المغالاة في فضائل الخلفاء الثلاثة
أبي بكر. عمر. عثمان
لقد أوقفناك على شيئ من الغلو الفاحش في كل فرد من هؤلاء، وعرفناك أن كل ما لفقه القوم ورمقه من الفضائل إنما هي من مرمعات الحديث لا يساعدها المعروف من نفسياتهم وملكاتهم ولا يتفق معها ما سجل لهم التاريخ من أفعال وتروك، وهلم الآن إلى لون آخر مما تمنته يد الافتعال يشملهم كلهم، ولا نكترث من ذلك إلا لما جاء بصورة الرواية دون الأقوال والكلمات، فإن رمي القول على عواهنه مما لا نهاية له، وما حدت إليه الأهواء والشهوات لا تقف على حد، فنمر بما جاء به أمثال أبناء حزم وتيمية والجوزي والجوزية وكثير وحجر ومن لف لفهم من السلف والخلف كراما، فأنى يسع لنا التبسط تجاه مزعمة نظراء التفتازاني وأمثاله قال في شرح المقاصد 2:
279: احتج أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالاجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مع الإجماع على أنهم لم تجب عصمتهم وإن كانوا معصومين بمعنى أنهم منذ آمنوا كان لهم ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها.
وقال أبو الثناء شمس الدين محمود الاصبهاني المتكلم الشهير في " مطالع الأنظار " 470: ولا يشترط فيه العصمة خلافا للإسماعيلية والاثنا عشرية. لنا: إمامة أبي بكر والأمة اجتمعت على كونه غير واجب العصمة لا أقول إنه غير معصوم. هـ. وأقر عصمة عثمان الحافظ نور محمد الأفغاني في كتابه " تاريخ مزار شريف " ص 4.
ونحن وضعنا أمامك صحائف من كتب أعمال هؤلاء المعصومين التي قضوا أكثرها على العادات الجاهلية، وأوقفناك على أن ما طابق منها عهد الاسلام مما لا يمكن أن يكون صاحبه عادلا فضلا عن أن يعد معصوما، وهاهنا لا نحاول أكثر من لفت نظر القارئ إلى تلكم الصحائف من غير توسع نكرره، ففيما سبق في الجزء السادس والسابع والثامن من الطامات والجنايات والأحداث والشنايع والفظايع ومما لا تقرره طقوس الاسلام ويشذ عن سنن الكتاب والسنة غنى وكفاية.
وأما ما استنتجه التفتازاني من الإجماعين فمن أفحش أغلاطه. أما أولا فلمنع
وأما خلافة عمر فكانت بالنص من أبي بكر مع إنكار الصحابة عليه ونقدهم إياه بذلك. وكم أناس كانوا يشاركون طلحة في قوله لأبي بكر: ما تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا (2).
وأما عثمان فنصبته الشورى على هنات بين رجال الشورى عقد له عبد الرحمن بن عوف ولم يشترطوا كما قال الأيجي (3) إجماع من في المدينة فضلا عن إجماع الأمة نعم: عقد عبد الرحمن البيعة لصاحبه وسيفه مسلول على رأس الإمام علي بن أبي طالب قائلا له: بايع وإلا ضربت عنقك. ولحقه أصحاب الشورى قائلين بايع وإلا جاهدناك. أنساب البلاذري 5: 22.
والتمحل بحصول الإجماع بعد ذلك تدريجا لا يجديهم نفعا، فإن الخلافة قد ثبتت عندهم بالبيعة الأولى فجاء متمموا الإجماع بعد ذلك على أساس موطد.
وأما ثانيا فإن من الممكن على فرض التنازل مع التفتازاني أن يكون إجماعهم على خلافة الثلاثة لكونهم معصومين كما ينص به هو، وأما الإجماع المنقول عنهم بعدم وجوب العصمة فمما لا طريق إلى تحصيله من آراء الصحابة، فمتى سبر التفتازاني نظريات السلف وهم معدودون بمئات الألوف فعلم من نفسياتهم أنهم لا يرون وجوب العصمة في خلفائهم وهم رهائل أطباق الثرى؟ ومن ذا الذي كان يسعه أن يعلمها فينهيها إلى التفتازاني وهلم جرا إلى دور الصحابة؟ ومتى كانوا يتعاطون المسائل الكلامية ويتفاوضون
____________
(1) راجع ما مر في الجزء السابع ص 141 - 143 ط 2.
