وأخيرا استقر الحال على إجابتهم لما طلبوا من عزل بعض العمال، وعلى ذلك اختار أهل مصر أن يولى عليهم محمد بن أبي بكر الصديق، فكتب عثمان لهم بذلك عهدا ورحلوا من المدينة مع واليهم الجديد، وبينما هم ذاهبون رأوا عبدا من عبيد الخليفة على راحلة من إبله يستحثها فأوقفوه وفتشوه، فوجدوا معه كتابا مختوما بختم الخليفة لعبد الله بن أبي سرح مضمونة:
إذا قدم عليك ابن أبي بكر ومن معه فاحتل في قتلهم.
فأخذوا الكتاب ورجعوا إلى المدينة، وأطلعوا الخليفة عليه فأقسم لهم أنه ما فعل ولا أمر ولا علم فقالوا: هذا أشد، يؤخذ خاتمك، وبعير من إبلك، وعبد من عبيدك وأنت لا تعلم، ما أنت إلا مغلوب على أمرك فطلبوا منه الاعتزال، أو تسليم الكاتب فأبى، فأجمعوا على محاصرته، فحاصروه في داره ومنعوا عنه الزاد والماء أياما عديدة:
وهاجت الثوار، وكثر القيل والقال، فطلب منه بعض الصحابة الإذن بالمدافعة عنه فلم يقبل، ولم يأذن لأحد حتى أنه قال لعبيده الذين هبوا للدفاع عنه: من أغمد منكم سيفه فهو حر. استسلاما للقضاء، فتسلق بعض الأشرار الدار، ودخلوا عليه وقتلوه، والمصحف بين يديه يتلوه فيه سورة البقرة فنزلت قطرة من دمه على: فسيكفيكهم الله وكان يومئذ صائما. ا هـ.
ولعل الأستاذ بعد الوقوف على هذا الجزء من كتابنا ينتبه لمواقع النظر في تأليفه فيميز الحي من اللي، ويعرف الصحيح من المعلول، ويتبع الحق والحق أحق أن يتبع.
وفي مقدم هؤلاء الأساتذة أستاذ تاريخ الأمم الإسلامية بالجامعة المصرية ووكيل مدرسة القضاء الشرعي الشيخ محمد الخضري صاحب المحاضرات، وقد قدمنا في
عهد النبي الأقدس
صلى الله عليه وآله وسلم إلى عثمان
1 - أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند 6: 86، 149 قال: حدثنا أبو المغيرة " الحمصي " حدثنا الوليد بن سليمان " الدمشقي " حدثني ربيعة بن يزيد " الدمشقي " عن عبد الله بن عامر " الدمشقي " عن النعمان بن بشير " قاضي دمشق " عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأينا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان! أقبلت إحدانا على الأخرى فكان من آخر كلمته أن ضرب منكبه وقال: يا عثمان! إن الله عسى أن يلبسك قميصا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني. ثلاثا. فقلت لها: يا أم المؤمنين؟ فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله، ما ذكرته. قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين: أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتابا، رجال الاسناد كلهم شاميون عثمانيون وفي مقدمهم النعمان بن بشير الخارج على إمام زمانه ومحاربه تحت راية الفئة الباغية، وجاء فيه عن قيس بن سعد الأنصاري الصحابي العظيم: إنه ضال مضل. ومتن الرواية كما يأتي بيانه يكذب نفسها.
2 - أخرج أحمد في المسند 6: 114 من طريق محمد بن كناسة الأسدي أبي يحيى عن إسحاق بن سعيد الأموي حفيد العاص عن أبيه سعيد ابن عم عثمان الذي كان بدمشق قال: بلغني أن عائشة قالت: ما أسمعت رسول الله إلا مرة فإن عثمان جاءه في نحر الظهيرة فظننت أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه فسمعته يقول: إن الله ملبسك قميصا تريدك أمتي على خلعه فلا تخلعه. فلما رأيت عثمان يبذل لهم ما سألوه إلا خلعه علمت أنه عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عهد إليه.
