وروى ابن عساكر عن النزّال بن سبرة الهلالي: " قال: وقفنا من عليّ ابن أبي طالب ذات يوم طيب نفس ومراح فقلنا: يا أمير المؤمنين! حدّثنا عن أصحابك ـ إلى أن قال: ـ فحدّثنا عن حذيفة، قال: فذاك امرؤ علم المعضلات والمفصّلات، وعلم أسماء المنافقين، إن تسألوه عنها تجدوه بها عالماً "(3)..
وقد تكرّر تسمية علم أسماء المنافقين بعلم المعضلات في الأحاديث الواردة في حذيفة، وذلك إشارة إلى خطورة الأسماء المندرجة في تلك القائمة بحيث أنّ ذلك معضل يصعب إفشاؤه علناً أمام عامّة الناس.
وروى في بغية الطلب في تاريخ حلب بسنده عن النمري: " وكان عمر بن الخطّاب يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة بصاحب سرّ رسول الله، وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر "(4).
____________
1- سورة الإسراء 17: 60.
2- سورة العنكبوت 29: 2 ـ 3.
3- تاريخ مدينة دمشق 12 / 275.
4- بغية الطلب في تاريخ حلب 5 / 2159.
وروى الذهبي بسـنده، وغـيره، عن بلال بن يحـيى: " إنّ حـذيفة أُتي وهو ثقيل بالموت فقيل له: قتل عثمان فما تأمرنا؟ فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أبو اليقظان على الفطرة، ثلاث مرّات، لن يدعها حتّى يموت أو يلبسه الهرم "(2). والذيل لم يسلم من تصرّف بعض الرواة.
وروي عن حذيفة بأسانيد مختلفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر "(3).
هذا، والمتصفّح لترجمة حذيفة بن اليمان في كتب السير والتراجم، ولرواياته في كتب الحديث يستشرف أنّ ولاءه وهواه مع عليّ (عليه السلام)وأصحابه كعمّار بن ياسر، وقد آخى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بينه وبين عمّار، وأنّه كان يتحفّظ في تعامله مع أصحاب السقيفة، وقد مرّ لوم عثمان بن عفّان له على كلام تحدّث به فلمّا أحضره أنكر حذيفة ذلك، كعادته في التحفّظ، كما مرّ ذلك في كلامه المروي عنه.
وروى البخاري في التاريخ الكبير عن قيس بن رافع، أنّه: " سمع حذيفة قال: كيف لا يضيع أمر أُمّة محمّـد صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم إذا
____________
1- بغية الطلب في تاريخ حلب 5 / 2160.
2- سير أعلام النبلاء 1 / 417. وأخرجه ابن سعد في الطبقات 3 / 1 رقم 188، وذكره الهيثمي في المجمع 9 / 259 ; وقال: ورواه الطبراني والبزّار باختصار، ورجالهما ثقات.
3- الكامل ـ لابن عدي ـ 4 / 148، الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ 3 / 111، تاريخ مدينة دمشق 42 / 372.
وروى ابن عدي بسنده عن حذيفة، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، قال: " يكون لأصحابي بعدي زلّة فيغفر الله لهم بسابقتهم معي، يعمل قوم بها بعدهم يكبّهم الله في النار على مناخرهم "(2).
والحديث قد اشتمل على معنىً متدافع، وهو إنّ الزلّة تُغفر لجماعة وتُدخل النار جماعة أُخرى، والظاهر أنّ الجملة المتوسّطة ـ وهي الغفران بسبب الصحبة السابقة ـ زيادة من يد الوضع، كما في مقولة: " المغفرة للصحابي وإن بلغ عمله الطالح ما بلغ "، والتي تعرّضنا لزيفها في الحلقات السابقة بدلالة آيات " الأنفال " في واقعة بدر وآيات " آل عمران " في واقعة أُحـد..
والحديث وإن اشتمل على هذه الزيادة، وعلى هذا المعنى المتدافع، إلاّ أنّ أصله متطابق مع الأحاديث المستفيضة الواردة وجملة من الآيات الدالّة على الإحداث والتبديل.
