الصفحة 135
صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية. الأحزاب: 23 (1) ولما نزل في علي أمير المؤمنين قوله تعالى: هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " سورة الأنفال: 62 " ولما ورد فيها ما ورد عن النبي الأعظم مما أسلفناه في الجزء الثاني ص 46 - 51.

ولما خص لمولانا علي قوله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " سورة البقرة: 207 " كما ذكره القرطبي في تفسيره 3: 21 وفصلنا القول فيه في الجزء الثاني ص 47 - 49 ط 2.

وكان حقا على رضوان منادي الله يوم بدر بقوله:

لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي

أن ينوه باسم أبي بكر وبسيفه المشهور على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله ثم هل تنحصر مغازي النبي الأعظم وحروبه الدامية ببدر؟ وهل العريش كان في البدر فحسب دون ساير الغزوات؟ وهل سيد العريش النبي الأعظم كان يلازم عريشه ولم يحضر قط في ميادين القتال؟ أو كان ينزل بالمعارك ويستخلف صاحبه على العريش؟

ما أعوز النبي الأعظم يوم خيبر مجاهد كرار غير فرار لا يولي الدبر، و كان معه الخليفة الأشجع؟ أكان فرارا غير كرار؟ ومن المعني في قول المؤرخين من أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا؟ (3) أهذا الرجل وصاحبه نكرتان لا يعرفان؟ لا ها الله.

وأين كان الأشجع؟ يوم خرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في موقفه، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و أمسى مهموما (4).

ولماذا بعث صلى الله عليه وآله يوم ذاك - وكان الأشجع معه - سلمة بن الأكوع إلى علي؟

____________

(1) راجع ما مر في الجزء الثاني ص 51 ط 2.

(2) راجع ما أسلفناه في الجزء الثاني صفحة 59 - 61 ط 2.

(3) الامتاع للمقريزي ص 313، السيرة الحلبية 3 ص 39.

(4) الامتاع للمقريزي ص 314، السيرة الحلبية 3 ص 39.

الصفحة 136
وكان قد تخلف بالمدينة لرمد عينيه، وكان لا يبصر موضع قدمه فذهب إليه سلمة وأخذ بيده يقوده (1) وملأ المسامع قوله صلى الله عليه وآله لأعطين الراية إلى رجل كرار غير فرار.

أكان الأشجع في العريش يوم خيبر؟ لما قاتل المصطفى بنفسه يومه ذلك أشد القتال وعليه درعان وبيضة مغفر، وهو على فرس يقال له: الظرب (2) وفي يده قناة وترس كما في السيرة الحلبية 3 ص 39.

أكان الأشجع في العريش يوم أحد يوم بلاء وتمحيص؟ حتى خلص العدو إلى رسول الله فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم (3).

أكان الأشجع في العريش؟ يوم قال فيه علي: لما تخلى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد نظرت في القتلى فلم أر رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى، ولكن الله غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيه، فما في خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي ثم حملت على القوم فأفرجوا لي فإذا برسول الله بينهم. وقد أصابت عليا يوم ذاك ستة عشر ضربة كل ضربة تلزمه الأرض فما كان يرفعه إلا جبريل.

" أسد الغابة 4: 20 "

أكان الأشجع في العريش يوم وقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون؟ فأخذ علي بن أبي طالب بيده صلى الله عليه وآله واحتضنه ورفعه طلحة حتى استوى قائما (4).

____________

(1) صحيح مسلم 2: 102، سنن البيهقي 9: 131، الرياض النضرة 2: 186، السيرة الحلبية 3: 41، شرح المواهب للزرقاني 2: 223.

(2) من أشهر خيله صلى الله عليه وآله وأعرفها، سمي بذلك لكبره أو لسمنه أو لقوته وصلابته تشبيها له بالجبل. قالوا: أهداه له صلى الله عليه وآله وسلم فروة ابن عمرو الجذامي. أو: ربيعة بن أبي البراء. أو: جنادة بن المعلى.

(3) سيرة ابن هشام 3: 27، طبقات ابن سعد رقم التسلسل 549، تاريخ ابن كثير 4: 23، 29، امتاع المقريزي ص 135، شرح المواهب للزرقاني 2: 37.