3 - أخرج الطبراني عن مطلب بن شعيب الأزدي عن عبد الله بن صالح عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف قال: كنا عند شفى الأصبحي فقال: حدثنا عبد الله بن عمر قال: التفت رسول الله فقال: يا عثمان! إن الله كساك قميصا فأرادك الناس على خلعه فلا تخلعه، فوالله لئن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.
ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 208 فقال: وقد رواه أبو يعلى من طريق عبد الله ابن عمر عن أخته حفصة أم المؤمنين. وفي سياق متنه غرابة والله أعلم.
رجال الاسناد:
1 - عبد الله بن صالح أبو صالح المصري كاتب الليث، قال أحمد: كان أول أمره متماسكا ثم فسد بآخره وليس هو بشئ. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي ذكره يوما فذمه وكرهه. وقال صالح بن محمد: كان ابن معين يوثقه وعندي أنه كان يكذب في الحديث. وقال ابن المديني: ضربت على حديثه وما أروي عنه شيئا. وقال أحمد بن صالح: متهم ليس بشئ. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو زرعة: كذاب. وقال أبو حاتم: الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخره عمره فأنكروها عليه أرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح وكان أبو صالح يصحبه. إلخ. وقال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي عن الاثبات ما ليس من حديث الثقات، وكان صدوقا في نفسه وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له كان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح ويكتب بخط يشبه خط عبد الله ويرميه في داره بين كتبه فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به. تهذيب التهذيب 5: 256 - 260
2 - سعيد بن أبي هلال المصري قال أحمد: ما أدري أي شئ يخلط في الأحاديث وقال ابن حزم: ليس بالقوي. وقال ابن حجر: لعله اعتمد على قول الإمام أحمد فيه. تهذيب التهذيب 4: 95.
ضعيف. تهذيب التهذيب 3: 256.
4 - أخرج أحمد من طريق سنان بن هارون عن كليب بن وائل عن ابن عمر قال.
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان. تاريخ ابن كثير 7: 208.
سنان بن هارون كوفي، قال النسائي: ضعيف. وقال الساجي: ضعيف منكر الأحاديث. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي المناكير عن المشاهير (1) و كليب بن وائل ضعفه أبو زرعة كما في تهذيب التهذيب 8: 447.
5 - أخرج أحمد في المسند 2: 345 من طريق موسى بن عقبة قال: حدثني جدي أبو أمي أبو حبيبة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا - أو قال: إختلافا وفتنة - فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالأمين وأصحابه. وهو يشير إلى عثمان بذلك. وذكره ابن كثير في تاريخه 7: 209 فقال: تفرد به أحمد وإسناده جيد حسن ولم يخرجوه من هذا الوجه.
نحن لا نعرف جودة هذا الاسناد وحسنه وفيه جد أم موسى وهو نكرة لا يعرف ولا يوجد له قط ذكر في المعاجم. وهل من المعقول عزو هذه الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جد عليم بأن أصحاب عثمان هم: مروان ومن يشاكله في العيث والفساد حشوة بني أمية، حثالة أمته صلى الله عليه وآله وسلم؟ أفمن الجائز أن يوصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته با تباع أولئك الخابلين خلاف وجوه صحابته وعدولهم المتجمهرين على عثمان؟ حاشا نبي العظمة عن هذه الأفائك.
6 - أخرج الترمذي عن طريق سعيد الجريري (2) عن عبد الله بن شقيق عن عبد الله
____________
(1) تهذيب التهذيب 4: 243.
(2) زاد ابن كثير هاهنا في الاسناد: عبد الله بن سفيان.
