قال: ألست أخاك؟!
قال: ما أدري، إلاّ أنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلعنك ليلة الجمل.
قال: إنّه استغفر لي.
قال عمّار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار "(1).
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء، عن شـقيق: " كنّا مع حذيفة جـلوساً فدخـل عبـد الله وأبـو موسـى المسـجد، فقال ـ أي حـذيفـة ـ: أحدهما منافق. ثمّ قال ـ أي حذيفة ـ: إنّ أشـبه الناس هدياً ودلاًّ وسمتاً برسـول الله (صلى الله عليه وآله) عبـد الله "(2).
وروى الشيخ المفيد في أماليه عن عليّ (عليه السلام) ـ بشأن أبي موسى ـ: " والله ما كان عندي مؤتمناً ولا ناصحاً، ولقد كان الّذين تقدّموني استولوا على مودّته، وولّوه وسلّطوه بالإمرة على الناس، ولقد أردت عزله فسألني الأشتر فيه أن أقرّه، فأقررته على كره منّي له، وتحمّلت على صرفه من بعد "(3).
وذكر المسعودي في مروج الذهب: " إنّ أبا موسى ثبّط الناس عن عليّ (عليه السلام) في حـرب الجـمل، فعزله عن الكوفـة وكتب إليه: " اعتزل عملنا يا بـن الحائك مذموماً مدحـوراً، فما هذا أوّل يومنا منك، وإنّ لك فينا لهنّات وهنيّات "(4).
____________
1- تاريخ دمشق 32 / 93، كنز العمّال 13 / 608 ح 37554.
2- سير أعلام النبلاء 2 / 393 رقم 82، تاريخ دمشـق 32 / 93.
3- الأمالي ـ للمفيد ـ: 295 رقم 6.
4- مروج الذهب 2 / 367، تاريخ الطبري 4 / 499 ـ 500.
هذا، ويستفاد من الموارد والنصوص الآنفة عدّة أُمور:
الحادية عشـرة:
إنّ أحد أعضاء مجموعة أهل العقبة والرهط هو عبـد الله بن قيس بن سليم، المشتهر بـ: أبي موسى الأشعري، صاحب البرنس الأسْـود، وهو أوّل بصمات المجموعة يجدها المتتبّع بوضوح، ومنه تتلاحق بقية البصمات.
الثانية عشـرة:
ما تقدّم من قول عليّ (عليه السلام) من أنّ الخلفاء قبله " استولوا على مودّته!! وولّوه وسلّطوه بالإمرة على الناس "، وقال (عليه السلام) له: " فما هذا أوّل يومنا منك، وإنّ لك فينا لهنّات وهنيّات " ; فما هو يا ترى سبب مودّتهم له بالدرجة الشديدة، كما عبّر (عليه السلام): " استولوا على مودّته "؟! وما هو سبب توليتهم وتسليطهم له، على نقيض نفرة حذيفة وعمّار له، وتنويههم وتصريحهم بأنّه من مجموعة أهل العقبة؟!
____________
1- الطبقات الكبرى 4 / 112، تاريخ الطبري 5 / 332، سير أعلام النبلاء 2 / 401 رقم 82.
الثالثة عشـرة:
ما تقدّم من تصريح معاوية بخلّته لأبي موسى الأشعري، كما في شدّة مودّة الخلفاء السابقين له أيضاً، وتوافقهم على توليته وتسليطه على إمارة على الناس..
ذكر الطبري في تاريخه عن جويرية بن أسماء: " قدم أبو موسى على معاوية فدخل عليه في برنس أسْود، فقال: السلام عليك يا أمين الله!!! قال: وعليك السلام.
فلمّا خرج قال معاوية: أقدم الشيخ لأُولّيه، ولا والله لا أُولّيه "(1).
وروى الثقفي في الغارات عن محمّـد بن عبـد الله بن قارب: " إنّي عند معاوية لجالس، إذ جاء أبو موسى فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين!! قال: وعليك السلام، فلمّا تولّى قال: والله لا يلي هذا على اثنين حتّى يموت "(2).