(4) سيرة ابن هشام 3: 27، الامتاع المقريزي ص 135، تاريخ ابن كثير 4 ص 24، عيون الأثر 2: 12.

الصفحة 137
أكان الأشجع في العريش يوم رأي رسول الله في ميدان النزال وهو لابس درعين:

درعه ذات الفضول ودرعه فضة، أو يوم حنين وله درعان: درعه ذات الفضول والسعدية.

" شرح المواهب للزرقاني 2: 24 "

أكان الأشجع في العريش يوم ضرب وجه النبي بالسيف سبعين ضربة وقاه الله شرها كلها؟

" المواهب اللدنية 1: 124 "

أكان الأشجع في العريش يوم بايع رسول الله على الموت ثمانية؟ هم: علي، والزبير، وطلحة،، وأبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، ورسول الله يدعوهم في أخراهم.

" الامتاع للمقريزي ص 132 "

أكان الأشجع في العريش يوم كان علي يذب عن رسول الله من ناحية، وأبو دجانة مالك بن خرشة من ناحية، وسعد بن أبي وقاص يذب طائفة، والحباب بن المنذر يحوش المشركين كما تحاش الغنم؟

" الامتاع للمقريزي ص 143 "

أكان الأشجع في العريش يوم حمى الوطيس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله تحت راية الأنصار؟ وأرسل إلى علي أن قدم فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم (1).

أكان الأشجع في العريش يوم انتهى رسول الله إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية فوالله صدقني اليوم؟ يوم ملأ علي درقته ماء من المهراس فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليشرب منه، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه، و أخذت فاطمة (سلام الله عليها) قطعة حصير فأحرقته فألصقته عليه فاستمسك الدم (2).

أكان الأشجع في العريش لما ملأ الفضاء نداء جبرئيل؟

لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي

أكان الأشجع في العريش يوم نظم حسان بن ثابت

جبريل نادى معلنا * والنقع ليس بمنجلي

____________

(1) سيرة ابن هشام 3: 19، شرح المواهب للزرقاني 2: 31.

(2) طبقات ابن سعد 3: 90 رقم التسلسل 252، سيرة ابن هشام 3: 34، 51، الامتاع ص 138، تاريخ ابن كثير 4: 35، عيون الأثر 2: 15، المواهب اللدنية 1: 125، شرح الزرقاني 2: 56.

الصفحة 138

والمسلمون قد أحدقوا * حول النبي المرسل
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي (1)

أكان الأشجع في العريش يوم حمراء الأسد؟ وقد خرج صلى الله عليه وآله وهو مجروح في وجهه، مشجوج في جبهته، ورباعيته قد شظيت، وشفته السفلى قد كلمت في باطنها، وهو متوهن منكبه الأيمن من ضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان. (طبقات ابن سعد رقم التسلسل 553).

أكان الأشجع في العريش يوم حنين؟ لما حمى الوطيس وفر الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبق معه إلا أربعة: ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم: علي ابن أبي طالب والعباس وهما بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من جانبه الأيسر، ولا يقبل أحد من المشركين جهته صلى الله عليه وآله وسلم إلا قتل. (السيرة الحلبية 3: 123).

أكان الأشجع في العريش يوم الأحزاب؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ينقل مع صحبه من تراب الخندق وقد وارى التراب بياض بطنه ويقول:

لاهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لا قينا
إن الأولى لقد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا

(طبقات ابن سعد رقم التسلسل 575، تاريخ ابن كثير 4: 96).

أكان الأشجع في العريش يوم قال صلى الله عليه وآله وسلم: لضربة علي خير من عبادة الثقلين وفي لفظ: قتل علي لعمرو أفضل من عبادة الثقلين. وفي لفظ: لمبارزة علي لعمرو بن ود أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة؟ (2).

نعم: للرجل موقف يوم أحد لما طلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر (وكان من المشركين) فقال: من يبارز وارتجز يقول:

____________

(1) راجع ما مر في الجزء الثاني صفحة 59 - 61 ط 2.

