الصفحة 151
صفوف المسلمين الأوائل ; إذ إنّ خبر ظفر النبيّ المبعوث (صلى الله عليه وآله وسلم) كان منتشراً قبل البعثة، كما يشير إليه قوله تعالى: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين )(1).

فقد أشارت الآية إلى أنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون وينتظرون ويطلبون الفتح والنصر والظفر بالنبيّ ـ الذي سيبعث خاتماً ـ على الكافرين من مشركي الجزيرة العربية، فلمّا عرفوا ذلك وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بُعث كفروا برسالته.

فالسورة تبيّن أنّ غرض هذه الفئة ( الّذين في قلوبهم مرض ) هو تسلّم مقاليد الأُمور، وأنّها كانت على اتّصال في الخفاء وارتباط مع فئات معادية علناً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ; ( ذلك بأنّهم قالوا للّذين كرهوا... )، وكذلك بقية السور المتعرّضة لهذه الفئة بهذا الاسم تشير إلى هذه العلاقات بين هذه الفئة وبين بقية الفئات الأُخرى.

ثمّ إنّ السورة تبيّن أنّ طابع سياسة الدولة التي يقيمها أفراد هذه الفئة هو الإفساد في الأرض، وقطع الصلة بمن أمر تعالى بوصلهم ومودّتهم، كالذي تشير إليه آية 205 من سورة البقرة: ( وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد ).

فهذه الآيات تحدّد أنّ أغراض الشريعة ـ في أحكامها وقوانينها السياسية، وأبواب فقه النظام والسياسة الشاملة للجهاد الابتدائي ـ ليس الإفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وتبديد النسل البشري، فإنّ الله يحبّ

____________

1- سورة البقرة 2: 89.


الصفحة 152
صلاح الأرض وأهلها، فهذا هو سبيل الله تعالى الذي أمرت الآيات القرآنية العديدة بالقتال فيه، وفي سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ; لأجل إزالة استضعافهم وإرجاع حقوقهم المغتصـبة.

  • الثانية:

    إنّ نظرة سريعة إلى الثروات المتكدّسة من الفتوحات توضّح معالم الأغراض وراءها، والأُسلوب الممارس فيها، المباين للنهج المرسوم في الكتاب والسُـنّة النبويّة، سيرةً وأقوالا..

    قال العلاّمة الأميني(1) في جرده لثروات عدّة من الأسماء:

    منهم: سـعد بن أبي وقّاص ; قال ابن سعد: ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم، ومات في قصره بالعقيق.

    وقال المسعودي: بنى داره بالعقيق فرفع سمكها ووسّـع فضائها، وجعل أعلاها شرفات(2).

    ومنهم: زيد بن ثابت ; قال المسعودي: خلف من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار(3).

    ومنهم: عبـد الرحمـن بن عـوف الزهـري ; قال ابن سـعد: تـرك عبـد الرحمن ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً، وقال: وكان في ما خلّفه ذهب قطّع بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة ثمانون ألفاً.

    ____________

    1- الغدير 8 / 282 ـ 288.

    2- الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 105، مروج الذهب 1 / 434.

    3- مروج الذهب 1 / 434.


    الصفحة 153
    وقال المسعودي: ابتنى داره ووسّعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ بعد وفاته ثُمن ماله أربعة وثمانين ألفاً(1).

    ومنهم: يعلى بن أُميّة ; خلّف خمسمائة ألف دينار وديوناً على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار(2).

    ومنهم: طلحة بن عبيـد الله التيمي ; ابتنى داراً بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين، وكانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وله بناحية سراة أكثر ممّا ذكر، وشيّد داراً بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج..

    وعن محمّـد بن إبراهيم، قال: كان طلحة يغلّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغلّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ.

    وقال سفيان بن عيينة: كان غلّته كلّ يوم ألف وافياً. والوافي وزنه وزن الدينار.

    وعن موسى بن طلحة: إنّه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وكان ماله قد اغتيل.

    وعن إبراهيم بن محمّـد بن طلحة: كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من النافيّ ثلاثين ألف ألف درهم، ترك من العين ألفي

    ____________

    1- الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 96، مروج الذهب 1 / 434، تاريخ اليعقوبي 2 / 146، صفة الصفوة ـ لابن الجوزي ـ 1 / 138، الرياض النضرة ـ لمحبّ الدين الطبري ـ 2 / 291.

    2- مروج الذهب 1 / 434.


    الصفحة 154
    ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.

    وعن عمرو بن العاص: إنّ طلحة ترك مائة بهار في كلّ بهار ثلاثة قناطير ذهب، وسمعت أنّ البهار: جلد ثور، وفي لفظ ابن عبـد ربّه من حديث الخشني: وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضّة.

