حال المسلمين في أُحـد
قال تعالى في سورة آل عمران: ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تَحُسّونهم بإذنه حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين * إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أُخراكم فأثابكم غمّاً بغمّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون * ثمّ أنزل عليكم من بعد الغمّ أَمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمّتهم أنفسُهم يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إنّ الأمر كلّه لله يخفون في أنفسهم ما لا يُبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتليَ الله ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم والله عليم بذات
وقال تعالى: ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطيّب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء فآمِنوا بالله ورسله وإنْ تؤمنوا وتتّقوا فلكم أجر عظيم )(2).
وقال تعالى: ( وما محمّـد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين )(3).
فهذه الآيات ترسم لنا وتقسّم من كان في ركب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنّ بعضهم كان يريد الدنيا وبعضهم الآخر يريد الآخرة، وأنّه وقع من كثير من المسلمين فرار بعدما شاهدوا النصر باستزلال الشيطان لهم بسبب بعض الأعمال السيّئة السابقة، وأنّ طائفة منهم يظنّون بالله ظنّ الجاهلية ويخفون ذلك في قلوبهم، وأنّ من صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في القتال منهم الطيّب ومنهم الخبيث، وأنّ وقعة أُحد كانت للتمييز بينهما.
وهذا خلاف رأي من يدّعي التعميم والمساواة في مَن صحب ولازم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنّ التمييز وقع في مَن كان من المسلمين أُحُديّ!
ومن ذلك يتبيّن أنّ التوصيف بكون الشخص بدرياً أو أُحدياً إنّما يكون منقبة إذا كان من الفئة المؤمنة، لا ما إذا كان من الفئات الأُخرى،
____________
1- سورة آل عمران 3: 152 ـ 155.
2- سورة آل عمران 3: 179.
3- سورة آل عمران 3: 144.
ثمّ إنّ السورة تحذّر ـ أيضاً ـ من وقوع انقلاب من المسلمين على الأعقاب برحيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي كتب السير أنّ جماعة من المسلمين لمّا شاهدوا الهزيمة وظنّوا أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قُتل، لاذوا بالفرار وصعدوا الجبل، واجتمعوا حول صخرة ـ عرفوا بعد ذلك بجماعة الصخرة ـ وقالوا: إنّا على دين الآباء(1) ; كي يكون ذلك شافعاً لهم عند قريش، وفي ما سُطر في السير ما يلوح أنّهم ممّن يُعدّون من أعيان القوم ووجوههم.
والمتأمّل للسور الحاكية للغزوات ـ كما تقدّم في سورة الأحزاب عن غزوة الخندق، وسورة التوبة عن غزوة تبوك وحنين وغيرهما ـ يجدها ناطقة بلسان التمييز والتقسيم والتصنيف لمن صحب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وشارك في القتال، وأنّ هناك الفئة الصالحة الثابتة المؤمنة، وهناك الطالحة وأصناف أهل النفاق ومحترفيه الّذين في قلوبهم مرض.
أمّا الآية السابعة:
فهي قوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أُمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )(2)..
وقوله تعالى: ( كنتم خير أُمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )(3)..
____________
1- انظر مثلا: السيرة الحلبية 2 / 504، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ 3 / 44.
2- سورة البقرة 2: 143.
3- سورة آل عمران 3: 110.
وهذه الآيات ـ وما هو من قبيلها ـ يُستدلّ بها عندهم على حجّيّة إجماع الأُمّة، أو حجّيّة إجماع الصحابة، بتقريب أنّهم أوّل المصاديق لهذا العنوان، ونحو ذلك، وللوصول إلى المعنى ومفاده في حدود ظهور ألفاظ الآيات لا بُـدّ من الالتفات إلى النقاط التالية:
الأُولى: إنّ الآية الثانية المذكورة آنفاً قد ورد عن أهل البيـت (عليهم السلام)أنّ أحد وجوه قراءتها أنّها بلفظ (أئمّة)(2) ـ جمع إمام ـ لا (أُمّة) ; ويعضد هذه القراءة النقاط اللاحقة.
الثانية: إنّ لفظة (أُمّة) هي من الألفاظ التي تستعمل في الجماعة كما تستعمل في المجموع، بل تستعمل في الفرد، كقوله تعالى: ( إنّ إبراهيم كان أُمّة قانتاً لله حنيفاً )(3)..