(2) مستدرك الحاكم 3: 32، المواقف للقاضي الإيجي 3: 276، كنز العمال 6: 158، السيرة الحلبية 2: 349 وهناك كلمة ردا على ابن تيمية في رده على هذا الحديث، هداية المرتاب في فضايل الأصحاب ص 148.

الصفحة 139

لم يبق إلا شكة ويعبوب * وصارم يقتل ضلال الشيب

فنهض إليه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول: أنا ذلك الأشيب ثم ارتجز فقال

لم يبق إلا حسبي وديني * وصارم تقضي به يميني

فقال له عبد الرحمن: لولا أنك أبي لم أنصرف. الامتاع ص 144.

حجاج بالعريش

قال المحاملي: كنت عند أبي الحسن بن عبدون وهو يكتب لبدر، وعند جمع فيهم أبو بكر الداودي وأحمد بن خالد المادرائي - فذكر قصة مناظرته مع الداودي في التفصيل إلى أن قال -: فقال الداودي: والله ما نقدر نذكر مقامات علي مع هذه العامة. قلت:

أنا والله أعرفها مقامه ببدر، وأحد، الخندق، ويوم حنين، ويوم خيبر. قال: فإن عرفتها ينفعني أن تقدمه علي أبي بكر وعمر، قلت: قد عرفتها ومنه قدمت أبا بكر وعمر عليه. قال:

من أين؟ قلت: أبو بكر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على العريش يوم بدر مقامه مقام الرئيس، والرئيس ينهزم به الجيش، وعلي مقامه مقام مبارز، والمبارز لا ينهزم به الجيش.

ذكره الخطيب في تاريخه 8: 21، وابن الجوزي في المنتظم 6: 327، وأحسب أن مبتدع هذه الباكورة، ومؤسس فكرة العريش والاستدلال بها في التفضيل هو الجاحظ قال في خلاصة كتاب العثمانية ص 10: والحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي قتله الاقران وخوضه الحروب، وليس له في ذلك كبير فضيلة، لأن كثرة القتل و المشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل وكان دليلا على الرياسة والتقدم، لوجب أن يكون للزبير وأبي دجانة ومحمد بن مسلمة وابن عفراء و البراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم! لأنه لم يقتل إلا رجلا واحدا ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خالط الصفوف، وإنما كان معتزلا عنهم في العريش و معه أبو بكر. وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الاقران، ويجندل الأبطال، وفوقه من العسكر من لا يقتل ولا يبارز وهو الرئيس، أو ذو الرأي والمستشاري في الحرب، لأن للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وسعل البال والعناية والتفقد ما ليس لغيرهم، ولأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة وعليه مدار الأمور، وبه يستبصر المقاتل ويستنصر، وباسمه ينهزم العدو، ولو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت وفر هو لم يغن ثبوت الجيش كله وكانت الدبرة

الصفحة 140
عليه، ولو ضيع القوم جميعا وحفظ هو لانتصر وكانت الدولة له، ولهذا لا يضاف النصر، والهزيمة إلا إليه. ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد علي ذلك اليوم وقتله أبطال قريش. ا ه‍.

قال الأميني: نحن لا ننبس في الجواب عن هذه الأساطير المشمرجة ببنت شفه، وإنما نقتصر فيه بما أجاب به عنها أبو جعفر الاسكافي المعتزلي البغدادي المتوفى 240 قال في الرد عليها (1):

لقد اعطي أبو عثمان مقولا وحرم معقولا، إن كان يقول هذا على اعتقاد و جد، ولم يذهب به مذهب اللعب واللهو، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوة والسلاطة وذلاقة اللسان وحدة الخاطر والقوة على جدال الخصوم. ألم يعلم أبو عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشجع البشر وأنه خاض الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب، وبلغت القلوب الحناجر؟ فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلا أربعة: علي. والزبير. وطلحة. وأبو دجانة، فقاتل ورمي بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره، فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: أو تر ما بلغ. قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ وطويت منه شبرا على سية القوس، ثم أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت، وبارز أبي بن خلف فقال له أصحابه:

إن شئت عطف عليه بعضنا؟ فأبي وتناول الحربة من الحارث بن السمت ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير قالوا: فتطايرنا عنه تطاير الشعارين فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور، ولو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلا قوله: " إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " فكونه صلى الله عليه وسلم في أخراهم وهم يصعدون ولا يلون هاربين دليل على أنه ثبت ولم يفر. وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين، وقد فر المسلمون كلهم والنفر التسعة محدقون به، العباس آخذ بحكمة بغلته، وعلي بين يديه مصلت سيفه، والباقون حول بغلته يمنة ويسرة، وقد انهزم المهاجرون والأنصار، وكلما فروا أقدم هو صلى الله عليه وسلم وصمم مستقدما يلقي السيوف والنبال بنحره

____________

(1) رسائل الجاحظ ص 54، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 275.

الصفحة 141
وصدره، ثم أخذ كفا من البطحاء وحصب المشركين وقال: شاهت الوجوه. والخبر المشهور عن علي وهو أشجع البشر: كنا إذا اشتد البأس وحمى الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولذنا به. فيكف يقول الجاحظ: إنه ما خاض الحروب ولا خالط الصفوف؟ وأي فرية أعظم ومن فرية من نسب رسول الله صلى الله وسلم إلى الإحجام والاعتزال الحرب؟ ثم أي مناسبة بين أبي بكر ورسول الله في هذا المعنى؟ ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صاحب الجيش والدعوة ورئيس الاسلام والملة، والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة، وإليه الإيماء والإشارة، وهو الذي أحنق قريشا والعرب، وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم و عيب دينهم وتضليل أسلافهم، ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم، وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها أن يتنحى ويعتزل، لأن ذلك شأن الملوك والرؤساء إذ كان الجيش منوطا بهم وببقائهم، فمتى هلك الملك هلك الجيش، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه، وإن عطب جيشه بأن يستجد جيشا آخر، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه، وخطأوا الاسكندر لما بارز فور ملك الهند ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم، فليقل لنا الجاحظ: أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه من أعداء الاسلام ليقصده بالقتل؟ وهل هو إلا واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما؟

بل كان عثمان أكثر منه صيتا، وأشرف منه مركبا، والعيون إليه طمح، والعدو عليه أحنق وأكلب. ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثر قتله في الاسلام ضعفا؟ أو يحدث وهنا؟ أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس و تعفى آثارها وتنطمس منارها؟ ليقول الجاحظ: إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجانبة الحروب واعتزالها. نعوذ بالله من الخذلان. وقد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفة وبالآثار والأخبار ممارسة حال حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت، وحاله عليه الصلاة والسلام فيها كيف كان، ووقوفه حيث وقف وحربه حيث حارب، و جلوسه في العريش يوم جلس، وأن وقوفه صلى الله عليه وسلم وقوف رئاسة وتدبير، ووقوف ظهر وسند، يتعرف أمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم وتخلفه عن التقدم في أوائلهم، لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم ولم تتعلق

الصفحة 142
بأمره نفوسهم، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم، ولا يكون لهم فئة يلجئون إليها و ظهرا يرجعون إليه، ويعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم وعلم مواقفهم وآوى كل إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند النازلة في الكر والحملة، فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم، وأحمي وأحرس لبيضتهم، ولأنه المطلوب من بينهم، إذ هو مدبر أمورهم ووالي جماعتهم، ألا ترون أم موقف صاحب اللواء موقف شريف؟ وأن صلاح الحرب في وقوفه، وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته، فللرئيس حالات: الأولى حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة ورداءا وعدة، وليتولى تدبير الحرب و يعرف مواضع الخلل. والحالة الثانية: يتقدم فيها في وسط الصف ليقوى الضعيف ويشجع الناكس: وحالة ثالثة: وهي إذا اصطدم الفيلقان، وتكافح السيفان، اعتمد ما يقتضيه الحال ومن الوقوف حيث يستصلح، أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد، وفسالة الجبان المموه. فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأين منزلة أبي بكر ليسوى بين المنزلتين، ويناسب بين الحالتين؟ ولو كان أبو بكر شريكا لرسول الله في الرسالة وممنوحا من الله بفضيلة النبوة، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمدا صلى الله عليه وسلم؟ لكان للجاحظ أن يقول ذلك، فأما وحاله حاله وهو أضعف المسلمين جنانا وأقلهم عند العرب ترة لم يرم قط بسهم، ولا سل سيفا، ولا أراق دما، وهو أحد الأتباع غير مشهور ولا معروف ولا طالب ولا مطلوب، فكيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزلته؟ ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا على فسل من السيف مقدار إصبع يروم البروز إليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! شم سيفك وامتعنا بنفسك. ولم يقل له (وامتعنا بنفسك) إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب وملاقاة الرجال وأنه لو بارز لقتل.