يظهر من ذلك شدّة حرص أبي موسى الأشعري على تولّي الإمارة، وأنّ سيرته في هذا الحرص ـ بالتالي ـ توضّح لنا معالم دواعي مشاركته في عملية الفتك بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأنّ دواعي المجموعة هي الوصول إلى سدّة الحكم والإمارة في ظل أجواء الدين الجديد، لا كبقية المنافقين ممّن يريد إعادة الكفر والشرك مرّة أُخرى جهاراً..
فالظاهر إنّ هذه المجموعة رأت الفرصة متاحة للوصول إلى السلطة
____________
1- تاريخ الطبري 5 / 322، الكامل في التاريخ 2 / 527، أنساب الأشراف 5 / 50.
2- الغارات 2 / 656.
ويتوافق هذا الشاهد في توضيح معالم دواعي أهل العقبة ـ وهي الوصول إلى سدّة الحكم في ظلّ الدعوة الجديدة ـ مع الشاهد المتقدّم سابقاً عنهم من أنّهم من خاصّة أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) بنظر الناس وعامّة المسلمين، أي أنّهم رسموا وصنعوا لأنفسهم صورة لمكانة دينية في أذهان المسلمين، وهذه الصورة هي السلّم والطريق لوصولهم لأمارة الحكم ; ففي ظلّ الدعوة الجديدة يغيب المعيار القبلي والتحالفات العشائرية، ومعيار القدرة المالية، وينفتح باب تقنين جديد لعلاقات المجتمع وشرائعه، ومن الممكن أن يسـنّوا ـ حينئذ ـ ما يوافق تمركز القدرة لهم دون ما يرسـمه الدين، ودون ما يرسـمه ويقننه الدين الإسلامي، ودون ما كانت ترسمه شريعة الجاهلية السابقة..
فلا القدرة الشرعية الدينية المتمثّلة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) ووصيّه أمير المؤمنين ابن عمّه (عليه السلام)، ولا القدرة التقليدية القبلية، بل السماح ببروز قدرة ثالثة في ظلّ الأجواء الجديدة إلاّ أنّها وليد اصطناعي من هذه المجموعة.
وروى الواقدي في المغازي حادثة العقبة كما مرّ وذكر في ذيلها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما سئل عن قتل أُولئك الرهط: " إنّي لأكره أن يقول الناس أنّ محمّـد لمّا انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه.
فقال: يا رسول الله! فهؤلاء ليسوا بأصحاب.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلاّ الله؟!
قال: أليس يظهرون أنّي رسـول الله؟!
قال: بلى، ولا شهادة لهم!
قال: فقد نُهيت عن قتل أُولئك ".
وروى عن أبي سعيد الخدري: " قال: كان أهل العقبة الّذين أرادوا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) ثلاثة عشر رجلاً، قد سمّاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحذيفة وعمّار رحمهما الله ".
وروى عن جابر بن عبـد الله: " قال: تنازع عمّار بن ياسر ورجل من المسلمين في شيء فاستبّا، فلمّا كاد الرجل يعلو عمّاراً في السباب قال عمّار: كم كان أصحاب العقبة؟
قال: الله أعلم.
قال: أخبرني عن علمكم بهم؟!
فسكت الرجل، فقال من حضر: بيّن لصاحبك ما سألك عنه.
وإنّما يريد عمّار شيئاً قد خفي عليهم، فكره الرجل أن يحدّثه، وأقبل القوم على الرجل فقال الرجل: كنّا نتحدّث أنّهم كانوا أربعة عشر رجلاً.
قال عمّار: فإنّك أن كنت منهم فهم خمسة عشر رجلاً.
فقال الرجل: مهلاً، أذكرك الله أن تفضحني.
فقال عمّار: والله ما سمّيت أحداً، ولكنّي أشهد أن الخمسة عشر رجلاً اثنا عشر منهم حرب لله ولرسوله ( في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء
ويستفاد من هذه الموارد أُموراً:
الرابعة عشـرة:
ما تقدّم من أنّ أهل العقبة والرهط هم ممّن يحيط بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) لدرجة عدّهم ـ عند الناس ـ من أصحابه في مقابل بقية الناس..
