المقام الأوّل
المعيار القرآني والنبويّ لفريضة المودّة
فأمّا الآية الشريفة فقبل التعرّض إلى إطار مفادها نذكر:
أوّلاً: مورد نزولها هـو أنّ الأنصـار والمهاجرين اجتمعـوا إلـى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالوا: يا رسول الله أنّ لك مؤونة في نفقتك ومن يأتيك من الوفود وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها مأجوراً، اعطِ منها ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج فأنزل الله عزّ وجلّ عليه الروح الأمين، فقال: يا محمّـد قل: ( لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القُربى )(1) يعني: أن تودّوا قرابتي من بعدي فخرجوا، فقال المنافقون: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحثّنا على قرابته من بعده، إن هو إلاّ شيء افتراه في مجلسه، فكان ذلك من قولهم عظيماً، فأنزل الله عزّ وجلّ: ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً هو أعلم بما تُفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم وهو الغفورُ الرحيم )(2) فبعث إليهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: هل من حدث؟ فقالوا: أي والله قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه، فتلا عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الآية فبكوا واشتدّ بكاؤهم فأنزل الله عزّ وجلّ ( وهو الذي يقبل التّوبة عن
____________
1- سورة الشورى 42: 23.
2- سورة الأحقاف 46: 8.
وقد روي قريب منه عن عبد الله بن عبّاس، كما روي في عدّة مصادر لأهل سُنّة الجماعة أنّهم سألوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: " علي وفاطمة وابناهما (عليهم السلام) "(3).
ثانياً: قال في الكشاف: " يجوز أن يكون استثناءً متّصلاً أي: لا أسألكم أجراً إلاّ هذا وهو أن تودّوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة لأنّ قرابته قرابتهم فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة، ويجوز أن يكون منقطعاً أي: لا أسألكم أجراً قط ولكنني أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم، فإن قلت: هلا قيل: إلاّ مودة القربى، أو إلاّ المودّة للقربى، وما معنى قوله: ( إلاّ المودّة في القربى ) قلت: جُعلوا مكاناً للمودّة ومقراً لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة، ولي فيهم هوى وحبّ شديد، تريد: أحبّهم وهم مكان حبّي ومحله وليست (في) بصلة للمودّة، كاللام إذا قلت: إلاّ المودّة للقربى.
أنّما هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك المال في الكيس وتقديره: إلاّ المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى: مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى: قرابة والمراد في أهل القربى.
____________
1- سورة الشورى 42: 25.
2- تفسير البرهان 4 / 819.
3- لاحظ: فضائل الصحابة ـ لابن حنبل ـ 2 / 669 ح 1141، والعمدة ـ لابن بطريق ـ: 94 ح 47، وصحيح البخاري ـ في تفسير آية المودّة ـ 6 / 231 ح 314، وتفسير الطبري 25 / 16، وشواهد التنزيل 2 / 14 ح 137، ومستدرك الحاكم 3 / 172، والصواعق المحرقة: 170، والطرائف: 112 ح 169، مناقب الخوارزمي: 194، ومقاتل الطالبيين: 62، وغيرها من المصادر العديدة.
قال: عليّ وفاطمـة وابنـاهما..
ويـدلّ عليه ما روي عن علي رضي الله عنه: شكوت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسد الناس لي، فقال: (أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا)(1).
وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة).
ثم ذكر مورد النزول المتقدّم، وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من مات على حبّ آل محمّـد مات شهيداً(2)، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّـد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد مات تائباً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد بشّره ملك الموت بالجنّة، ثمّ منكر ونكير، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد يزف إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد مات على السُنّة والجماعة، ألا ومن مات على
____________
1- في هامش الكشّاف 4 / 220، أخرجه الكريمي عن ابن عائشة بسنده عن علي، ورواه الطبراني من حديث أبي رافع.
2- في هامش الكشاف 4 / 220، أخرجه الثعلبي.
وقال في تفسير: ( ومن يقترف حسنة )، عن السدّي أنّها المودّة في آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نزلت في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ومودّته فيهم(2).
والظاهر: العموم في أي حسنة كانت، إلاّ أنّها لمّا ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى، دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولاً أوّلياً، كأنّ سائر الحسنات لها توابع "(3). انتهى.
أقول:
ويدلّ تقريبه الأخير لحسنة المودّة وعظمتها أنّها من الفرائض الكبرى في الدّين، وسيأتي تقريب دلالة الآية على ذلك بنحو أوضح.
وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير بعد ما نقل كلام الزمخشري: " وأنا أقول آل محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الّذين يؤول أمرهم إليه فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل.
ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين
____________
1- وفي تفسير القرطبي 16 / 22، في ذيل الآية حُكي عن الثعلبي هذه الرواية مذيّلة بـ: " ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي ".
2- ويشهد لذلك موت فاطمة (عليها السلام) وهي واجدة على أبي بكر، ما رواه البخاري في صحيحيه 5 / 82 غزوة خيبر، وإيصائها عدم حضوره جنازتها وأخذه لفدك منها، في قبال إعطاءه ابنته عائشة حجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) توريثاً.
3- تفسير الكشّاف 4 / 221.
أقول:
يشير الفخر الرازي إلى ما قاله الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون ـ في حديث ـ: " فلمّا أوجب الله تعالى ذلك ثَقُل لِثقَلِ وجوب الطّاعة، فأخذ بها قوم أخذ الله ميثاقهم على الوفاء، وعاند أهل الشقاق والنفاق وألحدوا في ذلك، فصرفوه عن حدّه الذي قد حدّه الله تعالى، فقالوا القرابة هم العرب كلّها وأهل دعوته، فعلى أيّ الحالتين كان، فقد علمنا أنّ المودّة هي للقرابة فأقربهم من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أولاهم بالمودّة، وكلما قربت القرابة كانت المودّة على قدرها "(2).
ثمّ قال الرازي في تفسيره: " وروى صاحب الكشّاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية، قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟
فقال: علي وفاطمة وابناهما ".
فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم، ويدلّ عليه وجوه:
____________
1- التفسير الكبير 27 / 166.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 / 211 ح 1.
الثاني: لا شك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبّ فاطمة (عليها السلام)، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها "، وثبت بالنقل المتواتر عن محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأُمّة مثله ; لقوله: ( واتّبعوه لعلّكم تهتدون )(1) ; ولقوله تعالى: ( فليحذر الّذين يخالفون عن أمره )(2) ; ولقوله: ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله )(3) ; ولقوله سبحانه: ( لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة )(4).
الثالث: أنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله: اللهم صل على محمّـد وعلى آل محمّـد وارحم محمّـداً وآل محمّـد، وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّـد واجب، وقال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكباً قف بالمحصّب من منى | واهتف بساكن خيفها والناهض |
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى | فيضاً كملتطم الفرات الفائض |
إن كان رفضاً حبّ آل محمّـد | فليشهد الثقلان أنّي رافضي(5) |
____________
1- سورة الأعراف 7: 158.
2- سورة النّور 24: 63.
3- سورة آل عمران 3: 31.
4- سورة الأحزاب 33: 21.
5- التفسير الكبير 27 / 166، ديوان الشافعي: 84.
أقول:
عقد ابن قدامة الحنبلي صاحب كتاب المغني، وكذا صاحب الشرح الكبير فصلاً في باب التشهد في الصلاة ـ بعدما نقلا الأقوال في صفة الصلاة على النبي وآله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ هناك من اختار وجوب الصلاة على (آله) ـ.
قال: " فصل آل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أتباعه على دينه، كما قال الله تعالى ( أدخِلوا آل فرعون )(1)، يعني أتباعه من أهل دينه، وقد جاء عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سُئل مَنْ آل محمّـد؟ فقال: كلّ تقيّ، أخرجه تمام في فوائده، وقيل: آله أهله، الهاء منقلبة عن الهمزة ـ إلى أن قال ـ ومعناهما جميعاً أهل دينه، وقال ابن حامد وأبو حفص: لا يجزي لما فيه من مخالفة لفظ الأثر وتغيير المعنى فإنّ الأهل أنّما يعبّر عن القرابة والآل يعبّر به عن الأتباع في الدين "(2).
أقول:
وتحريف الكلم عن مواضعه في المقام وأمثاله ممّا يخصّ مناقب عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) امتثالاً لفريضة المودّة، فتراه يترك ما يروونه من ذكر الذريّة في صفة الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في التشهد، ولا يشير إليها من قريب ولا بعيد، مع أنّ الآل في قوله تعالى: ( وقال رجلٌ مؤمن من آل
____________
1- سورة غافر 40: 46.
2- المغني 1 / 582.
فكان الأولى بهم الاستشهاد فى معنى اللآل بقوله تعالى ( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذريّة بعضها من بعض )(2)، فحيث وضحّت الآية الاصطفاء في آل إبراهيم وآل عمران هو في الذريّة والرحم لا في الأتباع.
