الصفحة 21

وإذا انفتح باب الخطأ على الثلاثة فلا عصمة في البين، ويمكن تطرّق المخالفة العلمية أو العملية للأحكام الواقعية.

كما إنّه على فرض كون أقوالهم من باب الاجتهاد، فلا بُـدّ من أن تنضبط بموازين الاجتهاد، لا أن يكون مطلق إبداء الرأي أمام النصّ اجتهاداً بذريعة باب التأويل والتأوّل، فهناك حدّ فاصل بين الاجتهاد وبين مخالفة الكتاب والسُـنّة ; وبين إبداء الرأي وبين الردّ على الرسول ; وبين الاجتهاد على الموازين وإن أخطأ وبين الشقاق مع الله ورسوله.

ثمّ إنّه يعزّز هذا الترديد عند العامّة ما اشترطه عبـد الرحمن بن عوف على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الشورى، قال التفتازاني(1): " ثمّ جعلوا الاختيار إلى عبـد الرحمن بن عوف، فأخذ بيد عليّ (رضي الله عنه) وقال: تبايعني على كتاب الله وسُـنّة رسول الله وسيرة الشيخين، فقال: على كتاب الله وسُـنّة رسول الله وأجتهد برأيي. ثمّ قال مثل ذلك لعثمان فأجابه إلى ما دعاه، وكرّر عليهما ثلاث مرّات، فأجابا بالجواب الأوّل، فبايع عثمان...

وقول عليّ (رضي الله عنه): (وأجتهد برأيي) ليس خلافاً منه في إمامة الشيخين، بل ذهاباً إلى أنّه لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر، بل عليه اتّباع اجتهاده، وكان من مذهب عثمان وعبـد الرحمن أنّه يجوز إذا كان الآخر أعلم وأبصر بوجوه المقاييس ".

____________

1- شرح المقاصد 5 / 288.


الصفحة 22

أقـول:

لو سلم تأويل التفتازاني لإباء عليّ (عليه السلام) لسيرة الشيخين، وأنّه من باب عدم حجّية اجتهادهما، إلاّ أنّه أسقط حجّية سيرتهما مطلقاً، ولم يحتمل فيها أنّها من باب الرواية لاحتمال اطّلاعهما على قول أو فعل للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يطّلع عليه غيرهما.

وبعبارة أُخرى: مدّعى العامّة في حجّية قولهما وسيرتهما يتردّد لديهم كما قدّمنا بين ذلك، فالإعراض عن سيرتهما يعني إسقاط لكلّ وجوه الحجّـية المدّعـاة في سـيرة الشيخين، ولا يفـوت البـاحث تذكّـر امتناع عليّ (عليه السلام) عن بيعة أبي بكر مع موقفه يوم الشورى هذا.

ثمّ إنّ هذا التوجيه من التفتازاني يناقض ما قدّمنا نقله عنه، من دخول عليّ (عليه السلام) في الخطاب المنسوب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، وأنّه مأموراً بالاقتداء بهما(1).

فإذا كان حجّية قولهما من باب الاجتهاد، فكيف يجعل الأمر بالاقتداء بهما دالّ على إمامتهما للناس؟! بل اللازم أن يكون الأمر المزبور ـ على تقدير صدق النسبة ـ محمول على حجّية فتوى المجتهد، لا على كونه عهد من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على إمامتهما.

وإذا حمله على الإمامة، فكيف يخالف عليّ (عليه السلام) ذلك؟! فيدلّ إسـقاطه لحجّـية قولهما على وضـع هـذا الحـديث، وتدليس نسبته إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحو هذا الحديث بقية الأحاديث المدّعاة من هذا النمط.

____________

1- شرح المقاصد 5 / 292.


الصفحة 23

الخدشة في أدلّة المسألة عند العامّة:

ويشهد للوضع ـ لجملة هذه الأحاديث ـ أنّه لو قُدّر صدورها فكيف لم يحتجّ بها أصحاب بيعة السقيفة على عليّ (عليه السلام) وجماعته الّذين امتنعوا من البيعة؟!

كما لم يحتجّ بها عبـد الرحمن بن عوف على عليّ (عليه السلام) يوم الشورى عندما أبى عليّ (عليه السلام) من اتّباع سيرة الشيخين، وأبى مشارطة عبـد الرحمن ابن عوف على ذلك؟!

وأحسب أنّ سبب وقوع التفتازاني وأمثاله في مثل هذه التوجيهات المتدافعة، إمّا إلى إبهام تباين معاني الحجّية لديهم وعدم تفرّقتهم بين الإمامة في الدين كعهد من الله ورسوله، وبين حجّية فتوى المجتهد، وبين حجّية إخبار الراوي..

