السـادسة: إنّ جميـع ما يذكر لحجّـيّة قول الصحـابي أخبـار آحـاد لا تقاوم الحجج القطعية الأُخرى.
السابعة: إنّ (جعل) قول الصحابي حجّة كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وخبره (إثبات) أصل من أُصول الأحكام ومداركه، فلا يثبت إلاّ بقاطع كسائر الأُصول.
الثامنة: حكى عن الشافعي في الجديد: أنّه لا يقلّد العالم صحابياً كما لا يقلّد عالماً آخر.. ونقل المزني عنه ذلك، وأنّ العمل هو على الأدلّة التي بها يجوز للصحابة الفتوى ; ثمّ قال: " وهو الصحيح المختار عندنا، إذ كلّ ما دلّ على تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب الاجتهاد لا يفرّق فيه بين الصحابي وغيره "(1)، وذكر أنّ ما ورد من الثناء عليهم لا يوجب تقليدهم، لا جوازاً ولا وجوباً، وإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثنى أيضاً على آحاد الصحابة كأبي بكر وعمر وعليّ وزيد ومعاذ بن جبل وابن أُمّ عبـد، مع إنّهم لا يتميّزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه.
التاسعة: حكى عن القاضي أنّه لا يرجّح أحد الدليلين المتعارضين بقول الصحابي ; لأنّه لا ترجيح إلاّ بقوّة الدليل، ولا يقوى الدليل بمصير
____________
1- المستصفى 2 / 458 ـ 459.
هذا، فإذا كان مدار الحجّيّة المطلقة ـ عند الغزّالي وجماعة منهم معروفين ـ في قول شخص ما، هو عصمته عن الغلط والسهو وعدم الخطأ، وعدم جواز مخالفته، فكيف يصوّرون حجّيّة قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)المطلقة ولزوم طاعته، ويجوّزون عليه الخطأ والاجتهاد الظنّي، بل ومخالفة غيره له في الاجتهاد؟!..
في حين ينكر الغزّالي على القائلين بحجّيّة قول عمر وأبي بكر وبقية الصحـابة بتمسّـكهم بأخبار آحـاد لا تـثبت أصلا من أُصـول الأحكام التي لا بُـدّ فيها من القطع، تراه يرفع يده عن قطعيات الآيات في لزوم متابعة النبيّ وعدم الخلاف عليه وعصمته، بأخبار آحاد في تأبير النخل والمخالفة في الشفاعة ونحوها، مع إنّ لها وجه من التأويل يتلاءم مع العصمة من الخطأ، فما هذا إلاّ تدافع، وأقوال ينقض أوّلها آخرها!
ثمّ أليس كما قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في صحيفته في وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "... فرضت علينا تعزيره وتوقيره ومهابته، وأمرتنا أن لا نرفع الأصوات على صوته، وأن تكون كلّها مخفوضة دون هيبته، فلا يجهر بها عليه عند مناجاته، ونلقاه عند محاورته، ونكفّ من غرب الألسن لدى مسألته، إعظاماً منك لحرمة نبوّته، وإجلالا لقدر رسالته، وتمكيناً في أثناء الصدور لمحبّته، وتوكيداً بين
____________
1- المستصفى 2 / 465.
وهو يشير إلى المناصب الإلهية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي جعلها الله تعالى له، فقد قال تعالى: ( ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إنْ هو إلاّ وحي يوحى )(2)، وقال تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتّقوا الله إنّ الله سميع عليم )(3).
والغريب ولا تنقضي غرابته أنّهم يجعلون فضيلة لبعض الصحابة بالتقدّم على الله ورسوله في الحكم في موارد، ويدّعون حالات لنزول آيات أُخرى في تلك الموارد موافـقة من الوحـي لرأي ذلك الصحابي، وكأنّهم لا يصغون إلى هذه الآية الصريحة، ويتأوّلون تلك الآيات بما يدافع ظهورها.
وقال تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إنّ الّذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أُولئك الّذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم )(4).
وقال تعالى: ( قل أتعلّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكلّ شيء عليم )(5).
وقال تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن
____________
1- الصحيفة السـجّادية: الدعاء العاشر ـ ط. مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام).
