قال الأميني: القول في هذا كالذي سبقه من عدم جواز الاحراق بالنار والتعذيب بها، على أن الفجاءة كان متظاهرا بالاسلام وتلقاه الخليفة بالقبول يوم أعطاه ظهرا و سلحه، وإن كان فاسقا بالجوارح على ما انتهى إلى الخليفة من يقين الخبر، ولم يكن سيف الله مشهورا هاهنا حتى يتورع عن إغماده، ولا يدعى مثله لطريفة حتى يكون معذرا في مخالفة النص الشريف، ولعل لذلك كله ندم أبو بكر نفسه يوم مات عن فعله ذلك كما في الصحيح الآتي إنشاء الله تعالى. فإلى الملتقى.
والعجب كل العجب من دفاع القاضي عضد الايجي عن الخليفة بقوله في المواقف. إن أبا بكر مجتهد، إذ ما من مسألة في الغالب إلا وله فيها قول مشهور عند أهل العلم، وإحراق الفجاءة لاجتهاده وعدم قبول توبته لأنه زنديق ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح وجاء بعده القوشجي مدافعا عن الخليفة بقوله في شرح التجريد ص 482: إحراقه فجاءة بالنار من غلطة في اجتهاده فكم مثله للمجتهدين؟
____________
(1) تأريخ الطبري 3 ص 234، تأريخ ابن كثير 6 ص 319، الكامل لابن الأثير 2 ص 146، الإصابة 2 ص 322.
- 10 -
رأي الخليفة في قصة مالك
سار خالد بن الوليد يريد البطاح حتى قدمها فلم يجد بها أحدا وكان مالك بن نويرة قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع وقال: يا بني يربوع إنا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر، فتفرقوا على ذلك، ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الاسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب، وإن إمتنع أن يقتلوه، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يأذنوا ويقيموا إذا نزلوا منزلا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيئ إلا الغارة ثم تقتلوا كل قتلة، الحرق فما سواه، إن أجابوكم إلى داعية الاسلام فسائلوهم فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوها فلا شئ إلا الغارة، ولا كلمة، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع من عاصم وعبيد وعرين وجعفر فاختلفت السيرة فيهم، وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا و صلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شئ وجعلت تزداد بردا، فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئوا أسراكم وكانت في لغة كنانة القتل فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكا وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه، وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك فقال أبو قتادة: هذا عملك؟ فزبره خالد فغضب ومضى. وفي تاريخ أبي الفدا: كان عبد الله بن عمرو أبو قتادة الأنصاري حاضرين فكلما خالدا في أمره فكره كلامهما. فقال مالك: يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا. فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه.
فقال عمر لأبي بكر: إن سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في ذلك فقال: يا عمر! تأول فأخطأ فارفع لسانك عن خالد فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين.
فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتلته ثم نزا على امرأته، وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحصلها ثم قال: أرئاء؟ قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك ولا يكلمه خالد بن وليد ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتى دخل على أبي بكر فلما أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك. قال فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر، وعمر جالس في المسجد فقال خالد: هلم إلي يا بن أم شملة؟ قال فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه ودخل بيته.
وقال سويد: كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعرا وإن أهل العسكر اثفوا برؤوسهم القدور فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكا فإن القدر نضجت وما نزج رأسه من كثرة شعره، وقى الشعر البشر حرها أن يبلغ منه ذلك.
وقال ابن شهاب: إن مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس، فلما قتل أمر خالد برأسه فنصب اثفية لقدر فنضج ما فيها قبل أن يخلص النار إلى شؤون رأسه.
وقال عروة: قدم أخو مالك متمم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في
وروى ثابت في الدلائل: إن خالدا رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال فقال مالك بعد ذلك لامرأته: قتلتيني. يعني سأقتل من أجلك (1).