وقـد روى الصـدوق فـي الخـصال، بإسـناده إلى حـذيفة بن اليمان أنّه قال: " الّذين نفروا برسـول الله ناقته في منصرفه من تبوك أربعة عشـر: أبو الشـرور، وأبو الدواهـي، وأبو المعازف، وأبوه، وطلحة، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو عبيدة، وأبو الأعور، والمغيرة، وسالم مولى أبي حذيفة، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، وعبد الرحمن ابن عوف، وهم الّذين أنزل الله عزّ وجلّ فيهم: ( وهمّوا بما لم ينالوا ) "(2).
الخامسة عشـرة:
إنّ الرجل الذي تنازع معه عمّار فتسابّا يشهد نقل الواقدي أنّه بقدر عمّار في قرب الصحبة من النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولو بنظر الناس ; إذ كيف يسأله عمّار عن عدّة أهل العقبة وعن علمه بهم مع كونه من الأباعد وأوساط الناس..
____________
1- المغازي 2 / 1042 ـ 1045.
2- الخصال: 496 حديث 6.
كما أن تعبير عمّار وخطابه له: " أخبرني عن علمكم بهم " دالّ على كون كلّ مجموعة أهل العقبة هم من قبيل ذلك الرجل، أي من الدائرة القريبة من النبيّ (صلى الله عليه وآله).
كما أنّ تحاشي عمّار عن ذكر أسماء هؤلاء ـ مضافاً إلى كونه وصية النبيّ (صلى الله عليه وآله) له ولحذيفة في تلك الواقعة، ولو بحسب ما دام النبيّ (صلى الله عليه وآله) حياً ـ هو لمكانة أُولئك الرهط في أعين الناس، فكان من المشقّة والصعوبة بمكان كشف الحقائق والأوراق لعامّة الناس.
روى ابن عبـد البرّ في الاستيعاب في ترجمة حذيفة: " من كبار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) و... وكان عمر بن الخطّاب يسأله عن المنافقين وهو معروف في الصحابة بصاحب سرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)... وقتل صفوان وسعيد ابنا حذيفة بصفّين وكانا قد بايعا عليّاً بوصية أبيهما بذلك إيّاهما "(1).
وروى المزّي في تهذيب الكمال، عن قتادة: " قال حذيفة: لو كنت على شاطـئ نـهر، وقـد مـددت يـدي لأغـترف فحـدّثتكم بكلّ مـا أعلـم ما وصلت يدي إلى فمي حتّى أُقتل!! ".
وقال عطاء بن السائب، عن أبي البختري: " قال حذيفة: لو حدّثتكم بحديث لكذّبني ثلاثة أثلاثكم ـ أي كلّكم ـ.
قال: ففطن له شاب فقال: من يصدّقك إذا كذّبك ثلاثة أثلاثنا؟!
____________
1- الاستيعاب ـ بذيل الإصابة ـ 1 / 277 ـ 278.
قال: فقيل له: ما حملك على ذلك؟
فقال: إنّه من اعترف بالشر وقع في الخير ".
وروى عن النزّال بن سبر: " كنّا مع حذيفة في البيت فقال له عثمان: يا أبا عبـد الله! ما هذا الذي يبلغني عنك.
قال: ما قلته.
فقال عثمان: أنت أصدقهم وأبرّهم.
فلمّا خرج قلت: يا أبا عبـد الله! ألم تقل ما قلته؟!
قال: بلى، ولكنّي أشتري ديني ببعضه مخافة أن يذهب كلّه ".
وروى عن بلال بن يحيى: " بلغني أنّ حذيفة كان يقول: ما أدرك هذا الأمر أحد من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلاّ قد اشترى بعض دينه ببعض.
قالوا: فأنت؟!
قال: وأنا.. والله إنّي لأدخل على أحدهم، وليس من أحد إلاّ وفيه محاسن ومساوئ، فأذكر من محاسنه وأعرض عن ما سوى ذلك، وربّما دعاني أحدهم إلى الغذاء فأقول: إنّي صائم ولست بصائم "(1).
