ما بغت امرأة نبيّ قط. وهذا إجماع من المفسّرين..
فيما ذكر القشيري: إنّما كانت خيانتاهما في الدين وكانتا مشركتين. وقيل: كانتا منافقتين، وقيل: خيانتهما النميمة ; إذ أوحى الله إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين ; قاله الضحّاك... ".
وقال: " قال يحيى بن سلام: قوله: ( ضرب الله مثلا للّذين كفروا ): مثلٌ ضربه الله يحذّر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم، ثمّ ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم بنت عمران ; ترغيباً في التمسّك بالطاعة والثبات على الدين "(1).
وقال الشوكاني في قوله تعالى: ( فقد صغت قلوبكما ): " واخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عبّـاس في قوله: ( فقد صغت قلوبكما )، قال: زاغت وأثمت "(2).
وقال: " وأخرج البزّار والطبراني ـ قال السيوطي: بسند صحيح ـ عن ابن عبّـاس، قال: قلت لعمر بن الخطّاب: مَن المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال: عائشة وحفصة "(3)..
وصغو القلب: ميله إلى الإثم، وزيغه عن سبيل الاستقامة، وعدوله عن الصواب إلى ما يوجب الإثم(4).
____________
1- الجامع لأحكام القرآن 18 / 202، وروى ذلك ابن الجوزي في زاد المسير 8 / 56.
2- فتح القدير ـ للشوكاني ـ 5 / 253.
3- فتح القدير 5 / 251، وفي صحيح البخاري 6 / 195 ـ 197.
4- مجمع البيان ـ للطبرسي ـ المجلّد 5 / 316.
وروى الطبري عن الضحّاك في تفسير قوله تعالى: ( فخانتاهما )، قال: " في الدين فخانتاهما "، وقال: " وقوله: ( فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً )، يقول: فلم يغنِ نوح ولوط عن امرأتيهما من الله ـ لمّا عاقبهما على خيانتهما أزواجهما ـ شيئاً، ولم ينفعهما أن كان أزواجهما أنبياء "، وروى مثل ذلك عن قتادة(2).
وحكى ابن الجوزي في زاد المسير عن ابن السائب تفسير الخيانة بالنفاق، وقال في قوله عزّ وجلّ: ( ضرب الله مثلا للّذين كفروا امرأت نوح ): " قال المفسّرون منهم: مقال هذا المثل يتضمّن تخويف عائشة وحفصة أنّهما إن عصيا ربّهما لم يغنِ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ]وسلّم عنهما شيئاً "(3).
وقال في قولـه تعالى: ( وإن تظاهـرا ): " وقرأ ابن مسعود، وأبو عبـد الرحمن، ومجاهد، والأعمش: تظاهرا، بتخفيف الظاء ; أي: تعاونا على النـبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بالإيذاء، ( فإنّ الله هو مولاه )، أي: وليّه في العون والنصرة، ( وجبريل ) وليّه ( وصالح المؤمنين ) "(4).
____________
1- مجمع البيان ـ المجلّد 5 / 319.
2- جامع البيان 28 / 217 ـ 218.
3- زاد المسير ـ لابن الجوزي ـ 8 / 55.
4- زاد المسير 8 / 52.
وقال ابن القيّم في الأمثال في القرآن، في ذيل السورة: " فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكافر ومثلين للمؤمنين: فتضمّن مثل الكفّار أنّ الكافر يعاتب على كفره وعداوته لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو وصلة صهر أو سبب من أسباب الاتّصال ; فإنّ الأسباب كلّها تنقطع يوم القيامة إلاّ ما كان منها متّصلا بالله وحده على أيدي رسله عليهم الصلاة والسلام، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة والنكاح مع عدم الإيمان لنفعت الصلة التي كانت بين نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام وامرأتيهما ( فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل لهما ادخلا النار مع الداخلين )..
ـ إلى أن قال: ـ فذكر ثلاثة أصناف للنساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر، والمرأة العزبة التي لا وصلة بينها وبين أحد، فالأُولى لا تنفعها وصلتها وسببها، والثانية لا تضرّها وصلتها وسببها، والثالثة لا يضرّها عدم الصلة شيئاً.
ثمّ في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة ; فإنّها سيقت في ذكر أزواج النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم والتحذير من تظاهرهنّ عليه، وأنّهن إن لم يطعنَ الله ورسوله صلّى الله عليه [ وآله ]
____________
1- زاد المسير 8 / 52.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأوّل يحذّر عائشة وحفصة، ثمّ ضرب لهما المثل الثاني يحرّضهما على التمسّك بالطاعة "(1).
