الصفحة 90

فهذه السورة بآياتها هذه هي أيضاً تشترط في معنى الصدق: الإيمان، مع الاستقامة عليه بعدم الارتياب، والمجاهدة في سبيل الله ; مع أنّه قد روى أكثر المفسّرين والمؤرّخين أنّ بعض من يُعَدّ ويُحسب من خاصة الصحابة قد ارتاب في نبوّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وحقّانية الدين في صلح الحديبية واعتراضه على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)!

وبعدما تحصّل لدينا معنى الصدق والصادقين من العديد من السور، يتبيّن بوضوح لا ريب فيه أنّ المقصود من قوله تعالى في الآية الأُولى من الآيات الثلاث المتقدّمة من سورة الحشر، وهي: ( للفقراء المهاجرين الّذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أُولئك هم الصادقون )(1) ليس هو كلّ مكّيّ أسلم وانتقل إلى المدينة وصحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل خصوص من توافرت فيه القيود العديدة المذكورة في الآية، والتي منها الصدق، والذي بيّنت السور العديـدة الأُخرى عدم توافره في جميع الصحابة، بل توافر في فئة منهم دون غيرها من الفئات، وأنّهم ضرب من الجماعات.

وكيف يحتمل وصف الآية كلَّ مكّيّ ونحوه أسلم وانتقل إلى المدينة أنّه صادق، وقد صدر من العديد منهم مخالفات، كالفرار من الزحف الذي هو من الكبائر؟!

هذا، وقد فرّ كلّ الصحابة يوم حنين إلاّ ثلّة من بني هاشم كما في قوله تعالى: ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ

____________

1- سورة الحشر 59: 8.


الصفحة 91
ولّيتم مدبرين * ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الّذين كفروا وذلك جزاء الكافرين )(1)، ووقعة حنين كانت بعد عام الفتح!

وكذا ما أتاه الصحابة في صلح الحديبية، وفي مقدّمتهم بعضهم من الاعتراض على صلح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) كما سيأتي تفصيله!

وكذا ما أتاه عدّة من الصحابة من التخلّف عن جيش أُسامة، الذي جهّزه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقتال الروم، وقد لعن (صلى الله عليه وآله وسلم) من تخلّف عن جيش أُسامة وقال: " نفّذوا جيش أُسامة "!(3).

وقد اقتتل الأوس والخزرج بالأيدي والنعال والعصيّ(4) فنزلت الآية: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله )(5)!

ألم يمنع بعض الصحابة من كتابة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاباً ـ في مرضه الأخير ـ لا يضلّ المسلمون بعده ما إنْ تمسّكوا به، وقولة ذلك الصحابي: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غلبه الوجع ـ أو: المرض ـ، أو: إنّ الرجل ليهجر؟!(6)وقد قال تعالى: ( ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى *

____________

1- سورة التوبة 9: 25 ـ 26.

2- انظر: تاريخ الطبري 2 / 122 حوادث سنة 6 هـ، البداية والنهاية 4 / 136 حوادث سنة 6 هـ.

3- انظر: الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ 1 / 12، شرح نهج البلاغة 6 / 52، شرح المواقف 8 / 376.

4- انظر: تفسير الدرّ المنثور 7 / 560.

5- سورة الحجرات 49: 9.

6- انظر: صحيح البخاري 4 / 211 ح 10 و ج 6 / 29 ح 422، صحيح مسلم 5 / 75 ـ 76، مسند أحمد 1 / 325، الكامل في التاريخ 2 / 185 حوادث سنة 11 هـ.


الصفحة 92
إن هو إلاّ وحي يوحى )(1) وقال تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتّـقوا الله إنّ الله سـميع عليم * يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )(2) وقال: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )(3) وقال: ( لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة )(4) وقال: ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا )(5)!

وكم من واقعة قد أبرم وقطع فيها غير واحد من العشرة المبشّرة قبل أن يحكم الله ورسوله فيها؟!

بل تقدّموا في أشياء قد تقدّم الله ورسوله فيها بحكم خلافاً وردّاً لذلك الحكم، كما في الأمثلة المتقدّمة وغيرها!

ثمّ إنّه بقرينة الآية الثالثة من آيات سورة الحشر المزبورة، وهي: ( والّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان )(6) يتبيّن أنّ المراد من " الفقراء المهاجرين " هم " السابقون "، وقد تقدّم في سورة التوبة المراد من " السابقين " فلا تغفل، ويعضد ذلك أيضاً التوصيف بـ " الصدق " كما تقدّم.