وأخرجه أحمد في المسند 4: 109 من طريق سعيد الجريري بالإسناد المذكور ولفظه: كيف تفعل في فتنة تخرج في أطراف الأرض كأنها صياصي بقر؟ قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله، قال: وكيف تفعل في أخرى تخرج بعدها كان الأولى فيها انتفاحة أرنب؟ قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله، قال: إتبعوا هذا. قال: ورجل مقفى حينئذ قال: فانطلقت فسعيت وأخذت بمنكبيه فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا؟ قال: نعم. قال: وإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال الأميني، ستوافيك ترجمة سعيد الجريري في حديث 25 من مناقب عثمان وإن روايته لا تصح لاختلاله ثلاث سنين. وأما عبد الله بن شقيق المنتهى إليه أسانيد الرواية فهو من تابعي أهل البصرة قال ابن سعد في الطبقات: كان عثمانيا وكان ثقة. وقال يحيي بن سعيد: كان سليمان التميمي سئ الرأي في عبد الله. وقال أحمد بن حنبل ثقة وكان يحمل على علي. وقال ابن معين: ثقة من خيار المسلمين، وقال ابن خراش: كان ثقة وكان عثمانيا يبغض عليا (1).
ألا تعجب من توثيق الحفاظ هذا الرجل المتحامل على علي أمير المؤمنين ومبغضه وعده من خيار المسلمين وبين أيدينا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيح الثابت: لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن، ولا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، وقول علي أمير المؤمنين الوارد في الصحيح: والذي فلق الحبة وبرء النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. وقوله: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني. الحديث. وثبت عن غير واحد من الصحابة قولهم: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب (2).
____________
(1) تهذيب التهذيب 5: 254.
(2) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث ص 182 - 187 ط 2.
وفي حديث: لو أن عبدا عبد الله سبعة آلاف سنة ثم أتى الله عز وجل ببغض علي جاحدا لحقه ناكثا لولايته لأتعس الله خيره وجدع أنفه.
وفي حديث: لو أن عبدا عبد الله عز وجل مثل ما قام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ومد في عمره حتى حج ألف عام على قدميه ثم قتل بين الصفا والمروة مظلوما ثم لم يوالك يا علي! لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها.
وفي حديث: لو أن عبدا من عباد الله عز وجل عبد الله ألف عام بين الركن والمقام ثم لقي الله عز وجل مبغضا لعلي وعترتي أكبه الله على منخره يوم القيامة في نار جهنم.
وفي حديث: يا علي! لو أن أمتي صاموا حتى يكونوا كالحنايا وصلوا حتى يكونوا كالاوتار ثم أبغضوك لأكبهم الله في النار (2).
وفي الصحيح على شرط الشيخين مرفوعا: من أحب عليا فقد أحبني ومن أبغض عليا فقد أبغضني (3).
وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 135 مرفوعا: يا علي طوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك.
وفي حديث مرفوعا أرسل رسول الله الأنصار فأتوه فقال لهم: يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبدا؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال:
هذا علي فأحبوه بحبي، وأكرموه بكرامتي، فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم من الله عز وجل (4).
وفي حديث مرفوعا: إن عليا راية الهدى، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني،
____________
(1) راجع ما مر في الجزء الثاني 301 ط 2.
(2) مرت هذه الأحاديث بمصادرها في الجزء الثاني ص 301، 302 ط 2.
(3) المستدرك للحاكم 3: 130.
(4) حلية الأولياء لأبي نعيم 1: 63.
وفي مرفوع: ألا من أبغض هذا (يعني عليا) فقد أبغض الله ورسوله، ومن أحب هذا فقد أحب الله ورسوله.
وفي حديث مرفوعا: هذا جبريل يخبرني: إن السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته وبعد موته، وإن الشقي كل الشقي من أبغض عليا في حياته وبعد موته.
إلى أحاديث مرت في الجزء الثالث ص 26 ط 2.
وقبل هذه كلها قوله تعالى: قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى. و قوله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا. قوله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية. راجع الجزء الثاني فيما ورد في هذه الآيات الكريمة.
ولا تنس دعاء النبي الأعظم يوم الغدير في ذلك المحتشد الرحيب بقوله: أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، أللهم من أحبه من الناس فكن له حبيبا، ومن أبغضه فكن له مبغضا.