(2) مرت كلمته في ج 7: 152. وراجع الرياض النضرة 1: 181 كنز العمال 6: 324.
(3) مرت كلمته في الجزء السابع ص 141 ط 2.
وأما ثالثا: فإنا لا نحتج بالاجماع إلا بعد ثبوت حجيته، فإذا ثبتت فإنها لا تختص بمورد دون آخر فيجب أن يكون حجة في الخلافتين معا من أبي بكر وعثمان ذلك على نصبه، وهذا على استباحة قتله، والنقض بخروج ثلاثة أو أربعة من ساقة الأمويين أو ممن يمت بهم ويحمل بين جنبيه نزعتهم في الإجماع على عثمان مقابل بخروج أمة صالحة عن الإجماع الأول من أعيان الصحابة وفي طليعتهم سيد العترة وإمام الأمة أمير المؤمنين علي عليه السلام والإمامان الحسنان والصديقة الطاهرة أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، إلى غيرهم من بني هاشم والعمد والدعائم من المهاجرين والأنصار، ووفاقهم الأخير مشفوعا بالترهيب لا يعد وفاقا ولا يكون متمما للاجماع، فإنهم كانوا مستمرين على آرائهم وإن ألجأتهم الظروف وحذار وقوع الفرقة إن شهروا سيفا وباشروا نضالا إلى المغاضاة عن حقهم الواضح والمماشاة مع القوم كيفما حلوا وربطوا، فهذا مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يقول بعد منصرم أيام الثلاثة في رحبة الكوفة: أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلى الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى:، أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده. ثم تمثل
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطر أضرعيها، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم: وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذا سفوا وطرت إذا طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته. (1) تعرب هذه الخطبة الشريفة عن رأيه عليه السلام في الخلافة، وكل جملة منها تشهد على عدم العصمة المزعومة، أو تمثل أولئك المعصومين للملأ بعجزهم وبجرهم، أضف إليها قوله عليه السلام من كتاب له إلى معاوية، ذكرت إبطائي عن الخلفاء، وحسدي إياهم، والبغي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الكراهة لهم فوالله ما اعتذر للناس من ذلك، وذكرت بغيي على عثمان وقطعي رحمه فقد عمل عثمان بما قد علمت و عمل به الناس ما قد بلغك. (2) وقوله عليه السلام من خطبة له لما أراد المسير إلى البصرة: إن الله لما قبض نبيه صلى الله وعليه وآله وسلم استأثرت علينا قريش بالأمر ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالاسلام، والدين يمخض مخض الوطب. يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلق، فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء و الله ولي تمحيص سيآتهم والعفو عن هفواتهم. (3).
____________
(1) راجع الجزء السابع ص 81 - 85.
(2) العقد الفريد 2: 286.
(3) شرح ابن أبي الحديد 1: 102.
وقوله عليه السلام يوم قال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له: إذهب فادع لي عليا. فذهب إلى علي فقال: ما حاجتك؟ فقال: يدعوك خليفة رسول الله. فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله. فرجع فأبلغ الرسالة ثم قال أبو بكر: عد إليه فقل له: أمير المؤمنين يدعوك لتبايع. فجاءه قنفذ فأدى ما أمر به فرفع علي صوته فقال: سبحان الله لقد ادعى ما ليس له. الحديث. الإمامة والسياسة 1: 13.
إلى كلمات أخرى توقف الباحث على جلية الحال.
فأين العصمة المزعومة؟ ثم أين الإجماع المدعى عليها؟ وأنى كان الإجماع على الخلافة؟ ومتى تحقق؟ وإن تم الإجماع فيجب أن يحتج به في الخلافتين وصاحبيهما وإن أبطلناه ففيهما معا.