وكقوله تعالى: ( ربّنا واجعلنا مسلمَين لك ومن ذرّيّتنا أُمّة مسلمة لـك )(4)..
وكقوله تعالى: ( منهم أُمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون )(5)..
____________
1- سورة النساء 4: 115.
2- انظر: تفسير القمّي 1 / 118، تفسير العيّاشي 1 / 219 ح 129، تفسير الصافي 1 / 370 ـ 371 ح 110.
3- سورة النحل 16: 120.
4- سورة البقرة 2: 128.
5- سورة المائدة 5: 66.
وكقوله تعالى: ( وإذ قالت أُمّة منهم لِمَ تعظون... )(2)..
وكقوله تعالى: ( وممّن خلقنا أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعـدلون )(3)..
وكقوله تعالى: ( ولمّا ورد ماء مَدين وجد عليه أُمّة من الناس يسـقون )(4)..
والذي يظهر أنّ المعنى المستعمل فيه للّفظة ها هنا هو بمعنى الجماعة لا المجموع، وهو أنّ هذه الأُمّة الوسط تكون شاهدة على جميع الناس، والرسول شاهد عليها.
ومن البيّن أنّ هذا المقام لا يتشرّف به مجموع الأُمّة أو جميع أهل القِبلة من الموحّدين، فهل يجوز أن تقبل شهادة من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر أو على صرّة من بقل، فيطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!! كما أشار إلى ذلك الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام)(5)..
لا ريب أنّ الله لم يعنِ مثل هذا، بل المراد جماعة خاصة لهم هذا المقام والشأن، وهم الّذين قال تعالى عنهم: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسولُه والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم
____________
1- سورة الأعراف 7: 159.
2- سورة الأعراف 7: 164.
3- سورة الأعراف 7: 181.
4- سورة القصص 28: 23.
5- انظر الهامش رقم 2 من الصفحة السابقة.
كما إنّ الآية السابقة ـ للآية الثانية المذكورة من سورة آل عمران ـ وهي قوله تعالى: ( ولتكن منكم أُمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأُولئك هم المفلحون )(2)، فهذه الأُمّة الداعية إلى الخير، والآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر، على صعيد الحكم والإمامة هي جزء من مجموع المسلمين، لا كلّ المجموع..
كما إنّ لفظة ( أُخرجتْ للناس ) تعطي مفهوم خروجها من الأصلاب، وفيه إشارة إلى دعوة إبراهيم (عليه السلام) حين قال: ( ربّنا واجعلنا مسلمَين لك ومن ذرّيّتنا أُمّة مسلمة لك )(3) وذلك بعدما حكى الله عنه ما قاله في قوله تعالى: ( وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين )(4)..
وكما قال تعالى: ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنّني بَراء ممّا تعبدون * إلاّ الذي فطرني فإنّه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلّهم يرجعون )(5) أي جعل التوحيد والعصمة من الشرك كلمة باقية في عقب إبراهيم من نسل إسماعيل، فكان تقلّب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأصلاب
____________
1- سورة التوبة 9: 105.
2- سورة آل عمران 3: 104.
3- سورة البقرة 2: 128.
4- سورة البقرة 2: 124.
5- سورة الزخرف 43: 26 ـ 28.
فمن ذلك كلّه يتبيّن أنّ الأُمّة المقصودة من الآيتين هي ثلّة من مجموع المسلمين لهم تلك المواصفات الخاصة التي تؤهّلهم إلى ذلك المقام.
وكيف يتوهّم أنّ مجموع من أسلم بالشهادتين هو المراد؟! والحال أنّ سورة آل عمران ـ كما قدّمنا ـ تصنّف من شهد معركة أُحد ـ فضلا عن غيرهم ـ إلى فئات صالحة وطالحة، وكذا ما في بقية السور التي استعرضناها، وغيرها، إذ إنّ فيها الذمّ والوعيد الشديد لألوان من الفئات الطالحة ممّن أظهرت الإسلام على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأمّا الآية الثالثة المذكورة، فهي تجعل الميزان طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعـدم مشـاقـقـته، وعـدم الـردّ عليه، كما في قوله تعـالى: ( فلا وربّـك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً )(2)..