وقال: " في التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ـ أي عائشة ـ ولحفصة ممّا اعتمدتاه في حقّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم، فتضمّنت هذه الأمثال التحذير لهنّ والتخويف والتحريض لهنّ على الطاعة والتوحيد... وأسرار التنزيل فوق هذا وأجلّ منه، ولا سيّما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلاّ العالمون "(2).
وقال ابن كثير في ذيل السورة: " ثمّ قال تعالى: ( ضرب الله مثلا للّذين كفـروا )، أي: في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم، إنّ ذلك لا يجدي عنهم شيئاً، ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم "..
ثمّ ذكر المثل فقال: " ( امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين )، أي: نبيّيْن رسوليْن عندهما في صحبتهما ليلا ونهاراً، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشدّ العشرة والاختلاط، ( فخانتاهما ) أي: في الإيمان، لم توافقاهما على الإيمان ولا صدّقتاهما في الرسالة، فلم يجدِ ذلك كلّه شيئاً، ولا دفع عنهما محذوراً، ولهذا قال: ( فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً ) أي: لكفرهما،
____________
1- الأمثال في القرآن ـ لابن قيّم الجوزية ـ: 54 ـ 57.
2- الأمثال في القرآن: 58.
وقال الشوكاني ـ بعدما حكى قول يحيى بن سلام، المتقدّم في حكاية القرطبي ـ: " وما أحسن مَن قال: فإنّ ذكر امرأتي النبيّيْن بعد ذكر قصّتهما ـ أي عائشة وحفصة ـ ومظاهرتهما على رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يرشد أتمّ إرشاد ويلوّح أبلغ تلويح إلى أنّ المراد تخويفهما مع سائر أُمّهات المؤمنين، وبيان أنّهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله، فإنّ ذلك لا يغني عنهما من الله شيئاً "(2)، ثمّ ذكر حديث أنّ أفضل نساء أهل الجنّة: خديجة، وفاطمة، ومريم، وآسية.
وحكى في مجمع البيان عن مقاتل، في ذيل السورة: يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية(3).
وغير ذلك من كلمات المفسّرين التي توضّح شدّة لحن الخطاب القرآني في هذه السورة الموجّه لحفصة وعائشة، وأنّ غائلة تظاهرهما هي خيانة دينية، ونفاق معادي خطير، ومكيدة عظيمة، استدعت هذا التصعيد الشامل في النفير والتعبئة الإلهية في صدر السورة، والتعريض بأقصى الحدّة في ذيل السورة..
ثمّ إنّ لفظ ( ظهير ) بمعنى العون والحماية يعطي أنّ المكيدة متّصلة بمسألة تتعلّق بالحياة الأمـنية لوجود النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وبضميمة كون سبب
____________
1- تفسير ابن كثير 4 / 419.
2- فتح القدير ـ للشوكاني ـ 5 / 256.
3- مجمع البيان ـ المجلّد 5 / 319.
وبلحاظ كون الحماية الإلهية المستنفرة بالغة القوّة يقتضي أنّ المكيدة لم يكن المتورّط فيها هاتين المرأتين بمفردهما بمجرّد حولهما وقوّتهما، بل كان ذلك على اتّصال وارتباط بأطراف القضية، ومَن يعنيه شأن الحدث، ومَن له علاقة ماسّـة بالخبر المفشى ; والذي قد تقدّم أنّ صدر السورة يعطي كون الخبر والحديث يحمل في طيّاته إنذاراً وتحذيراً، لا بشارةً واستهلالا، وإلاّ لَما اقتضت طبيعة الخبر تولّد المكيدة الخطيرة والتسبّب لذلك..
ولعظم الخطب في هذه الحادثة نرى الآيات الأُخرى المتوسّطة في هذه السورة، قد حملت الشدّة نفسها في الخطاب والتعريض، ولم يحاول المفسّرون من أهل سُنّة الجماعة الإلفات إليه، وتغاضوا عن مدلوله، وهي قوله تعالى: ( عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيّبات وأبكاراً )، فإنّ ذكر هذه الصفات تعريض بفقدها فيهما..
قيل: المراد بـ ( مسلمات ): مطيعات ومنقادات لأمر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وقيل: مخلصات.
والمراد بـ ( مؤمنات ): أي: المعتقدات بحقيقة الإيمان ; والتعريض بهذا الوصف يماثل التعريض بما في ذيل السورة: ( فخانتاهما ) بمعنى نافقتاهما وحاددتاهما في الدين.
