أيصلح شاهدا لذلك قوله على صهوة المنبر بين ملأ المسلمين في ابن مسعود لما قدم المدينة: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقئ ويسلح؟
وابن مسعود أحد الذين أطراهم الكتاب العزيز، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هديا ودلا وسمتا. راجع ما مر في هذا الجزء ص 6 - 11.
أو قوله لعبد الرحمن بن عوف: إنك منافق (1)؟ وهو أحد العشرة المبشرة فيما يحسبون.
أو قوله لصعصعة بن صوحان: البجباج النفاج؟ وهو ذلك السيد الخطيب الفصيح الدين كما مر في ص 42 من هذا الجزء.
أو شتمه المغيرة بن الوليد المخزومي لما دافع عن عمار حينما ضربه عثمان حتى غشي عليه؟
أو قوله في كتابه إلى معاوية: إن أهل المدينة قد كفروا؟ أو قوله في كتاب آخر له: فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد؟ وهو يريد الأنصار الذين آووا ونصروا، والمهاجرين الذين صدقوا واتبعوا، وهم الذين يحسب أتباع الخليفة أن كلهم عدول، ولم يكن بينهم متخلف عن النقمة عليه إلا ثلاثة أو أربعة حفظ التاريخ ترجمة حياتهم الموصومة.
أو قوله في كتابه إلى الأشتر وأصحابه: إني قد سيرتكم إلى حمص، فإنكم لستم تألون الاسلام وأهله شرا.
أو قوله المائن على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم؟ يقول ذلك
____________
(1) السيرة الحلبية 2: 87، الصواعق ص 8.
أو مقارفته ليلة وفاة أم كلثوم النبي الاقدس؟ وكان ذلك ممقوتا جدا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنه ألمح إليه بقوله: هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟ فمنعه بذلك عن دفن حبيبته، وألصق به هوان الأبد.
أو تربعه على صهوة منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما استخلف؟ وكان أبو بكر يجلس دون مقامه صلى الله عليه وآله وسلم بمرقاة ثم عمر دونه بمرقاة، وكان من حق عثمان الذي كان أشد حياء من صاحبيه أن لا يطأ ذلك المرتقى، وأن يتبع ولا أقل سيرة الشيخين في الحياء والأدب، لكنه.....
أو مخالفته الكتاب والسنة؟ كما كتب المهاجرون الأولون وبقية الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين: أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها فإن كتاب الله قد بدل، وسنة رسوله قد غيرت (1). وكتبوا إلى الصحابة في الثغور: إن دين محمد قد أفسده من خلفكم وترك، فهلموا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم ورفعت عائشة نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقول: تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل. وتقول: ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد.
وتقول: عثمان قد أبلى سنة رسول الله. وتقول: اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا إنه قد كفر.
إلى كلمات أخرى لها ولغيرها في مخالفة الرجل الكتاب والسنة.
أو إعرابه عن تلكم الآراء الشاذة عن الكتاب والسنة في الصلاة والصلاة و الصدقات والأخماس والزكوات والحج والنكاح والحدود والديات بلهجة شديدة بمثل قوله: هذا رأي رأيته. وقوله: لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم. فقال له علي إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه. وقال عمار: أشهد الله إن أنفي أول راغم من
____________
(1) راجع ما مر ص 162 من هذا الجزء.
أو حثه الناس على الأخذ بتلكم الآراء المنتئية عن ناموس الإسلام المقدس حتى قال له أمير المؤمنين لما قال له عثمان: لا تراني أنهى الناس عن شئ وتفعله أنت؟
لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس؟ أو قال له: لم أكن لأدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك. وكاد أمير المؤمنين يقتل من جراء تلك الأحدوثة، مر حديثه في ج 6: 219 و ج 8: 130 ط 2.
وقد فتح بذلك باب الجرأة على الله والتقول عليه بمصراعيه فجاء بعده معاوية ومروان وأبناء أبيه الآخرون يلعبون بدين الله لعبة الصبيان بالدوامة (1).