ونحن لو اندفعنا إلى تفنيد أمثال هذه السفاسف المنبعثة عن الغلو في الفضائل لضاق بنا المجال عن السير في مواضيع الكتاب على أنها غير مبتنية على اسس رصينة تستحق أخذا بها أو ردا عليها، وإنما ذكرنا هذه الأسطورة فحسب لأن نعطيك شيئا من نماذج تلكم الأقاويل المسطرة بلا أي تعقل وتدبر، فدونك شيئا مما عزوه إلى الروايات من فضايل الثلاثة.
1 - أخرج الإمام الفقيه المحدث الثقة (2) أبو الحسين محمد بن أحمد الملطي الشافعي المتوفى 377 في كتابه " التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع " ص 23 قال:
قال محمد بن عكاشة رحمه الله أخبرني معاوية بن حماد الكرماني عن الزهري قال: من اغتسل ليلة الجمعة وصلى ركعتين يقرأ فيهما (قل هو الله أحد) ألف مره رأى النبي صلى الله وعليه وسلم في منامه. قال محمد بن عكاشة: فدمت عليه كل ليلة جمعة أصلي الركعتين أقرأ
____________
(1) تاريخ الطبري 5، 171.
(2) كذا وصفوه وأنت تعرف صدق وصفه من حديثه.
الرضا بقضاء الله: والتسليم لأمر الله والصبر على حكم الله: والأخذ بما أمر الله، والنهي عما نهى الله عنه، والاخلاص بالعمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره من الله، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين، والمسح على الخفين، والجهاد مع أهل القبلة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، والإيمان يزيد وينقص، قول وعمل، والقرآن كلام الله، والصبر تحت لواء السلطان على ما كان فيه من جور وعدل ولا يخرج على الآمر بالسيف وإن جاروا، ولا ينزل أحد من أهل التوحيد جنه ولا نار، ولا يكفر أحد من أهل التوحيد بذنب وإن عملوا الكبائر، والكف عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - فلما أتيت: والكف عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بكى حتى علا صوته - و أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. قال محمد بن عكاشة:
فقلت في نفسي في علي: ابن عمه وختنه. فتبسم عليه السلام كأنه قد علم ما في نفسي. قال محمد: فدمت ثلاث ليال متواليات أعرض عليه هذه الأصول كل ذلك أقف عند عثمان وعلي فيقول لي عليه السلام: ثم عثمان ثم علي. ثم عثمان ثم علي: ثلاث مرات. قال: وكنت أعرض عليه هذه الأصول وعيناه تهملان بالدموع قال: فوجدت حلاوة في قلبي وفمي فمكثت ثمانية أيام لا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى ضعفت عن صلاة الفريضة فلما أكلت ذهبت تلك الحلاوة واللذة والله شاهد علي وكفى بالله شهيدا.
وقال أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: يا أحمد!
قال الأميني: نحن نجد الباحث في غنى عن البحث عن هذه الأسطورة وما فيها من مضحكات الثكلى، ونجل أحمد عن أن يتخذها حجة بينه وبين الله فيلقنها خليفة وقته، ونربي به عن تصديق مثل محمد بن عكاشة الذي جاء فيه قول ابن عساكر بعد روايته هذه الرؤيا: قال سعيد بن عمرو البردعي: قلت لأبي زرعة: محمد بن عكاشة الكرماني. فحرك رأسه فقال: رأيته وكتبت عنه وكان كذابا. قلت: كتبت عنه الرؤيا التي كان يحكيها؟ قال: نعم كتبت عنه فزعم أنه عرض على شبابة: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص فيه أي به، وأنه عرض على أبي نعيم: علي ثم عثمان فقال به وهو كذوب ولا يحسن أنه يكتب أيضا، يعني إن شبابة لا يقول بذلك وكذا أبو نعيم قلت:
أين رأيته؟ قال، قدم هنا مع محمد بن رافع وكان رفيقه كنت أرى له سمتا ولقيني محمد ابن رافع فكره أن يقول فيه شيئا وقال لي: لا يخفى عليك أمره إذا فاتحته فقلت: إن رأيت أن تفيدني شيئا قال: نعم. ثم كاد يصعق واضطرب بطنه فهالني ذلك ثم أقبل علي فقال: إن أول ما أملى علي أن كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى علي وعلى ابن عباس. الخ (1).