2- سورة النجم 53: 2 ـ 4.
3- سورة الحجرات 49: 1.
4- سورة الحجرات 49: 2 و 3.
5- سورة الحجرات 49: 16.
أليست هذه الآية في الموضوعات الخارجيّة والأُمور العامّة في تدبير الحكم، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لو يتابع من أسلم معه لوقعوا في المشقّة والحرج العظيم، ولكنّ الله حبّب إليهم طاعة الرسول ومتابعته وهو الإيمان، وكرّه إليهم مخالفة الرسول التي هي كفر وفسوق وعصيان، والرشاد إنّما يصيبه المؤمنون بمتابعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا هو الفضل والنعمة من الله، وكلّ هذا عن علم وحكمة منه تعالى.
فمع كلّ ذلك كيف يكون الرشاد في مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا * ألم تر إلى الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالا بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدوداً * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدّمت أيديهم ثمّ جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلاّ إحساناً وتوفيقاً * أُولئك الّذين يعلمُ الله ما في قلوبهم فأعرِض عنهم وعِظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً * وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله ولو أنّهم
____________
1- سورة الحجرات 49: 6 ـ 8.
وفي هذه الآيات عدّة أحكام:
الأوّل: لزوم ردّ كلّ شيء يختلف فيه إلى الله وإلى الرسول، وأنّ ذلك مقتضى الإيمان بالله وبالمعاد، فكيف يرجع إلى الظنون مقدَّمة على الرجوع والردّ إلى الله وإلى رسوله؟!
الثاني: إنّ الاحتكام في الأُمور إلى غير ما أنزل الله على رسوله تحاكم إلى الطاغوت وضلال ونفاق وظلم للنفس.
الثالث: إنّ غاية رسالة الرسول هو طاعة أُمّته له بإذن الله، لا خلافهم عليه.
الرابع: إنّ الإيمان مشروط بتحكيم الرسول في ما يُختلف فيه، وطاعة الرسول في ما يحكم به، مع عدم التحرّج ممّا حكم به الرسول، ومع التسليم القلبي التامّ لذلك.
وقال تعالى: ( ومنهم الّذين يؤذون النبيّ ويقولون هو أُذُن قل أُذُن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للّذين آمنوا منكم والّذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم )(2)..
وقال تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم
____________
1- سورة النساء 4: 59 ـ 65.
2- سورة التوبة 9: 61.
وقال تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتّقوا الله إنّ الله شديد العقاب )(2)..
وقال تعالى: ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله )(3)..
إلى غير ذلك من آيات الله العزيز، فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموا النبيّ في ما اختلفوا فيه، ولا يجـدوا تحرّجاً في نفوسهم من حكمه وقضائه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسلّموا تسليماً لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم يتذرّعون بموارد من الآيات التي ظاهرها العتاب في الخطاب الإلهي للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقضي بالبيّنات والأيمان، وهي قد تخطئ الواقع، أو بأخبار آحاد في تأبير النخل ونحوه في قبال الدليل القطعي.
مع إنّ لتلك الآيات الظاهرة في العتاب، في المنسبق من دلالتها بدواً، وجوهاً من المعنى، ذهلوا عنه!
الأوّل: إن مقتضى قوله تعالى: ( فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنّه بما تعملون بصير )(4) أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطب بفعل أُمّته كما يخاطب الوليّ بفعل المولى عليه، وكما يخاطب المربّي بفعل من هو تحت قيمومته وتربيته، والرئيس يخاطب بفعل مرؤوسه، والإمام بفعل مأمومه، إذ إنّ صلاح الرعية من مسؤولية الراعي، ومن ثمّ يسند فعلهم إلى فعله وإنْ كان الفعل صادر حقيقة منهم لا منه.
____________
1- سورة التوبة 9: 128.
2- سورة الحشر 59: 7.
3- سورة آل عمران 3: 31.
4- سورة هود 11: 112.
ومن هذا الباب أكثر ما يخاطَب به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعاتَب في لحن الخطاب، فإنّه بالتتبّع في تلك الموارد والتدبّر مليّاً يظهر أنّ الفعل الذي كان مورد الخطاب هو من فعل المسلمين خوطب به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى هذا يشير قول الإمام الصادق (عليه السلام): " إنّ القرآن نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة "(2)..