ويستفاد من هذه الموارد أُموراً:
السادسة عشـر:
إنّ أسرار المنافقين ـ وعمدتها أسماء مجموعة أهل العقبة ـ لا يحتمل
____________
1- تهذيب الكمال 2 / 75 ـ 77.
كما إنّ حذيفة يصرّح بانسياق وذهاب كثير من الصحابة وراء الدنيا وتكالبهم عليها، ونكث العهود التي أخذها الله ورسوله عليهم.
السابعة عشـرة:
إنّه كانت بين حذيفة وعثمان منافرة ومراقبة ومواجهة بسبب ما يعرفه حذيفة من أسماء أهل العقبة، وكان منها ما يمسّ عثمان وأمثاله من جماعته من الصحابة.
قول ابن حزم في المحلّى: " ومن طريق مسلم(1): نا زهير بن حرب، نا أحمد الكوفي، نا الوليد بن جُمَيع، نا أبو الطفيل، قال: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة ما يكون بين الناس، فقال: انشدك الله كم كان أصحاب العقبة؟ فقال له القوم: أخبره إذ سألك. قال ـ يعني حذيفة ـ: كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر، فإن كنت فيهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة ; قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ولا علمنا بما أراد القوم ".
إلى أن قال ابن حزم: " وأحاديث موقوفة على حذيفة، فيها: أنّه كان يدري المنافقين، وأنّ عمر سأله: أهو منهم؟ قال: لا، ولا أخبر أحداً بعدك بمثل هذا، وأنّ عمر كان ينظر إليه فإذا حضر حذيفة جنازة حضرها عمر وإن لم يحضرها حذيفة لم يحضرها عمر، وفي بعضها: منهم شيخ لو ذاق
____________
1- صحيح مسلم 4 / 2144 ح 11.
وعن حذيفة، قال: مات رجل من المنافقين فلم أذهب إلى الجنازة، فقال: هو منهم، فقال له عمر: أنا منهم؟ قال: لا ".
إلى أن قال: " وعن زيد بن وهب، قال: كنّا عند حذيفة ـ وهو من طريق البخاري(1) ـ فقال حذيفة: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلاّ ثلاثة، ـ يعني قوله تعالى: ( فقاتلوا أئمّة الكفر ) إلى قوله: ( ينتهون )(2) ـ قال حذيفة: ولا بقي من المنافقين إلاّ أربعة. فقال له إعرابي: إنّكم أصحاب محمّـد تخبروننا بما لا ندري، فما هؤلاء الّذين ينقرون بيوتنا ويسرقون أعلافـنا؟ قال: أُولئك الفسّاق، أجـل لم يـبقَ منـهم إلاّ أربـعة، شـيخ كبير لو شرب الماء وجد له برداً ".
ثمّ نقل أحاديث بأنّه (صلى الله عليه وآله) لا يقتل أصحابه: " لا يتحدّث الناس أنّ محمّـداً يقتل أصحابه "(3).
وقال: " إنّه لا خلاف بين أحد من الأُمّة في أنّه لا يحلّ لمسلم أن يسمّي كافراً معلناً بأنّه صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا أنّه من أصحاب النبيّ عليه السلام، وهو عليه السلام قد أثنى على أصحابه، فصحّ أنّهم أظهروا الإسلام فحرّمت بذلك دماؤهم في ظاهر الأمر، وباطنهم إلى الله تعالى في صدق أو كذب، فإن كانوا صادقين في توبتهم فهم أصحابه حقّاً، عند الناس ظاهرهم وعند الله تعالى باطنهم وظاهرهم، فهم الّذين أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)أنّهم: لو أنفق أحدنا مثل أُحد ذهباً ما بلغ نصيف مدّ أحدهم. وإن كانوا
____________
1- صحيح البخاري 6 / 82 ; وفيه: " لو شرب الماء البارد لَما وجد برده ".
2- سورة التوبة 9: 12.
3- المحلّى 11 / 221 ـ 222.