    وقال ابن الجوزي: خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهباً.

    وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة، قال: أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار، وقال عثمان: ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً وهو يروم دمي يحرّض على نفسي(1).

    ومنهم: الزبير بن العوّام ; خلّف ـ كما في صحيح البخاري ـ إحدى عشرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر، وكان له أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا ألف، قال البخاري: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف، وقال ابن الهائم: بل الصواب أنّ جميع ماله حسبما فرض: تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألـف(2).

    ____________

    1- الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 158، أنساب الأشراف 5 / 7، مروج الذهب 1 / 434، العقد الفريد 2 / 279، الرياض النضرة 2 / 358، دول الإسلام ـ للذهبي ـ 1 / 18، الخلاصة ـ للخررجي ـ: 152.

    2- صحيح البخاري ـ كتاب الجهاد / باب بركة الغازي في ماله 5 / 21، ذكره شرّاح الصـحيح: فتح الباري، إرشاد الساري، عمدة القاري ; شذرات الذهب 1 / 43، وفي تاريخ ابن كثير 7 / 249 قيّدها بالدرهم.

    ولاحظ: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 77، ومروج الذهب 1 / 434.


    الصفحة 155
    ومنهم: عثمان بن عفّان ; قال محمّـد بن ربيعة: رأيت على عثمان مطرف خزّ ثمنه مائة دينار، فقال: هذا لنائلة كسوتها إيّاه، فأنا ألبسه أسرّها بـه..

    وقال أبو عامر سليم: رأيت على عثمان برداً ثمنه مائة دينار.

    قال البلاذري: كان في بيت المال بالمدينة سـفط فيه حليّ وجواهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديد.. وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضّة فقسّمها بين نسائه وبناته، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره.

    وقال ابن سعد: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، وخمسون ومائة ألف دينار، فانتُهبت وذهبت.. وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار.

    وقال المسعودي: بنى في المدينة داراً وشيّدها بالجعر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر، واقتنى أموالا وجناناً وعيوناً بالمدينة.

    وذكر عبـد الله بن عتبة: إنّ عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلّف خيلا كثيراً وإبلا.

    وقال الذهبي: كان قد صار له أموال عظيمة (رضي الله عنه)، وله ألف مملوك(1)..

    ____________

    1- الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 40 و ص 53، أنساب الأشراف 3 / 4، الاستيعاب ـ في ترجمة عثمان ـ 2 / 476، الصواعق المحرقة: 68، السيرة الحلبية 2 / 87، مروج الذهب 1 / 433، دول الإسلام 1 / 12.


    الصفحة 156
    وأمّا أُعطيات عثمان إبّان حكمه فقد جردها العلاّمة الأميني في غديـره عن المصادر المزبورة، فقد أعطى:

    1 ـ مروان، خمسمائة ألف دينار.

    2 ـ ابن أبي سرح، مائة ألف دينار.

    3 ـ طلحة، مائتا ألف دينار.

    4 ـ عبـد الرحمن بن عوف، ألفا ألف وخمسمائة وستّين ألف دينار.

    5 ـ يعلى بن أُميّة، خمسمائة ألف دينار.

    6 ـ زيد بن ثابت، مائة ألف دينار.

    7 ـ ما اقتصّه لنفسه في بعض الموارد، مائة وخمسون ألف دينار.

    8 ـ ما اقتصّه لنفسه في بعض آخر من الموارد، مائتا ألف دينار.

    ويبلغ المجموع أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار.

    وفي مجموعة أُخرى من الأُعطيات:

    9 ـ الحكم، ثلاثمائة درهم.

    10 ـ آل الحكم، ألفا ألف وعشرون درهم.

    11 ـ الحارث، ثلاثمائة درهم.

    12 ـ سعيد، مائة ألف درهم.

    13 ـ عبـد الله، ثلاثمائة ألف درهم.

    14 ـ الوليد بن عقبة، مائة ألف درهم.

    15 ـ عبـد الله، مرّة أُخرى، ستّمائة ألف درهم.

    16 ـ أبو سفيان، مائتا ألف درهم.

    17 ـ مروان، مرّة أُخرى، مائة ألف درهم.


    الصفحة 157
    18 ـ طلحة، مرّة أُخرى، ألفا ألف ومائتا ألف درهم.

    19 ـ طلحة، مرّة ثالثة، ثلاثون ألف ألف درهم.

    20 ـ الزبير، خمسة وتسعون ألف ألف وثمانمائة ألف درهم.

    21 ـ سـعد بن أبي وقّاص، مائتان وخمسون ألف درهم.