فالموازنه بين آل محمّـد مع آل إبراهيم وآل عمران لا مع آل فرعون.
ثمّ قال الرازي: " قوله: ( إلاّ المودّة في القربى )، فيه منصب عظيم للصحابة ; لأنّه تعالى قال: ( والسابقون السابقون * أُولئك المقرّبون )(3)، فكلّ من أطاع الله كان مقرّباً عند الله تعالى فدخل تحت قوله: ( إلاّ المودّة في القربى )، والحاصل أنّ هذه الآية تدلّ على وجوب حبّ آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحبّ أصحابه وهذا المنصب لا يسلم إلاّ على قول أصحابنا أهل السُنّة والجماعة الّذين جمعوا بين حبّ العترة والصحابة، وسمعت بعض المذكّرين قال أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا "، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم " ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين:
أحدهما: السفينة الخالية من العيوب والثقب.
والثاني: الكواكب الظاهرة الطالعة النيّرة، فإذا ركب تلك السفينة ووقع
____________
1- سورة غافر 40: 28.
2- سورة آل عمران 2: 33 و 34.
3- سورة الواقعة 56: 9 و 10.
أقول:
1 ـ كيف يجمع الرازي بين تفسير القُربى بمعنى القرابة وتفسيرها بمعنى العبادة. مع ما روي بطرق عديدة أنّهم " عليّ وفاطمة وابناهما "، بل مع قوله تعالى في آيتي الخمس(2) والفيء(3) من جعلهما لله وللرسول ولذي القربى بمعنى القرابة وكذلك في آية إيتاء ذي القربى حقّه(4) التي نزلت خطاباً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في اعطاء فاطمة فدكاً، بل لم يرد لفظ وهيئة (القربى) في القرآن بمعنى العبادة والطاعة ونحوهما، بل جميع مواردها بمعنى القرابة والأهل.
2 ـ أنّه لم ينقل تتمّة حديث السفينة وهي: " ومَنْ تخلّف عنها هلك "، وحديث السفينة دالّ على انحصار النجاة بهم.
كما أنّ حديث النجوم المنقول في بعض الطرق الأُخرى لديهم أيضاً هو: " أهل بيتي كالنجوم... "، ولو سلّمنا كون ألفاظ الحديث هو ما ذكرها فإنّ أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) هم على مجموعات، منهم جماعة السقيفة الذين عقدوا
____________
1- التفسير الكبير 27 / 167.
2- سورة الأنفال 8: 41.
3- سورة الحشر 59: 7.
4- سورة الإسراء 17: 26.
3 ـ أن دعواه ركوب أصحابه سفينة حبّ آل محمّـد سيأتي تفشي سُنّة العداء والنصب لآل محمّـد فيهم، وجعلهم حبّ آل محمّـد علامة للضعف والجرح، وأنّهم مقيمون على الجفاء والهجر لعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، واقرأ التاريخ من يوم وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدوث السقيفة إلى يومنا هذا فانظر مَن الذي وصل العترة رحم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ( والّذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل )(1)؟! ومَن الذي قطع الصلة بالعترة ( والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل )(2)؟!
ثالثاً: قد حكى القرطبي في تفسيره عن قوم القول بنسخ الآية بقوله تعالى: ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلاّ على الله )(3)
____________
1- سورة الرعد 13: 21.
2- سورة البقرة 2: 27.
3- سورة سبأ 34: 47.
أقول:
إنّ قوله تعالى: ( ما سألتكم من أجر فهو لكم ) يعزز آية المودّة ولا يصادم مفادها، بل هو شارح للأجر في آية المودّة وأنّ منفعته ونفعه عائد للمكلّفين والمسلمين أنفسهم لا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فليس سُنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أمره الله تعالى بها في آية المودّة مخالفة لسنن الأنبياء من قبل من عدم طلب الأجر على أدائهم وتبليغهم للدّين والنبوّة.
إذْ المودّة في القربى التي سألها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم ليس أجراً عائداً نفعه له بل نفعه ينتفع به هم أنفسهم، وهذا ممّا ينادي أنّ مودّة القربى هي منشأ هداية لهذه الأُمّة، وهذا ما يوضحه أيضاً قوله تعالى: ( قل ما أسألكم عليه من أجراً إلاّ من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا )(4)، أي: أنّ الأجر الذي سأله النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المودّة في القربى هو اتخاذ السبيل إلى الربّ تعالى، فنفع المودّة عائد للأُمّة نفسها لا للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذْ المودّة تتخذ سبيلاً للهداية إلى الله تعالى، فمودّة علي وفاطمة وابناهما هداية، وهم السبيل إليه تعالى.