كما هو الحال في أُسارى بدر، فإنّ اللازم كان على المسلمين هو الإثخان في القتل ما دامت المعركة محتدمة، وعدم استبقاء المشركين أحياء ما دامت الحرب لم تضع أوزارها، فكان في أخذهم الأُسارى أثناء المعركة خلاف الحكم والإرادة الإلهيّة..
وكما هو الحال في مساءلة الله تعالى النبيّ عيسى (عليه السلام): ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأُمّي إلهَين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول... وكنتُ عليهِم شهيداً ما دمتُ فيهم )(3).
____________
1- نهج البلاغة: الخطبة 214.
2- الكافي 2 / 461 ح 14 باب النوادر.
3- سورة المائدة 5: 116 ـ 117.
ومن هذا الباب ما يشاهد من خطابِ عتاب مع الأنبياء في القرآن، فإنّها ليست أخطاء ومعاص في الشرع وحكم العقل، وإنّما هي من باب ترك الأَوْلى في منطق القرب والزلفى ومقام المحبّين.
الثالث: إنّ خطأ الميزان الظاهر المجعول في باب القضاء، أو في باب الإمارة وتدبير الحكم، ونحوهما ممّا يكون في الموضوعات الخارجيّة، ليس من خطأ المعصوم، كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه موظّف في مصالح التشريع بالعمل بهذا الميزان في تلك الموضوعات الجزئية، ممّا يتدارك خطأ الميزان الشرعي الظاهري بالمصالح الأُخرى ; وأين هذا من الأحكام الكلّـيّة ومعرفة الشريعة؟!
وإذا فُرض جهل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بها ـ والعياذ بالله تعالى ـ، وتحرّيه لها بالاجتهاد الظنّي، فأين الطريق إليها المأمون عن الخطأ؟! وما هو ميزان الصحّة من الخطأ إذا كان الطريق مسدوداً إلى الأبد، إذ لا فاتح لِما انسدّ على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من أبواب العلم؟!
وهذا بخلاف باب الموضوعات الجزئية، فإنّ طريق العلم بها مفتوح
الرابع: إنّهم خلطوا بين السؤال الممدوح عن الأحكام ومعارف الدين كما في قوله تعالى: ( فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين )(1) وقال: ( فاسألوا أهل الذِكر إنْ كنتم لا تعلمون )(2)، وبين السؤال المذموم عن الأحكام والشريعة، قال الله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إنْ تُبد لكم تسؤكم وإنْ تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم عفا الله عنها )(3) وقال: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبل )(4)..
فإنّ الفرق بين السؤالين هو الفرق بين الاجتهادين اللذين عند الشيعة وعند أهل السُـنّة، فإنّ الأوّل مخصوص باستكشاف الحكم الشرعي الثابت واقعاً، وتطبيقه على الموارد والدرجات المختلفة، بموازين منضبطة دقيقة، والثاني يشمل ذلك ويعمّ إنشاء أحكام جديدة تتميماً لِما يدّعى من نقص الشريعة! نظير تتميم القوانين الدستورية بالتبصرة القانونية في القوانين الوضعية.
فالاجتهاد الأوّل هو تمسّك بالعموم المشرّع الوارد، والسؤال الممدوح هذا مورده، وهو فهم ما ورد، ومعرفة العمومات والأدلّة المشرّعة.
والاجتهاد الثاني هو الاجتهاد الابتداعي، والسؤال المذموم منطقته هو
____________
1- سورة التوبة 9: 122.
2- سورة النحل 16: 43، وسورة الأنبياء 21: 7.
3- سورة المائدة 5: 101.
4- سورة البقرة 2: 108.
والمنطقة الأُولى هي كانت سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتسليم والاتّباع لربّه، والمنطقة الثانية لم يكن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يتكلّفها كما في قوله تعالى: ( وما أنا من المتكلّفين )(1)، فالمنطقة الثانية والنمط الثاني كان ديدن اليهود، والنمط الأوّل هو ديدن الأنبياء بالوحي القطعي والرسالة والملّة الحنيفية الإبراهيمية.