وكيف يقول الجاحظ: لا فضيلة لمباشرة الحروب ولقاء الاقران وقتل أبطال الشرك؟

وهل قامت عمد الاسلام إلا على ذلك؟ وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك؟ أتراه لم يسمع قول الله تعالى " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص "؟

والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب، فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف وأعظم

الصفحة 143
قتالا كان أحب إلى الله، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا، فعلي عليه السلام إذا هو أحب المسلمين إلى الله لأنهم أثبتهم قدما في الصف المرصوص، لم يفر قط بإجماع الأمة، ولا بارزه قرن إلا قتله، أو تراه لم يسمع. قول الله تعالى: " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما "؟ وقوله " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ثم قال سبحانه: مؤكدا لهذا البيع والشراء " ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " وقال الله تعالى: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظلما ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح " فمواقف الناس في الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن دلف إلى الأقران واستقبل السيوف والأسنة كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة نكابته فيهم ممن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم، وكذلك من وقف في المعركة وأعان ولم يقدم إلا أنه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناء وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك، ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرئاسة بقلة بسط الكف وترك الحرب وإن ذلك يشاكل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لكان أوفر الناس حظا في الرئاسة وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت، وإن بطل فضل علي في الجهاد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقلهم قتالا - كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الانفاق، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أقلهم مالا، وأنت إذا تأملت أمر العرب وقريش ونظرت السير وقرأت الأخبار عرفت أنها تطلب محمدا صلى الله عليه وسلم وتقصد قصده وتروم قتله، فإن أعجزها وفاتها طلبت عليا وأرادت قتله، لأنه كان أشبهم بالرسول حالا، وأقربهم منه قربا، وأشدهم عنه دفعا، وإنهم متى قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكسروا شوكته، إذ كان أعلى من ينصره في البأس والقوة والشجاعة والنجدة والاقدام والبسالة. ألا ترى إلى قوله عتبة ربيعة يوم بدر - وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليهم الرسول نفرا من الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا:

ارجعوا إلى قومكم، ثم نادوا: يا محمد! - أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأهله الأدنين: قوموا يا بني هاشم! فانصروا حقكم الذي آتاكم الله على باطل

الصفحة 144
هؤلاء، قم يا علي! قم يا حمزة! قم يا عبيدة! ألا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد لأنه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر؟ ألم تسمع قول هند ترثي أهلها:

ما كان لي من عتبة من صبر * أبي وعمي وشقيق صدري
أخي الذي كان كضوء البدر * بهم كسرت يا علي! ظهري

وذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة وشرك في قتل أبيها عتبة، وأما عمها شيبة فإن حمزة تفرد بقتله. وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد: إن قتلت محمدا فأنت حر، وإن قتلت عليا فأنت حر، وإن قتلت حمزة فأنت حر، فقال أما محمد فسيمنعه أصحابه، وأما علي فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب، ولكني سأقتل حمزة. فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.

ولما قلنا من مقاربة حال علي في هذا الباب لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناسبتها إياه ما وجدناه في السيرة والأخبار من إشفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذره على ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وقد برز علي إلى عمرو ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه: اللهم إنك أخذت مني حمزة يوم أحد، و عبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم علي عليا، رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين. و لذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا في كلها يحجمون ويقدم علي فيسأل الأذن له في البراز حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه عمرو فقال:

وأنا علي. فأدناه وقبله وعممه بعمامته وخرج معه خطوات كالمودع له، القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه. ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم رافعا يده إلى السماء مستقبلا لها بوجهه و المسلمون صموت حوله كأنما على رؤسهم الطير حتى ثارت الغبرة وسمعوا التكبير من تحتها فعلموا أن عليا قتل عمرا. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين. ولذلك قال حذيفة بن اليمان: لو قسمت فضيلة علي بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عباس: في قوله تعالى " وكفى الله المؤمنين القتال " قال: بعلي بن أبي طالب. ا ه‍.