أو إيواءه عبيد الله بن عمر لما قتل نفوسا أبرياء ولم يقتص منه ونقم عليه بذلك جل الصحابة - لو لم نقل كلهم - ممن يأبه به وبرأيه؟!
أو تعطيله الحد على الوليد بن عقبة لرحمه وقرابته منه وقد شرب الخمر وقاء في محراب المسجد الأعظم بالكوفة، حتى وقع التحاور والتحارش بين المسلمين، واحتدم الحوار والمكالمة وتضاربوا بالنعال؟ مر في الجزء الثامن ص 120 - 125.
أو تسليطه بني أمية رجال العيث والفساد أبناء الشجرة الملعونة في القرآن على رقاب الناس ونواميس الاسلام المقدسة وتوطيده لهم الملك العضوض؟ وتأسيسه بهم حكومة أموية غاشمة في الحواضر الإسلامية؟ كما فصلنا القول فيه في الجزء الثامن ص 288 - 292 ط 2.
أورده إلى المدينة وإيواءه عمه وأبناؤه وكان قد طردهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيها لتلك الأرض المقدسة من أولئك الأدناس الأرجاس؟.
أو تفويضه الصالح العام إلى مروان المهتوك؟ وتطوره في سياسة العباد بتقلباته؟
كأن بيده مقاليد أمور الأمة حتى قال له مولانا أمير المؤمنين: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟
وقال: ما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بإفساد دينك وخديعتك عن عقلك، وإني
____________
(1) لعبة من خشب يلف الصبي عليها خيطا ثم ينقضه بسرعة فتدوم أي تدور على الأرض. و في اللغة الدارجة: مرصع. وشاخة.
أو كتابه إلى ولاته في قتل صلحاء الأمة وحبسهم وتنكيلهم وتعذيبهم؟.
أو تسييره عباد الله الصالحين من الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان من معتقل إلى معتقل، ونفيهم عن عقر دورهم من المدينة والبصرة والكوفة، وإيذائهم بكل ما يمكنه من ضرب ووقيعة وتنكيل؟
حتى هلك في تسييره سيد غفار أبو ذر الصديق المصدق بعد ما تسلخ لحوم أفخاذه من الجهد في تسييره.
هذه نبذ يسيرة قرأناها في صحيفة حياء الخليفة ليعطي الباحث الممعن فيها للنصفة حقها، فيصدق السائل في جوابه، فهل يجد في شئ منها دلالة على تلفع الرجل بشئ من أبراد الحياء؟ أو يجدها أدلة واضحة على فقده لهاتيك الملكة الفاضلة؟ ويجده مترديا بضد هذه الغريزة في كل تلكم الأحوال؟ وعلى هذه فقس ما سواها.
على أن أبا بكر كان أولى بالاستحياء منه إن صح ما مر في الجزء السابع ص 248 من رواية استحياء الله منه، وتكذيبه نبيه استحياء من أبي بكر (1)؟ فكيف لم يهتش صلى الله عليه واله وسلم له ولم يبال به ويهتش لعثمان.
لنا كرة ثانية لرواية الحياء من ناحية أخرى فإن مختلق هذه الأفيكة أعشاه الحب المعمي والمصم حيث أراد إثبات فضيلة رابية للخليفة ذاهلا أو متذاهلا عن أن لازم ذلك سلب تلك الفضيلة عن نبي الاسلام صلى الله عليه وآله وسلم - والعياذ بالله - حيث نسب إليه صلى الله عليه وآله وسلم الكشف عن أفخاده بمنتدى من صحابته غير مكترث لحضورهم حتى إذا جاء الذي تستحي منه الملائكة فاستحى منه وسترها، ونحن نقول أولا: إن هذا الفعل مما لا يرتكبه عظماء الناس ورجالات الأمم وإنما تجئ بمثله الطبقات الواطئة من أذناب الأعراب، فنبي العظمة الذي يهزأ بالطود في وقاره، ويزري بالبحر في معارفه، وكان كما وصفه أبو سعيد الخدري، أشد حياء من العذراء في خدرها (2) وكان إذا كره شيئا
____________
(1) من المخازي المفتعلة كما مر تفصيله.