ولنعم ما قال الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): " إنّ العرب كرهت أمر محمّـد (صلى الله عليه وآله)، وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه حتّى قذفت زوجته، ونفرت به ناقته مع عظيم إحسانه إليها، وجسيم مننه عندها، وأجمعت مذ كان حيّاً على صرف الأمر عن بيته بعد موته، ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرياسة، وسلّماً إلى العزّ والإمرة لَما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً "(3).
____________
1- التاريخ الكبير 7 / 149.
2- الكامل ـ لابن عدي ـ 4 / 148.
3- شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 20 / 298.
المظاهرة بالمكيدة
الثانية:
أمّا الواقعة الخطيرة الثانية التي وقعت من بعض خواصّ الصحابة، فهي المظاهرة والمؤازرة على الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله)، والتي أشار إليها القرآن الكريم في سورة التحريم بالخصوص، وكذلك في بعض آيات من سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله)، وآية من سورة البقرة..
قال تعالى في سورة التحريم: ( وإذ أسرّ النبيّ إلى بعض أزواجه حديثاً فلمّا نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلمّا نبّأها به قالت مَن أنبأك هذا قال نبّأنيَ العليم الخبير * إن تتوبا إلى الله فقد صغتْ قلوبُكُما وإن تظاهرا عليه فإنّ اللهَ هو مولاهُ وجبريلُ وصالحُ المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ * عسى ربُّهُ إن طلّقكُنّ أن يُبدِلَهُ أزاوجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيّبات وأبكاراً ).
إلى قوله تعالى: ( يا أيّها النبيّ جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّمُ وبئس المصيرُ * ضرب الله مثلا للّذين كفروا
والقراءة المبتدأة للسورة، والتدبّر للوهلة الأُولى في سياق آياتها وأُسلوب خطابها يوقف الناظر على أنّ هناك حديثاً أسرّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى بعض أزواجه فقامت بإفشاء سرّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى زوجة أُخرى، أو بالإضافة إلى جماعة أُخرى..
واستعقب هذا الحديث مأرباً لزوجتي النبيّ (صلى الله عليه وآله)، والقيام بتدبير مناهض له، ومكيدة واحتيالا في غاية الخطورة على وجود النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ممّا استدعى نفيراً إلهياً عامّاً، وتعبئة شاملة لجنود الرحمن، وأوجب تحذيراً وتهديداً معلناً من قبله تعالى لأصحاب المؤامرة.
ولا يعقل في الحكمة العقلية، فضلا عن الحكمة الإلهية، أن يكون كلّ هذا الاستعراض للقوّة الإلهية في قبال خلاف في الأُمور الزوجية حدث بينه (صلى الله عليه وآله) وبين زوجتيه، بل لا محالة أنّ الحدث وإن ابتدأ بذلك إلاّ أنّه انتهى إلى المواطأة الدهياء على النبيّ (صلى الله عليه وآله).
ومن المنطقي اتّصال هذه المواطأة بأصحاب مصلحة في إجرائها، وأنّهم على مكمن إعداد وتهيّئ لتنفيذها، فهي على اتّصال محتمل بقوّة مع الحادثة الخطيرة الأُولى الواقعة في عقبة تبوك.
وقـد توصّلنا ثمّـة إلى تجـميع العديد من خـيوط المجموعة التي قامت بارتكاب محاولة الاغتيال، والملفت للنظر أنّ تلك المجموعة على
____________
1- سورة التحريم 66: 3 ـ 10.
ولنستعرض أقوال المفسّرين، والروايات الواردة من الفريقين في ذيل السورة، ثمّ نرجع إلى متن السورة ونمعن النظر في معانيها مرّة أُخرى ; لنتعرّف على ملابسات الحدث بصورة أوضح وأشمل..