    22 ـ ما اقتصّه لنفسه مرّة ثالثة، ثلاثون ألف ألف وخمسمائة ألف درهم.

    ويبلغ مجموع المجموعة الثانية مائة وستّة وعشرون مليوناً وسبعمائة وسبعون ألف درهم. انتهى ملخّصاً.

    فلاحظ تلك المصادر والمراجع وغيرها لاستقصاء الأُعطيات والقطائع!

    وقال الوليد بن عقبة يخاطب بني هاشم في أبيات له:


    قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُه

    فأجابه عبـد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبـد المطّلب بأبيات طويلة منها:


    وشبَّهته كسرى وقد كان مثله شبيهاً بكسرى هَديُه وضرائبُه

    وكان المنصور إذا أنشد هذا البيت يقول: لعن الله الوليد، هو الذي فرّق بين بني عبـد مناف بهذا الشعر(1).

    ____________

    1- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 90.


    الصفحة 158
    وروى البلاذري: لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد ابن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم، جعل أبو ذرّ يقول: بشِّر الكانزين بعذاب أليم، ويتلو قول الله عزّ وجلّ: ( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم )(1).. فرفع ذلك مروان ابن الحكم إلى عثمان، فأرسـل إلى أبي ذرّ ناتلا مولاه: أن انْتهِ عمّا يبلغني عنـك.

    فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعَيْبِ من ترك أمر الله؟! فوالله لأن أُرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أُسخط الله برضاه.

    وكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها.. بعث إليه معاوية حبيب ابن مسلمة الفهري بمائتي دينار، فقال: أما وجدت أهون عليك منّي حين تبعث إليّ بمال؟! وردّها.

    وبنى معاوية " الخضراء " بدمشق، فقال: يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال الله، فهي الخيانة، وإن كانت من مالك، فهذا الإسراف.

    وكان أبو ذرّ يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سُـنّة نبيّه، والله إنّي لأرى حقّاً يُطفأ وباطلا يُحيا، وصادقاً يُكذب، وأثرة بغير تُقىً، وصالحاً مستأثَراً عليه..

    فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إنّ أبا ذرّ مفسـد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه، فكتب عثمان

    ____________

    1- سورة التوبة 9: 34.


    الصفحة 159
    إلى معاوية: أمّا بعد، فاحمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره!

    فوجّه معاوية من سار به الليل والنهار، فلمّا قدم أبو ذرّ المدينة جعل يقول: تستعمل الصبيان، وتحمي الحمى، وتقرّب أولاد الطلقاء..

    ثمّ إنّ عثمان نفاه إلى " الربذة "، فلم يزل بها حتّى مات.

    والمقام يطول بذِكر كلّ ما جرى من إنكار أبي ذرّ على عثمان ومعاوية ; فلاحظ المصادر.

    وأخرج البخاري في صحيحه من حديث زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة فقلت لأبي ذرّ: ما أنزلك هذا؟!

    قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: ( والّذين يكنزون الذهب والفضّـة ) فقال: أُنزلت في أهل الكتاب، فقلت: فينا وفيهم. فكتب يشكوني إلى عثمان، فكتب عثمان: أقدم المدينة. فقدمت فكثر الناس علَيَّ كأنّهم لم يروني قبل ذلك، فذُكر ذلك لعثمان فقال: إن شئتَ تنحّيتَ فكنتَ قريباً ; فذلك الذي أنزلني هذا المنزل..

    قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث: وفي رواية الطبري أنّهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام، فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام.

    وهكذا الحال في ما جرى من إنكار عمّار وبعض أخلاّئه على عثمان ; فلاحظ المصادر.

    وفي تاريخ الطبري: إنّ أبا بكر لمّا استُخلف قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل، إنّما هي بنو عبـد مناف. فقيل له: إنّه قد ولّى ابنك. قال:


    الصفحة 160
    وصلته رحم(1).

    ومنهم: خالد بن الوليد ; قال في الإصابة: وكان سبب عزل عمر خالداً ما ذكره الزبير بن بكّار، قال: كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حساباً ; أقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته، فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمّم بن نويرة، وأمر خالد بطلاق امرأة مالك، ولم يرَ أن يعزله..

    وفي تاريخ أبي الفداء: فقال عمر لأبي بكر: إنّ سيف خالد فيه رهق، وأكثر عليه في ذلك، فقال: يا عمر! تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد..