ويومئ إلى هذا الاحتمال ذهابهم إلى اجتهاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)في الدين والحكم ـ مع أنّه سيأتي بطلان هذه المزعمة بشهادة الآيات القرآنية ـ، فإنّه ـ كما سيتّضح ـ يؤول إلى نقص في معرفة حقيقة النبوّة والرسالة..

وإمّا إلى تورّطهم في شباك مثل هذه الأحاديث الآحاد في قبال الشواهد التاريخية القطعية والأحاديث المتواترة الأُخرى، مضافاً إلى الدأب على الجري على معتقد الآباء!

والمهمّ:

التنبيه على عدم تلاءُمِ تعليلاتهم المختلفة لحجّية قول الشيخين، أو الثلاثة، ولا تفسيراتهم، لمخالفاتهم لأوامر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، سواء في حياته أو بعدها، إذ كونهما ذَوا امتيازات للإمامة العهدية الإلهيّـة، لا يلتئم مع تعليلهم أنّهما مجتهدان بحسب ما توصّل إليه، وأنّ لهما التأوّل

الصفحة 24
في خطابات القرآن والسُـنّة، وأنّ فعلهما وقولهما حجّة لأنّه يكشف عن اطّلاعهم على قول أو فعل للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم نطّلع عليه ولم يصل إلينا.

ثمّ إنّه كيف يجمعون بين مسألة حجّية قول الصحابة وفعلهم، وبين مسألة حرمة التفتيش عن أحوال الصحابة والفتن التي وقعت بينهم والمقاتلة وترك الخوض فيها؟!

فإنّ هذه الحرمة وهذا المنع يتدافع مع الحجّية من جهات عديدة، ويتناقض ويتقاطع معها بأيّ معنىً كان من معاني الحجّية بُني عليه!

ولتبيين هذا التدافع، تأمّل الاعتقاد برسالة النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة )(1) فإنّه قد جهد المسلمون جهدهم في استقصاء أفعاله وأقواله، وسيرته وغزواته، وحركاته وسكناته، وصلحه وحربه، ومودّته مع مَن، وعدائه مع مَن، ورحِمِه وأهله وعشيرته ووُلده وزوجاته، واحتجاجاته، وصفاته، وكلّ صغيرة وكبيرة مرتبطة بوجوده الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم).. كلّ ذلك لتقام الحجّة في أقواله وأفعاله، وتبلغ مسامع المكلّفين، ويأخذوا بهدي شريعته، وإلاّ فكيف تبلغ الحجّة مع انقطاع الخبر وإبهام الحال؟!

فالحال في حجّية أقوال وأفعال الصحابة وسيرتهم لا بُـدّ في تحقّقها من دراسة سيرتهم وحياتهم وأقوالهم، لا سيّما وأنّ ما جرى من الفتن بينهم واقع في المسائل الدينية وما يرتبط بالشرع، سواء في المسائل الفرعية أو الأُصولية المرتبطة بالإمامة والحكم وحفظ الدين وإحراز السُـنّة النبوّية وتفسير الكتاب، وبدعية بعض الأفعال من رأس أو ركنيّتها في الدين،

____________

1- سورة الأحزاب 33: 21.


الصفحة 25
والإقامة على العديد من السنن المقترحة وجعلها معالماً للدين.

ولقد كان الاختلاف بينهم والتضليل إلى حدّ المقاتلة، وهي تعني استباحة كلّ طرف دم الطرف الآخر، فكلّ طرف يرى الطرف الآخر مقيم على أمر وحال يبيح معـه دمـه، فإذا كان زعم العامّـة أنّـه لا بُـدّ من ترك الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة، حفظاً لحرمة الصحابة وتعظيماً وتجليلا لصحبتهم، فهذا الخطب أَوْلى الناس بمراعاته ـ في ما بينهم ـ الصحابةُ أنفسهم، لا الانتهاء إلى نقيض ذلك من استباحة دم الطرف الآخر.

فليس إلاّ أنّ الخطب جليل، أَحبط في نظر الطرف الأوّل ما للطرف الآخر من أعمال وسابقة، وانتفت حرمته إلى استباحة دمه!

فمع كلّ ذلك، كيف يسوغ لنا الاحتجاج بأقوال وأفعال كلّ من المصيب والخاطئ، والمحقّ والمبطل، والهادي والضالّ، والمستقيم الموفي لِما عاهد عليه الله ورسوله، والمبدّل الناكث لِما عاهد؟!

وهل هذا إلاّ جمع بين المتناقضين، وقلّة الحرج في الدين، وتهوين لأمر الدين؟!