أمّا الآية الثانية من الآيات الثلاث من هذه السورة: ( والّذين تبوّؤا

____________

1- سورة النجم 53: 2 ـ 4.

2- سورة الحجرات 49: 1 و 2.

3- سورة الحشر 59: 7.

4- سورة الأحزاب 33: 21.

5- سورة المائدة 5: 92.

6- سورة الحشر 59: 10.


الصفحة 93
الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أُوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوقَ شحّ نفسه فأُولئك هم المفلحون )(1).

فقد قيّدت الآية المديح بعدّة قيود، فلم تكتفِ بتبوّؤ الدار، بل قيّدته بالإيمان، والمحبّة لمن هاجر إليهم، والإيثار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وعدم الشحّ..

ومن البيّن ضِـيق الدائرة بلحاظ هذه القيود ; لأنّه يُخرج المتبوّئ للدار المنافق، أو من انضمّ إلى فئة الّذين في قلوبهم مرض، أو من كان من أهل المدينة من الّذين مردوا على النفاق ـ كما في سورة التوبة ـ ( لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردّون إلى عذاب عظيم )(2)، أو غيرها من النماذج التي استعرضتها سور التوبة والأحزاب ومحمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)والبقرة والأنفال والمائدة، وغيرها من السور المتعرّضة للفئات الطالحة التي صحبت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من ألوان المنافقين المختلفة.

فـلا الآية الثانية هـذه من سـورة الحشـر مطلقة لكلّ مـدنيّ أسـلم، ولا الآيات الأُخرى الناصّة على أنّ بعض الفئات الطالحة السيّئة هي من أهل المدينة تبقي الإطلاق المتوهَّم.

هذا، مع أنّه قد ورد في كتب أصحابنا عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ ذيل الآية ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوقَ شحّ نفسه فأُولئك هم المفلحون ) قد نزلت في عليّ وفاطمـة (عليهما السلام)، بل رووا

____________

1- سورة الحشر 59: 9.

2- سورة التوبة 9: 101.


الصفحة 94
ذلك أيضاً عن رواة العامّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)، نعم، في بعض الروايات أنّ سيّد هذه الآية وأميرها عليٌّ (عليه السلام)، ممّا يدلّ على عموم المعنى، ولا غرابة في ذلك بعد كون الآيات مختلفة نزولا، فلعلّ صدرها في مورد وذيلها في آخر، وكم له من نظير في الآيات.

وعلى كلّ حال، فالآية تقيّد بعدّة قيود، فلا مسرح لتوهُّم الإطلاق.

الموالاة والبراءة:

وأمّا قوله تعالى: ( والّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للّذين آمنوا إنّك رؤوف رحيم )(2) فالآية تقيّد الاستغفار لمن سبق بالإيمان، لا لمن سبق بظاهر الإسلام، وتنفي الغلّ عن الّذين آمنوا.

أمّا قوله تعالى: ( ما كان للنبيّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى من بعدما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ لله تبرّأ منه إنّ إبراهيم لأَوّاه حليم )(3)، فقد عُلّل النهي عن الاستغفار لمن يكون من أصحاب الجحيم عدوّاً لله العزيز..

وقد بيّنت سور القرآن العديدة المتقدّمة أنّ العديد ممّن صحب النبيّ الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقيه كان من فئات المنافقين، أو الّذين في قلوبهم

____________

1- الأمالي ـ للطوسي ـ: 185 ح 309 المجلس 7، مجمع البيان 9 / 386، تفسير الصافي 5 / 157، وانظر: شواهد التنزيل 2 / 246 ـ 247 ح 970 و 971.

2- سورة الحشر 59: 10.

3- سورة التوبة 9: 113 و 114.


الصفحة 95
مرض، أو الماردين على النفاق، أو الّذين يلمزون المؤمنين، أو الّذين يؤذون النبيّ، أو المعوِّقين عن القتال، أو المتخلّفين، أو غيرهم من النماذج السيّئة، وتوعّدهم الله تعالى بالعذاب واللعن، وأنّ الكافرين سواء في العاقبـة.