وذكره الحاكم في الضعفاء فقال: منهم جماعة وضعوا كما زعموا يدعون الناس إلى فضائل الأعمال مثل أبي عصمة ومحمد بن عكاشة الكرماني ثم نقل عن سهل بن السري الحافظ أنه كان يقول: وضع أحمد الجويباري ومحمد بن تميم ومحمد بن عكاشة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرة آلاف حديث. راجع ما أسلفناه في سلسلة الكذابين ج 5: 261 ط 2، ولسان الميزان 5. 286 - 289.
فرجل هذا حاله وتلك صفته وذلك حديثه ليس بالمستطاع تصديقه علي دعاويه المجردة في المبادئ والمعتقدات، العجب كل العجب من الفقيه الثقة الذي يعتمد على مثلها من خزاية، قاتل الله الحب المعمي والمصم هو الذي حدى القوم إلى تفتين بسطاء الأمة بمثل هذه الخزعبلات والله يعلم أنهم لكاذبون.
____________
(1) لسان الميزان 5: 287.
وأخرجه ابن عساكر في تاريخه 1: 325 محذوف الاسناد بلفظ: أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء، عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرأهم أبي بن كعب. إلخ.
ورواه في ج 6: 199 من طريق أبي سعيد الخدري وعقبه: قال العقيلي: أسانيد هذه الأحاديث غير محفوظة والمتون معروفة.
قال الأميني: ألا تعجب من أسطورة جاء بها خلف البزار الثقة الأمين العابد الفاضل السكير. قال أبو جعفر النفيلي: كان من أصحاب السنة لولا بلية كانت فيه: شرب النبيذ.
وذكر خلف عند أحمد - إمام الحنابلة - فقيل: يا أبا عبد الله! إنه يشرب. فقال: قد انتهى إلينا علم هذا عنه، ولكن هو والله عندنا الثقة الأمين شرب أو لم يشرب (2)
والرواية نفسها شاهد صدق على ما انتهى إلى إمام الحنابلة علمه من خلف البزار والذين أخذوها منه ورووها عنه إنما أقحمتم فيها سكرة الهوى لا نشوة السلافة.
ولتقديس ذيل هذا الثقة الأمين عن رجاسة النبيذ جاء الخطيب البغدادي بما رواه عن محمد بن أحمد بن رزق عن محمد بن الحسن بن زياد النقاش قال: سمعت إدريس ابن عبد الكريم الحداد يقول: خلف بن هشام يشرب من الشراب على التأويل فكان ابن أخته يوما يقرأ عليه سورة الأنفال حتى بلغ - ليميز الله الخبيث من الطيب - فقال يا خال! إذا ميز الله الخبيث أين يكون الشراب؟ قال: فنكس رأسه طويلا ثم قال: مع الخبيث. قال: فترضى أن تكون مع أصحاب الخبيث؟ قال: يا بني امض إلى المنزل
____________
(1) عبد ربه بن نافع السكناني، ثقة ليس بالقوي يهم في حديثه ويخطئ.
(2) إقرأ واحكم.
حبذا هذا التنزيه لو صدقت الأحلام، وهو وإن كان معقولا أحسن من رأي الإمام أحمد من أنه الثقة الأمين شرب أو لم يشرب. فإنه رأي تافه لا تساعده البرهنة ولا يوافقه الشرع والعقل والمنطق، والله يقول: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (1) غير أن من المأسوف عليه جدا بطلان إسناده لمكان محمد بن الحسن النقاش فإنه كذبه طلحة بن محمد، ووهاه الدارقطني، ودلسه أبو بكر، وقال البرقاني: كل حديثه منكر، وذكر عنده تفسير وفقال: ليس فيه حديث صحيح. وكل هذه ذكره الخطيب نفسه فبماذا ينزه الرجل؟ وأنى يتأتى له أمله؟
وإني أشكر من انتهى إليه وضع هذه الأكذوبة على أنه لم يذكر مع القوم مولانا أمير المؤمنين عليا عليه السلام الذي هو أربى من كلهم في جميع الصفات المذكورة فإنه يرفع عن أن يذكر في عداده أي أحد، كما أن فضائله أربى من أن تذكر معها فضيلة.