الصفحة 145

الغريق يتشبث بكل حشيش

أعيت القوم شجاعة الخليفة، وأضلتهم عن المذاهب، وجعلتهم في الرونة، وأركبتهم على الزحلوقة تسف بهم تارة وتعليهم أخرى، فلم يجدو مهيعا يوصلهم إلى ما يرومون من إثباتها له مهما وجدوا غضون التاريخ خالية عن كل عين وأثر يسمعهم الركون إليه في الحجاج لها، فتشبثوا بالتفلسف فيها فهذا يبني فلسفة العريش، والآخر ينسج نسج العناكيب ويعد ثباته في موت رسول الله صلى الله عليه وآله وعدم تضعضعه في تلك الهائلة دليل على كمال شجاعته، قال القرطبي في تفسيره 4: 222 في سورة آل عمران 144 عند قوله تعالى: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبه فلن يضر الله شيئا " هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجرأته فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم فظهرت عنده شجاعته وعلمه و قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، و اضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح (1).

وهذا الاستدلال أقره الحلبي في سيرته 3: 35 وقال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم طاشت العقول فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان عمر رضي الله عنه ممن خبل، وكان عثمان رضي الله عنه ممن أخرس، فكان لا يستطيع أن يتكلم، وكان علي رضي الله عنه ممن أقعد فلم يستطع أن يتحرك، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدا، وكان أثبتهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه - إلى أن قال: قال القرطبي: و هذا أدل دليل على كمال شجاعة الصديق. الخ.

قال الأميني: يوهم القرطبي أن في كتاب الله العزيز ما يدل على شجاعة الخليفة وعلمه، وليس فيما جاء به أكثر من أنه استدل بالآية الشريفة يوم ذاك على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي صلة بها إلى شجاعة الرجل؟! وأي قسم فيها من أنحاء الدلالة الثلاثة فضلا عن أن تكون أدل دليل؟ فإن يكن هناك شئ من الدلالة - وأين وأنى

____________

(1) بضم أوله وسكون النون وقد تضم: موضع خارج المدينة بينها وبين منزل النبي ميل.

الصفحة 146
فهو في ثبات جأشه وتمسكه بالآية الكريمة لا في الآية نفسها.

ثم كيف خفي على الرجل وعلى من تبعه الفرق ين ملكتي الشجاعة والقسوة؟

وأن هذا النسج الذي أوهن من بيت العنكبوت إنما نسجته يد السياسة لدفع مشكلات هناك، فخبلوا عمر بن الخطاب " وحاشة الخبل " تصحيحا لإنكاره موت رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه كان من ذلك القلق كما مر في ص 184، وأقعدوا عليا لإيهام العذر في تخلفه عن البيعة، وأخرسوا عثمان لأنه لم ينبس في ذلك الموقف ببنت شفة.

على أن ما جاء به القرطبي من ميزان الشجاعة يستلزم كون الخليفة أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا إذ لم يرو عن أبي بكر في رزية النبي الأعظم أكثر من أنه كشف عن وجه النبي وقبله وهو يبكي وقال: طبت حيا وميتا (1) وقد فعل صلى الله عليه وآله أكثر وأكثر من هذا في موت عثمان بن مظعون فإنه صلى الله عليه وآله إنكب عليه ثلاث مرات مرة بعد أخرى وقبله باكيا عليه وعيناه تذرفان والدموع تسيل على وجنتيه وله شهيق (2)، وشتان بين عثمان بن مظعون وبين سيد البشر روح الخليقة وعلة العوالم كلها، وشتان بين المصيبتين.