فمع كون الاستغفار من المؤمنين محرّم لهذه الفئات التي صحبت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يتوهّم شمول الاستغفار والحبّ لكلّ مكّي ونحوه أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ولكلّ مدنيّ أسلم في الظاهر؟! وقد عرفت أنّ سورة المدّثّر ـ رابع سورة نزلت ـ وسورتَي العنكبوت والنحل المكّيّات، قد تتبّعت وجود فئة محترفة للنفاق منذ أوائل البعثة، وأطلقت عليها عنوان: ( الّذين في قلوبهم مرض )، ولاحق القرآن الكريم خطواتهم في العديد من السور تحت هذا العنوان وبيّن أهدافهم من إظهار الإسلام والالتحاق بركب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد ورد النهي في العديد من الآيات عن موادّة من حادّ الله ورسوله، قال تعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أُولئك كتب في قلوبهم الإيمانَ وأيّدهم بروح منه ويدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أُولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون )(1).

وقد وصف القرآن العديد من الفئات التي كانت تصحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بالمحادّة لله ولرسوله، قال تعالى: ( إنّ الّذين يحادّون الله ورسوله كُبِتوا

____________

1- سورة المجادلة 58: 22.


الصفحة 96
كما كُبِت الّذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بيّنات وللكافرين عذاب مهين... ألم تر إلى الّذين نُهوا عن النجوى ثمّ يعودون لِما نُهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول... ألم تر إلى الّذين تولّوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون * أعدّ الله لهم عذاباً شديداً إنّهم ساء ما كانوا يعملون * اتّخذوا أيمانهم جُنّة فصدّوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين * لن تغنيَ عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسَبون أنّهم على شيء ألا إنّهم هم الكاذبون * استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أُولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون * إنّ الّذين يحادّون الله ورسوله أُولئك في الأذلّين )(1).

فترى أنّ القرآن ما يفتأ يلاحق النماذج العديدة من ألوان الّذين في قلوبهم مرض والمنافقين وأنشطتهم المضادّة لمحور المسيرة الإلهية وهو المسير النبوي..

وفي سورة التوبة المتقدّمة، المستعرضة لنماذج منهم ـ بعد قوله تعالى: ( ومنهم... ومنهم... ) ـ: ( ومنهم الّذين يؤذون النبيّ ويقولون هو أُذن قل أُذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمةٌ للّذين آمنوا منكم والّذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم * يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحقّ أن يرضوه إنْ كانوا مؤمنين * ألم

____________

1- سورة المجادلة 48: 5 و 8 و 14 ـ 20.


الصفحة 97
يعلموا أنّه مَن يحادِد الله ورسوله فأنّ له نارَ جهنّم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم )(1).

ومنهم من آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ابنته فاطمـة (عليها السلام)(2)..

فمع هذا كلّه كيف لا يتحرّج المؤمن المتديّن في محبّة كلّ مكّيّ أسلم وانتقل إلى المدينة، وكلّ مدنيّ أسلم؟! وقد تقدّم حديث حذيفة الذي رواه مسلم في كتاب المنافقين أنّ أصحاب مؤامرة العقبة ـ بعد غزوة تبوك ـ اثنا عشر هم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

أليس من حادّ الله ورسوله، وجعل نفسه ندّاً لهما، منافق ذو شقاق لله ورسوله، فكيف يتّخذونه وليّاً ومحبوباً وقد قال تعالى: ( ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبّ الله والّذين آمنوا أشدّ حبّاً لله ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة لله جميعاً وأنّ الله شديد العذاب * إذ تبرّأ الّذين اتُّبِعوا من الّذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب * وقال الّذين اتَّبَعوا لو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّءوا منّا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار )(3)؟!

فمع كلّ هذا النكير والتحذير القرآني من اتّباع وموادّة من حادّ الله تعالى ورسوله، من النماذج الطالحة التي كانت تعايش النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، أو في ركبه في القتال، كما تذكر ذلك سورة التوبة وغيرها، وبعضهم ـ كما عرفت من سورة المدّثّر ـ قد التحقوا بالإسلام ظاهرياً منذ

____________

1- سورة التوبة 9: 61 ـ 63.

2- انظر: مسند أحمد 1 / 4 و 6.

3- سورة البقرة 2: 165 ـ 167.


الصفحة 98
أوائل البعثة النبوية، فكيف يستحلّ القائلُ بالتعميم الموالاةَ للجميع؟!

وأمّا الآية الثالثة:

فهي قوله تعالى: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً )(1) وقوله تعالى في السورة نفسها: ( محمّـد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلا من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً )(2).