وهاهنا لا نناقش متن الرواية في الأوصاف التي حابت القوم بها، فلعل فيها ما هو مدعوم بالبرهنة، فيشهد على كون أبي بكر أرحم الأمة إحراقه الفجاءة، وغضه الطرف عن وقيعة خالد بن الوليد في بني حنيفة وخزايته مع مالك بن نويرة وزوجته (2) وعدم اكتراثه لأمر الصديقة فاطمة في دعواها، وكانت له مندوحة عن مجابهتها باسترضاء المسلمين واستنزال كل منهم عن حصته من فدك إن غاضينا القوم على الفتوى الباطلة والرواية المكذوبة في انقطاع إرث النبوة خلافا لآيات المواريث المطلقة وإرث الأنبياء خاصة، على أن فاطمة سلام الله عليها وابن عمها ما كانا يجهلان بما تفرد بنقله أبو بكر وصافقته على قوله سماسرته من الساسة لأمر دبر بليل، وأمير المؤمنين عليه السلام أقضى الأمة وباب مدينة علم النبي، والصديقة فاطمة بضعته وما كان يشح صلى الله عليه وآله وسلم عليها من إفاضة العلم ولا سيما علم الأحكام وعلى الأخص ما يتعلق بها، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنها سوف تقيم الدعوى على صحابته المتغلبين على فدك وأنها ستمنع عنها ويحتدم بينها و
____________
(1) سورة الحجرات: 6.
(2) راجع الجزء السابع ص 156، 157، 158، 168 ط 2.
ألم تكن لأبي بكر مندوحة تصحح إقطاع فاطمة فدكا وردها إليها حتى لا يفتح باب السوءة على الأمة كما ردها عمر إلى ورثة النبي الأقدس، وأقطعهما عثمان مروان وأقطعها معاوية مروان وعمر وبن عثمان ويزيد بن معاوية على الأثلاث، إلى ما رأى فيها الخلفاء بعدهم من التصرف كتصرف الملاك في أملاكهم (1).
سل عن صفة أبي بكر هذه فاطمة وهي صديقة يوم خرجت عن خدرها وهي تبكي وتنادي بأعلى صوتها: يا أبت! يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة (2).
وسلها عنها يوم لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس (3).
وسلها عنها يوم قالت لأبي بكر: والله لأدعون عليك بعد كل صلاة أصليها.
وسلها عنها يوم ماتت وهي واجدة على أبي بكر، وهي التي طهرها الجليل بآية التطهير، وصح عن أبيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني، يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها (4).
وقوله: فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبي فمن آذاها فقد آذاني (5).
وقوله: إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضي لرضاها (6).
____________
(1) راجع ج 7 ص 195 ط 2.
(2) راجع ج 7 ص 77.
(3) راجع ج 7 ص 192 ط 2.
(4) راجع ج 7 ص 231 - 235 ط 2.
(5) راجع ج 7 ص 20.
(6) راجع ج 7 ص 235 ط 2.
وسل عنها أمير المؤمنين يوم لاذ بقبر أخيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي ويقول: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني (1).
إلى غير هذه من دلائل كون أبي بكر أرحم الأمة.
وأما كون عمر أشدهم في الدين فمن جلية الواضحات إن الشدة في الدين ليست هي الفظاظة والغلظة فحسب وإنما هي التهالك في التمسك بعروتي الكتاب والسنة و العمل بهما والأخذ والقيام بما جاء فيهما من الحدود، وما أكثر ما خالفهما الرجل ونبذهما وراء ظهره واتخذ برأيه الشاذ عنهما؟ ودع عنك ما جهله منهما. وما قيمة شدة بلا علم؟
وما مقدار شدة مع التنكب عن أساسيات الدين؟ مع الخروج عن طقوس الاسلام، مع التمسك بالأهواء والشهوات؟ راجع نوادر الأثر في علم عمر من الجزء السادس ص 83 - 333 ط 2 فإنك تجد هنالك شواهد قوية على إثبات هذه الصفة فاقرأها وتبصر.
وأما كون عثمان أصدقهم حياء فيكفي دلالة عليه الجزء الثامن والتاسع من هذا الكتاب وكل صحيفة منهما آية من آيات صفته تلك، مضافا إلى ما سردناه في هذا الجزء ص 274 - 289 من البحث الخاص في حيائه.
