مفـاد الآيات القـرآنية:
هذا، وأمّا الآيات فمفادها بعيد تمام البعد عن تقديس جميع الصحابة أو ثلّة جماعة بيعة السقيفة، بل إنّ كلّ منها بنفسه دليل على عدم التـعميـم فـي عدالـة الصحـابة، سـواء فسّـرت الصحـبة بمـعنى كـلّ مـن رآه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو نقل الحديث عنه، أو لازمه مدّة مديدة.
أمّا الآية الأُولى:
فهي قوله تعالى: ( السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّـات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم )(1).
فنرى أنّ الآية قد قيّدت المرضيّ عنهم من المهاجرين والأنصار بقيدين، الأوّل: السبق ; الثاني: كونه أوّل السابقين، أي الأوّلية في السبق،
____________
1- سورة التوبة 9: 100.
ولكنّ السبق والأوّلية في الآية غير مقيّدتين بحيثية السنّ أو الجنس، هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّ استعمال القرآن الكريم للسبق هو بمعنىً خاصّ كما تطالعنا به سورة الواقعة، وهذا كديدَن الاستعمال القرآني في العديد من عناوين الألفاظ كالصدّيقين والاصطفاء والتطهير..
فالمعنى الذي في سورة الواقعة ( السابقون السابقون * أُولئك المقرّبون )(1) هو خصوص " المقرّب "، وقد أكّدت الآية على عنوان "السبق " بالتكرار للإشادة به، و " المقرّب " قد أُريد به معنىً خاصّ في سورة المطفّفين: ( كلاّ إنّ كتاب الأبرار لفي علّيّـين * وما أدراك ما علّيّـون * كتابٌ مرقومٌ * يشـهده المقرّبون )(2)، فعرّف المقرّب بأنّه الذي يشهد كتاب الأبرار، وشهادة الأعمال من خصائص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)كما ذكرت ذلك الآيات كما في سورة التوبة..
وهذا يعطينا مؤدّى أنّ " المقرَّب " ليس من درجة الأبرار من أنماط المؤمنين، بل فوقهم شاهد لِما يعملونه، وشهادة الأعمال لا ريب أنّها نحو من الغيب الذي لا يطلعه الله إلاّ لمن ارتضى من رسول، فهي نحو من العلم اللدُنّي الإلهي المخصّص بالمقرّبين، فهم نحو من الّذين أُوتوا مناصب إلهية غيبية جعلها لهم.
____________
1- سورة الواقعة 56: 10 و 11.
2- سورة المطفّفـين 83: 18 ـ 21.
ومن ذلك يظهر المراد من أوّل السابقِين من الأنصار، فإنّ المطهّر من الذنب من الأنصار ـ أي الذي لم يهاجر ـ هما الحسـنان، فإنّهما اللذان نزلت فيهما وفي أبويهما آية التطهير كما هو مقرّر في موضعه من سبب نزول الآية في أخبار الفريقين.
وكذلك يظهر المراد من الّذين اتّبعوهم بإحسان، أنّهم المطهَّرون من الذنب من الذرّية النبوية، ويطالعك بهذا المعنى ـ مضافاً إلى أنّه مقتضى معنى " السبق " في الاستعمال القرآني ـ أنّ مقام الإحسان في القرآن لا ينطبق على غير المعصوم من الزلل والخطأ، إذ لم يُسند الإحسان إلى فعل مخصوص، بل جُعل وصفاً لكلّ معصوم من الذنب، لاحظ قوله تعالى: ( ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين )(1)..
وقوله تعالى: ( ولمّا بلغ أشدّه آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين )(2)..
____________
1- سورة الأنعام 6: 84.
2- سورة يوسف 12: 22.
وقوله تعالى: ( سلام على قوم نوح في العالمين * إنّا كذلك نجزي المحسنين )(2)..
وقوله تعـالى: (قد صـدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجـزي المحسـنين)(3)..
وقوله تعالى: ( سـلام على إبراهيـم * كذلك نجـزي المحسـنين )(4)..
وقوله تعالى: ( سلام على موسى وهارون * إنّا كذلك نجزي المحسـنين )(5)..
وقوله تعالى: ( سلام على إل ياسين * إنّا كذلك نجزي المحسـنين )(6)..
فترى أنّ الذي يوصف بالإحسان ـ من غير تقييد في فعل خاصّ كأداء دية أو مهر أو تسريح بإحسان للمطلّقة، بل بالإحسان في كلّ أفعاله ـ قد ادّخر الله تعالى له جزاءً دنيوياً وأُخروياً من سنخ الذي ذكرته الآيات السابقة، من جعل النبوّة في الذرّيّة، وإتيان الحكم والعلم اللدُنّي الإلهي، وتقدير السلامة والأمن في النشآت المختلفة.