قال في الدرّ المنثور: " أخرج ابن سعد، وعبـد بن حميد، والبخاري، وابن المنذر، وابن مردويه، عن عائشة: إنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أن أيّتنا دخل عليها النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فلتقل: إنّي أجد منك ريح المغافير، أكلت مغافير؟
فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعود. فنزلت: ( يا أيّها النبيّ لم تحرّمُ ما أحلّ الله لك ) إلى: ( إن تتوبا إلى الله ) لعائشة وحفصـة "(1).
وقال أيضاً: " وأخرج النسائي، والحاكم وصححّه، وابن مردويه، عن أنس: إنّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم كانت له أمَة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتّى جعلها على نفسه حراماً، فانزل الله هذه الآية...
وأخرج الترمذي، والطبراني، بسند حسن صحيح، عن ابن عبّـاس، قال: نزلت: ( يا أيّها النبيّ لم تحرّمُ ).. الآية، في سريّته.
____________
1- الدرّ المنثور 6 / 239، سورة التحريم.
وكان بدء الحديث في شأن مارية أُمّ إبراهيم القبطية، أصابها النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم في بيت حفصة في يومها، فوجدت حفصة، فقالت: يا نبيّ الله! لقد جئت شيئاً ما جئته إلى أحد من أزواجك، في يومي وفي داري وعلى فراشي؟
فقال: ألا ترضين أن أحرّمها فلا أقربها. قالت: بلى.
فحرّمها، وقال: لا تذكري ذلك لأحد. فذكرته لعائشة (رض)، فأظهره الله عليه، فأنزل الله: ( يا أيّها النبيّ لم تحرّمُ ما أحلّ الله لك )، الآيات كلّها، فبلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم كفّر عن يمينه وأصاب جاريته "(1).
وقال: " وأخرج ابن سعد، وابن مردويه، عن ابن عبّـاس (رض)، قال: كانت عائشة وحفصة متحابّتين، فذهبت حفصة إلى بيت أبيها تحدّث عنده، فأرسل النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم إلى جاريته... ".
ثمّ ذكر بقية القصّة، وفيها: " فأسرّت إليها ـ أي حفصة لعائشة ـ: أن أبشري إنّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قد حرّم عليه فتاته، فلمّا أخبرت بسرّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم أظهر الله النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم عليه، فأنزل الله: ( يا أيّها... )... "(2).
____________
1- الدرّ المنثور 6 / 239.
2- الدرّ المنثور 6 / 239.
فقلت: أنا غَيْرَى ما أدري شبهاً. فقال: ولا باللحم؟!
فقلت: لعمري لَمن تغذّى بألبان الضان ليحسن لحمه.
قال: فجزعت عائشة (رض) وحفصة من ذلك، فعاتبته حفصة، فحرّمها، وأسرّ إليها سرّاً فأفشته إلى عائشة (رض)، فنزلت آية التحريم، فاعتق رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم رقبة "(1).
ويتبيّن من هذه الرواية الأخيرة التي أوردها السيوطي أنّ السرّ الذي أفشـته حفصـة لعائشة ليس هو تحريم مارية على نفسه (صلى الله عليه وآله)، بل هو أمر آخـر..
كما يتبيّن من الروايات السابقة التي أوردها أنّ هناك تحالفاً شديداً بين حفصـة وعائشة، وأنّهما كانتا تغاران بشدّة من مارية ومن ولادتها إبراهيم ابناً للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأنّهما كانتا تمانعان من الشبه له به (صلى الله عليه وآله)، وهذه بصمات لحديث الإفك.
____________
1- الدرّ المنثور 6 / 240.
ثمّ إنّ السيوطي روى روايات عديدة عن ابن مردويه، وابن عساكر، والطـبرانـي، وابـن المـنذر، وعبـد الرزّاق، والبخـاري، وغـيرهـم، عن ابن عبّـاس، وعائشـة، وغـيرهما: أنّ السـرّ الذي أسـرّه النبيّ إلى حفصـة هو في أمـر الخلافـة من بعـده (صلى الله عليه وآله)، وأنّ الذي سيلي الأمـر بعده أبويهما، إلاّ أنّ ألفاظ الروايات مختلفة..