(2) أخرجه الشيخان البخاري في صحيحه باب صفة النبي ج 5: 203 ومسلم في صحيحه 7: 78
على أن الشريعة التي صدع بها جعلت الأفخاذ عورة وأمرت بسترها، أخرج أحمد إمام الحنابلة في مسنده 5: 290 بالإسناد عن محمد بن جحش ختن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على معمر بفناء المسجد محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خمر فخذك يا معمر! فإن الفخذ عورة.
وفي لفظ بإسناد آخر من طريق ابن جحش قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه على معمر وفخذاه مكشوفان فقال: يا معمر! غط فخذيك فإن الفخذ عورة.
وأخرجه البخاري بهذا الطريق وطريقي ابن عباس وجرهد في صحيحه باب ما يذكر في الفخذ 1: 138 ثم ذكر من طريقي أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسر عن فخذه فقال: حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط وأخرجه من طريق ابن جحش في تاريخه 1 " قسم " 1: 12: وأخرجه البيهقي في سننه 2: 228، والحاكم في المستدرك 4: 180 قال ابن حجر في الإصابة 3: 448 أخرجه أحمد والحاكم وصححه، وأخرجه ابن قانع من وجه آخر عن الأعرج عن معمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه. الحديث.
وقال العسقلاني في فتح الباري 1: 380: رجاله رجال الصحيح غير أبي كثير فقد روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحا بتعديل، وقد أخرج ابن قانع هذا الحديث من طريقه أيضا. ووقع لي حديث محمد بن جحش مسلسلا بالمحمدين من ابتدائه إلى انتهائه وقد أمليته في الأربعين المتباينة.
وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 52 عن أحمد والطبراني في الكبير فقال: رجال أحمد ثقات.
2 - عن علي رضي الله عنه مرفوعا: لا تبرز فخذك - فخذيك - ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت أخرجه البيهقي في سننه 2: 228 والحاكم في المستدرك 4. 180
3 - عن جرهد الأسلمي قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بردة وقد انكشفت فخذي وقال: غط فخذك فإن الفخذ عورة.
أخرجه البخاري في صحيحه كما سمعت تعليقا، ورواه مالك في الموطأ وأبو داود وأحمد والترمذي وقال: حسن. وذكره القسطلاني في إرشاد الساري عن مالك والترمذي فقال: وصححه ابن حبان، وذكر الشوكاني في نيل الأوطار 2: 50 تصحيح ابن حبان إياه، وأخرجه البيهقي في سننه 2: 228 من طريقين، والحاكم في المستدرك 4: 180 4 - عن ابن عباس: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة. فقال: غط فخذيك، فإن فخذ الرجل من عورته.
أخرجه البخاري تعليقا كما مر، ورواه الترمذي وأحمد في مسنده 1: 275، والبيهقي في سننه 2: 228 فقال: قال الشيخ: وهذه (1) أسانيد صحيحة يحتج بها، و أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 181.
5 - أخرج الدارقطني في سننه من طريق عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرو صبيانكم بالصلاة في سبع سنين واضربوهم عليها في عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع، وإذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة، فإن ما تحت السرة إلى الركبة من العورة.
وأخرجه أحمد في مسنده 2: 187 ولفظه: فلا ينظرن إلى شئ من عورته فإنما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته. وذكره الزيلعي في نصب الراية 1: 296 نقلا عن الدارقطني وأبي داود وأحمد والعقيلي فقال: وله طريق آخر عند ابن عدي في الكامل. وأخرجه البيهقي في سننه 2: 229 من أربعة طرق، وذكره القسطلاني في إرشاد الساري 1: 389.
6 - أخرج الدارقطني في سننه ص 85، والبيهقي في سننه 2: 229 من طريق أبي أيوب مرفوعا: ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل من السرة من العورة.
