للمطففين.
- 6 -
رأي الخليفة في القدر
أخرج اللالكائي في السنة عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر؟ قال: فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ قال: نعم، يا بن اللخناء! أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ (1) أنفك (2).
قال الأميني: أترى الخليفة عرف معنى القدر الصحيح؟ بمعنى ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الإلهي، مع إعطاء القدرة على الفعل والترك، مع تعريف الخير والشر وتبيان عاقبة الأول ومغبة الأخير.
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3) إنا هديناه النجدين (4) ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم (5) ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد (6).
كل ذلك مع تكافؤ العقل والشهوة في الانسان مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمارة بالسوء، فمن عامل بالطاعة بحسن اختياره، ومن مقترف للمعصية بسوء الخيرة.
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات (7) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها (8) من اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها (9) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (10) فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها (1) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت
____________
(1) وجاء عنقه: ضربه، ووجأه: رضه ودقه.
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 65.
(3) سورة الانسان: 3.
(4) سورة البلد: 10.
(5) سورة النمل: 40.
(6) سورة لقمان: 12.
(7) سورة فاطر: 33.
(8) سورة يونس: 108 الاسراء: 15.
(9) سورة الزمر: 41.
(10) سورة الجاثية: 15.
(11) سورة الأنعام: 104.
فالقدر لا يستلزم جبرا وعلم المولى سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين ويأتون به من العمل من خير أو شر لا ينافي التكليف. كما لا أثر له في اختيار المكلفين، ولا يقبح معه العقاب على المعصية، ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (5) ونضع الموازين القسط يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (6) اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم (7) فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (8).
فهل الخليفة عرف هذا المعنى من القدر، فأجاب بما أجاب؟ لكن السائل لم يفهم ما أراده فانتقده بما انتقد، غير أنه لو كان يريد ذلك لما جابه المنتقد بالسباب المقذع والتمني بأن يكون عنده من يجأ أنفه قبل بيان المراد فيفئ الرجل إلى الحق.
أو أن الخليفة لم يكن يعرف من القدر إلا ما ارتفعت به عقيرة جماهير من أشياعه من القول بخلق الأعمال؟ فيتجه إذن ما قاله المنتقد سبه الخليفة أولم يسبه.
والذي يؤثر عن ابنته عائشة هو الجنوح إلى المعنى الثاني يوم اعتذرت عن نهضتها على مولانا أمير المؤمنين، وتبرجها عن خدرها المضروب لها تبرج الجاهلية الأولى بعد أن ليمت على ذلك: بأنها كانت قدرا مقدورا وللقدر أسباب، أخرجه الخطيب البغدادي بإسناده في تاريخه 1: 160.
وإن كان يوقفنا موقف السادر ما يؤثر عنها فيما أخرجه الخطيب أيضا في تاريخه 5: 185 عن عروة قال: ما ذكرت عائشة مسيرها في وقعة الجمل قط إلا بكت حتى
____________
(1) سورة سبأ: 5.
(2) سورة الاسراء: 7.
(3) سورة النجم: 30.
(4) سورة القصص: 85.
(5) سورة الزلزلة: 7، 8.
(6) سورة الأنبياء: 47.
(7) سورة غافر: 17.
(8) سورة آل عمران: 25.
كأنها كانت ترى مسيرها حوبا كبيرا جديرا أن تبكي عليه مدى الدهر، وتبل بدمعها خمارها، وتتمنى ما تمنت وهذا ينافي ذلك الاعتذار البارد المأخوذ أصله عن رأي أبيها الخليفة الذي لم يجد مساغا في دفع ما يتجه عليه إلا السباب.
- 7 -
ترك الخليفة الضحية مخافة أن تستن
قد مر في الجزء السادس ص 177 ط 2 من الصحيح الوارد في أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان كراهة أن يقتدى بهما، فيظن فيها الوجوب.
وقد استوفينا حق القول هناك فراجع.
- 8 -
ردة بني سليم
عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في بني سليم ردة فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد فجمع رجالا منهم في الحظائر ثم أحرقها عليهم بالنار فبلغ ذلك عمر فأتى أبا بكر فقال: تدع رجلا يعذب بعذاب الله عز وجل، فقال أبو بكر: والله لا أشيم سيفا سله الله على عدوه حتى يكون هذا الذي يشيمه، ثم أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة.
الرياض النضرة 1 ص 100.
لبس في هذا الجواب مخرج عن اعتراض عمر فقد جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. (المائدة آية 33)
وصح عنه صلى الله عليه وآله النهي عن الإحراق وقوله: لا يعذب بالنار إلا رب النار. و
____________
(1) وذكره ابن الأثير في النهاية 4: 151، وابن منظور في لسان العرب. 2: 196، والزبيدي في تاج العروس 1: 367.
سنن أبي داود 2 ص 219، مصابيح السنة 2: 59، مشكاة المصابيح ص 300.
وأما فعل أمير المؤمنين عليه السلام بعبد الله بن سبأ وأصحابه فلم يكن إحراقا ولكن حفر لهم حفائر، وخرق بعضها إلى بعض، ثم دخن عليهم حتى ماتوا كما قال عمار الدهني: فقال عمرو بن دينار: قال الشاعر:
وأما قول أبي بكر: لا اشيم سيفا الخ. فهو تحكم تجاه النص النبوي، وما كان السيف أنطق من القول، ومتى شهر الله سبحانه هذا السيف صاحب الدواهي الكبرى والطامات في يومه هذا، ويومه الآخر المخزي في بني حنيفة ومع مالك بن نويرة و أهله، ويومه قبلهما مع بني جذيمة الذي تبرأ فيه رسول صلى الله عليه وآله من عمله، إلى غيرها من المخاريق والمخازي التي تغمد بها هذا السيف.
- 9 -
حرق الخليفة الفجاءة
قدم على أبي بكر رجل من بني سليم يقال له: الفجاءة وهو إياس بن عبد الله بن عبد باليل بن عميرة بن خفاف فقال لأبي بكر: إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار فاحملني وأعني فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحا فخرج يستعرض الناس
____________
(1) صحيح البخاري 4: 325 كتاب الجهاد باب: لا يعذب بعذاب الله، مسند أحمد 3: 494 و ج 2: 207 سنن أبي داود 2: 219، صحيح الترمذي سنن البيهقي 9: 71، 72، مصابيح السنة 2 ص 57 58، تيسير الوصول 1 ص 236.
(2) صحيح البخاري 10 ص 83 كتاب استتابة المرتدين، سنن أبي داود 2 ص 219، مصابيح السنة 2 ص 57.