ففي بعضها: " قال: أسرّ إلى عائشة في أمر الخلافة بعده، فحدّثت به حفصـة ".
وفي بعضها: " إنّ إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب: ( وإذ أسرّ النبيّ إلى بعض أزواجه حديثاً )، قال لحفصة: أبوك وأبو عائشة واليان الناس بعدي، فإيّاك أن تخبري أحداً ".
وفي بعضها: " أنّه (صلى الله عليه وآله) قال لحفصة: لا تخبري عائشة حتّى أُبشّرك بشارة، فإنّ أباك يلي الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ. فذهبت حفصة فأخبرت عائشة، فقالت عائشة للنبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم: ( من أنبأك هذا )؟ قال: ( نبّأنيَ العليم الخبير ) "(1).
والغريب في صياغات هذه الأحاديث أنّها تعبّر عن هذا السرّ بأنّه: " بشارة "، أو أنّه: " عهد من الباري تعالى "، وأنّه: " من فضائل الصديق
____________
1- الدرّ المنثور 6 / 241.
من البيّن الشاهر أنّ المناخ الذي تصوّره السورة هو جوٌّ ملبّدٌ بظلمة المجابـهة، والمواجـهة، والاسـتعداد، وإثم قلوبهما واستدعائه التوبة إلى الله تعالى..
وقد روى في الدرّ المنثور عن مجاهد، قال: كنّا نرى أنّ ( صغت قلوبكما ) شيء هيّن، حتّى سمعناه بقراءة عبـد الله: ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ).
وفي التمثيل والتعريض في ذيل السورة بامرأتي نوح ولوط، وأنّهما مثلا للّذين كفروا، قال الرازي في تفسيره: " وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض بأُمّي المؤمنين، وهما: حفصة وعائشة، لِما فرط منهما، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشـدّه ; لِما في التمثيل من ذكر الكفر "(1)..
وإنّ الخيانة التي ارتكبتها امرأتي نوح ولوط كانت في الدين، وعداوتهما للنبيّيْن العظيميْن كانت في رسالتيهما الإلهيّتين، فكيف يكون كلّ هذا المسار الذي ترسمه الآية هو عن بشارة خلافة والدي عائشة وحفصة؟!
بل لو كان الحـال حـال بشارة لاقتضـى طبـع الحـال تعاونهما مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لِما جبلت عليه الطباع من الميل إلى نفع الرحم، ولو كان الحال
____________
1- التفسير الكبير 30 / 49.
وكيف يكون ما فعلتاه مضادّة لدين النبيّ (صلى الله عليه وآله) على حذو مضادّة امرأة نوح وامرأة لوط، لو كان خبر خلافة أبي بكر وعمر عهد معهود من رضا الربّ المعبود؟!
ثمّ كيف يتلائم كون خلافتهما عهداً في الكتاب ويصرّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)على إخفائه وعدم تبليغه للناس، ويكون إفشاؤه من ابنتيهما مضادّة لله ولرسوله وخيانة في الدين؟!
ولمَ لا ينزل الكتاب بذلك، كما نزلت في عليّ (عليه السلام) عشرات الآيات، كقوله تعالى: ( إنّما وليُّكم اللهُ ورسولُه والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولّ اللهَ ورسولَه والّذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون )(1)..
وقوله تعالى: ( يا أيّها الرسولُ بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس إنّ الله لا يهدي القومَ الكافرينَ )(2)، الذي نزل في غدير خمّ.
نعم، كون الخبر وصول أبويهما إلى سدّة الحكم هو ظاهر اتّفاق روايات الفريقين ـ كما ستأتي بقيّتها ـ لكن هل أنّه بشارة وعهد أم أنّه نذارة وتغلّب ونزاع مع الحقّ وأهله؟! فهذا ما اختلفت فيه الروايات..