____________
(1) يعني أسانيد حديث ابن جحش وجرهد وابن عباس.
هذه الأحاديث أخذها الأعلام أئمة الفقه والفتيا وذهبوا إلى أن الفخذ عورة وهو رأي أكثر العلماء كما قال النووي (1) والجمهور كما قاله القسطلاني والشوكاني (2) قال ابن رشد في بداية المجتهد 1: 111: ذهب مالك والشافعي إلى أن حد العورة من الرجل ما بين السرة إلى الركبة وكذلك قال أبو حنيفة. وقال قوم: العورة هما السوءتان فقط من الرجل، وسبب الخلاف في ذلك أثران متعارضان كلاهما ثابت، أحدهما حديث جرهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الفخذ عورة. والثاني: حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه وهو جالس مع أصحابه. ثم ذكر قول البخاري المذكور.
وقال القسطلاني في إرشاد الساري 1: 389: قال الجمهور من التابعين وأبو حنيفة ومالك في أصح أقواله، والشافعي وأحمد في أصح روايتيه، وأبو يوسف ومحمد: الفخذ عورة. وذهب ابن أبي ذئب وداود وأحمد في إحدى روايتيه والاصطخري من الشافعية وابن حزم إلى أنه ليس بعورة.
وفي الفقه على المذاهب الأربعة 1: 142: أما عورة الرجل خارج الصلاة فهي ما بين سرته وركبته فيحل النظر إلى ما عدا ذلك من بدنه مطلقا عند أمن الفتنة.
وفيه: قال المالكية والشافعية: إن عورة الرجل خارج الصلاة تختلف باختلاف الناظر إليه فبالنسبة للمحارم والرجال هي ما بين سرته وركبته وبالنسبة للأجنبية منه هي جميع بدنه إلا أن المالكية استثنوا الوجه والأطراف وهي الرأس واليدان والرجلان فيجوز للأجنبية النظر إليها عند أمن التلذذ، وإلا منع خلافا للشافعية فإنهم قالوا:
يحرم النظر إلى ذلك مطلقا.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2: 49 بعد ذكر حديث علي أمير المؤمنين المذكور مرفوعا والحديث يدل على أن الفخذ عورة وقد ذهب إلى ذاك العترة والشافعي وأبو خنيفة، قال النووي، ذهب أكثر العلماء إلى أن الفخذ عورة وعن أحمد ومالك في رواية: العورة القبل والدبر فقط " إلى أن قال: " والحق أن الفخذ من
____________
(1) فتح الباري 1: 382: نيل الأوطار 2: 49.
(2) إرشاد الساري 1: 389، نيل الأوطار 2: 50.
هب أن النهي عن كشف الأفخاذ تنزيهي إلا أنه لا شك في أن سترها أدب من آداب الشريعة، ومن لوازم الوقار ومقارنات الأبهة: ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى برعاية هذا الأدب الذي صدع به هو، قال ابن رشد في تمهيدات المدونة الكبرى 1:
110: والذي أقول به إن ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الفخذ ليس باختلاف تعارض ومعناه أنه ليس بعورة يجب سترها فرضا كالقبل والدبر وأنه عورة يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها، فلا ينبغي التهاون بذلك في المحافل والجماعات ولا عند ذوي الأقدار والهيئات، فعلى هذا تستعمل الآثار كلها واستعمالها كلها أولى من اطراح بعضها. ا هـ.
فعلى كلا التقديرين نحاشي نبي العظمة والجلال أن يكشف عن فخذيه في الملأ غير مكترث للحضور - وهو أشد حياء من العذراء - ولا يأبه بهم حتى أن يأتي رضيع ثدي الحياء، وربيب بين القداسة وليد آل أمية، أشد الأمة حياء، وقد قتلته أفعاله النائية عن تلك الملكة الفاضلة.