والحال أنّ بعض وجوه من صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ردّ على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره، بأنّه غلبه الوجع، أو: إنّه ـ والعياذ بالله ـ يهجر ; وذلك عندما طلب الدواة والكتف من أجل كتابة كتاب لئلاّ تضلّ أُمّته من بعده لو تمسّكت به، والله تعالى يقول: ( ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى * علّمه شديد القوى )(3)،
____________
1- سورة الشعراء 26: 218 و 219.
2- سورة النساء 4: 65.
3- سورة النجم 53: 2 ـ 5.
وذلك على عكس ما حدث عند موت أبي بكر، فإنّ أبا بكر أراد عند موته أن يوصي، فذكر بعض الكلمات فأُغمي عليه، فأضاف عثمان اسم عمر كخليفة لأبي بكر، ولمّا أفاق أبو بكر أمضى ما كتبه عثمان! فتثبيت اسم عمر لم يعدّوه هجراً من مثل أبي بكر!!
كما إنّهم أخذوا بكلام عمر ـ وهو في مرض موته ـ في تسمية أعضاء الشورى!!
أليس ذلك ردّاً ومعصية وشقاقاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبيناً )(2)، وقال: ( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتّـقه فأُولـئك هم الفائزون )(3).
وكذا تخلّفهم عن جيش أُسامة، وكذا في صلح الحديبية، وغيرها من الموارد.
ثمّ إنّ الآية تقيّد بقيد آخر وهو اتّباع سبيل المؤمنين، وقد بيّنت سورة الأنفال أنّ في البدريّين ومن شهد مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الغزوة الأُولى فئات ثلاث، هي: فئة مؤمنة، وفئة منافقة، وفئة الّذين في قلوبهم مرض، وهم محترفو النفاق! فلاحظ ما تقدّم.
وكذا بيّنت سورة آل عمران أنّ من شهد معركة أُحد لم يكونوا
____________
1- سورة النساء 4: 105.
2- سورة الأحزاب 33: 36.
3- سورة النور 24: 52.
كما بيّنت ذلك غيرهما من السور المتعرّضة لبقية الحروب والغزوات كما قـدّمنا الإشارة إلى ذلك.
فالفئـة المؤمنـة المخاطبـة في الموارد العـديدة ـ بوصـف " الهجـرة " و " النصرة " كمنقبتين، وبوصف " الهداية "، وغيرها من الفضائل ـ، هذه الفئة هي فئة معيّنة خاصة، لا عامة لكلّ من أسلم في الظاهر وكان في ركب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحرب أو السلم..
ويشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة التحريم: ( وإذ أسرّ النبيّ إلى بعض أزواجه حديثاً فلمّا نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلمّا نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير * إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيّبات وأبكاراً )(1)..
ثمّ قال تعالى في ذيل السورة: ( يا أيّها النبيّ جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّم وبئس المصير * ضرب الله مثلا للّذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلا للّذين آمنوا امرأة فرعون... القوم
____________
1- سورة التحريم 66: 3 ـ 5.
فالمقارنة التي تذكرها هذه السورة بين اثنتين من أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّهما كانتا في معرض التظاهر على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وظاهر لحن السورة أنّ الأمر خطير استدعى هذا التهديد بالقوّة الإلهية وخصوص صالح المؤمنيـن لا كلّ المؤمنين، فضلا عن كلّ المسلمين، وعن كلّ من أسلم في الظاهر..
فما هو سبب تخصيص صالح المؤمنين بمناصرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مثل هذه المواجهة، وكأنّها كالحرب المعلنة التي نزل ـ في هذه السورة ـ الأمر الإلهي بها على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بمجاهدة المنافقين كما يجاهد الكفّار سواء، وكذا الأمر بالغلظة عليهم؟!
وما هو سبب ذِكر صفات مَن سيبدله الله بهما وتحلاّن محلّهما، وأنّهنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ; والتبديل تعويض عن مفقود؟!
وعلى كلّ تقدير، فإنّ هذا التهديد بالاستنفار في الآية، الذي هو كاستنفار الحرب والقتال، لا ينسجم مع تفسير مورد نزول الآية بأنّه بسبب إفشاء لخبر عادي، بل مقتضى هذه الشدّة في الوعيد أنّ الخبر بمنزلة من الخطورة إلى درجة أنّه يهدّد وجودَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)!