وفي لفظ: أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه، وأحب من أحبه.
وفي لفظ: أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
وفي لفظ: أللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، وأعز من أعزه، وأعن من أعانه.
وهناك ألفاظ أخرى مرت في الجزء الأول من كتابنا هذا.
فعبد الله بن شقيق أخذا بمجامع تلكم النصوص شهادة الله ورسوله، منافق شقي عدو لله ولرسوله يبغضه المولى سبحانه، لا خير فيه ولا في حديثه، لا يقبل ولا يصدق في روايته، أتعس الله خيره وجدع أنفه، وأكبه على منخره يوم القيامة في نار جهنم. دع الحفاظ يقولون: ثقة من خيار المسلمين.
____________
(1) حلية الأولياء 1: 67.
عرفت عبد الله بن شقيق وإنه منافق لا يؤخذ بحديثه ولا يعول عليه إن صدقنا النبي الأقدس فيما جاء به.
8 - أخرج أحمد في المسند 6: 75 من طريق فرج بن فضالة بإسناده عن عائشة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة! لو كان عندنا من يحدثنا. قالت قلت: يا رسول الله؟ ألا أبعث إلى أبي بكر؟ فسكت. ثم قال: لو كان عندنا من يحدثنا.
فقلت: ألا أبعث إلى عمر. فسكت. قالت: ثم دعا وصيفا بين يديه فساره فذهب قالت: فإذا عثمان يستأذن فأذن له فدخل فناجاه النبي صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: يا عثمان! إن الله عز وجل مقمصك قميصا فإن أرادك المنافقون على أن تخلعه فلا تخلعه لهم ولا كرامة يقولها له مرتين أو ثلاثا. وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 100 من طريق فرج بن فضالة وقال: هذا حديث صحيح عالي الاسناد ولم يخرجاه. وعقبه الذهبي في تلخيصه فقال: أنى له الصحة ومداره على فرج بن فضالة؟.
أقول: فرج بن فضالة متفق على ضعفه وعدم الاحتجاج به وستوافيك ترجمته في الحديث ال 17 من مناقب عثمان في هذا الجزء إنشاء الله.
وأخرج أحمد في مسنده 6: 52 من طريق قيس بن أبي حازم عن أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي بعض أصحابي. قلت: أبو بكر؟
قال: لا. قلت: عمر. قال: لا. قلت: ابن عمك علي؟ قال: لا. قلت: عثمان! قال: نعم فلما جاء قال: تنحي. جعل يساره ولون عثمان يتغير فلما كان يوم الدار وحصر فيها قلنا: يا أمير المؤمنين! ألا تقاتل؟ قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا وإني صابر نفسي عليه.
لنا أن نصافق الكوفيين على تجنب الرواية عن قيس المتحامل على مولانا أمير المؤمنين إن اتبعنا الرسول الأمين في النصوص المذكورة قبيل هذا ص 267 - 269 ولا يسوغ لأي باحث أن يعول على رواية منافق شقي خرف وذهب عقله، وقد مر عن ابن أبي الحديد في صفحة 73 من هذا الجزء قوله: وقد طعن مشايخنا المتكلمون في قيس وقالوا: إنه فاسق ولا تقبل روايته. الخ.
9 - أخرج ابن عدي عن أبي يعلى عن المقدمي محمد بن أبي بكر عن أبي معشر يوسف بن يزيد البراء البصري عن إبراهيم بن عمر بن أبان بن عثمان عن أبيه عثمان: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر إليه أنه يقتل ظلما (1).
زيفه ابن عدي كما في الميزان وعده من أحاديث عمر بن أبان التي كلها غير محفوظة وأبان بن عثمان لم يسمع من أبيه كما قاله أحمد بن حنبل فكيف بعمر بن أبان، وسنوقفك على ترجمة أبي معشر وإبراهيم بن عمر في المنقبة الثالثة من مناقب عثمان وأنهما لا يعول عليهما ولا يصح حديثهما.