ولا يهولنك وجود الرواية في الصحيحين فإنهما كما قلنا عنهما علبتا السفاسف وعيبتا السقطات وفيهما من المخازي والمخاريق ما شوه سمعة التأليف، وفت في عضد علم الحديث، ولعلنا سوف ندعم ما ادعيناه بالبرهنة الصادقة إنشاء الله تعالى: وليتهما اقتصرا من الخزاية على رواية كشف الفخذ فحسب ولم يخرجا تعريه صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس، أخرج البخاري في صحيحه باب بنيان الكعبة ج 6: 13، ومسلم في صحيحه ج 1: 184 من طريق جابر بن عبد الله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: إجعل إزارك على عاتقك يقيك من الحجارة.
ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم قام فقال: إزاري إزاري فشد عليه إزاره.
وفي لفظ لمسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه
وفي قصة لابن هشام في السيرة 1: 197 قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي، يحدث عما كان يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال: لقد رأيتني في غلمان قريش تنقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال: شد عليك إزارك قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي.
هلموا معي أيها المسلمون جميعا نسائل هذين الرجلين - صاحبي الصحيحين - أهذا جزاء نبي العظمة على جهوده؟ وحق شكره على إصلاحه؟ أهذا من إكباره وتعظيمه؟ أصحيح أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يمشي بين ملأ العمال عاريا قد نضا عنه ثيابه وألقى عنه إزاره، غير ساتر عن الحضور عورته؟ وكان عمره صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ خمسا وثلاثين سنة كما قال ابن إسحاق (1).
هب أن رواة السوء أخرجوه لغاية مستهدفة لكن ما المبرر للرجلين أن يستصحاه ويثبتاه في صحيحهما كأثر ثابت؟ أيحسبان أن هذا العمل الفاضح من مصاديق ما أثبتاه له صلى الله عليه وآله وسلم - وهو الصحيح الثابت - من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أشد حياء من العذراء؟ (2) وهل تجد في العذراء من يستبيح هذه الخلاعة؟ لاها الله، لاها الله.
أو يحسبان صاحب هذا المجون غير نبي الاسلام الذي نهى جرهدا. ومعمرا عن كشف فخذيهما لأنهما عورة؟ أو ينهي صلى الله عليه وآله وسلم عن كشف الفخذ يوما ويكشف هو عما فوقها يوما آخر؟ أو من الهين أن نعتقد أن الفخذ عورة لكن ما يعلوها من السوءة ليس بعورة؟.
____________
(1) راجع سيرة ابن هشام 1: 209، الروض الأنف 1: 127، عيون الأثر 1: 51، وما في فتح الباري 7: 5 نقلا عن ابن إسحاق أن عمره كان خمسا وعشرين سنة فغير صحيح والذي صح عنه خمس وثلثون.
(2) راجع ما مر في هذا الجزء صفحة 281.
أو ليس هذا النبي الأعظم هو الذي سأله معاوية بن حيدة فقال له: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إحفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قال: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها. قال: فإذا كان أحدنا خاليا؟
قال فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه (2).
لقد أغرق صلى الله عليه وآله وسلم نزعا في ستر العورة حتى أنه لم يرض بكشفها والمرأ خال حياء من الله تعالى، واستدل به من قال: إن التعري في الخلاء غير جائز مطلقا (3) لكن من عذيري من صاحبي الصحيحين حيث يحسبان أنه صلى الله عليه وآله وسلم كشفها بملأ من الأشهاد؟ والله من فوقهم رقيب. وعلى فرضه - وهو فرض محال - فأين الحياء المربي على حياء العذراء؟ وأين الحياء من الله؟ غفرانك أللهم هذا بهتان عظيم.
هل يحسب الشيخان أن ذلك الحياء فاجأه صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه الوقايع أو الفظايع، وما كان غريزة فيه منذ صيغ في بوتقة القداسة؟ إن كانا يزعمان ذلك؟ فبئس ما زعما، وإن الحق الثابت أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان نبيا وآدم بين الروح والجسد (4) وقد اكتنفته الغرائز الكريمة كلها منذ ذلك العهد المتقادم، شرع سواء في ذلك وهو في عالم الأنوار:
أو: في عالم الأجنة، وفي أدوار كونه رضيعا وطفلا ويافعا وغلاما وكهلا وشيخا، صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 1: 117، والمحب الطبري في الرياض 2: 88.