____________
1- سورة ص 38: 86.
2- سورة الشعراء 26: 109.
3- تفسير القرطبي 16 / 22.
4- سورة الفرقان 25: 57.
ويتحصّل من ذلك:
تطابق آية المودّة مع حديث الثقلين وحديث السفينة وغيرها من الآيات والأحاديث في أصحاب الكساء.
مفاد آية المودّة:
إنّ التأمّل والتدبّر في ألفاظ الآية يرشدنا إلى ما أشارت إليه الآيتان الأُخريان من كون المودّة في القربى مصلحة عامّة للأُمّة وسبيل هداية، وأنّ هذه الفريضة التي أمر الله تعالى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبليغها للأُمّة هي من عظائم الفرائض وأركانها ; وذلك لأنّ المودّة جعلت أجراً معادلاً لكلّ الرسالة ومن البين أنّ تبليغ الرسالة اشتمل على تبليغ التوحيد والمعاد والأقرار والايمان بالنبوّة وغير ذلك من الأُصول الاعتقادية، فضلاً عن بقية أركان الدين، ومقتضى المعادلة بين الأجر والمعوض كون هذه الفريضة من أركان الدين.
وفي حديث الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون عن آية المودّة: " وهذه خصوصية للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم، وذلك أن الله عزّ وجلّ حكى ذكر نوح في كتابه: ( ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إنْ أجري إلاّ على الله وما أنا بطارد الّذين آمنوا إنّهم ملاقوا ربّهم ولكنّي أراكم قوماً تجهلون )(1)..
وحكى عزّ وجلّ عن هود أنّه قال: ( ويا قوم لا أسألكم عليه أجراً إنّ أجري إلاّ على الذي فطرني أفلا تعقلون )(2)..
____________
1- سورة هود 11: 29.
2- سورة هود 11: 51.
ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ وما بعث الله عزّ وجلّ نبيّاً إلاّ أوحى إليه أن لا يسأل قومه أجراً، لأنّ الله يُوَفّي أجر الأنبياء، ومحمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) فرض الله عزّ وجلّ مودّة قرابته على أُمّته، وأمره أن يجعل أجره فيهم، لتودّوه في قرابته، لمعرفة فضلهم الذي أوجب الله عزّ وجلّ لهم، فإنّ المودّة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل..
ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ وما أنصفوا نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حيطته ورأفته، وما منَّ الله به على أُمّته ممّا تعجز الألسن عن وصف الشكر عليه، أن يَوَدّوه في قرابته وذريّته وأهل بيته، وأن يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرأس، حفظاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم، وحبّاً لهم، وكيف والقرآن ينطق به ويدعوا إليه، والأخبار ثابتة أنّهم أهل المودّة والذين فرض الله تعالى مودّتهم ووعد
____________
1- سورة الشورى 42: 23.
ثمّ إنّ هناك آيات أُخر دالّة على هذه الفريضة، كقوله تعالى: ( إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولّ الله ورسوله والّذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون )(3).
وهذه الآية نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) تصدّق وهو راكع في واقعة معروفة، فلاحظ فيها مصادر الفريقين، وكذا آية التبليغ وآية خير البريّة، وسورة هل أتى وغيرها من الآيات الكثيرة.
وأما الروايات، والأحاديث الواردة في افتراض محبّة عترة المصطفى علي وفاطمة وولديهما فهي فوق حدّ التواتر، فقد روي عن جابر: أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نعرض أولادنا على حبّ علي بن أبي طالب(4).
وروي عن عبادة بن الصامت، أنّه قال: كنا نبور أولادنا بحبّ علي ابن أبي طالب فإذا رأينا أحداً لا يحبّه علمنا أنّه ليس منّا وأنه لغير رشدة(5).
____________
1- سورة الشورى 42: 22 و 23.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 / 211 ح 1.
3- سورة المائدة 5: 55 و 56.
4- ميزان الاعتدال 1 / 236، لسان الميزان 2 / 231.
5- الغريبين ـ للهروي ـ: 21 مخطوط، مجمع بحار الأنوار ـ للصديقي ـ 1 / 121 طبعة لكهنو، الأربعين ـ لعلي الهروي ـ: 54، المناقب ـ لعبد الله الشافعي ـ: 21 مخطوط، تاجّ العروس ـ للزبيدي ـ 3 / 61 مادة " بور "، نزهة المجالس ـ للصفوري ـ 2 / 208.