ثمّ إنّ ذيل السورة قد أفصح فيه أنّ الزوجية للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومقام الأُمومة للمؤمنين، لا يغني عنهما من الله شيئاً إذا لزمتا معصية وخيانة الرسـول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائـتمار عليه، كما هو الحال في امرأتَي النبيّـين نوح ولوط (عليهما السلام)، وأنّ المدار في الفضيلة هو على التصديق والإيمان والعمل
____________
1- سورة التحريم 66: 9 ـ 11.
ويتطابق هذا المفاد مع ما في سورة الأحزاب من مضاعفة العذاب ضعفين على المعصية، وإنْ أطعن الله ورسوله فلهنّ الأجر مرّتين، وقد نزل القرآن بالأمر بالقرار في البيوت، وعدم التبرّج، وبإطاعة الله ورسوله.
علماً أنّ الزوجية هي شدّة من الصحبة، ومع ذلك فالمدار عند الله تعالى بحسب هذه السورة وبقية السور هو على الإيمان والعمل الصالح وطاعة الله تعالى وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ هذه الصحبة لا تغني عنهما من الله شيئاً!
فمن كلّ ذلك يتبيّن أنّ سبيل المؤمنين وصالحهم ليس هو مجموع الأُمّة، بل هو الفئة المؤمنة حقّـاً وواقعاً.
وهؤلاء القائلون بعدالة الصحابة ـ بالمعنى الذي تقدّم شرحه، فإنّه يضاهي الإمامة في الدين، والعصمة والحجّيّة بذلك المعنى، في الدائرة الضيّقة من جماعة السقيفة، وبالخصوص في الأوّل والثاني ـ هم في الوقت نفسه يلتزمون بعدم عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المطلقة، فيجوّزون وقوع الخطأ منه ـ والعياذ بالله ـ!
ففي الوقت الذي يرفعون من مقام الأوّلَين، فهم يحطّون من مقام النبوّة، فتراهم يقولون باجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي قوله بالظنّ، وأنّه قد يصيب وقد يخطئ!
كما إنّهم يلتزمون بمسألة أُخرى، وهي جواز اجتهاد الصحابة في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، في الحضور أو الغياب!
نعم، قد رفض هذا القول بعض منهم، كأبي علي الجبّائي وابنه
وعن ابن حزم الأندلسي في كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل، أنّ الأنبياء (عليهم السلام) غير معصومين من الخطأ، قال تعالى: ( وعصى آدمُ ربَّه فغوى )(3) وقوله: ( فتاب عليه وهدى )(4) وأنّ التوبة لا تكون إلاّ من ذنب، وهـذا وقع منـه عن قـصد إلى خـلاف ما أُمر به، متـأوّلا في ذلك ولا يدري أنّه عاص، بل كان ظانّاً أنّ الأمر للندب مثلا أو النهي لكراهة.
وقال الله لنبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم): ( فاصبر لحكم ربّك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنُبذ بالعراء وهو مذموم )(5) أنّه غاضَبَ قومه ولم يوافق ذلك مراد الله، فعوقب بذلك، وإنْ كان ظانّاً أنّ هذا ليس عليه فيه شيء، وهذا هو ما أراده الله من نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نُهي عن مغاضبة قومه، وأُمر بالصبر على أذاهم، وأمّا إخبار الله بأنّه استحقّ الذمّ والملامة لولا النعمة التي تداركه بها للبث معاقَباً في بطن الحوت(6).
وذهب القاضي عياض في الشفا إلى جواز اجتهاد الأنبياء في الأُمور الدنيويّة فقط، مستدلاًّ بحديث تأبير النخل(7).
____________
1- سورة النجم 53: 3.
2- فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت ـ المطبوع بذيل المستصفى 2 / 375.
3- سورة طه 20: 121.
4- سورة طه 20: 122.
5- سورة القلم 68: 48 و 49.
6- انظر: الفصل 2 / 284 ـ 287 و 303 ـ 304.
7- الشفا 2 / 136 ـ 137.