____________
1- سورة القصص 28: 14.
2- سورة الصافّات 37: 79 و 80.
3- سورة الصافّات 37: 105.
4- سورة الصافّات 37: 109 و 110.
5- سورة الصافّات 37: 120 و 121.
6- سورة الصافّات 37: 130 و 131.
وكذلك الحال في القسمين الأوّل والثاني، فإنّه لم يَبقَ على دائرته الوسيعة، فضُيّق بحدود " السابقين "، وهذه الدائرة لم تبقَ على حالها، بل ضُيّقت إلى دائرة " أوّل السابقين "، فلا بُـدّ ـ والحال هذه ـ من تمحيص وفهم دلالة الكلام، ألا ترى أنّ سورة المدّثّر ـ وهي رابع سورة نزلت على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة ـ أنّها تقسّم الموجودين حينذاك إلى أربعة أقسام، هي: المؤمنون، وأهل الكتاب، والمشركون، والّذين في قلوبهم مرض ; فلو كان المرادُ هو مَن سبق بإظهار الإسلام من المهاجرين، فأين هم الّذين في قلوبهم مرض، ويسـتترون بالإسلام عن إظهاره؟!
فبكلّ ذلك، مع ما ذكرنا من النقاط العامة، يقع القارئ على المراد في الآية الكريمة.
ثمّ إنّه لا يخفى على القارئ أنّ الآية هي من سورة التوبة، وقد استعرضت السورة نماذج عديدة سيّئة ممّن عايش النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقيه، فمثلا فيها: ( ويحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا )(2) فإنّها نزلت في غزوة تبوك، وبعد
____________
1- انظر: سورة النحل 16: 128، سورة آل عمران 3: 134، سورة المائدة 5: 13، سورة الأعراف 7: 56.
2- سورة التوبة 9: 74.
ونموذج ثان تفصح عنه سورة التوبة، قال تعالى: ( ومِن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذّبهم مرّتين ثمّ يُردّون إلى عذاب عظيم )(1)..
ومن البيّن أنّ السورة تشير إلى نمط من المنافقين لم يظهر نفاقهم إلى العيان، أي كانوا في غاية التستّر، ولا ريب أنّ الأباعد الّذين يلقون النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحتاجون إلى هذه الشدّة من التستّر، كما أنّ هؤلاء كانوا من الخطورة بمكان حتّى إنّهم احتاجوا إلى هذه الشدّة من التستّر، كما إنّهم مردوا واحترفوا النفاق بحيث لا يمكن اصطياد حركاتهم الظاهرة!
هذا، فضلا عن النماذج الأُخرى التي تستعرضها سورة التوبة، مِن الأعراب وممّن حول المدينة وغيرهم(2)، فإذا كانت السورة تقسّم مَن
____________
1- سورة التوبة 9: 101.
2- مثل قوله تعالى: (إنّما يستأذنك الّذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون) سورة التوبة 9: 45.
وقوله تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إنّ الله مخرجٌ ما تحذرون) سورة التوبة 9: 64.
وقوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر)سورة التوبة 9: 67.
وقوله تعالى: (وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم...)سورة التوبة 9: 106.
وقوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا...)سورة التوبة 9: 49.
وقوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصّدّقنّ ولنكوننّ من الصالحين...) سورة التوبة 9: 75.
وقوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات...) سورة التوبة 9: 58.
وقوله تعالى: (الّذين يلمزون المطّوّعين من المؤمنين في الصدقات...)سورة التوبة 9: 79.
وقوله تعالى: (ومنهم الّذين يؤذون النبيّ...) سورة التوبة 9: 61.
وقوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيّئاً...) سورة التوبة 9: 102.
وهذا التقسيم ـ كما نبّهنا سابقاً ـ دليل على عدم إطلاق " المهاجر " على كلّ مكّيّ أسلم وانتقل إلى المدينة، وعلى عدم إطلاق " الأنصاري " على كلّ مدنيّ أسلم، بل يطلق كلٌّ منهما مع توافر قيود عديدة أُخرى.
ولاحظ أُسلوب هذه الآيات التي تستعرض النماذج الأُخرى، فإنّه أُسلوب لا يُرى فيه الهوادة والمهادنة، كقوله تعالى: ( يا أيّها النبيّ جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّم وبئس المصير )(1).
وقوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتّقين * وإذا ما أُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون * أَوَ لا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة
____________
1- سورة التوبة 9: 73.
فترى أنّ في سورة التوبة قد نزل الأمر بجهاد المنافقين على حدّ جهاد الكفّار سواء، وأفرد بالخطاب به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونزل الأمر بمجاهدة الكفّار الّذين يلون المؤمنين ـ أي القريبين منهم ـ وجعلت الآياتُ الّذين في قلوبهم مرض من الكفّار، وقد عرفتَ أنّ الّذين في قلوبهم مرض هم من الخاصة التي أظهرت الإسلام في أوائل البعثة كما صرّحت بذلك سورة المدّثّر، أمّا سورة التوبة فقد نزلت في غزوة تبوك، أي في أُخريات حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)..
وقد نزل قبل ذلك في سورة الأحزاب التهديدُ بمجاهدة المنافقين والّذين في قلوبهم مرض من دون الأمر به، قال تعالى: ( لئن لم ينته المنافقون والّذين في قلوبهم مرض والمرجِفون في المدينة لنغرينّك بهم ثمّ لا يجاورونك فيها إلاّ قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أُخذوا وقُتّلوا تقتيلا * سُـنّة الله في الّذين خلوا من قبل ولن تجد لسُـنّة الله تبديلا )(2)..
فسورة التوبة متميّزة من بين السور الأُخرى في ملاحقة فلول أقسام المنافقين والّذين في قلوبهم مرض، إلى درجة نزول الأمر بجهاد المنافقين على حدّ جهاد الكفر سواء، ومن ذلك يظهر ملاحقة القرآنِ الّذين في قلوبهم مرض، وهم ممّن احترف النفاق ومرد عليه، من أوائل البعثة حتّى
____________
1- سورة التوبة 9: 123 ـ 127.
2- سورة الأحزاب 33: 60 ـ 62.
وقد تقدّمت رواية البخاري في صحيحه في الباب الواحد والعشرين من كتاب الفتن، عن حذيفة بن اليمان، قال: إنّ المنافقين اليوم شرٌّ منهم على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون!(1) فعلى من ينطبق ما يصفه حذيفة؟! ولماذا كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متستّرين وبعده خرجوا من تستّرهم وأصبحوا هم الظاهرين وصار الجوّ العامّ على مشرعتهم؟!
ولذلك سمّيت سورة التوبة بالفاضحة كما عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عبّـاس: سورة التوبة؟ فقال: التوبة؟! بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل " ومنهم.. " حتّى ظننّا أن لن يبقى منّا أحد إلاّ ذُكر فيها!(2).
وسمّيت بذلك لأنّها فضحت المنافقين بإظهار نفاقهم(3)، ومنهم أهل العقبة الّذين همّوا بما لم ينالوا وقالوا كلمة الكفر، وعرفهم حذيفة وعمّار في الواقعة المعروفة في كتب السير والتفاسير.
وتسمّى بالمبعثرة، وذلك عن ابن عبّـاس، لأنّها تبعثر عن أسرار المنافقين، أي تبحث عنها(4).
وتسمّى البحوث، فعن أبي أيّوب الأنصاري أنّه سمّاها بذلك، لأنّها تتضمّن ذِكر المنافقين والبحث عن سرائرهم(5).
وتسمّى بالحافرة، فعن الحسن، لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما
____________
1- صحيح البخاري 9 / 104 ح 57.
2- الدرّ المنثور 4 / 120.
3- مجمع البيان 5 / 5.
4- مجمع البيان 5 / 5.
5- مجمع البيان 5 / 6.
ومن الواضح أنّه لم تكن هذه الفئة وغيرها من المنافقين من قبيل عبـد الله بن أبي سلول وجماعته، ممّن كان ظاهر النفاق والشقاق وشاهر بهما، وإنّما فضحت سورة التوبة المتسـتّرين الّذين كانوا في شدّة خفاء، ولا ريب أنّهم كانوا ذوي خطب ووقع في مجريات الأُمور، ويرون أنّ حجر العثرة الأساس أمام مخطّطاتهم هو وجود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك شدّد القرآن على أهمّيّة ملاحقتهم.
وتسمّى المثيرة ; لأنّها أثارت مخازيهم ومقابحهم(2).
فلها عشرة أسماء كما ذكر المفسّرون(3).