وقول التفتازاني وغيره المتقدّم: " إنّ مقاتلتهم كانت لارتفاع التباين والعود إلى الأُلفة والاجتماع بعدما لم يكن طريق سواه. وبالجملة: فلم يقصدوا إلاّ الخير والصلاح في الدين. وأمّا اليوم، فلا معنى لبسط اللسان فيهم إلاّ التهاون بنقلة الدين، الباذلين أنفسهم وأموالهم في نصرته ".

نعم، كانت لارتفاع التباين والعود إلى... ولكنّها تقتضي مدافعة الطرف الآخر ولو بإراقة دمه واستباحته، لإقامته على المنكَر والباطل ; فهذا يبرهن على المباينة في سيرتهم وأقوالهم ودعوتهم.


الصفحة 26
وعلى تقدير وجود قصد الصلاح في الدين في كلّ من الطرفين، فهذا لا يبرّر اتّباع الطرف المقيم على المنـكَر والباطل، ومجـرّد حسن النية ـ على تقدير التسليم به ـ لا يدلّل على سلامة النهج، ولا يرفع التباين بين السيرتين والقولين ـ وقد أقرّ بذلك ـ، فكيف يتّصف بالحجّية كِلا الطرفين المتباينَين وهو ممتنع ; فلا بُـدّ من الفحص عن المحقّ الهادي إلى سواء السبيل، قال تعالى ( أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يُتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون )(1).

وبعبارة أُخرى: إنّ حجّية أقوال وأفعال الصحابة أو الثلّة منهم، إمّا أن تكون من باب الإمامة المنصوصة من الله ورسوله، ومن الواضح أنّه مع التباين بينهم لا يمكن أن يكون كِلا الطرفين منصوص عليه بالإمامة..

وإمّا من باب حجّية قول المجتهد وفتواه، لكونه من أهل الخبرة، فمن الواضح أيضاً أنّه مع الاختلاف والتقاطع لا بُـدّ من اتّباع الأعلم والواجد للشرائط المؤهّلة ـ وبنحو الوفور التامّ ـ دون غيره..

وإمّا من باب حجّية المخبر في أخباره، أي حجّية رواية الراوي الثقة، وهذا أيضاً يوجب علينا إحراز صفة الوثاقة والعدالة عند أحد المتنازعين، لا سيّما وأنّ النزاع مستفحل شديد قد وصل إلى استباحة الدم.

____________

1- سورة يونس 10: 35.


الصفحة 27

الأحاديث النافية للمسألة:

ثمّ إنّه يكفي الباحث نظرة في كتاب الفتن من الصحاح لديهم، كي يصل إلى هذه النتيجة من لزوم التمحيص والفحص عن الطرف المحقّ ـ في الصحابة ـ من الطرف المبطل..

  • فقد روى البخاري في الباب الأوّل من كتاب الفتن، عن أبي وائل، قال: قال عبـد الله: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ معي رجال منكم، ثمّ ليختلجنّ دوني، فأقول: يا ربّ! أصحابي؟! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك "(1).

    فهذا دالّ على إحداث من بعض الصحابة بعده، وظاهر الحديث أنّ هؤلاء الصحابة ممّن كانوا قد استمعوا خطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، لاستعماله كاف الخطاب.

  • وروى البخاري عن سهل بن سعد، أنّه قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إني فرطكم على الحوض، من مرّ علَيَّ شرب، ومن شرب منه لم يظمأ أبداً، ليردنّ علَيَّ أقوام أعـرفهم ويعـرفوني، ثمّ يحـال بـيني وبـينهم "، وزاد أبو سعيد الخدري: " فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي "(2).

    وهذا الحديث ـ أيضاً ـ دالّ على تبديل بعض الصحابة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وظاهر الحديث هو كون صحبة هؤلاء الصحابة ـ المعنيّين بالحديث ـ كانت وثيقة به (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعرفته وطيدة بهم، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أعرفهم ويعرفوني ".

    ____________

    1- صحيح البخاري 8 / 214 ح 157، وانظر: فتح الباري 11 / 566 ح 6576.

    2- صحيح البخاري 8 / 216 ح 164، وانظر: فتح الباري 11 / 567 ح 6583.


    الصفحة 28

    أقـول:

    كيف تلتئم هذه الأحاديث مع ما يزعمونه من حديث " أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقـتديتم اهـتديتم "؟! إلاّ أن يكون في الحديث سـقط أُسقِط!!

  • ويروي في الباب الثاني عن عبد الله، قال: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّكم سترون بعدي أثرة وأُموراً تنكرونها... ".. الحديث(1).

    وهذا الحديث يدلّ على وقوع أثرة وحرص على طلب الدنيا، وكذا وقوع الأُمور المنكَرة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: ( وما محمّـد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرُسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضُرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين )(2). وستأتي الإشارة في سورة الفتح إلى ذلك، في من بايع بيعة الرضوان.