ولأجل تحصيل مفاد هذه الآيات بدقّة لا بُـدّ من الالتفات إلى الأُمور التالية:

  • الأمر الأوّل:

    إنّه تمّ في صدر السورة الكريمة تقسيم مَن كان مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مؤمن ومنافق، قال تعالى: ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً * ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفّر عنهم سيّئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً

    ____________

    1- سورة الفتح 48: 18.

    2- سورة الفتح 48: 29.


    الصفحة 99
    عظيماً * ويعذّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانّين بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً )(1)..

    فهذه السورة شأنها شأن بقية السور القرآنية تقسّم وتميّز من كان مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صالح وطالح، ولا تجعلهم فئة واحدة، كما إنّها تبيّن أنّ السكينة تنزل على المؤمنين دون المنافقين ممّن صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ثمّ يتبيّن أنّ الرضا والسكينة في الآية 18 منها خاصّة بالمؤمنين الّذين بايعوا تحت الشجرة لا غيرهم، أي ليس كلّ من بايع فهو مؤمن وقد رضي الله عنـه..

    فالرضا كفِعل أُسند وتعلّق بالمؤمنين الّذين وُضعوا في صدر السورة في قبال المنافقين، فهؤلاء الّذين تميّزوا عن أُولئك رضي الله عنهم حال مبايعتهم للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

    وستأتي شواهد أُخرى على تخصيص الرضا بهم لا بكلّ مَن بايع، إذ ليس لفظ الآية هكذا: " لقد رضي الله عن الّذين يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قُلوبهم فأنزل السكينة عليهم "، أي ليس الرضا لمطلق الّذين بايعوا بل مقيّد، وقد خصّص الله تعالى ذلك أيضاً في قوله: ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقّ بها وأهلها وكان الله بكلّ شيء عليماً )(2)..

    بينما لم تعمّ السكينة مَن كان مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار كما في قوله تعالى: ( إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ

    ____________

    1- سورة الفتح 48: 4 ـ 6.

    2- سورة الفتح 48: 26.


    الصفحة 100
    هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم )(1).

  • الأمر الثاني:

    إنّ قوله تعالى في سورة الفتح: ( إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً )(2) ترى فيه أنّ الحكم لم يخصّص بإسناد المبايعة إلى خصوص المؤمنين، بل إلى عموم الّذين بايعوا، أي الّذين كانوا معه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحينئذ اشترط عليهم الوفاء بالبيعة وعدم النكث، وفي الآية إشعار بوجود كِلا الفئتين، ومن ثمّ عُرف بين الصحابة اصطلاح " بدّل " و " نكث " في الطعن الذي يوجّهونه على بعض منهم.

    ومنه يظهر أنّ الرضا ـ حتّى الذي أُسند إلى المؤمنين منهم خاصة ـ مشروط بالوفاء بما عاهدوا الله عليه، وأنّ الرضا هو لأجل تسليمهم ومبايعتهم لا مطلقاً، و ( إذ ) من قبيل التعليل.

  • الأمر الثالث:

    وهو متّفق مع سابقَيه، وهو أنّ قوله تعالى في آخر السورة: ( محمّـد رسول والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم... وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً )(3) يصف الّذين معه بالشدّة على الكفّار والرحمة فيما بينهم، وقد انبأتنا سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسورة الأحزاب وسورة التوبة وغيرها من

    ____________

    1- سورة التوبة 9: 40.

    2- سورة الفتح 48: 10.

    3- سورة الفتح 48: 29.


    الصفحة 101
    السور ـ كما تقدّمت الإشارة إلى بعضها ـ إلى وجود فئات من المنافقين والّذين في قلوبهم مرض مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا جاء الخوف تدور أعينهم كالمغشيّ عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد، وإذا جاءت الأحزاب يودّون لو أنّهم بادون في الأعراب، يقولون بيوتنا عورة، وإنْ تولّى أحدهم الأُمور العامّة أفسد في الأرض وقطّع الأرحام(1)، وأغلظ وكان فظّاً مع المؤمنين والمسلمين.

    وبهذا يتبيّن أنّ هذه الآية في سورة الفتح تشير إلى مديح فئة خاصة، ومعنىً خاصّ من " المعية " بمعنى النصرة الصادقة، ويدلّ على ذلك أيضاً تقييد الآية الوعد الإلهي بالمغفرة والأجر العظيم بخصوص المؤمنين العاملين للصالحات، أي أنّ الآية جاءت بلفظ ( منهم ) الدالّ على التبعيض وعدم العموم.