وروي عن أنس بن مالك أنّه يقول: والله الذي لا إله إلاّ هو لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب "(4).
ويمكن للقاري العزيز مراجعة كتاب ملحقات إحقاق الحقّ بتوسط
____________
1- كنوز الحقائق: 67، ينابيع المودّة ـ للقندوزي ـ: 18.
2- المناقب ـ للخوارزمي ـ: 47 و 80 عن معجم الطبراني، ذخائر العقبى ـ للطبري ـ: 92، الرياض النضرة 2 / 214، شرح النهج ـ لابن أبي الحديد ـ 2 / 449، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ: 46، مجمع الزوائد ـ للهيثمي ـ 2 / 132، منتخب كنز العمال 5 / 47، ينابيع المودّة ـ للقندوزي ـ: 127 و 213، الأربعين ـ للهروي ـ: 65 مخطوط، أرجح المطالب ـ للأمرتسي ـ: 522 و 507 و 518، مفتاح النجا ـ للبدخشي ـ: 60.
3- لسان الميزان 5 / 380، المناقب المرتضوية ـ للكشفي الحنفي ـ: 100، كنز العمال 13 / 90 و 6 / 218، رموز الأحاديث ـ للكمشخانوي ـ: 498.
4- تاريخ بغداد ـ للخطيب ـ 4 / 410، والمناقب ـ لابن المغازلي ـ: 243 ح 290، لسان الميزان 4 / 471، الجامع الصغير ـ للسيوطي ـ 2 / 145، تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ 1 / 454، وغيرها من عشرات المصادر.
____________
1- لاحظ: فهرس ملحقات إحقاق الحقّ 34 / 401، مادة: " ح ب ب ".
المقام الثاني
في ترك القوم فريضة المودّة وتبديلها بسُنّة النّصب والعداوة
قال ابن قدامة في المغني في كتاب الشهادات ـ شروط الشهادة ـ: " الشرط الرابع: العدالة...
فالفسوق نوعان:
أحدهما: من حيث الأفعال فلا نعلم خلافاً في ردّ شهادته.
والثاني: من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد البدعة فيوجب ردّ الشهادة أيضاً، وبه قال مالك وشريك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وقال شريك أربعة لا تجوز شهادتهم، (رافضي) يزعم أن له إماماً مفترضة طاعته، (وخارجي) يزعم أن الدنيا دار حرب..
ـ إلى أن قال ـ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي المختلفون على ثلاثة أضرب.
الأوّل: اختلفوا في الفروع، فهولاء لا يفسقون بذلك ولا تردّ شهادتهم وقد اختلف الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التّابعين.
الثاني: من نفسّقه ولا نكفّره وهو من سبّ القرابة كالخوارج أو سبّ الصحابة كالروافض فلا تقبل لهم شهادة لذلك... "(1).
____________
1- المغني 12 / 28 ـ 29.
وقال في المغني في فصل التوبة من الكتاب المزبور: " وقد ذكر القاضي أنّ التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال: ومن علامة توبتة أن يجتنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السُنّة... "(2).
أقول:
فالرفض أحد تعاريفه لديهم هو: من يعتقد بالإمام المفترض الطاعة من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعلوا هذا الاعتقاد بدعة في الدّين ولا أدري أيّ دين يعنون؟!
هل آية المودّة وآية التطهير وآية المباهلة وسورة الدهر وآية الولاية، والتصدّق في حال الركوع، وآية الإبلاغ في غدير خم من سورة المائدة، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي نزلت في أصحاب الكساء، فضلاً عن الأحاديث النبويّة فيهم كحديث الغدير والسفينة والثقلين والدار والمنزلة والأئمّة من قريش إثنا عشر، وغيرها من الأحاديث النبويّة الكثيرة التي رواها الفريقان، كلّ هذه الحجج من الكتاب والسُنّة ابتداع في الدين الذي يرسمه القوم لأنفسهم؟!
والأنكى أنّ جماعة من أهل سُنّة الجماعة ـ كما نقل التفتازاني في شرح المقاصد(3)، في مبحث الإمامة وغيره في كتب أُخرى ـ قائلون بالنصّ
____________
1- الشرح الكبير بذيل المغني 12 / 39 ـ 40.
2- المغني 12 / 81.
3- تقدّم نقله في الحلقات الأُولى.