10 - ذكر الذهبي في الميزان 1: 300 من طريق أنس مرفوعا: يا عثمان! إنك ستلي الخلافة من بعدي وسيريدك المنافقون على خلعها فلا تخلعها، وصم ذلك اليوم تفطر عندي.
قال الذهبي: في سنده خالد بن أبي الرحال الأنصاري عنده عجائب، قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وفي لسان الميزان 6: 794 قال: أبو حاتم: ليس بالقوي.
____________
(1) لسان الميزان 4: 282.
نظرة في أحاديث العهد
هذه سلسلة روايات أصفق على وضعها دجالون تتراوح أسانيدها بين أموي و شامي وبصري، وبين عثماني متحامل على سيد العترة، وبين أناس آخرين من ضعيف إلى كذاب إلى متروك إلى ساقط. على أن متونها أكثر عللا من أسانيدها فإن الخضوع لصحتها يستدعي الوقيعة في الصحابة كلهم لأن المنصوص عليه في غير واحد منها: إن الذين أجلبوا على عثمان وأرادوا خلعه أناس منافقون، وفي بعضها: فإن عثمان يومئذ وأصحابه على الحق، وعليكم بالأمين وأصحابه. وقد علمت أن المتجمهرين عليه هم الصحابة كلهم المهاجرون منهم والأنصار ما خلا ثلاثة: زيد بن ثابت، حسان بن ثابت، أسيد الساعدي. أو: هم وكعب بن مالك. وأناس من زعانفة الأمويين، وأين هذا من الاعتقاد بعدالتهم جمعاء كما عند القوم؟ ومن الخضوع لجلالة كثيرين منهم الذين علمت منهم نواياهم الصالحة، وأعمالهم البارة، والنصوص النبوية الصادرة فيهم، وثناء الله تعالى عليهم في كتابه الكريم كما عند الأمة أجمع؟.
ثم إن عثمان وإن كان يتظاهر بامتثال الأمر الموجود في الروايات وغيرها بالصبر وعدم القتال غير أن عمله كان مباينا لذلك لمكاتبته إلى الأوساط الإسلامية يستجلب منها الجيوش لمقاتلة أهل المدينة، ويرى قتالهم قتال الأحزاب يوم بدر، و ينص على أن القوم قد كفروا، فلو اتصلت به كتائب الأمداد يومئذ لألقحها حربا زبونا وفتنة عمياء، وإنما كان ينكص عن النضال لإعواز الناصر لإصفاق الصحابة عليه عدا أولئك الثلاثة وما كانوا يغنون عنه شيئا، ولا سيما حسان بن ثابت الذي لم يكن يجسر أن يأخذ سلب القتيل الذي قتلته امرأة (1).
على أنه لم يتقاعد عن المقاتلة أيضا بمن كان معه من حثالة بني أمية فقد بذلوا كل ما حووه من بسالة وشجاعة، غير أن القضاء الحاتم أخزاهم وحال بينهم وبين النجاح إلى أن لجأوا إلى أم حبيبة فجعلتهم في كندوج ثم خرجوا من المدينة هاربين.
ثم هب أن عائشة كانت نسيت ما روته حين ألبت الجماهير على عثمان وأمرت
____________
(1) راجع الجزء الثاني من كتابنا هذا ص 64 ط 2.
ولو كان لهذه الكلمات المعزوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - من قوله: عليكم بالأمين وأصحابه، وقوله: اتبعوا هذا وأصحابه، وقوله: إتبع هذا الرجل فإنه يومئذ ومن اتبعه على الحق - مقيلا من الصحة لا ستدعى أن يفيضها على الصحابة كلهم لأن قضيتها أن تلك الفتنة الموعود بها من الفتن المضلة، وإن عثمان عندئذ في جانب الحق، وما كان رسول صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يشح على أمته بالارشاد إلى ما فيه هدايتهم و صلاحهم الديني، وهو مقيض لذلك ومبعوث لأجله، فلماذا لم يروها غير هؤلاء؟ و لا عرفها غيرهم ولو بوساطتهم؟ وكان إلقائها عليهم مسارة لا يطلع عليها أحد؟ ولماذا ترك هؤلاء الاحتجاج بها يوم الدار؟ وفي القوم وهم الأكثرون من إن يسمع بها لا يتباطأ عن الخضوع للأمر النبوي المطاع، أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين؟
إن هذا إلا اختلاق.