    وهذا ما نطقت به السور جميعها، فهي تؤكّد على تبعيض المجموع الذي صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ سواء في القتال، أو في السلم حضراً أو سفراً ـ إلى صالح وطالح، كما إنّ السورة تشترط لحصول المغفرة والأجر العظيم الإيمان والعمل الصالح، أي الوفاء بالشرط.

  • الأمر الرابع:

    إنّ شأن وقوع بيعة الشجرة ونزول آياتها ـ كما ذكر ذلك في كتب الرواية والتفسير والسير ـ هو ما وقع في صلح الحديبية من عصيان أكثر مَن كان مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمْرَه (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاهم بالحلق والإحلال من الإحرام بعدما صُدّوا عن الاعتمار إلى بيت الله الحرام، وصار الأمر إلى عقد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلح مع قريش، والذي كان فيه انتصار كبير لرسول الله

    ____________

    1- لاحظ سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) 47: 20 ـ 24، وما ذكرناه سابقاً.


    الصفحة 102
    وللمسلمين على قريش ـ كما وعد الله تعالى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ..

    إلاّ أنّ الّذين كانوا في ركبه (صلى الله عليه وآله وسلم) مضافاً إلى أنّهم لم يدركوا الحكمة من ذلك، لم يسلّموا لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، وفي مقدّمتهم أحد الصحابة ممّن يُحسب من الخاصة، فقد ذكرت كتب الصحاح والتواريخ شدّة اعتراضه وردّه لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى إنّه ارتاب في دينه، وقد قال تعالى: ( إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أُولئك هم الصادقون * قل أتعلّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكلّ شيء عليم )(1) وقال: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبيناً )(2).

    ولذلك قدّمنا في بيان آيات سورة الحشر أنّ اصطلاحات " الفقراء المهاجرين "... و " الصـادقين " لا تعمّ كلّ مَن صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان من الكثير ممّن في ركبه (صلى الله عليه وآله وسلم) حالة عدم انصياع وعدم استجابة وعدم ائتمار، حتّى دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيمته مغضباً فاستخبرته الحال أُمّ سلمة، فأشارت عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يبتدر ويحلق فسيضطرّون إلى متابعته، فلمّا رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم مثل ذلك اسـتوثق منهم بالبيعة تحت الشجرة كي لا يصدر منهم نكول مرّة أُخرى، فالبيعة أُخذت لإنشاء التعهّد والوفاء والالتزام بمقتضى الشهادتين التي أقرّوا بها.

    ____________

    1- سورة الحجرات 49: 15 و 16.

    2- سورة الأحزاب 33: 36.


    الصفحة 103
    ومن ذلك كلّه يفهم أنّ " الرضا " في الآية كان بعد اعتراض كثير من الصحابة ـ ممّن بايع بعد ذلك ـ على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحصول حالة من عدم التسليم والنكول بينهم، وما يوجب السخط الإلهي عليهم، ومع ذلك فإنّ هذا " الرضا " خصّص بالمؤمنين لمّا بايعوا، ولم يُسنَد إلى عموم الّذين بايعوا كما عرفت..

    ومع ذلك أيضاً اشترط الوفاء بالبيعة وعدم النكث، أي الوفاء بالعهد الإلهي حتّى حلول الأجل.

    ومع كلّ ذلك، فقد دلّت السورة الكريمة على مديح بعض من صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بلفظة ( منهم ) في آخر آية منها.

  • أمّا الآيتان الرابعة والخامسة:

    فهي قوله تعالى: ( والّذين هاجروا في الله من بعدما ظُلموا لنبوّئنّهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الّذين صبروا وعلى ربّهم يتوكّلون )(1).. وقوله تعالى: ( ثمّ إنّ ربّك للّذين هاجروا من بعدما فُتنوا ثمّ جاهدوا وصبروا إنّ ربّك من بعدها لغفور رحيـم )(2)..

    وقوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رؤوف رحيم )(3).

    ____________

    1- سورة النحل 16: 41 و 42.

    2- سورة النحل 16: 110.

    3- سورة التوبة 9: 117.