كما يستدعي مقياس الرجل كون عمر بن الخطاب أشجع من النبي الأقدس لحزنه العظيم في موت زينب وبكائه عليها، وعمر كان يوم ذاك يضرب النسوة الباكيات عليها بالسوط كما مر في الجزء السادس ص 159 ط 2 فضلا عن عدم تأثره بتلك الرزية.

وعلى هذا الميزان يغدو عثمان بن عفان أشجع من رسول الله صلى الله عليه وآله لوجده صلى الله عليه وآله لموت إحدى بنتيه: رقية أو أم كلثوم زوجة عثمان. وبكائه عليها، وعثمان غير متأثر به ولا بانقطاع صهره من رسول الله صلى الله عليه وآله غير مشغول بذلك من مقارفة بعض نساءه في ليلة وفاتها كما في صحيحة أنس (3).

وقبل هذه كلها ما ذكره أعلام القوم في موت أبي بكر من طريق ابن عمر من قوله:

كان سبب موت أبي بكر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال جسمه يجري حتى مات. وقوله:

____________

(1) صحيح البخاري 6: 281 كتاب المغازي، سيرة ابن هشام 4: 334، طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل 785، تاريخ الطبري 3: 198.

(2) سنن البيهقي 3: 406، حلية الأولياء 1: 105، الاستيعاب 2: 495، أسد الغابة، الغدير 3 387، الإصابة 2: 464.

(3) مستدرك الحاكم 4: 47، الاستيعاب 2: 748 وصححه، الإصابة 4: 304، 489 الغدير 3: 24.

الصفحة 147
كان سبب موته كمدا لحقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يذيبه حتى مات. وفي لفظ القرماني: ما زال جسمه ينقص حتى مات.

راجع المستدرك الحاكم 3: 63، أسد الغابة 3: 224، صفة الصفوة 1: 100، الرياض النضرة 1: 180، تاريخ الخميس ج 2: 263، حياة الحيوان للدميري 1: 49.

الصواعق ص 53، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 55، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل 1: 198، نزهة المجالس للصفوري 2: 197، مصباح الظلام للجرداني 2: 25.

كأن هذا الحديث عزب عن القرطبي والحلبي، فأخذا بهذا مشفوعا بكلامهما المذكور في شجاعة أبي بكر يكون هو شاكلة عبد الله بن أنيس في موتهما كمدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينبأ قط خبير بموت أحد من الصحابة غيرهما بموته صلى الله عليه وآله وسلم، و هذا دليل على ضعف قلبهما عند حلول المصائب، فهما أجبنا الصحابة على الإطلاق إذا وزنا بميزان القرطبي وفيها عين.

ووراء هذ، المغالاة في شجاعة الخليفة وعده أشجع الصحابة ما عزاه القوم إلى ابن مسعود من أنه قال: أول من أظهر الاسلام بسيفه محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. والزبير بن العوام رضي الله عنهم (1) وما يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من أنه قال: لولا أبو بكر الصديق لذهب الاسلام (2).

قال الأميني: لقد كانت على الأبصار غشاوة عن رؤية هذا السيف الذي كان بيد الخليفة، فلم يؤثر أنه تقلده يوما، أو سله في كريهة، أو هابه إنسان في معمعة، حتى يقرن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان منذ بعث سيفا الله تعالى مجردا.

إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول (3).

أو يقرن بمثل الزبير الذي عرفته وسيفه الحرب الزبون فشكرته، وقد سجل التاريخ مواقفه المشهودة وسجل للخليفة يوم خيبر وأمثاله.

وأنا لا أدري بأي خصلة في الخليفة نيط بقاء الاسلام، أبشجاعته هذه؟ أم بعلمه الذي عرفت كميته؟ أم بماذا؟ " فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر ".

____________

(1) نزهة المجالس للصفوري 2، 182.

(2) نور الأبصار للشبلنجي ص 54.

(3) البيت من قصيدة لكعب بن زهير المشهورة ببانت سعاد.