    وفي لفظ الطبري: فلمّا بلغ قتلهم عمرَ بن الخطّاب ـ أي قتل مالك ابن نويرة وقومه ـ تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر، وقال: عدوّ الله، عدا على امرئ مسلم فقتله ثمّ نزا على امرأته. وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتّى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامة له، قد غرز في عمامته أسهماً، فلمّا أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها، ثمّ قال: أرئاء؟! قتلت امرأً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته... ثمّ ذكر أنّ أبا بكر عذره.

    وروى ثابت في الدلائل: إنّ خالداً رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال، فقال مالك بعد ذلك لامرأته: قتلتيني.

    وقـال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفداء والزبيدي: إنّ مالك بن نويرة (رضي الله عنه) قال لامرأته يوم قتله خالد بن الوليد: أقتلتِني؟! وكانت جميلة

    ____________

    1- تاريخ الطبري 3 / 202.


    الصفحة 161
    حسناء تزوّجها خالد بعد قتله، فأنكر ذلك عبـد الله بن عمر، وقيل فيه:


    أفي الحقّ أنّا لم تجفّ دماؤنا وهذا عروساً باليمامة خالد؟!(1)

    وفي تاريخ ابن شحنة(2): أمر خالد ضراراً بضرب عنق مالك، فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني. وكانت في غاية الجمـال.

    فقال خالد: بل قتلك رجوعك عن الإسلام.

    فقال مالك: أنا مسلم.

    فقال خالد: يا ضرار! اضرب عنقه! فضرب عنقه، وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي:


    ألا قل لحيّ أُوطؤا بالسنابكِ تطاول هذا الليل من بعد مالكِ
    قضى خالد بغياً عليه بعرسه وكان له فيها هوىً قبل ذلكِ
    فأمضى هواه خالد غير عاطف عنان الهوى عنها ولا متمالكِ
    وأصبح ذا أهل وأصبح مالك إلى غير أهل هالكاً في الهوالكِ

    فلمّا بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر: إنّ خالداً قد زنى

    ____________

    1- ولاحظ لمزيد من التفاصيل: تاريخ الطبري 3 / 241، الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ 3 / 149، أُسـد الغابة 4 / 295، تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ 5 / 105، خزانة الأدب 1 / 237، تاريخ ابن كثير 6 / 321، تاريخ الخميس 2 / 233، الإصابة 1 / 414 و 3 / 357، الفائق 2 / 154، النهاية 3 / 257، تاريخ أبي الفداء 1 / 158، وتاج العروس 8 / 75 2- في هامش الكامل ـ لابن الأثير ـ 7 / 165.


    الصفحة 162
    فاجلده.

    قال أبو بكر: لا ; لأنّه تأوّل فأخطأ.

    قال: فإنّه قتل مسلماً فاقتله.

    قال: لا، إنّه تأوّل فأخطأ. ثمّ قال: يا عمر! ما كنت لأغمد سيفاً سلّه الله عليهم.

    ورثى مالكاً أخوه متمّم بقصائد عديدة(1).

    وفي تاريخ الخميس: اشتدّ في ذلك عمر وقال لأبي بكر: ارجم خالداً، فإنّه قد استحلّ ذلك.

    فقال أبو بكر: والله لا أفعل، إن كان خالد تأوّل أمراً فأخطأ(2).

    وفي شرح المواقف: فأشار عمر على أبي بكر بقتل خالد قصاصاً. فقال أبو بكر: لا أغمد سيفاً شهره الله على الكفّار. وقال عمر لخالد: لئن وليت الأمر لأقيدنّك به(3).

    وفي تاريخ دمشق: قال عمر: إنّي ما عتبت على خالد إلاّ في تقدّمه وما كان يصنع في المال..

    وكان خالداً إذا صار إلـيه شـيئاً قسـمه في أهل الغنى ولم يرفع إلى أبـي بكر حسابه، وكان فيه تقدّم على أبي بكر، يفعل الأشياء التي لا يراها أبو بكر، وأقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته، وصالح أهل اليمامة، ونكح ابنة مجاعة بن مرارة، فكره ذلك أبو بكر ولم ير أن

    ____________

    1- لاحظ: تاريخ أبو الفداء 1 / 158.

    2- تاريخ الخميس 2 / 233.

    3- المواقف: 403، شرح المواقف 8 / 307 ـ 308.


    الصفحة 163
    يعزله(1).

    هـذا، وقد كان مالك من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستعمله (صلى الله عليه وآله وسلم)على صدقات قومه، وهو من أشراف الجاهلية والإسلام.

    ثمّ إنّ ضرار بن الأزور زميل خالد بن الوليد في قتل مالك قد شـنّ الغارة على حيّ من بني أسـد فأخذ امرأة جميلة فوطئها بهبة من أصحابه، ثمّ ذكر ذلك لخالد، فقال: قد طيّبتها لك ; فكتب إلى عمر فأجاب برضـخه بالحجارة(2).