وسياق السـورة صدراً وذيلا يتنافـى مع الأوّل ويتوافـق مع الثاني ;
____________
1- سورة المائدة 5: 55 ـ 56.
2- سورة المائدة 5: 67.
روى في الدرّ المنثور، عن الطبراني في الأوسط، وابن مردويه: " ( فلمّا نبّأت به ): يعنى عائشة، ( وأظهره الله عليه ): أي بالقرآن، ( عرّف بعضه ): عرّف حفصة ما أظهر من أمر مارية، ( وأعرض عن بعض ): عمّا أخبرت به من أمر أبي بكر وعمر، فلم يبده، ( فلمّا نبّأها به ) إلى قوله: ( الخبير )، ثمّ أقبل عليهما يعاتبهما فقال: ( إن تتوبا إلى الله ) ".. الحديث(1).
وفي هذا الحديث إلفاتة حسّاسة، هي: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم ينبئ حفصة أو عائشة عمّا فعلتاه من إفشاء الخبر المرتبط بأمر أبي بكر وعمر وما اتّصل من أُمـور أُخرى بذلك الأمر، ممّا عدّه القرآن الكريم تظاهر وتواطؤ على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ودين الله تعالى، وممّا له صلة أمنية خطيرة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) ; الذي استدعى هذا النفير والتعبئة الإلهية الشاملة..
فهذه قصاصة وثائقية بالغة المؤدّى تقتضي أنّ التدبير الخفي الذي قامتا به هو ممّا يتّصل بأمر أبي بكر وعمر من بعده (صلى الله عليه وآله).
والغريب ما في جملة من تفاسير أهل سُـنّة الجماعة ورواياتهم من تصوير هذه التظاهرة التي قامتا بها على النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّها شأن دارج في الحياة الزوجية، واستدعى كلّ هذا الصخب والاهتمام منه تعالى والإنذار الشديد اللحن..
فقد روى السيوطي عن عبـد بن حميد، ومسلم، وابن مردويه، عن ابن عبّـاس: " قال: حدّثني عمر بن الخطّاب، قال:... فقلت: يا رسول الله!
____________
1- الدرّ المنثور 6 / 240 ـ 241.
وآثار الوضع لائحة بيّنة على هذا الحديث ; إذ يتضمّن المتناقضات، فإنّ المنازعة الزوجية الاعتيادية إذا استلزمت هذه النصرة المهيبة فتكون أشبه بالهزل البارد منها بالحدث الجدّي الخطير، وحاشاه تعالى عن الباطل..
كما تضمّن أنّ تظاهرهما هو على بقية أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وهو مخالف لصريح القرآن الكريم من أنّ المجابهة في تدبيرهما الخفي كانت قبال النبيّ (صلى الله عليه وآله)..
كما تضمّن أنّ " صالح المؤمنين " هو: أبو بكر وعمر، فكيف يكونا في طرف النبيّ (صلى الله عليه وآله) في هذه الحادثة الواقعة، والحال أنّ ابنتيهما بشّرتاهما بأمرهما بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأنّه عهد معهود مرضي من ربّ العزّة؟!!
وكيف يكونا فـي الطـرف المـقابل لابنتيـهما ولم تقومـا بإفشاء السرّ إلاّ بما هو بشارة لهما؟!
____________
1- الدرّ المنثور 6 / 242 ـ 243.
وما الذي بنى عليه الأربعة وأطلق القرآن عليه: " تظاهرٌ منهما " على النبيّ (صلى الله عليه وآله)؟!
والأظـرف ذكر هذه النبـوءة لعمر: " قلّما تكلّمت وأحـمد الله بكلام إلاّ رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقوله... ".. وإن كانت الموارد التي نزل الوحي فيها مطابقاً لكلامه جميعها تحتاج إلى بحث مبسوط ; كي يتبيّن النسيج المحبوك لهذه الموضوعات.