وقال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفدا والزبيدي: إن مالك بن نويرة رضي الله عنه قال لامرأته يوم قتله خالد بن وليد: أقتلتني. أي عرضتني بحسن وجهك للقتل لوجوب الدفع عنك، والمحاماة عليك، وكانت جميلة حسناء تزوجها خالد بعد قتله فأنكر ذلك عبد الله بن عمر. وقيل فيه:
وفي تاريخ ابن شحنة هامش الكامل 7 ص 165: أمر خالد ضرارا بضرب عنق مالك فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني. وكانت في غاية الجمال، فقال خالد: بل قتلك رجوعك عن الاسلام فقال مالك: أنا مسلم. فقال خالد: يا ضرار! إضرب عنقه فضرب عنقه وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي:
فلما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر: إن خالدا قد زنى فاجلده. قال أبو بكر: لا، لأنه تأول فأخطأ قال: فإنه قتل مسلما فاقتله. قال: لا، إنه تأول فأخطأ.
ثم قال: يا عمر! ما كنت لأغمد سيفا سله الله عليهم، ورثى مالكا أخوه متمم بقصائد عديدة. وهذا التفصيل ذكره أبو الفدا أيضا في تاريخه 1: 158.
____________
(1) تأريخ الطبري 3 ص 241، تأريخ ابن الأثير 3 ص 149، أسد الغابة 4: 295، تأريخ ابن عساكر 5 ص 105، 112، خزانة الأدب 1: 237، تأريخ ابن كثير 6 ص 321، تاريخ الخميس، 2: 233، الإصابة ج 1 ص 414 و ج ص 357.
(2) الفائق 2 ص 154، النهاية 3 ص 257، تاريخ أبي الفدا ج 1 ص 158، تاج العروس 8 ص 75.
م وفي تاريخ ابن عساكر 5: 112: قال عمر: إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه وما كان يصنع في المال. وكان خالد إذا صار إليه شيئ قسمه في أهل الغنى ولم يرفع إلى أبي بكر حسابه، وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل الأشياء التي لا يراها أبو بكر، وأقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته، وصالح أهل اليمامة ونكح ابنة مجاعة بن مرارة، فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمم بن نويرة وأمر خالدا بطلاق امرأة مالك ولم ير أن يعزله وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد ].
نظرة في القضية
قال الأميني: يحق على الباحث أن يمعن النظرة في القضية من ناحيتين.
الأولى: ما ارتكبه خالد بن الوليد من الطامات والجرائم الكبيرة التي تنزه عنها ساحة كل معتنق بالاسلام، وتضاد نداء القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويتبرأ منها و ممن اقترفها من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر. أيحسب الانسان أن يترك سدى؟
(1) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ (2) أم: حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون؟ (3).
بأي كتاب أم بأية سنة ساغ للرجل سفك تلكم الدماء الزكية من الذين آمنوا بالله ورسوله واتبعوا سبيل الحق وصدقوا بالحسنى، وأذنوا وأقاموا وصلوا وقد علت عقيرتهم: بأنا مسلمون، فما بال السلاح معكم؟ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (4).
ما عذر الرجل في قتل مثل مالك الذي عاشر النبي الأعظم، وأحسن صحبته،
____________
(1) سورة القيامة آية: 3.
(2) سورة البلد آية: 5.
(3) سورة العنكبوت آية 4.
(4) سورة آل عمران آية: 188
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها [ النساء: 93 ].
وما ذا أحل للرجل شن الغارة على أهل أولئك المقتولين وذويهم الأبرياء و إيذائهم وسبيهم بغير ما اكتسبوا إثما، أو اقترفوا سيئة، أو ظهر منهم فساد في الملأ الديني؟ الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (2).
ما هذه القسوة والعنف والفظاظة والتزحزح عن طقوس الاسلام، وتعذيب رؤس أمة مسلمة، وجعلها أثفية للقدر وإحراقها بالنار؟ فويل للقاسية قلوبهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم.
ما خالد وما خطره بعد ما اتخذ إلهه هواه، وسولته نفسه، وأضلته شهوته، وأسكره شبقه؟ فهتك حرمات الله، وشوه سمعة الاسلام المقدس، ونزى على زوجة مالك قتيل غيه في ليلته (3) إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا، ولم يكن قتل الرجل إلا لذلك السفاح، وكان أمرا مشهودا وسرا غير مستسر، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله إياها: أقتلتني. فقتل الرجل مظلوما غيرة و محاماة على ناموسه. وفي المتواتر: من قتل دون أهله فهو شهيد (4) وفي الصحيحة من قتل دون مظلمته فهو شهيد (5).
والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يبرئ خالدا من تلكم الجنايات، أيصدق جحد الرجل فرض الزكاة ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدق بما جاء به نبيه الأقدس، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها، وينادي بأعلى صوته: نحن المسلمون، وقد استعمله النبي الأعظم على الصدقات ردحا من الزمن؟
لا ها الله.
____________
(1) سورة المائدة آية: 32.
(2) سورة الأحزاب آية: 58.
(3) الصواعق ص 21، تاريخ الخميس 2: 333.
(4) مسند أحمد 1 ص 191، نص على تواتره المناوي في الفيض القدير 6 ص 195.
(5) أخرجه النسائي والضياء المقدسي كما في الجامع الصغير، وصححه السيوطي راجع الفيض القدير 6 ص 195.
وقد صح عن المشرع الأعظم قوله: لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاثة: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة (1).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس (2).
وقوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله (3).
وعهد أبو بكر نفسه لسلمان بقوله: من صلى الصلوات الخمس فإنه يصبح في ذمة الله ويمسي في ذمة الله تعالى فلا تقتلن أحدا من أهل ذمة الله فتخفر الله في ذمته فيكبك الله في النار على وجهك (4).
أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الاسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال أولئك الكفرة الفجرة الذين حق على النبي الطاهر شن الغارة عليهم؟
ويحكم عليهم بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات؟
وأما ما مر من الاعتذار بأن خالدا قال: أدفئوا أسراكم وأراد الدفء وكانت في لغة كنانة: القتل. فقتلوهم فخرج خالد وقد فرغوا منهم. فلا يفوه به إلا معتوه استأسر هواه عقله، وسفه في مقاله، لماذا قتل ضرار مالك بتلك الكلمة وهو لم
____________
(1) صحيح البخاري 10: 63 كتاب المحاربين. باب: قول الله تعالى إن النفس بالنفس، صحيح مسلم 2: 37، الديات لابن أبي عاصم الضحاك ص 10، سنن أبي داود 2: 219 سنن ابن ماجة 2: 110، مصباح السنة 2: 50، مشكاة المصابيح ص 291.
(2) الديات لابن أبي عاصم الضحاك ص 9، سنن ابن ماجة 2: 110، سنن البيهقي 8: 19.
(3) صحيح مسلم 1: 30، الديات لابن أبي عاصم الضحاك ص 17، 18 سنن ابن ماجة 2:
457، خصايص النسائي ص 7، سنن البيهقي 8: 19، 196.
(4) أخرجه أحمد في الزهد كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 70.
وإن صحت المزعمة فلما ذا غضب أبو قتادة الأنصاري على خالد وخالفه وتركه يوم ذاك وهو ينظر إليه من كثب، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب؟
ولماذا اعتذر خالد بأن مالكا قال: ما أخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا؟
وهذا اعتراف منه بأنه قتله غير أنه نحت على الرجل مقالا، وهو من التعريض الذي لا يجوز القتل " بعد تسليم صدوره منه " عند الأمة الإسلامية جمعاء، والحدود تدرأ بالشبهات.
ولماذا رآه عمر عدوا لله، وقذفه بالقتل والزنا؟ وإن لم يفتل ذلك ذؤابة (1) أبي بكر.
ولماذا هتكه عمر في ملأ من الصحابة بقوله إياه: قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك؟.
ولماذا رأى عمر رهقا في سيف خالد وهو لم يقتل مالكا وصحبه وإنما قتلتهم لغة كنانة؟
ولماذا سكت خالد عن جوابه؟ وما أخرسه إلا عمله، إن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.