ومع كلّ ما تضمّنته سورة التوبة، وما كان سبب النزول الرئيسي لها، ومع ما تبيّن من دلالة " الأوّلين، السابقين، والاتّباع بالإحسان " بتحديدها لدائرة خاصّة جدّاً، كيف يُتجرّأ على نسبة التعميم في مفاد الآية المتقدّمة؟!
وممّا ذكرنا يظهر الحال في مفاد الآية الخامسة من تعداد الآيات التي يستدلّ بها، وهي قوله تعالى في سورة التوبة نفسها: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رؤوف رحيم )(4)فإنّ " المهاجر " ـ كما تقدّم ـ لا يطلق على كلّ مـكّيّ أسلم وانتقل إلى المدينة وكان في ركاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما دلّت على ذلك سورة التوبة
____________
1- مجمع البيان 5 / 6.
2- مجمع البيان 5 / 6.
3- انظر: مجمع البيان 5 / 5 ـ 6.
4- سورة التوبة 9: 117.
وكذا الحال في عنوان " الأنصاري "، فهو ليس كلّ مدنيّ أسلم وكان في ركاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنّ الآية المذكورة في تفسيرها الوارد عن أهل البيت (عليهم السلام)، دالّة على تكفير ذنب وخطيئة صدرت منهم، وأنّ التوبة على الله تعالى بلحاظ ذلك(1).
وأمّا الآية الثانية:
فهي قوله تعالى: ( للفقراء المهاجرين الّذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أُولئك هم الصادقون * والّذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أُوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوقَ شحّ نفسه فأُولئك هم المفلحون * والّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للّذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم )(2).
فقد روى السيوطي وغيره عن جمع أنّهم يحتجّون بهذه الآيات على عدم جواز تناول الصحابة بقصّ ما وقع منهم، وأنّ من يتناولهم بسوءِ ما صـدر من أفعـال بعضهـم فـفي قلبه غـلّ، وأنّ من يقـصّ ما جرى بـينهم لا يدخل في مدلول ( والّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للّذين
____________
1- مجمع البيان 5 / 126 ـ 127.
2- سورة الحشر 59: 8 ـ 10.
ولأجل تحصيل المفاد الصحيح للآيات ينبغي ذِكر الآيتين اللاحقتين، وهما: ( ألم تر إلى الّذين نافقوا يقولون لإخوانهم الّذين كفروا من أهل الكتاب لئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإنْ قوتلتم لننصرنّـكم والله يشهد إنّهم لكاذبون * لئن أُخرجوا لا يخرُجُون معهم ولئن قُوتلـوا لا ينصرونهـم ولئـن نصـروهم ليُولّـنّ الأدبـار ثـمّ لا يُنصَرون )(2)..
فترى أنّ سورة الحشر هنا كسورة التوبة المتقدّمة، فهي لا تقتصر في تقسيم من كان مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الفئة الصالحة فحسب، بل تنبّه على ذِكر الجماعة الطالحة، وهم المنافقون، وهو إبطال لدعوى التعميم في كلّ مَن صحب ولقي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما أنّ السورة في الآيات المذكورة تحدّد وتفسّر " المهاجر " بأنّه من توافر على قيود أربعة، وهي:
الأوّل: الذي أُخرج من دياره وأمواله.
الثاني: كون خروجه ابتغاء فضل الله ورضوانه، كما قدّمناه مراراً من أنّ الهجرة في الاستعمال القرآني هي في المعنى الخاصّ من الفعل العبادي في سبيل الله، لا قصد الحطام الدنيوي.
الثالث: نصرة الله ورسوله، وقدّمنا أنّ كتب السير ملأى بمن كان يجبن في الحروب ومنازلة الأبطال في ساعة العسرة والشدائد ممّن يقال
____________
1- الدرّ المنثور 8 / 105 ـ 106 و 113 ـ 114، تفسير الطبري 12 / 43 ح 33888، تفسير الفخر الرازي 29 / 289، تفسير البغوي 4 / 292.
2- سورة الحشر 59: 11 و 12.
الرابع: الصدق، وهو ـ كما تقدّمت الإشارة المختصرة إليه ـ قد شُرح في آيات عديدة، كقوله تعالى: ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا * ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إنّ الله كان غفوراً رحيماً )(1)..
فالاستقامة حتّى آخر العمر، وعدم التبديل، مِن مقدّمات الصدق، ولذلك اشتهر بين الصحابة في طعنهم على بعضهم بأنّه بدّل وأحدث، كما درج هذا الاستعمال بكثرة عندهم في فتنة قتل عثمان وبقية الفتن التي دارت بينهم، فدلّت الآية على اشتراط الوفاء بالعهد وعدم التبديل في وصف المؤمنين بالصدق.