    وبعد فتح الشام أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن محارب بن دثار: إنّ أُناساً من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) شربوا الخمر بالشام وقالوا: شربنا لقول الله: ( ليس على الّذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا )(3).. الآية(4).

    وفي كتاب من أبي بكر له: لعمري يا بن أُمّ خالد! إنّك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد. كتبه إليه لمّا قال خالد لمجاعة: زوّجني ابنتك. فقال له مجاعة: مهلا، إنّك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك. قال: أيّها الرجل! زوّجني. فزوّجه، فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه الكتاب، فلمّا نظر خالد في الكتاب جعل يقول: هذا عمل الأُعيسـر. يعني عمر بن الخطّاب(5).

    ____________

    1- تاريخ دمشق 5 / 112.

    2- لاحظ: تاريخ دمشق 7 / 31، خزانة الأدب 2 / 8، الإصابة 2 / 209.

    3- سورة المائدة 5: 93.

    4- لاحظ: الدرّ المنثور 2 / 321.

    5- لاحظ: تاريخ الخميس 3 / 343، وتاريخ الطبري 3 / 254.


    الصفحة 164
    هـذا، وقد كان خالد بن الوليد من نجوم قيادات الفتوح.

    وفي الإصابة ـ في ترجمة خالد بن الوليد ـ: قال عمر لأبي بكر: اكتب إلى خالد لا يعطي شيئاً إلاّ بأمـرك. فكتب إليه بذلك، فأجابه خالد: إمّا أن تدعني وعملي وإلاّ فشأنك بعملك. فأشار عليه عمـر بعزله، فقال أبو بكر: فمن يجزي عنّي جزاء خالد. قال عمر: أنا. فتجهّز عمر...

    إلى أن قال ـ بعد ثني أبي بكر لعمر عن الخروج ـ: فلمّا قبل عمر كتب إلى خالد: أن لا تعطي شاة ولا بعيراً إلاّ بأمري. فكتب إليه خالد بمثل ما كتب إلى أبي بكر، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أُنفّذه. فعزله، ثمّ كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلاّ أن يخلّيه يفعل ما شاء فيأبى عمر، قال مالك: وكان عمر يشبه خالداً(1).

    وعن عبـد الرحمن بن عوف، قال: إنّه دخل على أبي بكر في مرضه الذي توفّي فيه فأصابه مهتمّاً... فقال أبو بكر: إنّي ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلّكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولمّا تقبل وهي مقبلة حتّى تتّخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك السعدان، والله لأن يُقدّم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أوّل ضالّ بالناس غداً فتصدّونهم عن الطريق يميناً وشمالا، يا هادي الطريق! إنّما هو الفجر أو البحر(2).

    ____________

    1- الإصابة 1 / 415.

    2- لاحظ: الأموال ـ لأبي عبيـد ـ: 131، تاريـخ الطبري 4 / 52، الإمامة والسـياسة ـ لابن قتيبة ـ 1 / 18، مروج الذهب 1 / 414، العقد الفريد 2 / 254.


    الصفحة 165
    وروى البخاري في صـحيحه، عن هند بنت الحارث: إنّ أُمّ سلمة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: استيقظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة فزعاً يقول: سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟! وماذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ لكي يصلّين؟! ربّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة(1)..

    قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث: وفي رواية سفيان: ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! وماذا فتح من الخزائن؟! قال ابن بطال في هذا الحديث: إنّ الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال بأن يتنافس فيه القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحقّ أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد (صلى الله عليه وآله وسلم)تحذير أزواجه من ذلك كلّه، وكذا غيرهنّ ممّن بلغه ذلك.

    وقال ابن حجر في شرح " ربّ كاسية... ": واللفظة وإن وردت في أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّ العبرة بعموم اللفظ ; كاسية للشرف في الدنيا لكونها أهل التشريف وعارية يوم القيامة.

    كما قد أُشـير في أحاديث نبويّة أُخرى إلى هذه الأوضاع، نظير ما رواه البخاري ومسلم في كتاب الفتن عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّكم سترون بعدي أثرة وأُموراً تنكرونها "(2).

    ثمّ إنّ هذا غيض من فيض، ولو أراد الباحث استقصاء حوادث الفتوحات والممارسات التي حدثت، لتوفّر لديه مجلّداً ضخماً في ذلك، إن لم يكن مجلّـدات.

    ____________

    1- صحيح البخاري 9 / 88 ح 18 كتاب الفتن ب 6.

    2- صحيح البخاري 9 / 84 ح 4 كتاب الفتن ب 2.