    الصفحة 104
    ولأجل إدراك معنى ومفاد الآيات الشريفة لا بُـدّ من الالتفات إلى أنّ الآية الثانية المذكورة آنفاً من سورة النحل قد سبقتها الآيات التالية: ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنّهم اسـتحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة وأنّ الله لا يهدي القوم الكافرين * أُولئك الّذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأُولئك هم الغافلون * لا جرم أنّهم في الآخرة هم الخاسرون * ثمّ إنّ ربّك للّذين هاجروا... )(1)..

    ففي هذه الآيات المكّية دلالة على ظهور النفاق قبل الهجرة، وأنّ هناك من المسلمين من يكفر بالله بلسانه بعد إسلامه مع انشراح صدره بذلك من دون إكراه، بل حبّاً في الحياة الدنيوية الوادعة، وأُولئك مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وهم في غفلة عن الحقّ وهم الخاسرون..

    وقيل: إنّها نزلت في عبـد الله بن أبي سرح(2)، من بني عامر بن لؤي، لكنّ ظاهر لفظ الجمع في الآيات يعطي أنّها نزلت في مجموعة وفئة تطمع في الأغراض الدنيوية.

    هذا، مضافاً إلى ما تشير إليه سورة المدّثّر، المكّية ـ رابع سـورة نزلت ـ من وجود فئة الّذين في قلوبهم مرض في أوائل البعثة في صفوف المسلمين، وتشير بقية السور إلى ملاحقة هذه الفئة وأهدافها وارتباطاتها بكلّ من الكفّار وأهل الكتاب.

    ____________

    1- سورة النحل 16: 106 ـ 110.

    2- انظر مثلا: تفسير القرطبي 10 / 126، تفسير الدرّ المنثور 5 / 171.


    الصفحة 105
    فمن البيّن أنّ " الّذين هاجروا " في هذه السورة لا يراد به كلّ مكّي أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ; كيف؟! وهي تقسّم المسلمين إلى فئة صالحة، وأُخرى طالحة تنشرح بالكفر صدراً بعد الإيمان، حبّاً في الدنيا، مطبوع على قلوبها، وكذلك سورة المدّثّر السابقة لها نزولا..

    بل إنّ في الآية الأُولى المذكورة من هذه السورة تقييد الهجرة بكونها في الله، لا لإجل الأغراض والطموحات الدنيوية وتقلّد المناصب أو بعض الأُمور كما هو دأب فئة ( الّذين في قلوبهم مرض ) كما تشير إلى ذلك سـورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الآيات 20 ـ 24، بعدما اطّـلعوا على ظفر ونصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على العرب، اطّلعوا على ذلك من أهل الكتاب، فقد كانوا على صلة بهم كما تشير إلى ذلك سورة المائدة، الآية 52، إذ كان أهل الكتاب على علم بذلك كما قال تعالى عنهم: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين )(1).

    وقد سبق أن بيّـنّا مفصّلا أنّ الهجرة والمهاجر والنصرة والأنصار في القرآن ليس بمعنى كلّ مكّي ونحوه أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة، كما أنّ اللفظة الثانية ليست لكلّ مدنيّ أسلم في الظاهر وإنْ شاع ذلك في الأذهان غفلة وخطأً، فراجع.

    وقد تقدّم مفاد الآية الخامسة المذكورة من سورة التوبة، عند الكلام عن السورة، فراجع ; وأنّها في قراءة أهل البيت (عليهم السلام): ( لقد تابَ الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار )(2) وأنّ هذه السورة لم تترك فئة أو لوناً من

    ____________

    1- سورة البقرة 2: 89.

    2- سورة التوبة 9: 117.


    الصفحة 106
    ألوان المنافقين إلاّ وكشفتهم، ومن ثمّ سمّيت بعشرة أسماء، منها: الكاشفة والفاضحة للمنافقين وغير ذلك، بل ورد فيها أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بمجاهدة المنافقين على حدّ مجاهدة الكفّار سواء.

    عدم إيمان بعض البدريّين

  • أمّا الآية السادسة:

    فهي قوله تعالى: ( والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والّـذين آووا ونصروا أُولئـك هم المؤمنون حقّـاً لهم مغفرة ورزق كريم * والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأُولئك منكـم )(1).

    ويتّضح أنّ هذه السورة كبقية السور القرآنية في تقسيم وتمييز من صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان في ركبه، إلى صالح وطالح، وإلى فئات متنوّعة، ولكن ينبغي الالتفات إلى بقية آيات السورة، قال تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبُتوا واذكروا الله كثيراً لعلّكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إنّ الله مع الصابرين * ولا تكونوا كالّذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط * وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنّي بريء منكم إنّي أرى ما لا ترون إنّي

    ____________

    1- سورة الأنفال 8: 74 ـ 75.