  • وروى في الباب السادس، أنّ أُمّ سلمة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: استيقظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الليل وهو يقول: لا إله إلاّ الله، ماذا أُنزل الليلة من الفتنة؟! ماذا أُنزل من الخزائن؟! مَن يوقظ صواحب الحُجُرات ـ يريد أزواجه ـ؟! كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة! "(3).

    ففي شرح ابن حجر العسقلاني على الحديث قال: قال ابن بطّال: " قرن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنّها تسبّب عنها، وإلى أنّ القصد في الأمر خير من الإكثار وأسلم من الفتنة... "(4).

    أي أنّ الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع

    ____________

    1- صحيح البخاري 9 / 84 ح 4، وانظر: فتح الباري 13 / 5 ح 7052.

    2- سورة آل عمران 3: 144.

    3- صحيح البخاري 7 / 279 ح 62.

    4- فتح الباري 10 / 372 ح 5844.


    الصفحة 29
    القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحقّ، أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تحذير أزواجه من ذلك كلّه.

    أقـول:

    وستأتي الإشارة في سورة الأنفال وغيرها إلى أنّ غرض وغاية جمع من الصحابة في غزوات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عَرَض الحياة الدنيا ومتاعها من الغنائم، فضلا عن الفتوحات التي وقعت بعده، ويكفيك لإثبات ذلك رصد ما ترك العديد من الصحابة من أموال وثروات طائلة عند موتهم.

  • وروى في الباب الثامن قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "(1).

  • وروى في الباب الثامن عشر عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيّام الجمل، بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأُقاتل معهم، قال: لمّا بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى، قال: " لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة "(2).

  • وروى عن الأسدي، قال: " لمّا سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث عليٌّ عمّار بن ياسر وحسن بن عليّ فقدما علينا الكوفة، فصعد

    ____________

    1- صحيح البخاري 6 / 14 ذ ح 395 و ح 397، انظر: فتح البـاري 8 / 135 ح 4405 و ج 12 / 235 ح 6869.

    2- صحيح البخاري 6 / 27 ح 417 و ج 9 / 100 ح 47، وانظر: فتح الباري 8 / 160 ح 4425 و ج 13 / 67 ح 7099.


    الصفحة 30
    المنبر، فكان الحسن بن عليّ فوق المنبر في أعلاه، وقام عمّار أسفل من الحسن، فاجتمعنا إليه، فسمعت عمّاراً يقول: إنّ عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنّها لزوجة نبيّكم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والآخرة، ولكنّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيّاه تطيعون أم هي؟! "(1).

    أقـول:

    وستأتي الإشارة في سورة الأحزاب إلى أمر نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرّ في البيوت.

  • وروى في الباب الواحد والعشرين عن حذيفة بن اليمان، قال: " إنّ المنافقين اليوم شرّ منهم على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون "(2).

    فيا ترى إلى من يشير حذيفة؟! وما هو السبب في حرّية الأجواء السياسية للمنافقين بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى صاروا يجهرون آمنين على أنفسهم بينما كانوا في زمانه (صلى الله عليه وآله وسلم) متستّرين خائفين؟!

  • وروى مسلم في صحيحه، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، عن قيس، قال: قلت لعمّار: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر عليّ، أرأياً رأيتموه أو شيئاً عهده إليكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فقال: ما عهد إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً لم يعهده إلى الناس كافّة، ولكن حذيفة أخبرني عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): في أصحابي اثنا عشر منافقاً،

    ____________

    1- صحيح البخاري 9 / 100 ح 48، وانظر: فتح الباري 13 / 67 ح 7100.

    2- صحيح البخاري 9 / 104 ح 57، وانظر: فتح الباري 13 / 86 ح 7113.


    الصفحة 31
    فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ; وأربعة لم أحفظ "(1).

    وعمّار (رضي الله عنه) يشير هنا إلى أنّ النصوص من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في عليّ (عليه السلام)ليست خفيّة، خاصّة عندنا ـ أي الصحابة ـ، بل هي منتشرة عند الناس، من حديث الغدير وغيره، وكان سبب تولّيه لعليّ (عليه السلام) من بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، من يوم السقيفة إلى يوم قتل عثمان ـ فقد صُنّف عمّار في مَن دبّر ذلك، كما ذكرت ذلك كتب التواريخ ـ، إلى يوم الجمل وصفّين.

    وصريح الحديث الذي يرويه عمّار عن حذيفة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّ في خاصة الصحابة اثني عشر منافقاً لا يدخلون الجنّة، وأنّ عمّاراً رأى هؤلاء الاثني عشر في من ناوأ وعادى عليّـاً (عليه السلام).