فتلخّص أنّهم فرّطوا في عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وغالوا في عدالة الصحابة إلى العصمة والتفويض في التشريع.
____________
1- سورة ص 38: 86.
الوجـه التاريخي:
ثـمّ إنّه بقـي وجـه آخـر أو أخير يتمسّـك به القـائل بعدالة الصحابة، ـ بالترديد المتقدّم في معنى العدالة وفي دائرة الصحابة المرادة لذلك القائل ـ وهو: إنّ الصحابة هم الّذين قاموا بفتوحات الإسلام ونشر الدين في أرجاء المعمورة، وهذا بعدما عانوا ما عانوا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغزوات الأُولى..
وهذا الوجه ـ مع غضّ النظر عن التحليل الآتي فيه، وعن الخوض في حقيقته ـ ما هو المقدار اللازم منه في الحجّيّة المبحوث عنها في عدالة الصحابة ; فقد تقدّم أنّ صدور العمل الصالح أو الحسن من شخص ـ بعد افتراض ذلك ـ لا يلازم عدالته واستقامته في كلّ أفعاله الأُخرى، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين.
ففي كثير من الغزوات التي قام بها المسلمون في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ارتكب مَن صحبه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها أعمالا تعدّ في الشرع من الخطايا الكبيرة
قوله تعالى: ( ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسّـكم فيما أخذتم عذاب عظيم )(1).
والآية تبيّن أنّ الواجب على المسلمين الإثخان في قتل المشركين، وعدم أخذ الأسرى والحرب قائمة قبل أنّ ينهدّ صفّ المشركين ويستولي عليهم الرعب.
وقد وصفت الآية أنّ العقوبة لولا عفو الله تعالى لكانت عذاب، ووصـفته بالعظـيم، وظاهر الآية وبمقتضـى الإثخان هو: كون الواجب القتل لا الأسر أثناء قيام الحرب مع المشركين وقبل انتهائها بتقويض معسكرهم، لا ما يقال: إنّ الآية ناظرة إلى حكم الأسرى بعد انتهاء الواقعة، وإنّ الواجب هو قتلهم لا مفاداتهم ; لأنّه يخالف الآيات اللاحقة: ( يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلَمِ اللهُ في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممّا أُخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكنَ منهم والله عليم حكيم )(2)، الدالّة على أنّ القتل المطلوب هو أثناء الحرب لا بعد أنّ تضع الحرب أوزارها.
وكلّ هذا في غزوة " بدر "، وكذلك الحال في غزوة " حنين "، قال تعالى: ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحُبَت ثمّ
____________
1- سورة الأنفال 8: 67 و 68.
2- سورة الأنفال 8: 70 و 71.
وكذلك الحال في غزوة " أُحد " كما أشرنا إليه سابقاً في سورة آل عمران، وقد قتل خالد بن الوليد بني جذيمة في فتح مكّة حينما بعثه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حولها في سرايا تدعو إلى الله تعالى ولم يأمرهم بقتال، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً ولم يبعثه مقاتلا، فغدر خالد بهم وقتلهم، فانتهى الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرفع يديه إلى السماء ثمّ قال: " اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد " ثلاث مرّات ; ثمّ أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّـاً (عليه السلام) فودى لهم الدماء وأرضاهم(3).
فتبيّن أن لا تلازم بين صدور العمل الصالح ـ على تقدير ثبوته ـ وبين استقامة الشخص في بقيّة أعماله، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين.
أمّا الخوض في الفتوحات بشكل إجمالي فالنظرة المقابلة تقيّم الفتوحات التي حصلت بأنّها كانت بمثابة سدوداً أمام انتشار الدين في كلّ أرجاء المعمورة، فإنّ هذا الدين الحنيف لا يصمد أمام بريق نوره الأقوام البشريّة إلاّ وتنجذب إليه، وهذا هو عمدة نهج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته إلى الإسـلام..
____________
1- سورة التوبة 9: 25.
2- سورة الأنفال 8: 15 و 16.
3- المغازي للواقدي ـ 3/875 ـ 884.