نظرة في مناقب عثمان
إلى هنا سبرنا صحيفة من حياة عثمان ولا أدري أهي بيضاء أم غيرها؟! لكن الباحث الممعن فيها يوقفه التنقيب على نفسياته ومقداره، والغاية من هذا الاسهاب أن نجعل نتيجة هذا الخوض والبحث مقياسا في أمره نرد إليه كل ما يؤثر في حقه فإن ساوى المقياس أثبتناه، وإن طاله أو قصر عنه عرفنا أنه من الغلو في الفضائل.
وما سردنا إلى هنا من دعارة في الخلق، وعرامة في الطباع، وعرارة في الشكيمة وشرة في الغرائز، وفظاظة في الأعمال، وتعسف في الحكم، واتباع للشهوات، وميل عن الحق، ودناءة في النفس، وسقطة في الرأي، وسرف في القول، إلى الكثير المتوفر من أمثال هذه مما لا تحمد فعليته ولا عقباه، لا يدع الباحث أن يخضع لشئ مما قيل أو تقول فيه من الفضل قويت أسانيده أو وهنت.
1 - أخرج مسلم وأحمد من طريق عقيل الأموي عن الليث العثماني عن يحيى ابن سعيد الأموي عن سعيد بن العاص ابن عم عثمان عن عائشة وعثمان قالا: إن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: إجمعي عليك ثيابك. فقضيت إليه حاجتي. ثم انصرف، فقالت عائشة: يا رسول الله؟ ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عثمان رجل حيي (1) وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته (2).
2 - أخرج مسلم غيره من طريق عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه وساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلس وسويت ثيابك؟
____________
(1) حيي كغني: ذو حياء. وفي شرح مسلم: أي كثير الحياء.
(2) صحيح مسلم 7: 117، مسند أحمد 1: 71 و ج 6: 155، 167.
وأخرج البخاري في مناقب عثمان حديثا وقال في ذيله: زاد عاصم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبتيه أو ركبته فلما دخل عثمان غطاها. قال ابن حجر في فتح الباري 7: 43: قال ابن التين: أنكر الداودي هذه الرواية وقال: هذه الرواية ليست من هذا الحديث بل دخل لرواتها حديث في حديث، وإنما ذلك الحديث: إن أبا بكر أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته قد انكشف فخذه فجلس أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل عثمان فغطاها. الحديث.
قال الأميني: الحياء هو انقباض النفس عما لا يلائم خطة الشرف من الناحية الدينية أو الانسانية، وأصله فطري للانسان، وكماله اكتسابي يتأتى بالإيمان، فهو يتدرج في الرقي بتدرج الإيمان والمعرفة، فتنتهي إلى ملكة راسخة تأبى لصاحبهما التورط في المخازي كلها، فيكون بها الانسان محدودا في أفعاله وتروكه وشهواته وميوله وتنبسط تلكم الحدود على الأعضاء والجوارح وعلى النفس والعقل، فلا يسع أيا منها الخروج عن حده، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى (2) فكل عمل خارج عن حدود الدين والانسانية مناف للحياء، وهو الرادع الوحيد عن الفحشاء والمنكر، وعن كل ما يلوث ذيل الانسانية والعفة والإيمان من صغيرة أو كبيرة، ومن لم يستح فله أن يفعل ما يشاء، وجاء في النبوي على المحدث به وآله السلام: إذا لم تستح فاصنع - فافعل - ما شئت (3).