ولماذا صدق أبو بكر عمر بن الخطاب في مقاله ووقيعته على خالد وما أنكر عليه غير أنه رآه متأولا تارة، ونحت له فضيلة أخرى؟
ولماذا أمر خالد بالرؤس فنصبت أثفية للقدور، وزاد وصمة على لغة كنانة؟
ولماذا نزى على امرأة مالك، وسبى أهله، وفرق جمعه، وشتت شمله، وأباد قومه، ونهب ماله؟ أكل هذه معرة لغة كنانة؟
ولماذا ذكر المؤرخون أن مالكا قتل دون أهله محاماتا عليها؟
ولماذا أثبت المترجمون ذلك القتل الذريع على خالد دون لغة كنانة، وقالوا في
____________
(1) مثل يضرب يقال: فتل ذؤابة فلان. أي أزاله عن رأيه.
ما شأن أبناء السلف وقد غررت بهم سكرة الشبق، وغالتهم داعية الهوى، وجاؤا لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون؟ فترى هذا يقتل مثل مالك ويأتي بالطامات رغبة في نكاح أم تميم.
وهذا يقتل سيد العترة أمير المؤمنين شهوة في زواج قطام.
وآخر (3) شن الغارة على حي من بني أسد فأخذ امرأة جميلة فوطئها بهبة من أصحابه، ثم ذكر ذلك لخالد فقال: قد طيبتها لك " كأن تلكم الجنود كانت مجندة لوطي النساء وفض ناموس الحرائر " فكتب إلى عمر فأجاب برضخه بالحجارة (4).
وهذا يزيد بن معاوية يدس إلى زوجة ريحانة رسول الله الحسن السبط الزكي السم النقيع لتقتله ويتزوجها (5) أو فعله معاوية لغاية له كما يأتي.
ووراء هؤلاء المعتدين قوم ينزه ساحتهم بأعذار مفتعلة كالتأويل والاجتهاد - وليتهما لم يكونا - وتخطأة لغة كنانة، والله يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين.
الناحية الثانية
الثانية من الناحيتين التي يهمنا أن نولي شطرها وجه البحث تسليط الخليفة أولا أمثال خالد وضرار بن الأزور وشارب الخمور وصاحب الفجور. (6) على الأنفس والدماء، على الأعراض ونواميس الاسلام، وعهده إلى جيوشه في حرق أهل الردة
____________
(1) الاستيعاب 1: 338، أسد الغابة 3: 39، خزانة الأدب للبغدادي 2: 9، الإصابة 2: 209.
(2) الإصابة 3: 357، مرآت الجنان 1: 62.
(3) هو ضرار بن الأزور زميل خالد بن الوليد وشاكلته في النزو على الحرائر.
(4) تاريخ ابن عساكر 7: 31، خزانة الأدب 2: 8، الإصابة 2: 209.
(5) تاريخ ابن عساكر 4: 226.
(6) تاريخ ابن عساكر 7: 30، خزانة الأدب 2: 8، الإصابة 2: 209.
لم لم يؤاخذ الخليفة خالدا بقتل مالك وصحبه المسلمين الأبرياء، وقد ثبت عنده كما يلوح ذلك عن دفاعه عنه ومحاماته عليه؟
لم لم يقتص منه قصاص القاتل؟ ولم يقم عليه جلدة الزاني؟ ولم يضربه حد المفتري؟ ولم يعزره تعزيز المعتدي على ما ملكته أيدي أولئك المسلمين؟
لم لم ير عزل خالد وقد كره ما فعله، وعرض الدية على متمم بن نويرة أخي مالك؟ وأمر خالدا بطلاق امرأة مالك كما في الإصابة 1 ص 415؟
دع هذه كلها ولا أقل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوبيخ الرجل وعتابه على تلكم الجرائم، وأقل الإنكار كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة.
ما للخليفة يتلعثم ويتلعذم في الدفاع عن خالد وجناياته؟ فيرى تارة أنه تأول وأخطأ، ويعتذر أخرى بأنه سيف من سيوف الله، وينهي عمر بن الخطاب عن الوقيعة فيه، ويأمره بالكف عنه وصرف اللسان عن مغايطته، ويغضب على أبي قتادة لإنكاره على خالد كما في شرح ابن أبي الحديد 4: 187.