وقال: " وأمّا حديث حذيفة فساقط ; لأنّه من طريق الوليد بن جُميع، وهو هالك، ولا نراه يعلم مَن وَضَع الحديث ; فإنّه قد روى أخباراً فيها أنّ أبا بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهم أرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وإلقاءه من العقبة في تبوك، وهذا هو الكذب الموضوع الذي يطعن الله تعالى واضعه، فسقط التعلّق به، والحمد لله ربّ العالمين "(2).
إلى أن قال: " وأمّا الموقوفة على حذيفة فلا تصحّ، ولو صحّت لكانت بلا شكّ على ما بيّنا من أنّهم صحّ نفاقهم وعاذوا بالتوبة ولم يقطع حذيفة ولا غيره على باطن أمرهم فتورّع عن الصلاة عليهم..
وفي بعضها: أنّ عمر سأله: أنا منهم؟ فقال له: لا، ولا أُخبر أحداً غيرك بعدك. وهذا باطل، كما ترى ; لأنّ من الكذب المحض أن يكون عمر يشكّ في معتقد نفسه حتّى لا يدري أمنافق هو أم لا؟
وكذلك أيضاً لم يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنّ جميع المهاجرين قبل فتح مكّة لم يكن فيهم منافق، إنّما كان النفاق في قوم من الأوس والخزرج فقط، فظهر بطلان هذا الخبر "(3).
ثمّ روى عن البخاري(4): " نا آدم بن أبي إياس، نا شعبة، عن واصل الأحدب، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة، عن حذيفة بن اليمان، قال: إنّ
____________
1- المحلّى 11 / 223.
2- المحلّى 11 / 224.
3- المحلّى 11 / 225.
4- صحيح البخاري 9 / 72 ; وفيه: " يومئذ " بدل: " حينئذ ".
أقـول:
ذكر في تهذيب الكمال في ترجمة الوليد بن جميع: " الوليد بن عبـد الله بن جميع الزهري الكوفي، والد ثابت بن عبـد الله بن جميع، وقد ينسـب إلى جدّه أيضاً. ثمّ نقل عن أحمد بن حنبل وأبي داود قولهما فيه: لا بأس. وعن يحيى بن معين: ثقة ـ وزاد مصحّح الكتاب حكاية الدارمي عن يحيى بن معين ذلك عن ابن محرز، وزاد: مأمون مرضي ـ وكذلك عن العجليّ. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد لا يحدّثنا عن الوليد بن جميع فلمّا كان قبل موته بقليل حدّثنا عنه. وذكره ابن حبّان في كتاب الثقات، روى له البخاري في الأدب، والباقون سوى ابن ماجة "(2).
وذكر مثل ذلك في التهذيب، وقال: " وذكره ـ اي ابن حبّان ـ في الضعفاء، وقال: ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات، فلمّا فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به. وقال ابن سعد: كان ثقة، له أحاديث. وقال البزار: احتملوا حديثه، وكان فيه تشيّع. وقال العقيلي: في حديثه اضطراب. وقال الحاكم: لو لم يخرج له مسلم لكان أوْلى "(3).
فترى أنّهم مسلّمون بوثاقة الوليد بن جُمَيع إلاّ أنّ سبب الطعن بوثاقته
____________
1- المحلّى 11 / 225.
2- تهذيب الكمال 7 / 474 رقم 7308.
3- تهذيب التهذيب 9 / 154.
وقد ذكر ابن جرير الطبري في المسترشد بعض تلك الروايات..
قال: " وروى عبيد الله بن موسى، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، عن حذيفة أو عمّار، قال: تجسّسوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة:... "، وذكر جماعة من الصحابة..
وروى أنّه (صلى الله عليه وآله) قال ـ بعد فشل أصحاب العقبة في تنفير راحلته ومطالبة بعض من كان معه بقتل تلك المجموعة ـ: " إنّي أكره أن يقول الناس: أنّ محمّـداً لمّا انقطعت الحرب بينه وبين المشركين، وضع يده في قتل أصحابه. فقال: يا رسول الله! فإنّ هؤلاء ليسوا بأصحاب. قال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلاّ الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم. قال: أليس يظهرون أنّي رسول الله؟ قال: بلى، ولا شهادة لهم. قال: فقد نهيت عن قتل أُولئك "(1).
وأخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة حذيفة(2): " وكان النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قد أسرّ إلى حذيفة أسماء المنافقين، وضبط عنه الفتن الكائنة في الأُمّة(3).
وقد ناشده عمر: أأنا من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أُزكّي أحداً بعدك(4) "(5).
____________
1- المسترشد ـ لمحمّـد بن جرير الطبري ـ: 593.
2- سير أعلام النبلاء 2 / 361 رقم 76.
3- انظر: البخاري 13 / 40 ـ 41 في الفتن، ومسلم: 144، والترمذي: 2259.
4- نسبه في الكنز 13 / 344 إلى رستة.
5- سير أعلام النبلاء 2 / 364.
خالد، عن أبي قلابة، عن حذيفة، قال: إنّي لأشتري ديني بعضه ببعض ; مخافة أن يذهب كلّه(1).
أبو نعيم: حدّثنا سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى، قال: بلغني أنّ حذيفة كان يقول: ما أدركَ هذا الأمر أحد من الصحابة إلاّ قد اشترى بعض ديـنه ببعض. قالـوا: وأنـت؟ قال: وأنا والله، إنّي لأدخـل على أحدهـم ـ وليس أحد إلاّ فيه محاسن ومساوئ ـ فأذكر من محاسنه وأُعرض عمّا سوى ذلك "(2).
وروى الديلمي في إرشاد القلوب حادثة أُخرى مشابهة ـ هي المحاولة الثانية لأصحاب عقبة تبوك ـ وقعت عقب بيعة غدير خمّ وتنصيب الرسول (صلى الله عليه وآله) الإمام عليّ (عليه السلام) خليفة من بعده ; إذ اجتمعوا " ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب، وأجالوا الرأي فاتّفقوا على أن ينفروا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)ناقته على عقبة الهريش، وقد كانوا صنعوا مثل ذلك في غزوة تبوك، فصرف الله الشرّ عن نبيّه (صلى الله عليه وآله)..
فاجتمعوا في أمر رسول الله من القتل والاغتيال واستقاء السمّ على غير وجه، وقد اجتمع أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الطلقاء من قريش والمنافقين من الأنصار، ومَن كان في قلبه الارتداد من العرب في المدينة، فتعاقدوا وتحالفوا على أن ينفروا به ناقته، وكانوا أربعة عشر رجلا، وكان
____________
1- حلية الأولياء 1 / 279.
2- سير أعلام النبلاء 2 / 368.
وقال: " قال حذيفة: ودعاني رسول الله ودعا عمّار بن ياسر وأمره أن يسوقها وأنا أقودها حتّى إذا صرنا في رأس العقبة ثار القوم من ورائنا ودحرجوا الدباب بين قوائم الناقة فذعرت وكادت أن تنفر برسول الله... "، ثمّ ذكر تفاصيل الحدث قريب ممّا جرى في عقبة تبوك..
" قال حـذيفة: فقلت ـ أي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ: ومَن هؤلاء المنافقون يا رسول الله! أمن المهاجرين أم الأنصار؟ فسمّاهم لي رجلا رجلا حتّى فرغ منهم، وقد كان فيهم أُناس أكره أن يكونوا منهم فأمسكت عن ذلك.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا حذيفة! كأنّك شاكّ في بعض مَن سمّيت لك؟! ارفع رأسك إليهم. فرفعت طرفي إلى القوم وهم وقوف على الثنية، فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا وثبتت البرقة حتّى خلتها شمساً طالعـة، فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلا رجلا، وإذا هم كما قال رسـول الله، وعدد القوم أربعة عشـر رجلا، تسـعة من قريش وخمسـة من سائـر الناس... "(1).
وقد ذكرنا في حلقات سابقة ما رواه مسلم في صحيحه عن قيس بن عبّاد: " قال: قلت لعمّار: أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر عليّ، أرأياً رأيتموه أو شيئاً عهده إليكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!