وقال ابن تيميّة في غير ما يتعلّق بالتبليغ: إنّ الأنبياء كانوا دائماً يبادرون بالتوبة والاستغفار عند الهفوة، والقرآن شاهد عدل، فهو لم يذكر شيئاً من ذلك عن نبيّ من الأنبياء إلاّ مقروناً بالتوبة والاستغفار(2).
وقال الغزّالي في المستصفى: " المختار جواز تعبّده بذلك، لأنّه ليس بمحال في ذاته، ولا يفضي إلى محال ومفسدة.
فإنْ قيل: المانع منه أنّه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح، فكيف يرجم بالظنّ؟!
قلنا: فإذا استكشف فقيل له: حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبّد به، فهل له أن ينازع الله فيه، أو يلزمه أن يعتقد أنّ صلاحه في ما تعبّد بـه؟!
فإنْ قيل: قوله نصّ قاطع يضادّ الظنّ، والظنّ يتطرّق إليه احتمال الخطأ، فهما متضادّان.
قلنا: إذا قيل له: ظنّك علامة الحكم، فهو يستيقن الظنّ والحكم جميعاً فلا يحتمل الخطأ، وكذلك اجتهاد غيره عندنا، ويكون كظنّه صدق الشهود، فإنّه يكون مصيباً وإنْ كان الشاهد مزوّراً في الباطن.
فإنْ قيل: فإنْ ساواه غيره في كونه مصيباً بكلّ حال فليجز لغيره أن
____________
1- راجع تيسير التحرير ـ شرح محمّـد أمين الحنفي على كتاب التحرير ـ 4 / 185.
2- انظر: منهاج السُـنّة 2 / 396 ـ 403.
قلنا: لو تعبّد بذلك لجاز، ولكن دلّ الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده، كما دلّ على تحريم مخالفة الأُمّة كافّة، وكما دلّ على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم ; لأنّ صلاح الخلق في اتّباع رأي الإمام والحاكم وكافّة الأُمّة، فكذلك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ذهب إلى أنّ المصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوماً عن الخطأ دون غيره.
ومنهم من جوّز عليه الخطأ ولكن لا يقرّ عليه..
فإنّ قيل: كيف يجوز ورود التعبّد بمخالفة اجتهاده، وذلك يناقض الاتّباع، وينفّر عن الانقياد؟!
قلنا: إذا عرّفهم على لسانه بأنّ حكمهم اتّباع ظنّهم وإن خالف ظنّ النبيّ، كان اتّباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود، فإنّه لو قضى النبيّ بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما، فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما.
وأمّا التنفير، فلا يحصل، بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا.
فإنّ قيل: لو قاس فرعاً على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا؟ إنْ قلتم: لا ; فمحال ; لأنّه صار منصوصاً عليه من جهته.. وإن قلتم: نعم ; فكيف يجوز القياس على الفرع؟!
قلنا: يجوز القياس عليه وعلى كلّ فرع أجمعت الأُمّة على إلحاقه بأصل ; لأنّه صار أصلا بالإجماع والنصّ "(1).
____________
1- المستصفى 2 / 355 ـ 356 القطب الرابع، الفن الأوّل في الاجتهاد.
الأوّل: مساواة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لغيره من رعيّته في تجويز الاجتهاد، وتجويز مخالفة غيره له في الاجتهاد.
الثاني: إنّ الإجماع وإطباق كافّة الأُمّة هو الحجّة الأصل عندهم لأقوال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع إنّ حجّيّة الإجماع لديهم مستقاة من الحديث النبوي.
الثالث: تسويتهم بين الموضوعات والأحكام الكلّـيّة، وبين الموضوع في الأُمور العامّة والموضوع في الأمر الخاصّ بأحد المكلّفين، مع إنّ الموازين المتّبعة في كلّ شقّ مختلفة عنها في الشقّ الآخر كما هو محرّر في أُصول الفقه.
وقال الغزّالي في مسألة جواز الاجتهاد في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " المختار أنّ ذلك جائز في حضرته وغيبته، وأن يدلّ عليه بالإذن أو السكوت ; لأنّه ليس في التعبّد به استحالة في ذاته، ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة، وإنْ أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفاً يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبّدهم بالاجتهاد ; لعلمه بأنّه لو نصّ لهم على قاطع لبغوا وعصـوا.