    ثمّ إنّ هذا الحديث صريح في أنّ ما أتى به الصحابة الّذين تولّوا عليّـاً وناصروه بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى استشهاده (عليه السلام) كان بتصريح ونصّ من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبنفاق مناوئيه وأعدائه، ولم يكن باجتهاد رأي رأوه كما يقول بذلك علماء العامّة في حكمهم بعدالة الصحابة الّذين ناوؤا الإمـام عليّـاً (عليه السلام).

    وقد روى مسلم هذا الحديث بطريق آخر فلاحظ(2).

  • وروى عن أبي الطفيل، قال: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أُنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك! قال: كنّا نُخبَر أنّهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأُشهد بالله أنّ اثني عشر

    ____________

    1- صحيح مسلم 8 / 122.

    2- صحيح مسلم 8 / 122 ـ 123.


    الصفحة 32
    منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعَذَر ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا علمنا بما أراد القوم ; وقد كان في حرّة فمشى فقال: " إنّ الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد " فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ(1).

    والمراد بالعقبة عقبة على طريق تبوك التي اجتمعت تلك العدّة للغدر والفتك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك، وقد أشار الله تعالى إليها في سورة التوبة، ومن الملاحظ أنّ السائل من تلك العدّة التي تقطن المدينة دار الهجرة، وأنّهم لم يكونوا ظاهري النفاق عند الجميع، ولاحظ كتب التاريخ في معرفة السائل الذي سأل حذيفة عن تلك العدّة.

  • وروى مسلم ـ بعد باب خصال المنافق ـ باباً في أنّ حبّ الأنصار وعليّ (عليه السلام) من علامات الإيمان وبغضهم من علامات النفاق ; فعن زرّ، قال: قال عليّ: " والذي فلـق الحبّـة وبَرَأَ النَسَـمة إنّـه لَعهـدُ النبـيّ الأُمّيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إليَّ أن لا يُحبّني إلاّ مؤمن، ولا يُبغضني إلاّ منافق "(2).

    ____________

    1- صحيح مسلم 8 / 123.

    2- صحيح مسلم 1 / 61.


    الصفحة 33

    الوجه العقلي لعدالة الصحابة:

    ثمّ أنّه من الغريب تمسّك التفتازاني بوجه عقلي نقلي لعدالة جميع الصحابة ; وهو أنّهم نقلة الدين!، ومراده أنّه لولا ذلك لبطل نقل الشريعة، وهذا غير لازم لنفيها عن المبطل خاصّة دون المحقّ.

    هذا مع أنّ التفتـازاني نفسـه ذكـر حـديث الثقـلين آخـذاً به، قال: " أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قرنـهم بكتـاب الله في كون التمسّك بهما منقـذاً من الضلالة، ولا معنى للتمسك بالكتاب إلاّ الأخذ بما فيه من العلم والهداية، فكذا في العترة "(1).

    فإذا كانت العترة عدل الكتاب في التمسّك بهما كشرط للنجاة من الضلالة فأي انبطال للشريعة وراء ذلك، وهل يخلط الحابل بالنابل وتؤخذ الشريعة عن من لا حظّ له في الإيمان والعلم. بل الاعتماد في الدين على كلّ من هبّ ودبّ اعتماد على غير ركن وثيق.

    ____________

    1- شرح المقاصد ج5 ص33.


    الصفحة 34
    هذا ومن المسائل التي تصبّ في هذا البحث وترتبط به بنحو ما هو إصدار أكثر العامّة على مشروعية إمامة المتغلب بالقهر والبغي على رؤوس المسلمين، وأنّه لا مانع من إمامة الفاسق والجاهل، ويتردد الناظر الباحث هل لهذا القول في الإمامة صلة بإمامة الأوائل من الصحابة وقول الثاني " إن كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا وإنّها كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها... من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا... فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتّى فرقت من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر... خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعه أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى وإمّا نخالفهم فيكون فساداً، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا "، هكذا نصّ عبارته في صحيح البخاري(1) وصدر الحديث الذي رواه عن ابن عباس، قال: كنت اقرىء رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله عنى وهو عند عمر بن الخطاب ان آخر حجّة حجّها إذ رجع إلى عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة تمّت، فغضب عمر، ثمّ قال: إنّي إن شاء الله لقائم للعشية في الناس فمعذرهم هؤلاء الـذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإنّ الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم.... قال ابن عباس: فقدمنا المدينة.... فلم أنشب أن

    ____________

    1- باب رجم الحبلى من الزنا اذا احصنت ـ كتاب الحدود ب31.