وكقوله تعالى في سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم): ( ويقولُ الّذين آمنوا لولا نزّلت سورة فإذا أُنزلت سورة محكمة وذُكر فيها القتال رأيتَ الّذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت فأَوْلى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم * فهل عسيتم إنْ تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم * أُولئك الّذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها * إنّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم من بعدما تبيّن لهم الهدى الشيطانُ سوّل لهم وأملى لهم * ذلك بأنّهم قالوا للّذين كرِهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا
____________
1- سورة الأحزاب 33: 23 و 24.
فنرى في سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّها تشترط في عنوان الصدق الثباتَ عند الزحف وعدمَ الفرار والجبن، بينما المنافق الخفيّ جبان في الحروب والنزال كأنّه يغشى عليه من الموت لشدّة خوفه وجبنه، فإذا قاد جيشاً ليفتح حصناً عاد يجبّن الناس والناس يجبّنونه، بخلاف الصادق، فإنّه كرّار غير فرّار، يفتح الله على يديه..
والمنافق الخفيّ المحترف للنفاق يحزن من هول القتال والكفّار، ويقول ـ مثلا ـ: يا رسول الله! إنّها قريش وخيلاؤها، ما هزمت قطّ. فليس ذلك علامة الصدق في ما يدّعيه من الإيمان، فهذا الصحابي الذي أشارت إلى فئته سورة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المنافق المحترف، وصفتهم عكس ما أُشير إليه في سورة الفتح بقوله تعالى: ( أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم )(2)، وإنّ صحابيّ هذه الفئة غظّ فظّ مع المؤمنين في السلم، هجين ذعر جبان في الحرب مع الكفّار.
ثمّ إنّ السورة تلاحق وجود فئة محترفة للنفاق وهي: ( الّذين في قلوبهم مرض )(3) وهي الفئة التي أشارت إليها سورة المدّثّر المكّية(4)،
____________
1- سورة محمّـد 47: 20 ـ 30.
2- سورة الفتح 48: 29.
3- سورة محمّـد 47: 20 و 29.
4- سورة المدّثّر 74: 31.
كما إنّ سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) تكشف عن وجود ارتباط بين هذه الفئة ( الّذين في قلوبهم مرض ) وبين الكفّار الّذين كرهوا ما نزّل الله، وإنّهم يعِدُونهم بطاعتهم في بعض الأمر والشؤون الخطيرة، ويحسبون أنّ الله ليس بكاشفهم، فالسورة تكشف عن فئة منافقة أخفَتْ نفاقها فغدت محترفة في الاختفاء.. ( لو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول )(2)، في مقابل الفئة المؤمنة أهل الصدق.. كما تكشف عن فئة مرتدّة في الباطن عن الإسلام..
والحاصـل:
إنّ سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما تشير إلى شرائط عنوان الصدق، فإنّها تشير ـ كذلك ـ إلى تقسيم مَن كان مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ممّن صحبه، لا التسوية بينهم وجعلهم في كفّة واحدة، فهل إنّ مَن يقسّم
____________
1- سورة البقرة 2: 89.
2- سورة محمّـد 47: 30.
وكذا يشير إلى معنى الصدق قوله تعالى في سورة الأحزاب: ( يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً * إذ جاءُوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوبُ الحناجر وتظنّون بالله الظنونا * هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً * وإذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مُقام لكم فارجعوا ويستأذنُ فريق منهم النبيَّ يقولون إنّ بيوتنا عورة وما هي بعورة إنْ يريدون إلاّ فراراً * ولو دُخِلَتْ عليهم من أقطارها ثمّ سُئلوا الفتنة لأََتـوها وما تلـبّثـوا بهـا إلاّ يسـيراً * ولقد كانوا عاهـدوا الله من قبـل لا يولّونَ الأدبار وكان عهد الله مسؤولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتّعون إلاّ قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً * قد يعلم الله المعوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلاّ قليلا * أشحّةً عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحّة على الخير * أُولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً * يحسَبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأتِ الأحزابُ يودّوا لو أنّهم بادُون
نقلنا الآيات بطولها من سورة الأحزاب لِيَبين الجوّ الذي تصوّره الآيات لنا في واقعة الخندق، كما أنّ هذه السورة تبـيّن أيضاً أنّ من شرائط الصدق: الثبات عند الزحف، والشجاعة في الحروب، وعدم الفرار ; إلاّ أنّ المنافقين والّذين في قلوبهم مرض إذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد، فالحدّة ليست في شجاعتهم وبطولتهم في النزال والشدائد، بل في لسانهم في وقت السلم، يبتذلون الفظاظة والغظاظة حتّى مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتقدّمون بما يرتأونه على الله ورسوله: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتّقوا الله إنّ الله سميع عليم * يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )(2)..