فإنْ قيل: الاجتهاد مع النصّ محال، وتعرّف الحكم بالنصّ بالوحي الصريح ممكن، فكيف يردّهم إلى ورطة الظنّ؟!
قلنا: فإذا قال لهم: أُوحي إليّ أنّ حكم الله تعالى عليكم ما أدّى إليه اجتهادكم وقد تعبّدكم بالاجتهاد، فهذا نصّ، وقولهم: (الاجتهاد مع النصّ محال) مسلّم، ولكن لم ينزل نصّ في الواقعة، وإمكان النصّ لا يضادّ
كيف؟! وقد تعبّد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقضاء بقول الشهود حتّى قال: إنّكم لتختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ; وكان يمكن نزول الوحي بالحقّ الصريح في كلّ واقعة حتّى لا يحتاج إلى رجم بالظنّ وخوف الخطأ "(1).
ويتلخّص من كلامه:
الأوّل: جواز التقدّم بين يدي الله ورسوله في الحكم.
الثاني: أنّ بغي الناس وطغيانهم على حكم الله تعالى يسوّغ الاجتهاد من أنفسهم دون الرجوع إلى الله ورسوله، وهو نمط من تفويض التشريع للأهواء ( ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ )(2) ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم )(3)( ولئن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذاً لمن الظالمين )(4) ( أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زيّن له سوء عمله واتّبعوا أهواءهم )(5) ( وإنّ كثيراً ليضلّون بأهوائهم بغير علم )(6).
الثالث: خلطه بين الموضوعات والأحكام الكلّـيّة وبين الموضوع في الأُمور العامّة والموضوع في الأمر الخاصّ بأحد المكلّفين ـ كما تقدّم ـ.
ونجم عن هذا الالتزام عندهم ما ذكره صاحب المنار ـ في معرض
____________
1- المستصفى 2 / 354 ـ 355.
2- سورة المؤمنون 23: 71.
3- سورة المائدة 5: 49.
4- سورة البقرة 2: 145.
5- سورة محمّـد 47: 14.
6- سورة الأنعام 6: 119.
وقد أورد ابن القيّم في أعلام الموقّعين شواهد كثيرة جدّاً من ردّ الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملا بالقياس أو لغير ذلك، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستّين شاهداً "(1).
ومع ذلك كلّه فمن الغريب جمع الغزّالي بين ذلك وبين رأيه في الصحابة، قال في المستصفى: " الأصل الثاني من الأُصول الموهومة: قول الصحابي، وقد ذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابي حجّة مطلقاً، وقوم إلى أنّه حجّة إنْ خالف القياس، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول أبي بكر وعمر خاصّة، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اقتدوا باللذين من بعدي)، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتّفقوا..
والكلّ باطل عندنا ; فإنّ من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه، فلا حجّة في قوله، فكيف يحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟!
____________
1- انظر: أعلام الموقّعين 2 / 294 ـ 424.
كيف؟! وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتّبع اجتهاد نفسه، فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه، ثلاثة أدلّة قاطعة "(1)..
ثمّ ذكر أدلّة بقية الأقوال وأخذ في ردّها، وتتلخّص ردوده عليها في النقاط التالية:
الأُولى: إنّ ما يروى عندهم من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم "، هو خطاب مع عوامّ ذلك العصر، لتعريف درجة الفتوى للصحابة، إذ الصحابي خارج عن الخطاب فله أن يخالف الآخر.
الثانية: إنّ اتّباع كلّ واحد من الخلفاء الراشدين محال مع اختلافهم في المسائل.
الثالثة: إنّ الاقتداء بأبي بكر وعمر واتّباعهما هو إيجاب للتقليد في الفتوى، مع إنّه معارض بتجويزهما مخالفة الآخرين لهما، ولو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيّهما يتّبع؟!
الرابعة: إنّ مذهب عبـد الرحمن بن عوف معارَض بمذهب الإمام عليّ (عليه السلام)، حين أبى اشتراط عبـد الرحمن الخلافة بشرط الاقتداء بالشـيخين.
الخامسة: إنّ قول الصحابي ليس بحجّة، وإنّما الحجّة الخبر إلاّ أنّ
____________
1- المستصفى 1 / 260 ـ 262.