    الصفحة 107
    أخاف الله والله شديد العقاب * إذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكّل على الله فإنّ الله عزيز حكيم )(1).

    كما إنّ في الآيات 41 ـ 44 من سورة الأنفال ـ والتي سبقت هذه الآيات ـ نبأ عظيم وإفصاح خطير، هو أنّ مَن كان في ركب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة بدر وأثناء القتال كانوا على ثلاث فئات: فئة مؤمنة ثابتة، وفئة منافقة، وفئة الّذين في قلوبهم مرض ـ وهي الفئة التي أشارت إلى وجودها سورة المدّثّر المكّية، رابع سورة نزلت في أوائل البعثة، في صفوف المسلمين ـ وكان من الفئتين الأخيرتين ـ لمّا رأتا حشد مشركي قريش وبطرهم وخيلاءهم في غزوة بدر ـ أن قالتا عن الفئة الأُولى بأنّها مغرورة بسبب دينهم وهو دين الإسلام، فلم ينسبوا أنفسهم إلى الدين الإسلامي، وإنّما جعلوا أنفسهم ـ بذلك ـ على دين المشركين!

    والإفصاح هذا في هذه السورة عن معسكر جيش المسلمين الذي كان مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه منقسم إلى ثلاث فئات، يبطل كلّ الروايات التي يرويها العامّة حول قدسية البدريّين، وأنّ الله قد غفر لهم وإنْ عملوا ما عملوا ـ فضلا عن كون ذلك مناقض للآيات والسور العديدة المشترطة للوفاء حتّى حلول الأجل والثبات على الإيمان والعمل الصالح ـ.

    كما أنّه يبطل مقولة إنّ كلّ بدريّ أو أُحُدي فهو مؤمن وممدوح ومرضيّ حالُه عند الله تعالى.

    وفي الآيتين اللاحقتين المتّصلتين بالآيات التي أوردناها، يقول تبارك وتعالى: ( ولو ترى إذ يتوفّى الّذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوههم

    ____________

    1- سورة الأنفال 8: 45 ـ 49.


    الصفحة 108
    وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدّمت أيديكم وأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد )(1) وهو تهديد ووعيد لهم بالعقوبة المبتدأ بها عند الموت.

    ولأجل ذلك ترى أنّ الخطاب الإلهي في هذه السورة مخصّص وموجّه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والّذين آمنوا خاصة دون الفئتين الأخريتين، قال تعالى: ( وإنْ يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين * وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم إنّه عزيز حكيم * يا أيّها النبيّ حسبك الله ومن اتّبعك من المؤمنين * يا أيّها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم... )(2)..

    فخصّ أُلّفة القلوب والمساعدة على النصر والخطاب بالجهاد بالمؤمنين دون الفئتين الأُخريين، فكيف يتوهّم بأنّ قوله تعالى: ( والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والّذين آووا ونصروا أُولئك هم المؤمنون حقّاً )(3) شامل للمنافقين والّذين في قلوبهم مرض ممّن كان في ركب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة بدر؟!

    وفي هذه السورة آيات أُخرى، وهي قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لِما يحييكم واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون * واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين

    ____________

    1- سورة الأنفال 8: 50 و 51.

    2- سورة الأنفال 8: 62 ـ 65.

    3- سورة الأنفال 8: 74.


    الصفحة 109
    ظلموا منكم خاصة واعلموا أنّ الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيّبات لعلّكم تشكرون * يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )(1).

    ففي تفسير ابن كثير عن السدّي: نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا(2).

    وفي هذه الآيات إشارة واضحة إلى أنّ المسلمين البدريّين سيفتنون بفتنة تصيب الجميع، وأنّهم سيمتحنون بها وفيهم الظالمون، وأنّ من يخون الله ورسوله والأمانات المأخوذة عليه فإنّ الله شديد العقاب..

    وهذه الآيات الكريمة صريحة ـ كذلك ـ في تقسيم وتمييز مَن صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدر وفي أوائل الهجرة إلى المدينة، وأنّهم يفتنون، ويكون بعضهم ظالماً، ويخون الله ورسوله والأمانات المأخوذة عليه.

    ____________

    1- سورة الأنفال 8: 24 ـ 27.

    2- تفسير ابن كثير 2 / 286.