إلاّ إنّ مجموع الممارسات في أحداث الفتوحات كبّلت الدين، وألبست الإسلام أثواباً قاتمة، وولّدت انطباعاً لدى بقيّة الأُمم والملل أنّ الدين الحنيف هذا هو دين السيف والدم، ولغته لغة القوّة بالدرجة الأُولى وفي القاعدة الأصلية له، لا أنّه دين الفطرة العقلية، ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله )(2).
ومن ثمّ أخذت بعض الكتابات في العالم العربي الإسلامي منذ نصف قرن في التنكّر لقانون الجهاد الابتدائي في الإسلام، باعتبار أنّه يعني لغة القوّة والعنف والعسكر، ورفضاً للغة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، التي هي من الثوابت الأوّلية لطريقة الدعوة إلى الإسلام، وربّما تمسّكوا بسيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع غزواته ; إذ إنّها لم تكن مبتدأة منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل من مناوشات الكفّار أوّلا للمسلمين، وبذيل بعض الآيات من قبيل قوله تعالى: ( وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين )(3)..
وقوله تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ
____________
1- سورة النصر 110: 1 و 2.
2- سورة الروم 30: 30.
3- سورة البقرة 2: 190.
ونحوها من الآيات التي ظاهرها يوهم بأنّ القتال مخصوص بالمدافعة، وقد تسرّب مثل هذا النظر إلى بعض الأوساط الفقهيّة.
والذي أوقعهم في مثل هذا الوهم المخالف للمسلّمات الفقهيّة في الدين، هو ما جرى من الأحداث والممارسات في الفتوحات عبر تاريخ المسلمين..
فإنّه قد وقع الخلط لديهم بين الجهاد الابتدائي وبين العدوان المبتدأ، وحصر الدفاع في الجهاد الدفاعي، مع إنّ الجهاد الابتدائي ليس بمعنى الابتداء بالعدوان، بل إنّ الغطاء الحقوقي للجهاد الابتدائي هو الدفاع الحقوقي، وإنّ كان ابتداء الحرب من المسلمين بمعنى الضغط على الكفّار تحت تأثير القوّة، لكن ليس هو ابتداء عدوان، بل ابتداء الضغط بالقوّة لردّ العدوان الذي مارسه الكفّار تجاه المسلمين في ما سبق، فالابتداء في استخدام القوّة أمر، والابتداء في العدوان أمر آخر..
وأمّا التمسّك بسيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلقد خلط أصحاب هذه المقولة بين الجهاد الابتدائي في مصطلح الفقهاء وبين العدوان الابتدائي الحقوقي، فالثاني لم يكن في سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمّا الأوّل ; فغزوة " بدر " أعظم الغزوات كانت ابتداء في استخدام القوّة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ردّاً على مصادرة أموال المسلمين في مكّة التي قام بها كفّار قريش، وردّاً على الغارات المباغتة التي كان يقوم
____________
1- سورة الممتحنة 60: 8 و 9.
وقوله تعالى: ( فليقاتل في سبيل الله الّذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً * وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الّذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً )(2).
فإنّ هذه الآيات تفيد الغطاء الحقوقي الدفاعي للجهاد الابتدائي.
وكذا قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما
____________
1- سورة الأنفال 8: 5 ـ 8.
2- سورة النساء 4: 74 ـ 76.
و ( انفروا خفافاً وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )(2).
و ( قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أُوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )(3).
وتمـام الكلام في أدلّة الجهاد الابتـدائي موكول إلى الكتب الفقهيـة، إلاّ أنّ الغرض في المقام الإشارة إلى أنّ الخلط الذي حصل كان بسبب عدم التمييز بين الجهاد الابتدائي على مستوى التنظير وسيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والفلسفة الحقوقية التي تنطلق منها مشروعيّته، وبين ما حصل من ممارسة في فتوحات البلدان، فإنّ الانطباع الذي أورثته تلك الممارسات في أذهان الأُمم الأُخرى عاد عقبة كؤوداً أمام انتشار الدين الإسلامي في أرجاء المعمـورة.