ونحن نقتصر في البحث عن هذا الجانب على توجيه القارئ إليه، ولم نذهب به قصاه، ولم نبتغ فيه مداه، إذ لم نر أحدا تخفى عليه حزازة أي من العذرين، هلا يعلم متشرع في الاسلام أن تلكم الطامات والجرائم الخطيرة لا يتطرق إليها التأول والاجتهاد؟ ولا يسوغ لكل فاعل تارك أن يتترس بأمثالهما في معراته، ويتدرع بها في أحناثه، ولا تدرأ بها الحدود، ولا تطل بها الدماء، ولا تحل بها حرمات الحرائر، و لا يرفض لها حكم الله في الأنفس والأعراض والأموال، ولم يضح الحاكم لمدعيها كما ادعى قدامة بن مظعون في شربه الخمر بأنه تأول واجتهد فأقام عمر عليه الحد وجلده ولم يقبل منه العذر. كما في سنن البيهقي 8: 316 وغيره.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن محارب ين دثار: إن ناسا من أصحاب النبي
وجلد أبو عبيدة أبا جندل العاصي بن سهيل وقد شرب الخمر متأولا لقوله تعالى:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا. الآية: كما في الروض الأنف للسهيلي 2: 231.
وهل يرتاب أحد في أن سيفا سله المولى سبحانه لا يكون فيه قط رهق ولا شغب، ولا تسفك به دماء محرمة، ولا تهتك به حرمات الله، ولا يرهف لنيل الشهوات، ولا ينضى للشبق، ولا يفتك به ناموس الاسلام، ولا يحمله إلا يد أناس طيبين، و رجال نزهين عن الخنابة والعيث والفساد؟
فما خالد وما خطره حتى يهبه الخليفة تلك الفضيلة الرابية ويراه سيفا سله الله على أعداءه، وهو عدو الله بنص من الخليفة الثاني كما مر في ص 159؟ أليست هذه كلها تحكما وسرفا في الكلام، وزورا في القول، واتخاذ الفضائل في دين الله مهزئة ومجهلة؟
كيف يسعنا أن نعد خالدا سيفا من سيوف الله سله على أعداءه؟ وقد ورد في ترجمته وهي بين أيدينا: إنه كان جبارا فاتكا، لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه، ولقد وقع منه في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله مع بني جذيمة بالغميصا أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويرة وعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن غضب عليه مدة وأعرض عنه، وذلك العفو هو الذي أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح (2).
إن كان عفو النبي الأعظم عن الرجل ما غضب عليه وأخذه بذنبه، وأعرض عنه، ردحا من الزمن أطمعه حتى فعل ما فعل، فانظر ماذا يصنع صفح الخليفة عنه من دون أي غضب عليه وإعراض عنه؟ وما الذي يأثر دفاعه عنه من الجرأة والجسارة، في نفس الرجل ونفوس مشاكليه من أناس العيث والفساد، وشعب الشغب والفتن؟
أنى لنا أن نرى خالدا سيفا سله الله على أعدائه وفي صفحة التاريخ كتاب أبي بكر
____________
(1) الدر المنثور 2: 321.
(2) شرح ابن أبي الحديد 4 ص 187.
وليست هذه بأول قارورة كسرت في الاسلام بيد خالد، وقد صدرت منه لدة هذه الفحشاء المنكرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وتبرأ صلى الله عليه وآله من صنيعه. قال ابن إسحاق:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عز وجل، ولم يأمرهم بقتال، وكان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا، ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العزب فوطئوا بني جذيمة ابن عامر فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.
قال: حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال: لما أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم (2): ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الاسئار، وما بعد الاسئار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدا قال: فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم! أتريد أن تسفك دمائنا إن الناس قد أسلموا، ووضعوا السلاح، ووضعت الحرب، وأمن الناس؟ فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد، فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: أللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد. قال أبو عمر في الاستيعاب 1: 153 هذا من صحيح الأثر.
قال ابن هشام: حدث بعض أهل العلم عن إبراهيم بن جعفر المحمودي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت كأني لقمت لقمة من حيس (3) فالتذذت طعمها فاعترض
____________
(1) تاريخ الطبري 3 ص 254، تاريخ الخميس 3: 343.