وروى ابن كثير في تفسيره، عن مجاهد: إنّ " صالح المؤمنين " هو الإمام عليّ (عليه السلام)، ورواه أيضاً بطريق آخر(1).
وروى في الدرّ المنثور روايات متعدّدة في " صالح المؤمنين ": فتارة أنّه: أبو بكر وعمر، وأُخرى: عمر، وثالثة: قال: " وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان (رض) في قوله: ( وصالح المؤمنين )، قال: أبو بكر وعمر وعليّ (رض) "، ورابـعة: أنّه: الأنبياء (عليهم السلام)، وخامسة: قال: " وأخرج ابن أبي حاتم... قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم في قوله: ( وصالح المؤمنين )، قال: هو عليّ بن أبي طالب..
وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس: سمعت رسول الله صلّى
____________
1- تفسير ابن كثير 4 / 415.
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر، عن ابن عبّـاس في قوله: ( وصالح المؤمنين )، قال: هو عليّ بن أبي طالب "(1).
وقال القرطبي ـ بعدما نقل الأقوال في " صالح المؤمنين " أنّه: أبو بكر أو عمر ـ: " وقيل: هو عـليّ ; عن أسماء بنت عميس، قالت: سمعت رسـول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ( وصالح المؤمنين ): عليّ بن أبي طالب "(2).
وروى مثل ذلك الثعلبي في تفسيره(3).
وحكى ابن الجوزي في زاد المسير أنّه: " عليّ (عليه السلام)، حكاه الماوردي ; قاله الفرّاء "(4)..
وفي كون " صالح المؤمنين " عليّاً (عليه السلام) بالغ المعنى ; فإنّ أبا بكر وعمر ـ كما مرّ ـ هما من الطرف الآخر في الحادثة، لأنّهما ممّن أُفشي لهما الخبر الذي نجم عنه التظاهر والتواطؤ على النبيّ (صلى الله عليه وآله)..
ففي الآية مقابلة بين تلك المجموعة المتواطئة على دين الله ونبيّه وبين معسكر الدين والتوحيد بقيادة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأنّ " صالح المؤمنين " وليّه وحاميه بعد الله تعالى وجبرئيل، وهي لا تخلو من دلالة على التخالف والتقابل بين الولايتين، بين ولاية أبي بكر وعمر ـ التي كانت السرّ الذي
____________
1- الدرّ المنثور 6 / 243 ـ 244.
2- الجامع لأحكام القرآن 18 / 192.
3- تفسير الثعلبي 9 / 348.
4- زاد المسير ـ لابن الجوزي ـ 8 / 52.
قال الزمخشري في ذيل السورة: " ( ضرب الله مثلا للّذين كفروا امرأتَ نوح وامرأتَ لوط كانتا تحت عبدينِ من عبادنا صالحيْنِ فخانتاهما فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النارَ مع الداخلينَ ): مثّل الله عزّ وجلّ حال الكفّار ـ في أنّهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم، من غير إبقاء ولا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر ; لأنّ عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبتّ الوصل وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي يتّصل به الكافر نبيّاً من أنبياء الله ـ بحال امرأة نوح وامرأة لوط، لمّا نافقتا وخانتا الرسولين لم يغنِ الرسولان عنهما بحقّ ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناءً ما من عذاب الله، ( وقيل ) لهما عند موتهما أو يوم القيامة: ( ادخلا النار مع ) سائر ( الداخلين ) الّذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء...
ـ إلى أن قال: ـ وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأُمّي المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه ; لِما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه في التغليظ قوله تعالى: ( ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين )، وإشارة إلى أنّ من حقّهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ـ أي: آسية ومريم ـ وأن لا تتّكلا على أنّهما زوجا رسول الله ; فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلاّ مع كونهما مخلصتين.