وأما الثلاثة الباقون فلا نطيل البحث عن إثبات ما ذكر لهم، ففيه تضييع للوقت وشغل عما هواهم من ذلك، ومن سبر كتابنا هذا عرف أعلم الأمة وأفرضها وأمينها
____________
(1) راجع الجزء السابع ص 78.
3 - في كتاب المناقب من صحيح البخاري 5: 249 عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: ثم عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وفي لفظ الخطيب في تاريخه 13: 432: قال قلت: يا أبت! من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يا بني أو ما تعلم؟ قال: قلت: لا. قال: أبو بكر. قال: قلت: ثم من؟ قال: يا بني؟ أو ما تعلم؟ قال: قلت: لا. قال ثم عمر. قال: ثم بدرته فقلت: يا أبت! ثم أنت الثالث. قال: فقال لي: يا بني أبوك رجل من المسلمين له ما لهم و عليه ما عليهم.
قال الأميني: ليست هذه أول سقطة من سقطات البخاري، ومن عرف معتقد أمير المؤمنين علي عليه السلام في الذين تقدموه وما استمر عليه دؤبه من التصريح بذلك المعتقد تارة والتلويح إليه أخرى لا يشك في أن ما عزي إليه بهتان عظيم.
وليس ابن الحنفية ذلك الذي لا يعرف أباه ولا نظريته في القوم بعد اللتيا والتي حتى يسأله عن أولئك الرجال ثم يخاف عن أن يقول في المرة الثالثة عثمان وهو يعرفه بعجره وبجره لا محالة، ويعلم أنه هو أحد الثلاثين من بني أبي العاص الذين صح فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا، وعباده خولا، ودينه دخلا (1).
لماذا كتم أمير المؤمنين عليه السلام من ابن الحنفية رأيه هذا يوم مقتل عثمان لما أراد الإمام عليه السلام أن يأتي الرجل وينصره فأخذ ابن الحنفية بضبعيه أو بكفيه أو بحقويه يمنعه من ذلك (2).
حاشا ابن الحنفية من الجهل بما جاء في أبيه الطاهر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
____________
(1) راجع ما مر في الجزء الثامن ص 250، 251، 305 ط 2.
(2) الأنساب 5: 94.
وأنى تصح نسبة هذه المزعمة إلى علي عليه السلام وقد جاء عنه من عدة طرق إنه قال:
حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال: أي علي؟ ألم تسمع قوله الله تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية "؟ أنت وشيعتك. وورد عن جابر:
إن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا إذا أقبل علي قالوا: قد جاء خير البرية. راجع ما أسلفناه في ج 2: 52. أخرجه مضافا إلى ما ذكرناه هنالك من المصادر ابن أبي حاتم في تفسيره، قال السيوطي في لئاليه 1: 12: التزم ابن أبي حاتم أن يخرج في تفسيره أصح ما ورد ولم يخرج حديثا موضوعا البتة. هـ.
ولو كان يرى أمير المؤمنين أن أبا بكر خير الناس فلماذا تقاعد عن بيعته إلى أن توفيت سيدة النساء فاطمة؟ وكان له وجه عند الناس أيام حياتها كما أخرجه البخاري نفسه، وصافقه على ذلك بنو هاشم ومن وافقهم من غيرهم من وجوه الأمة وأعيان الصحابة، أو لم يكن فيهم من يعرف منزلة الصديق هذه؟ وما بال علي أمير المؤمنين عليه السلام كان يحمل الصديقة الطاهرة على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة على خير البشر؟ (3) ولماذا لم يكن في مقال الدعاة إلى أبي بكر أيضا يوم السقيفة و بعده ما يومي إلى أنه خير البشر؟ بل كان رطب ألسنتهم: إنه السباق المسن وثاني اثنين إذ هما في الغار (4) مشفوعا كل ذلك بالإرهاب والترعيد. أفلم يدبروا القول، أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين؟.
هب أن الصحابة يوم ذاك ما كانوا يعرفون منزلة الرجل، فهلا نبههم عليه أمير المؤمنين وأمرهم باتباع خير الناس وفيهم من كان أطوع له من الظل لديه، فقم بذلك
____________
(1) راجع ما مضى في الجزء الثاني ص 57، و ج 3: 22، 24 ط 2.