(2) قال ابن تيمية في المنتقى: رواه الخمسة إلا النسائي. نيل الأوطار 2: 47.
(3) راجع نيل الأوطار 2: 47.
(4) لهذا الحديث عدة ألفاظ من طريق ميسرة وأبي هريرة وابن سارية وابن عباس وأبي الجدعاء، وأخرجه ابن سعد، وأحمد بن حنبل، والبخاري في التاريخ، والبغوي، وابن السكن، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية والدلائل، وصححه الحاكم، والترمذي حسنه وصححه، وابن حبان في صحيحه، وابن عساكر، وابن قانع، والدارمي في السنن، راجع كشف الخفا للعجلوني 2: 129، والجامع الكبير كما في ترتيبه ج 6.
أو ليس مسلم هو الذي يروي من طريق المسور بن مخرمة أنه قال: أقبلت بحجر ثقيل أحمله وعلي إزار خفيف فانحل إزاري ومعي الحجر لم أستطع أن أمنعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إرجع إلى إزارك فخذه ولا تمشوا عراة (1).
أفمن المستطاع أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم ينهى مسورا عن المشي عاريا ويزجره عن حمل الحجر كذلك ويرتكب هو ما نهى عنه؟ إن هذا لشئ عجاب.
وأعجب منه إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى أن المشرك إذا شاهد الناظر المحترم لم يكشف عن عورته فكيف هو بنفسه، جاء في السير في قصة الغار، أن رجلا كشف عن فرجه وجلس يبول فقال أبو بكر: قد رآنا يا رسول الله! قال: لو رآنا لم يكشف عن فرجه. فتح الباري 7: 9.
وأعجب من الكل إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى لعورة الصغير حرمة كما جاء في صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 257 من طريق محمد بن عياض قال: رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغري وعلي خرقة وقد كشفت عورتي فقال: غطوا حرمة عورته فإن حرمة عورة الصغير كحرمة عورة الكبير، ولا ينظر الله إلى كاشف عورة.
وأنى يصح حديث الشيخين إن صح ما مر عن ابن هشام ص 286 من قصة لعبه صلى الله عليه وآله وسلم مع الغلمان في صغره وقد حل إزاره وجعله على رقبته، إذ لكمه لاكم فأورعه، وهتف بقوله: شد عليك إزارك؟ أبعد تلكم اللكمة وذلك الهتاف عاد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما نهي عنه لما كبر وبلغ مبلغ الرجال؟
وكيف يتفق حديث الشيخين مع ما أخرجه البزار من طريق ابن عباس قال:
كان صلى الله عليه وسلم يغتسل وراء الحجرات وما رأى أحد عورته قط. وقال: إسناده حسن (2).
وأبلغ من ذلك ما رواه القاضي عياض في الشفا 1: 91 عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط.
____________
(1) صحيح مسلم 1: 105: وفي ط مشكول 1: 174.
(2) راجع فتح الباري 6: 450، شرح المواهب للزرقاني 4: 284.
إن رجلا لم ير عورته قط أحد حتى حليلته، وأنت من اطلع الناس على خلواته وسرياته كان يحمل الحجر بين العمال عاريا وقد حل إزاره وجعله على منكبيه.
أيهما صحيح عنك يا أم المؤمنين مما أسندوه إليك؟ أحديثك هذا؟ أم ما حدثت به - إن كنت حدثت به - من حديث عثمان مشفوعا بما ثبت عن بعلك صلى الله عليه وسلم من أن الفخذ عورة؟.
وكأني بأم المؤمنين تقول: حسبك أيها السائل لقد منيت بالكذابة كما مني بها بعلي صلى الله عليه وآله وسلم قبلي، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلا كذبا.