(2) في الإصابة جحدم. في 1 ص 227 وجذيم بن الحارث في 1 ص 218. والصحيح هو الأول (3) الحيس. بفتح فسكون أن يخلط السمن والتمر والأقط فيؤكل. والأقط: ما يعقد من اللبن ويجفف.
قال ابن إسحاق: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: يا علي! اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال حتى أنه ليدى لهم ميلغة (1) الكلب إذا لم يبق شيئ من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم: هل بقي لكم (بقية من) دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا. قال:
فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت.
قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى أنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: أللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن وليد. ثلاث مرات.
وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك فقال له عبد الرحمن ابن عوف: عملت بأمر الجاهلية في الاسلام (2) وفي الإصابة: أنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة، وقد تعد هذه الفضيحة أيضا من جنايات لغة كنانة كما في الإصابة 2: 81.
فهذا الرهق والسرف في سيف خالد على عهد أبي بكر من بقايا تلك النزعات الجاهلية، وهذه سيرته من أول يومه، فأنى لنا أن نعده سيفا من سيوف الله وقد تبرأ منه نبي الاسلام الأعظم غير مرة، مستقبل القبلة شاهرا يديه وأبو بكر ينظر إليه من كثب.
____________
(1) الميلغة: خشبة تحفر ليلغ فيها الكلب.
(2) سيرة ابن هشام 4 ص 53 - 57، طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل 659، صحيح البخاري شطرا منه في كتاب المغازي باب بعث خالد إلى بني جذيمة، تاريخ أبي الفدا ج 1 ص 145، أسد الغابة 3: 102، الإصابة 1 ص 318، ج 2 ص 81.
- 11 -
ثلاثة وثلاثة وثلاثة
عن عبد الرحمن بن عوف قال: إنه دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مهتما، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئا فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتراه؟ قال نعم: إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك، والله لإن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق إنما هو الفجر أو البحر. فقلت له: خفض عليك رحمك الله، فإن هذا يهيضك في أمرك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك. وإما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرا، ولم تزل صالحا مصلحا، وإنك لا تأسى على شيئ من الدنيا. قال أبو بكر رضي الله عنه: أجل أني لا آسي على شيئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن. وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن. وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ وإن كانوا قد غلقوه على الحرب. ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته سريحا، أو خليته نجيحا. ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا وأما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه. ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن
ومد يديه.
ووددت أني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد، ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئا.
أخرجه أبو عبيد في الأموال ص 131، والطبري في تاريخه 4 ص 52، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1 ص 18، والمسعودي في مروج الذهب 1: 414، وابن عبد ربه في السد الفريد 2: 254.
والإسناد صحيح رجاله كلهم ثقات ربعة منهم من رجال الصحاح الست.
قال الأميني: إن في هذا الحديث أمورا تسعة، ثلاثة منها فات الخليفة فقهها يوم عمل بها، وقد بسطنا القول في إحراق الفجاءة منها.
وأما تمني قذف الأمر في عنق أحد الرجلين فإنه ينم عن أن الخليفة انكشف له في أخريات أيامه أن ما ناء به من الأمر لم يكن على القانون الشرعي في الخلافة والوصية، لأن المخلف والموصي يجب أن يكون هو المعين لمن ينهض بأمره من بعده، وهو الذي تنبه له الخليفة الثاني بعد ردح من الزمن فقال: كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (1).
ولا أدري أن ما تنبها له هل هو قصور في المختار " بالفتح " أو فيه " بالكسر " أو فيهما معا؟ أو في كون الاختيار موجبا لتعيين الخليفة؟ وأيا ما أراد فلنا فيه المخرج.
وهؤلاء زمر الأنبياء والرسل لم يعدهم التنصيص بالخليفة من بعدهم، ولن انتخبت أممهم خلفاء لهم.
وهل هنا لك ذو حجى يزعم أن وصاية الفقيد المبيحة للتصرف فيما تركه من بعده موكولة إلى أناس أجانب لا يعرفون ما يرتأيه في شئونه، بعداء عن مغازيه وما يروقه في ماله وأهله، والفقيد عاقل رشيد يعرف الصالح من غيره، ويعلم بنوايا من
____________