(2) طبقات ابن سعد 5: 79.
(3) الإمامة والسياسة 1: 12.
(4) راجع الجزء السابع ص 91 ط 2.
نحن هاهنا لسنا في مقام إثبات أن عليا خير البشر بعد صنوه الطاهر صلى الله عليهما وآلهما. كلا ثم كلا.
ولسنا في صراط بيان المفاضلة بينه سلام الله عليه وبين خلفاء الانتخاب الدستوري، حاشا ثم حاشا.
وإنما يروقنا جدا أن نمركز لهذا الانسان الكامل في الملأ الديني مكانة فرد من آحاد المسلمين، ونجعلها كلمة سواء بيننا وبين القوم، ونتصافق على هذا فحسب.
أللهم غفرانك وإليك المصير يا حبذا بعد ما صدق القوم ما عزي إليه صلوات الله عليه من قول: ما أنا إلا رجل من المسلمين أو قوله لا بنه: يا بني أبوك رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم. كانوا يعدونه رجلا منهم وأجروا عليه أحكام من آمن بالله وأسلم، وكان له ما لهم وعليه ما عليهم. بل ليتهم كانوا اتبعوا رأي عثمان فيه ويرون مروان بن الحكم اللعين ابن اللعين بلسان النبي الأقدس أفضل منه. وليتهم ساووا بينه وبين سفلة الأعراب، والطبقة الواطئة الساقطة من الصحابة، لكن: أنى؟ ثم أنى؟.
قل لي بربك أي مسلم شريف أو وضيع لعن غيره في ثمانية عشر ألف منبر، ولم ينبس ابن أنثى ببنت شفة في الدفاع عنه؟.
قل لي بربك أي مسلم سائد أو سوقة غير سيد العترة سن سبه في الجمعة و الجماعة في الحواضر الإسلامية جمعاء، وتختم بلعنه أندية الوعظ والخطابة، ومن نهى عن ذلك ينفى عن عقر داره؟ قال الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو: أتيت من حوران إلى دمشق لآخذ عطائي فصليت الجمعة ثم خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخ يقال له: أبو شيبة القاص، يقص على الناس فرغب فرغبنا، وخوف فبكينا، فلما
قل لي بربك أي عزيز تحت ظل النبوة غير عزيزنا المفدى، أضهده نير المذلة، وأصبح ضهدة لكل أحد، جرعته يد الإحن كاسات المحن، حتى سئم من حياته، وصبر وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، يرى تراثه نهبا؟.
قل لي بربك أي صحابي غير علي عليه السلام لا يستقيم الأمر لأمة محمد إلا بسبه؟
يقال لمروان: مالكم تسبونه على المنابر؟ فيقول بملء فمه. إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك (1).
قل لي بربك أي موحد إسلامي في الملأ الديني يتبرأ منه في بيعة خليفة المسلمين بيع الله ورسوله سوى علي عليه السلام؟ وقد اشترط معاوية البراءة منه عليه السلام في بيعته (2).
قل لي بربك أي إنسان ثقل اسمه على الناس غير علي صلوات الله عليه؟ هذه عائشة لم تسمه ولا تقدر على أن تذكره بخير، ولا تطيب له نفسا (3) وكان معاوية أو عبد الملك بن مروان أو هما معا يأمران ابن عباس أن يغير اسم ولده علي وكنيته (4) وكان علي بن الجهم السلمي يلعن أباه لأنه سماه عليا (5).
قل لي بربك أي رجل أسلم وجهه لله وهو محسن غير أول المسلمين يرى
____________
(1) الصواعق لابن حجر ص 33.
(2) البيان والتبيين للجاحظ 2. 85.
(3) مر الحديث بإسناد صحيح في هذا الجزء صفحة 325.
(4) تاريخ الطبري 8: 230، حلية الأولياء 3: 207، الكامل للمبرد 2: 157، العقد الفريد 3: 286، الكامل لابن الأثير 5: 78، تاريخ ابن خلكان 1: 350، تهذيب التهذيب 7: 358، شذرات الذهب 1: 148.