وسيعلم المبطلون غب ما فرطوا في جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلوا في فضائل أناس آخرين، ونعم الحكم الله غدا والخصيم محمد صلى الله عليه وآله.
ليت شعري هل كانت عائشة تعتقد باستقرار ملكة الحياء في عثمان في كل تلك المدة التي روت عن أولياتها حديث الفخذين، وطفقت في أخرياتها تثير الناس على عثمان وتقول فيه تلكم الكلم القارصة الفظة التي أسلفناها في الجزء صفحة 77 - 86 ولم تفتأ حتى أوردته حياض المنية، وهل كانت ترى استمرار حياء الملائكة منه طيلة ما بين الحدين؟! أو أنها ترتأي انفصام عراه بتقطع حلقات ما أثبتت له من ملكة الحياء؟
ولذلك قلبت عليه ظهر المجن، فإن كان الأول فما المبرر للهجاته الأخيرة؟ وإن كان غيره؟ فالحديث باطل أيضا لأن تبجيل عالم الملكوت لا يكون إلا على حقيقة مستوعبة لمدة حياة الانسان كلها، والتظاهر بالفضل المنصرم لا حقيقة له تكبرها الملائكة وتستحي من جهتها، هذا إن لم تعد أم المؤمنين علينا جوابها الأول مرة أخرى من أنها منيت بالكذابة كما أنه جوابها المطرد في كل ما يروى عنها من فضل عثمان وإن كلها من ولائد عهد معاوية المحشو بالأكاذيب والمفتريات طمعا في رضائخه.
3 - أخرج الطبراني من حديث أبي معشر البراء البصري عن إبراهيم بن عمر بن أبان بن عثمان عن أبيه عمر بن أبان عن أبيه أبان بن عثمان بن عفان قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعائشة وراءه إذ استأذن أبو بكر فدخل، ثم استأذن
ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 203 فقال: هذا حديث غريب وفي سنده ضعف.
وأوعز الذهبي إليه في الميزان 2: 250 فقال: قال البخاري: في حديث عمر بن أبان نظر.
قال الأميني: هذه الرواية لدة ما أسلفناه من مسلم وأحمد مشفوعا بتفنيده و إبطاله ونزيدك هاهنا: إن البراء أبا معشر البصري ضعفه ابن معين، وقال أبو داود:
ليس بذاك (1) وفيها إبراهيم بن عمر بصري أموي حفيد الممدوح قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال ابن أبي حاتم: ترك أبو زرعة حديثه فلم يقرأه علينا. وقال ابن حبان:
لا يحتج بخبره إذا انفرد (2) وقال ابن عدي: حدثنا أبو يعلى عن المقدمي عن أبي معشر عن إبراهيم بن عمر بن أبان بأحاديث كلها غير محفوظة منها: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إلى عثمان أنه يقتل ظلما (3).
4 - أخرج الطبراني من طريق أبي مروان محمد بن عثمان الأموي العثماني عن أبيه عثمان بن خالد حفيد عثمان بن عفان عن مالك عن أبي الزناد (مولى بنت عثمان) عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عثمان حيي تستحي منه الملائكة (4) قال الأميني: في الاسناد أبو مروان محمد قال صالح الأسدي: يروي عن أبيه المناكير، وقال ابن حبان: يخطئ ويخالف (5).
____________
(1) تهذيب التهذيب 11: 430.
(2) ميزان الاعتدال 1: 24، لسان الميزان 1: 86.
(3) لسان الميزان 4: 282.
(4) تاريخ ابن كثير 7: 203.
(5) تهذيب التهذيب 9: 336.
وقد فصلنا القول قبيل هذا في حياء الرجل بما لا مزيد عليه وبذلك تعلم أن الحديث باطل وإن صح إسناده فكيف به وإسناده أوهن من متنه.
5 - أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 56 من طريق هشيم أبي نصر التمار عن الكوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشد أمتي حياء عثمان بن عفان.