وعلى هذا فكل من الفحش والبذاء والكذب والخيانة والغدر والمكر ونقض العهد التخلع والمجون وما يجري مجراها أضداد للحياء، وقد وقع التقابل بينها وبينه في لسان المشرع الأعظم منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة،
____________
(1) مسند أحمد 6: 62، صحيح مسلم 7: 116، مصابيح السنة 2: 273، الرياض النضرة 2: 88، تاريخ ابن كثير 7: 202.
(2) أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، والمنذري في الترغيب والترهيب 3: 166.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الحياء والعي من الإيمان وهما يقربان من الجنة ويباعدان من النار، والفحش والبذاء من الشيطان وهما يقربان من النار ويباعدان من الجنة.
أخرجه الطبراني كما في الترغيب والترهيب 3: 165.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة! لو كان الحياء رجلا كان رجلا صالحا، ولو كان الفحش رجلا كان رجل سوء. رواه الطبراني وأبو الشيخ كما في الترغيب والترهيب 3: 166.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما كان الفحش في شئ إلا شانه، وما كان الحياء في شئ إلا زانه أخرجه ابن ماجة في سننه 2: 546، والترمذي في الصحيح.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الاسلام.
أخرجه ابن ماجة كما في الترغيب والترهيب 2: 167.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الحياء لا يأتي إلا بخير (2) وقال المناوي في شرحه في فيض القدير 3: 427: لأن من استحيا من الناس أن يروه يأتي بقبيح دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد فلا يضيع فريضة، ولا يرتكب خطيئة، قال ابن عربي: الحياء أن لا يفعل الانسان ما يخجله إذا عرف منه أنه عرف منه أنه فعله، والمؤمن يعلم بأن الله يرى كل ما يفعله، فيلزمه الحياء منه لعلمه بذلك، وبأنه لا بد أن يقرره يوم القيامة على ما عمله فيخجل فيؤديه إلى ترك ما يخجل منه، وذلك هو الحياء فمن ثم لا يأتي إلا بخير.
وقال: حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق الغير، وقال بعض الحكماء: من كسا (3) الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه.
____________
(1) قال المنذري في الترغيب والترهيب 3: 165: أخرجه أحمد ورجاله رجال الصحيح، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة والمنذري.
(3) لعل الصحيح: من كساه الحياء ثوبه.
أيصلح شاهدا لذلك قوله لمولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام: والله ما أنت عندي أفضل من مروان؟ هلا كان يعلم أن الله عد عليا في كتابه نفس النبي الأقدس وقد طهره بنص الذكر الحكيم، ومروان طريد ابن طريد، وزغ ابن وزغ، لعين ابن لعين؟ راجع الجزء الثامن ص 260 ط 2.
أو اتهامه ذلك الإمام الطاهر سيد العترة بكتاب كتبه هو في قتل محمد بن أبي بكر وأصحابه وتعذيبهم وتنكيلهم، فينكر ما كتب ويقول له عليه السلام: اتهمك واتهم كاتبي مروان؟
أو قوله للإمام عليه السلام: لئن بقيت لا أعدم طاغيا يتخذك سلما وعضدا ويعدك كهفا وملجأ؟ أو قوله له عليه السلام لما كلمه في أمر عمار ونفيه إياه: أنت أحق بالنفي منه؟
أو قوله لأصحابه مروان ومن كان على شاكلته يستشيرهم في أمر أبي ذر: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله؟ وملأ مسامع الصحابة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أظلت الخضراء، وما أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. إلى كلمات أخرى له صلى الله عليه وآله وسلم في الثناء عليه، راجع الجزء الثامن ص 312 ط 2.
أو قوله لعمار لما سمع منه - رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا -: يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره؟ وأمر فدفع في قفاه، وعمار كما عرفته في هذا الجزء ص 20 إلى 28 جلدة ما بين عيني رسول الله وأنفه، وهو الطيب المطيب، ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، اختلط الإيمان بلحمه ودمه، يدور مع الحق حيث دار، وقد جاء الثناء عليه في الذكر الحكيم.
إذا كان حقا ما يدعيه عثمان لنفسه (1) من أنه لم يمس فرجه بيمينه منذ بايع
____________