فالدين الإسلامي ـ بناءً على هذا الانطباع ـ غطاء يحرز من وراءه جمع الثروات، واستعباد البشر في صورة الرقيق، ولقضاء النزوات بعنوان ملك الإماء، فيهلك الحرث في البلدان، ويبيد النسل البشري فيها، وتحت ركام هذه الصورة حاولت تلك المجموعة من المثقّفين والكتّاب في الدول الإسلاميّة القيام بعملية الغسيل، وتمييز الوجه الناصع للدين الحنيف عن
____________
1- سورة التوبة 9: 38 و 39.
2- سورة التوبة 9: 41.
3- سورة التوبة 9: 29.
الأُولى:
إنّ أغراض هذا التشريع للجهاد الابتدائي كما تدلّ عليه مجموع الآيات القرآنية المتعرّضة للجهاد الابتدائي ـ والتي تقدّمت الإشارة إلى بعضـها ـ في الدين الحنـيف، كما في قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبيّنوا إنّ الله كان بما تعملون خبيراً )(1)..
فإنّ هذه الآية تحدّد مَعلماً مهمّاً من معالم الجهاد، وإنّ الغرض فيه ليس جمع الغنائم والأموال والاسترقاق، بل قيادة الجموع البشرية وهدايتها إلى طريق الله وعبادته.
وكذا قوله تعالى: ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألّد الخصام * وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد * وإذا قيل له اتّقِ الله أخذته العزّة بالأثم فحسْبه جهنّم ولبئس المهاد )(2).
وهذه ملحمة قرآنية عمّن هو في الصفوف مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عسل اللسان والكلام، ولكنّ قلبه مخالف تماماً لِما يظهره على لسانه، وهو شديد العداوة لله ولرسوله، والآية تُخبر أنّه إذا تولّى الأُمور فسوف يكون
____________
1- سورة النساء 4: 94.
2- سورة البقرة 2: 204 ـ 206.
كما إنّ هذه الآية تحدّد أغراض الدين ـ بما فيه الجهاد الابتدائي ـ بأنّه ليس للإفساد في الأرض وإهلاك الموارد الطبيعية أو الإنجازات المدنية التي حقّقها البشر، ولا الهدف تبديد النسل.
وكذا قوله تعالى: ( فإذا أُنزلت سورة محكمة وذُكر فيها القتال رأيت الّذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت فأَوْلى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم * فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقـطّعوا أرحامكم * أُولئـك الّذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها * إنّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم من بعدما تبيّن لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم * ذلك بأنّـهم قالوا للّذين كرهوا ما نزّل الله سـنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسـرارهم * فكيف إذا توفّتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنّهم اتّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالـهم * أم حسب الّذين في قلوبهم مرض أن لن يُخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم )(1).
فهذه الآيات ترسم ملحمة مستقبلية لجماعة ( الّذين في قلوبهم
____________
1- سورة محمّـد 47: 20 ـ 30.
قال تعالى: ( عليها تسـعة عشـر * وما جعلنا أصحاب النار إلاّ ملائكة وما جعلنا عدّتهم إلاّ فتنة للّذين كفروا ليستيقن الّذين أُوتوا الكتاب ويزداد الّذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو وما هي إلاّ ذكرى للبشـر )(1).
فإنّ الآيات تبيّن أنّ المخاطب بعدّة الملائكة الموكّلين بالنار على أربعة أقسام ; الأوّل: " الّذين آمنوا "، والثاني: " الّذين أُوتوا الكتاب "، والثالث: " الّذين في قلوبهم مرض "، والرابع: " الكافرون "، وتخبر أنّ الذي سيحصل له الإيمان هما القسمان الأوّلان، أمّا القسمان الآخران فسيحصل لديهما الارتياب.
ومن الواضح أنّ المرض الذي في القلب نحوٌ من النفاق الخفيّ جدّاً، أي الذي لا يظهر على صاحبه، بل يبطنه في قلبه وخفاء أعماله، وقد ذكرنا أنّ الآيات القرآنية تتابع هذه الفئة والجماعة في كثير من السور، تحت هذا العنوان وبهذا الاسم إلى آخر حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول القرآن..
والآيات هنا من سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) تبيّن أنّ غرض هذه الفئة هو تولّي الأُمور والأخذ بزمامها، وأنّ ذلك الغرض هو وراء انضمامها إلى
____________
1- سورة المدّثّر 74: 30 و 31.