ـ إلى أن قال: ـ فإن قلت: ما كانت خيانتهما؟ قلت: نفاقهما وإبطانهما الكفر، وتظاهرهما على الرسولين ; فامرأة نوح قالت لقومه: إنّه مجنون، وامرأة لوط دلّت على ضيافته، ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ; لأنّه سـمج في الطباع، نقيصـة عند كلّ أحـد، بخلاف الكفر، فإنّ الكفّار لا يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمّونه حقّاً، وعن ابن عبّـاس (رض): ما بغت امرأة نبيّ قط "(1).
وقد ذكر الفخر الرازي هذا التساؤل بعينه، وقرّر أنّ الخيانة هي: النفاق وإخفاء الكفر، والتظاهر على الرسولين.
وروى السيوطي في الدرّ، قال: " وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج (رض) في قوله: ( فخانتاهما )، قال: كانتا كافرتين مخالفتين، ولا ينبغي لامرأة نبيّ أن تفجر "(2).
ولا يخفى على الناظر في ذيل السورة مقدار شدّة اللحن من التمثيل بزوجتي النبيّين، ممّا يتّحد مع الممثّل له والمعرّض به، وكون جهة التمثيل والتعريض هي: العداوة الدينية والنفاق وإبطان الكفر، ومن ثمّ التظاهر على الرسولين ; فأين يجد الباحث هذه الصفات في الحادثة الواقعة في أوّل السورة؟!
هل هي في مجرّد الغيرة الزوجية؟!
____________
1- الكشّاف 4 / 571 ـ 572.
2- الدرّ المنثور 6 / 245.
فما هي ملابسات الحادثة التي انطبقت عليها الخيانة الدينية العظمى؟!
كما لا يخفى أنّ ذيل السورة قد اشتمل أيضاً على مقابلة بين معسكر النفاق والكفر المبطـن، وبين معسكر الصلاح والاصطفاء..
روى السيوطي في الدرّ ـ في ذيل السورة ـ قال: " وأخرج أحمد، والطبرانـي، والحاكـم وصـحّحه، عن ابن عبّـاس (رض)، قال: قال رسـول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم: أفضل نساء أهل الجنّة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّـد صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، مع ما قصّ الله علينا من خبرهما في القرآن، ( قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة )(1) "(2).
وروى الزمخشري في الكشّاف: " وعن النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ]وسلّم: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّـد "(3).
____________
1- سورة التحريم 66: 11.
2- الدرّ المنثور 6 / 246.
3- الكشّاف 4 / 573 ; وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف: أخرجه الثعلبي من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، سمع مرّة عن أبي موسى بهذا.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن مرّة من هذا الوجه ; قال: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا يوسف القاضي، حدّثنا عمرو بن مرزوق بهذا.
وهو فـي البخاري من روايـة مرّة عن أبي موسـى دون ذكر خديجة وفاطمة رضي الله عنهما!!!
وفي ابن حبّان والحاكم من حديث ابن عبّـاس (رض) رفعه: " أفضل نساء العالمين أربع:... "، فذكره.
وقال: " وروى قتادة، عن أنس، عن رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ]وسلّم، قال: حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّـد، وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم "(2).
وروى عبـد الـرزّاق الصـنعانـي بسـنده عن أنس بـن مالك، عن رسـول الله (صلى الله عليه وآله) مثله(3)..
ورواه الطبري في تفسيره عن أنس أيضاً، وعن أبي موسى الأشعري(4).
وبذلك تتبلور صورة المواجهة وأطرافها بشكل أوضح نساءً ورجالا.
وقال القرطبي في ذيل السورة: " ( فخانتاهما ): قال عكرمة والضحّاك: بالكفر، وقال سليمان بن رقية، عن ابن عبّـاس: كانت امرأة نـوح تقـول للناس: إنّه مجـنون، وكانت امرأة لوط تخـبر بأضيافه، وعنه:
____________
1- الجامع لأحكام القرآن 4 / 83، ومثله في تفسير ابن كثير 1 / 370، و 4 / 420 ـ 421.
2- الجامع لأحكام القرآن 18 / 204.
3- تفسير القرآن ـ للصنعاني ـ 1 / 121.
4- جامع البيان 3 / 358.