قال الأميني: تغمرني الحيرة في حياء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومبلغها منه بعد أن كان عثمان أشدها حياء وبين يديك أفعاله وتروكه، فعلى الأمة العفا إن صدقت الأحلام.
نعم: هذا لا يكون، ونبي العظمة لا يسرف في القول، ولا يجازف في الاطراء، والإسناد باطل لا يعول عليه لمكان كوثر بن حكيم قال أبو زرعة: ضعيف. وقال يحيى بن معين: ليس بشئ. وقال أحمد بن حنبل: أحاديثه بواطيل ليس بشئ. وقال الدارقطني وغيره: مجهول. وقال أبو طالب: سألت أحمد عنه فقال: ليس هو من عيالنا، وكان أحمد إذ لم يروعن رجل قال: ليس هو من عيالنا متروك الحديث وقال: ضعيف منكر الحديث.
وقال الجوزجاني: لا يحل كتابة حديثه عندي لأنه متروك. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ضعيف الحديث. قلت: هو متروك؟
قال: لا، ولا أعلم له حديثا مستقيما وهو ليس بشئ. وقال ابن أبي شيبة: منكر الحديث.
وقال أبو الفتح والساجي: ضعيف. وقال البرقاني والدارقطني: متروك الحديث. وذكره العقيلي والدولابي وابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء. ميزان الاعتدال 2: 359،
____________
(1) روايته هذه عن مالك من تلكم الموضوعات.
(2) تهذيب التهذيب 7: 114.
6 - أخرج أبو نعيم في الحلية 1: 56 من طريق زكريا بن يحيى المقري (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان أحيا أمتي وأكرمها.
قال الأميني: ما خطر أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن كان أحياها وأكرمها قتيل الصحابة العدول إثر هناته وموبقاته، وليد الشجرة الملعونة في القرآن، وليد أبي العاص وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم في ولده قوله: إذا بلغوا ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، ودينه دخلا. وقد كان بلاغهم ثلاثين يوم عثمان وهو أحدهم ورأسهم، وأسلفنا في ذلك قول أبي ذر الناظر إليه وإليهم من كثب. فهل يثمر الشوك العنب؟ لاها الله.
أيحسب الباحث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر بهذه المنقبة الرابية إلى ابن عمر فحسب من بين الصحابة؟ أم أعلن بها في ملأ من أصحابه وكان في الآذان وقر؟ أم سمعوها ونسوها من يومهم الأول؟ أم حفظوها ونبذوها وراء ظهورهم يوم تركوا جثمان أحيا الأمة وأكرمها منبوذا ثلاثة أيام في مزبلة من غير دفن؟ ثم دفنها عدة أناس ليلا وما أمكنهم تغسيله وتكفينه وتجهيزه والصلاة عليه، دفن في مقبرة اليهود بعد ما رجم سريره وكسر ضلع من أضلاعه، وعفي قبره خوفا عليه من النبش.
على أن الاسناد لا يصح لمكان زكريا بن يحيى وهو ضعيف وشيخه يخطئ في الاسناد والمتن وقد أخطأ في أحاديث كثيرة، وغرائب حديثه وما ينفرد به كثير. راجع تاريخ الخطيب البغدادي وميزان الاعتدال ولسانه.
7 - أخرج ابن عساكر في ترجمة عثمان من طريق أبي هريرة مرفوعا: الحياء من الإيمان وأحيى أمتي عثمان.
ضعفه السيوطي في الجامع الصغير وأقره المناوي راجع فيض القدير 3: 429
* (لفت نظر) *
يعطينا سبر التاريخ والحديث خبرا بأن السيرة المطردة لرجال الوضع والاختلاق في شنشنة التقول والافتعال في الفضائل هي العناية الخاصة بالملكات التي كان يفقدها الممدوح رأسا. والمبالغة والاكثار في كل غريزة ثبت خلافها مما علم من تاريخ حياة الرجل ومن سيرته الثابتة المشهورة، فنجدهم يبالغون
____________