فقال: ما عهد إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً لم يعهده إلى الناس كافّة، ولكن حذيفة أخبرني عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: في أصحابي اثنا عشر منافقاً،
____________
1- راجع تفاصيل الحادثة والأسماء في: إرشاد القلوب: 330 ـ 332.
ومن الواضح أنّ حكاية عمّار عن حذيفة حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الاثني عشر منافقاً ـ عدد أصحاب العقبة الّذين نفروا دابّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ في ذلك الوقت، تعريض بأنّ بعض الصحابة كانوا من جملة الاثني عشر، لا سيّما وأنّ عمّار وحذيفة هما اللّذان كانا مع الرسول (صلى الله عليه وآله) حينها، وأنّ تعبيره (صلى الله عليه وآله) كان: " في أصحابي "، الذي يعطي اختصاصهم القريب بالصحبة لـه (صلى الله عليه وآله).
وروى مسلم في صحيحه أيضاً في كتاب صفات المنافقين روايات أُخرى فيهم نقلناها في الحلقات المتقدّمة، فلتلحظ.
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن زيد بن وهب الجهني، يحدّث عن حذيفة: " قال: مرّ بي عمر بن الخطّاب وأنا جالس في المسجد فقال: يا حذيفة! إنّ فلاناً قد مات فاشهده. قال: ثمّ مضى حتّى إذا كاد أن يخرج من المسجد التفت إليّ فرآني وأنا جالس فعرف، فرجع إليّ فقال: يا حذيفة! أنشدك الله أمن القوم أنا؟ قال: قلت: اللّهمّ لا، ولن أُبرّئ أحداً بعدك، قال: فرأيت عيني عمر جاءتا "(2).
وروى هذه الرواية ابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب بسنده(3).
وجواب حذيفة في هذه الرواية يتضمّن التعريض الشديد، كما هو طافح من ألفاظه ; إذ ما معنى: " ولن أُبرّئ أحداً بعدك "؟! فإنّ أيّ فرد من
____________
1- صحيح مسلم 4 / 2143 ح 9، كتاب صفات المنافقين.
2- تاريخ مدينة دمشق 12 / 276.
3- بغية الطلب في تاريخ حلب 5 / 2167.
والتعبير بـ: " لن أُبرّئ أحداً بعدك " يعطي: لن أُبرئ أحداً من الجماعة الخاصّة التي هي أصحاب العقبة ; فالتعبير " أُبرّئ " أي: أُثبت له البراءة مع كونه متورّطاً في عملية الاغتيال المدبّر في العقبة ; ولذلك قال بعد ذلك: " فرأيت عيني عمر جاءتا " أي: وقع في دهشة وهلع شديد، وذلك لكون جواب حذيفة صريح بالتخلّص الذكي ; وهو لا يعني تبرئة صافية عن شوب التعريض بالنفي.
مضافاً إلى أنّ الرجل الميت الذي كنّى عنه حذيفة بـ: " فلان " لا بُدّ أن يكون من رجالات الدولة البارزين ; حتّى سبّب حصول التساؤل لدى عمر عن حاله عند حـذيفة، وعن مـدى معرفة حذيفة بجميع أصحاب العقبة، وإلاّ فكيف لا يعرف ـ و ( الإنسان على نفسه بصيرة )(1) ـ أنّه كان منهم أم لم يكن؟!!
فلا بُدّ وأن يكون مصبّ السؤال هو عن مدى معرفة حذيفة بتمام المجموعة.
ومثل هذا التساؤل قد يوحي ويقضي بتورّط السائل ; لأنّ البريء لا يحصل لديه الشكّ في كونه من مجموعة العقبة..
والسبب في الشكّ بمعرفة حذيفة بالمجموعة هو أنّ وقت تنفيذ العملية في العقبة كان ليلا مظلماً، وكانت الجماعة ملثّمة، وعندما تصدّى لهم حذيفة وعمّار ورجعوا واختفوا في الناس ظنّوا وحسبوا أنّ حذيفة
____________
1- سورة القيامة 75: 14.