فمن الغريب بعد ذلك أن يرووا في فضائل بعض الصحابة اعتراضه على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أربع موارد لفّقوها، وأنّ القرآن نزل بخلاف قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاقاً لرأي ذلك الصحابي ; وفي بعض الروايـات أنّه أمسك
____________
1- سورة الأحزاب 33: 9 ـ 24.
2- سورة الحجرات 49: 1 و 2.
فالقرآن يجعل هذه الهالة المقدّسة لشخصية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويجعل أحكاماً عديدة لكيفية الارتباط بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من التوقير له، وخفض الصوت، وعدم التقدّم على أمره وحكمه، وعدم مخالفته وعصيانه بالتسليم له، وإنّ ذلك هو الإيمان، وهو امتحان القلب بالتقوى..
فكيف يكون ما يذكرونه من مجابهة ذلك الصحابي لنبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)منقبة وفضيلة؟!
وكيف يُعتقد بتكلّف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلاف ما شرّع وحدّد له من الله تعالى، ويجعلون ذلك الصحابي يسـتنكر فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويردعه عنه ـ والعياذ بالله تعالى ـ ثمّ ينزل القرآن بتقرير رأي الصحابي على قول نبيّ الله
____________
1- سورة ص 38: 86.
2- سورة الحجرات 49: 3 ـ 7.
نعوذ ونستجير بالله من هذه الأقاويل!
أليس هذا تبجيلا للصحابي وغلوّاً فيه إلى حدّ جعلوه فوق مقام النبوّة والرسالة، وردّاً على قول الله تعالى في شأن رسوله في سورة الحجرات وغيرها من السور؟!
وممّا يستغرب منه أنّ العديد من السور تجعل هذه الصفة ـ وهي عدم الإقدام في الحروب والشدائد، والإقدام بحدّة اللسان والفظاظة في السلم مع المؤمنين أو مع الرسول ـ من علامات المنافقين، أو الذين في قلوبهم مرض ـ كما في سورة الفتح وسورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسورة الحجرات وسورة الأحزاب وغيرها ـ، فكيف تصاغ هذه الصفة كفضيلة من الفضائل، وتسمّى بالشدّة والغيرة فى ذات الله وكراهة الباطل؟!!
ونعود ثانية إلى سورة الأحزاب، فنقول: إنّها تشترط في الصدقِ، الصدقَ عند النزال في الحروب والشدائد، والرحمة ولين العريكة مع المؤمنين، بل الآية تنفي الإيمان وتُحبط عمل من اتّصف بالجبن في الحروب ـ كحرب الأحزاب (الخندق) ـ وبحدّة اللسان في السلم مع المؤمنين..
كما إنّ هذه السورة تقسّم مَن صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فئات صالحة وطالحة، وتنفي صلاح المجموع، بل تميّزهم إلى فئة مؤمنة ثابتة في الزلازل، وفئة المنافقين، والّذين في قلوبهم مرض ـ وهم أكثر احترافاً
____________
1- سورة النجم 53: 3 و 4.
كما تدعو السـورة إلى التأسّـي بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والاقـتداء به ومتابعتـه، لا الردّ والاعتراض عليه كما هو دأب المنافقين ودأب الفئة الثانية ( الّذين في قلوبهم مرض )(1) ودأب بعض القالين، يجعل ذلك منقبة لبعض الصحابة.. ( قلْ أتعلّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكلّ شيء عليم )(2).
فأين هي السـورة القرآنيـة التي لا تقسّـم مَن صحـب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ولا تميزهم إلى فئات عديدة مختلفة؟!
وكذا يشير إلى معنى " الصدق " قوله تعالى في سورة الحجرات: ( قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم * إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أُولئك هم الصادقون * قل أتعلّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكلّ شيء عليم * يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا علَيَّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين * إنّ الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعملون )(3)..
____________
1- سورة المائدة 5: 52، سورة الأنفال 8: 49، سورة التوبة 9: 125، سورة الأحزاب 33: 12 و 60، سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) 47: 20 و 29، سورة المدّثّر 74: 31.
2- سورة الحجرات 49: 16.
3- سورة الحجرات 49: 14 ـ 18.