    الصفحة 35
    خرج عمر بن الخطاب فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف... فجلس عمر على المنبر، وقال:... ثمّ أنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أنّ يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر... " الخ. فإنّ مسلسل الرواية أن قائلا قال بعزمه على بيعة الفلتة وأنّ الثاني غضب لأنّ هذه البيعة بيعة الفلتة ـ البغتة والفجأة والنهزة والخلسة والاغترار والمبادرة ـ غضب لأمور المسلمين وأنّه يريد تحذيرهم من هؤلاء الغاصبين وأنّ ما وقع من بيعة الأوّل ألا وإنها كانت كذلك، وكانت ذات شرّ وقى الله المسلمين شرّها وأنّها من غير مشورة من المسلمين إذ كان لغطاً واختـلافاً في الآراء عند مداولة الإمامة والخلافة والبيعة بينهم، وأنّ المرتكب لها يستحق القتل، وأنّ مباغتته ببيعة الأوّل مدافعة للآخرين، هكذا يرسم لنا الخليفة الثاني إمامة الأوّل، وعلى أيّة حال فإنّ مثل هذه الإمامة على تقدير مشروعيتها ـ بمنطق العسكر والقوة لا بمنطق الدين والعقل ـ فإنّها لا توجب كون صاحبها لا يزلّ ولا يخطأ وتتبع سنته قائمة إلى يوم القيامة ويكون له حظّ المشرّع في الدين، والحاصل أنّ تحرير العامّة لمسألة عدالة الصحابة ومسألة حرمة الخوض في الفتن التي جرت بينهم ومسألة الإمامة وما يرتبط بها من مسائل أُخرى، يجدها الباحث الناظر مضطربة الوجوه، مترددة بين الإمامة كعهد من الله ورسوله لا يزلّ ولا يخطأ، وبين كونه مجتهداً كبقية المجتهدين، أو أنّ حجيّة قوله وفعله كراوي من رواة الأخبار، وأنّ إقامة البحث عن مسألة عدالة الصحابة ليست كما يفيده عنوان البحث بل هو حول فئة خاصّة من الصحابة الذين عقدوا البيعة لأبي بكر وأنّ البحث هو لضرب سياج وحواجز عن التنقيب والبحث عن أحوال وصفات

    الصفحة 36
    وممارسات تلك الفئة وأن ما عقدوا من مباحث مسائل الإمامة هو الآخر في هذا الاتجاه، وممّا يشهد بتدافع تحرير المسائل.

    عندهم هو أنّهم يستدلّون على الإمامة بأدلّة مفادها لزوم عصمة الإمام، مع أنّهم يجيّرونها للامامة العقدية بالبيعة السياسية، ومثال ذلك الحديث النبوي " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " فإنّ مفاد الحديث وجوب معرفة الإمام في كلّ زمان وواضح أنّه واجب اعتقادي كوجوب معرفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإذعان برسالته، ويزيد ذلك وضوحاً أنّه جعل فاقد تلك المعرفة ميتته ميتة كفر، وفي الحديث عناية ولطيفة وهو أنّه جعل كفره عند موته كفر من لم يدخل الإسلام، لا كفر من دخل الإسلام وارتدّ عنه، ومن البيّن في بداهة الشرع والعقل أنّ من تجعل معرفته بهذا الشأن لا يمكن أن يكون من يزلّ ويخطل أو يجهل ويضلّ، بل لا بدّ أن يكون مقامه في الدين يتلو مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوماً مطهّراً أذهب عنه الرجس وطهّره تطهيرا، وغير ذلك من الأمثلة.

    كما أنّه يلاحظ في نظم الأدلة والوجوه في تلك المسائل عندهم، التكديس الركامي من دون تمحيص مؤدى كلّ دليل أو وجه، ومن دون مقايسته بأدلّة الطرف الآخر، فتراهم مثلا يتمسكون بحجيّة سُنّة الشيخين بأحاديث آحاد قد تكون حسنة الاسناد عندهم، بينما لا يقابلونها مع الأحاديث المتواترة بطرقهم كحديث الثقلين، وحديث المنزلة، والغدير وغيرها، فانظر مثلاً إلى التفتازاني في شرح المقاصد عندما يستعرض وجوه وأدلّة إمامة عليّ (عليه السلام) يقرّ بجملة فضائله إلاّ أنّه يحكم ويكيل عشوائيّاً بأنّ فضائل الشيخين أولى، مع أنّه هو نفسه حكى عن إمام الحرمين أنّ روايات الفضائل في الأربعة متعارضة والترجيح ظنّي، مع أنّه لو تعمّق في موازنة كلّ