الصفحة 148

- 3 -
ثبات الخليفة على المبدء

عن أبي سعيد الخدري: إن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي. فقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذهب إليه فاقتله. قال: فذهب إليه أبو بكر فلما رآه على تلك الحالة كره أن يقتله فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: إذهب إليه فاقتله. قال فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع فقال: يا رسول الله! إني رأيته متخشعا فكرهت أن أقتله قال: يا علي إذهب فاقتله. فذهب علي فلم يره فرجع فقال: يا رسول الله! إني لم أره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم شر البرية (1).

وعن أنس بن مالك قال: كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعجبنا تعبده و اجتهاده وقد ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه فلم يعرفه فوصفناه بصفته فلم يعرفه فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل قلنا: هو هذا. قال: إنكم لتخبروني عن رجل إن في وجهه لسفعة من الشيطان فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحد أفضل مني أو خير مني؟

قال: أللهم نعم. ثم دخل يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يقتل الرجل؟ فقال أبو بكر أنا، فدخل عليه فوجده يصلي فقال: سبحان الله! أقتل رجلا يصلي: وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المصلين، فخرج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلت؟ قال: كرهت أن أقتله وهو يصلي وأنت قد نهيت عن قتل المصلين. قال: من يقتل الرجل؟ قال عمر: أنا. فدخل فوجده واضعا جبهته فقال عمر: أبو بكر أفضل مني فخرج فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مه؟ قال: وجدته واضعا وجهه لله فكرهت أن أقتله. فقال: من يقتل الرجل؟ فقال علي: أنا. فقال: أنت

____________

(1) مسند أحمد 3: 15، تاريخ ابن كثير 7: 298.

الصفحة 149
إن أدركته. فدخل عليه فوجده قد خرج فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: مه؟ قال: وجدته قد خرج قال: لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان كان أولهم وآخرهم (1).

صاحب القصة هو ذو الثدية رأس الفتنة يوم النهروان قتله أمير المؤمنين الإمام علي يوم ذاك كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود، قال الثعالبي في ثمار القلوب ص 233: ذو الثدية شيخ الخوارج وكبيرهم الذي علمهم الضلال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وهو في الصلاة فكع عنه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما قصده علي رضي الله عنه لم يره، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: أما إنك لو قتلته لكان أول فتنة وآخرها، ولما كان يوم النهروان وجد بين القتلى فقال علي رضي الله عنه: ائتوني بيده المخدجة. فأتي بها فأمر بنصبها.

قال الأميني: هلم معي نسائل الرجلين ممن أخذا أن الصلاة تحقن دم صاحبها؟

هل أخذاها عن شريعة غاب الصادع بها، فارتبكا بين قوليه؟ أليست هي الشريعة المحمدية وصاحبها هو الذي أمر بقتل الرجل؟ وهو ينظر إليه من كثب، ويعلم أنه يصلي، و قد أخبرته الصحابة وفيهم الرجلان بخضوعه وخشوعه في صلاته، وإعجابهم بتعبده و اجتهاده، وفي المخبرين أبو بكر نفسه، غير أن رسول الله صلى الله عليه وآله عرف بواسع علمه النبوي أن كل ذلك عن دهاء وتصنع يريد بن إغراء الدهماء للحصول على أمنيته الفاسدة التي لم يتمكن منها إلا على عهد الخوارج فأراد صلى الله عليه وآله قمع تلك الجرثومة الخبيثة بقتله، ولقد أراد صلى الله عليه وآله تعريف الناس بالرجل إيقافهم على ما انطوت عليه أضالعه فاستحفاه عما دار في خلده حين وقف على القوم وفيهم النبي صلى الله عليه وآله وأراد أن يعلموا أنه يجد نفسه خيرا أو أفضل منهم ومنه صلى الله عليه وآله.

أي كافر هذا يجب قتله لا سيما بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن في وجهه لسفعة من الشيطان؟

وأي شقي هذا يقف على المنتدى وقد ضم صدره نبي العظمة ولم يسلم؟ وأي صفيق يعرب عن سوء ما هجس في ضميره بكل صراحة، غير محتشم عن موقفه، ولا مكترث لمقاله؟

____________

(1) حلية الأولياء 2: 317، ج 3: 227، مسند البزار من طريق الأعمش، وأبو يعلى مسنده كما في تأريخ ابن كثير 7 ص 298، الإصابة 1: 484