    الصفحة 37
    وجه من الوجوه ومدى مؤداه ومقابلته مع الوجه في الطرف الآخر سواء من حيث قوّة السند والدلالة وعلوّ وشموخ المعنى ومسلّمية المصداق المراد بين الفريقين عن غيـره، والأهمّ هو تحـليل الفضيلة التي هي عبارة عن كمال ما ; فإنّه عنوان مجمل عامّ لا بدّ من تقرير حدّه هل ينطبق على العصمة أو على عمل خاصّ معيّن دون أن يحدث صفة كمالية دائمة في الشخص أو على غير ذلك ممّا يتناسب مع صفات الراوي ونحوه، والغريب من التفتازاني في الكتاب المزبور مع أنّه يتذمّر من معاوية ويزيد وبني أُميّة وما فعلوه من ظلم بذريّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه يقرر إمامة المتغلّب الباغي القاهر للمسلمين بسيفه وسطوته، ولا تنقضي الغرائب بسبب تدافع المباني وتردد تحرير المسائل لديهم بنحو مجمل لا توزن فيه مرتبة الحجّة وسنخها ونوعها ومداها.

    ثمّ إنّا قد تعرّضنا في تضاعيف تصوير فرض مسألة عدالة الصحابة لأدلّة العامّة من السُنّة أو الوجوه الأُخرى والردود عليها إجمالاً، والمهمّ بعد ذلك هو التعرّض لما استدلّو به على ذلك من الآيات القرآنية:

    الآية الأوّلى:

    قوله تعالى: ( السابقون الأوّلون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم )(1).

    الآية الثانية:

    قوله تعالى: ( للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله

    ____________

    1- سورة التوبة 9: 100.


    الصفحة 38
    أُولئك همُ الصادقون * والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم... ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك همُ المفلحون * والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم )(1).

    الآية الثالثة:

    قوله تعالى: ( لقد رضيَ الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعَلِمَ ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً )(2).

    وقوله تعالى في السورة نفسها الآية الأخيرة: ( محمّـد رسول الله والّذين معه أشداء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزَرَه فاستوى على سوقه يُعجب الزُّراع ليغيظ بهم الكفّار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً )(3).

    الآية الرابعة:

    قوله تعالى: ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون )(4).

    وقوله تعالى: ( ثمّ إنّ ربّك للذين هاجروا مِنْ بعد ما فُتِنوا ثمّ

    ____________

    1- سورة الحشر 59: 8 و 9 و 10.

    2- سورة الفتح 48: 18.

    3- سورة الفتح 48: 29.

    4- سورة النحل 16: 41 و 42.


    الصفحة 39
    جاهدوا وصبروا إنّ ربّك من بعدها لغفورٌ رحيم )(1).

    الآية الخامسة:

    قوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوهُ في ساعة العُسرة منْ بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثمّ تابَ عليهم إنّه بهم رؤوف رحيم )(2).

    الآية السادسة:

    قوله تعالى: ( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أُولئك هم المؤمنون حقّاً لهم مغفرة ورزق كريم * والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأُولئك منكم... )(3).

    الآية السابعة:

    قوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أُمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )(4)، وقوله تعالى: ( كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )(5)، وقوله تعالى: ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهُدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّهِ ما تولّى ونُصلِه جهنم وساءت مصيرأً )(6).

    وللتنبيه على وهم القائل في مفاد الآيات أنّها دالّة على مدح جميع الصحابة أو جميع من هاجر من مكّة، وجميع من ناصر في المدينة أو أنّ هذا المديح دالّ على حجيّة أقوال كلّ صحابي مهاجري أو أنصاري، لأجل

    ____________

    1- سورة النحل 16: 110.

    2- سورة التوبة 9: 117.

    3- سورة الأنفال 8: 74 و 75.

    4- سورة البقرة 2: 143.

    5- سورة آل عمران 3: 110.

    6- سورة النساء 4: 115.


    الصفحة 40
    ذلك لا بُدّ من التعرّض إلى نقاط عامّة مشتركة ثمّ التعرّض تفصيلاً لمفاد كلّ آية على حدة وبيان البدن بينه وبين مدّعى المتوهم. أمّا النقاط العامّة:

    النقطة الأُولى:

    ما أفاده بعض الأفاضل المعاصرين(1) من أنّ القرآن الكريم يشير وينبّه إلى ظهور حركة محترفي النفاق من بدايات تكوّن المسلمين في مكّة ويعنونهم باسم ( الذين في قلوبهم مرضٌ ) وذلك في رابع سورة نزلت على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة قبل الهجرة وهي سورة المدثّر، وكذلك سورة العنكبوت المكّية نزولاً قبل الهجرة في قول الأكثر أيضا فالسورة الأُولى وهي قوله تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار إلاّ ملائكةً وما جعلنا عدّتهم إلاّ فتنةً للذين كفروا ليستيقنَ الذين أُوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرضٌ والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً كذلك يضلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو وما هي إلاّ ذِكرى للبشر )(2). قد قابلت بين فئات أربعة فئتين من جهة وهما المؤمنون والذين أُوتوا الكتاب والفئتين من الجهة الأُخرى الكافرون والذين في قلوبهم مرض، ومن الواضح أنّ الذين في قلوبهم مرض بحسب الآية ليسوا من الفئات الثلاث المؤمنين، والذين أُوتوا الكتاب والكافرين فيقتضي كونهم من المسلمين غير المؤمنين قلباً، ويعطي هذا المعنى نفس عنوان الذين في قلوبهم مرض فان دلّ على أنّ مرضهم مستبطن في قلوبهم غير ظاهر أي أنّ ظاهرهم يبدو عليه السلامة، أي للاسلام ويدلّل على ذلك أيضاً بأنّ هذه الفئة يلاحقها القرآن الكريم بعد

    ____________

    1- في كتابه اسلام شناسي تاريخي.

    2- سورة المدثّر 74: 31.


    الصفحة 41
    ذلك في أغلب السور المدنية نزولاً، وفي الوقائع الخطيرة التي حدثت للمسلمين في المدينة حتّى آخر حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويخصّهم القرآن الكريم بهذا العنوان مائزا بينهم وبين عنوان المنافقين، حيث يسند لهم أدواراً أكثر خطورة وضرراً على الدين من المنافقين أي أنّ المراد بالعنوان الثاني في القرآن عموم أهل النفاق ممّن قد ظهر التواءه بنحو أو بآخر بخلاف أصحاب العنوان الأوّل فإنّهم محترفي النفاق قد احترفوا عملية التسلل والنفود في جسم المسلمين منذ أوائل الدعوة للاسلام حتى آخر حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما سنشير إلى ذلك في الجملة في السور بعد ذلك، ولك أن تجرد وتسرد مواقعهم ومواضعهم وأدوارهم بالاستعانة بكشف المعجم المفهرس للقرآن الكريم باستخراج مواضع عنوان ( الذين في قلوبهم مرض ) في السور القرآنية والأحداث التي تضمّنتها، وعلى أيّة تقدير ففي أوائل الدعوة للإسلام يشير القرآن الكريم إلى تسلل عناصر بشرية في صفوف من سبق إلى الاسلام واعتنقه في الظاهر وأن تلك العناصر كان لها أدوار قبل الهجرة وبعد الهجرة في المدينة وأنّها كانت ذات علاقات متميزة مع كفار قريش ومع اليهود ومع أهل النفاق ذوي النفاق العامّ غير المحترف كلّ ذلك من خلال الخريطة المسلسلة للأحداث السياسية وغيرها التي يرسمها لنا القرآن الكريم في سوره المكّية والمدنية عن هذه الفئة وهي " الذين في قلوبهم مرض ".

    والسورة الثانية المكية قبل الهجرة هي قوله تعالى: (ألم * أحسب الناس أنّ يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون * ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيّئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون * من كان يرجو لقاء الله

    الصفحة 42
    فإنّ أجل الله لأت وهو السميع العليم * ومن جاهد فإنّما يجاهد لنفسه إنّ الله لغني عن العالمين * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرن عنهم سيّئاتهم ولنجزينّهم أحسن الذي كانوا يعملون * ووصيّنا الإنسان بوالديه حُسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فأنبّئكم بما كنتم تعملون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنّهم في الصالحين * ومن الناس من يقول آمنّا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصرٌ من ربّك ليقولن إنّا كنّا معكم أو ليس الله باعلم بما في صدور العالمين * وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين * وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنّهم لكاذبون * وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسئلنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون )(1)، وهذه الآيات تؤكّد أنّ بين صفوف من أسلم قبل الهجرة فئة منافقة غرضها من اعتناق الإسلام هو الوصول إلى المشاركة في المكاسب السياسية التي سيحققها المسلمون، كما أنّ من تخصيص السورة خطاب الإغراء من الكفار للمؤمنين خاصّة أن جهد الكفّار كان منصباً لثني المؤمنين دون المنافقين ممّا يدلّ على وجود علاقة وتوافق موطّد بينهم.

    وهذا جرد كشفي لمواطن تتبع القرآن لهذه الفئة ( الذين في قلوبهم مرض ) بحسب ترتيب النزول.

    1 ـ سورة المدثر الآية 31، مكيّة (4).

    ____________

    1- سورة العنكبوت 29: 1 ـ 13.