وبـ ( تائبات ): نادمات، وهو تعريض بعنادهما وإصرارهما.
وبـ ( عابدات ): الطاعة في العبادة، وهو التعريض بطغيان الطرف المقابل.
وبـ ( سائحات ): قيل: الصيام، وقيل: الهجرة ; وعلى الثاني يكون التعريض بهجرة جماعة النفاق والعداء لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله).
وبـ ( ثيبات وأبكاراً ): فقد أكثر المفسّرون من الروايات في ذيلها أنّـه (صلى الله عليه وآله) وعد بالزواج من آسية وهي الثيّب، ومريم وهي البكر في الآخرة، وكذلك رووا أنّه (صلى الله عليه وآله) أوصى خديجة (عليها السلام) عند موتها بالتسليم على أظآرها آسية ومريم وكلثم، فأجابت: بالرفاه والبنين، وفي ذلك تعريض بأنّهما ليستا زوجتاه في الآخرة.
والحال نفسه في الآيات اللاحقة ; إذ التهديد بالنار المتوقّدة والملائكة الغلاظ الشداد، ثمّ قوله تعالى: ( يوم لا يخزي اللهُ النبيَّ والّذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيْمانهم يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا )(1) ترغيب في الانتهاء عن الكيد والمواطأة على الدين والنبيّ (صلى الله عليه وآله)..
قال الشوكاني في ذيل الآية: " وأخرج الحاكم والبيهقي في البعث،
____________
1- سورة التحريم 66: 8.
وفي الدرّ المنثور عن مجاهد: " قال: قول المؤمنين حين يطفأ نور المنافقين "(2).
وأعظم بها من سورة قد اشتملت على العديد من الدلالات والتلويحات ; تعريضاً بأطراف الحادثة، وبالسُـنن الإلهية في مثل هذا النمط من الفتن، التي تحاك كيداً من الوسط الداخلي في المسلمين..
وقد أفصح بذلك الزمخشري في ما مرّ من مقاله: "... وأسرار التنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدقّ عن تفطّن العالم ويزلّ عن تبصّـره ".
ومثله قال الرازي: " وأمّا ضرب المثل بامرأة نوح المسمّاة بواعلة، وامرأة لوط المسمّاة بواهلة، فمشتمل على فوائد متعدّدة لا يعرفها بتمامها إلاّ الله تعالى..
ـ إلى أن قال: ـ ومنها التنبيه على أنّ التضـرّع بالصـدق في حضـرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب "(3).
وكذلك مقولة ابن القيّم التي تقدّمت، قال ـ بعد أن ذكر التعريض بهما وتحذيرهما وتخويفهما ـ: " وأسرار التنزيل فوق هذا وأجلّ منه، ولا سيّما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلاّ العالمون ".
____________
1- فتح القدير 5 / 255.
2- الدرّ المنثور 6 / 245.
3- التفسير الكبير 3 / 51.
فقد روى علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره، بسند صحيح عن الصادق (عليه السلام) في ذيل الآية الأُولى في سبب نزولها: كان سبب نزولها ـ وذكر قصّة حلفه (صلى الله عليه وآله) أن لا يطأ مارية، ثمّ إخباره (صلى الله عليه وآله) حفصة باستيلاء أبيها على الأمر من بعد استيلاء أبي بكر عليه بعده (صلى الله عليه وآله)، وقوله (صلى الله عليه وآله) لها: " فإن أنت أخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "، وأنّها قالت: من أخبرك بهذا؟ قال: الله أخبرني ـ فأخبرت حفصة عائشة من يومها بذلك، وأخبرت عائشة أبا بكر، فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له: إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة كذا، ولا أثق بقولها، فسل أنت حفصة.
فجاء عمر إلى حفصة فقال لها: ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة؟
فأنكرت ذلك وقالت: ما قلت لها من ذلك شيئاً.
فقال لها عمر: إن كان هذا حقّاً؟ فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه.
فقالت: نعم، قد قال ذلك رسول الله.
فاجتمع أربعة على أن يسمّوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنزل جبرئيل بهذه السورة: ( يا أيّها النبيّ... تحلّةَ أيْمانكم )، يعني قد أباح الله لك أن تكفّر عن يمينك، ( والله مولاكم... فلمّا نبأت به ) أي أخبرت به، ( وأظـهره الله عليه ) يعـني: أظهر الله نبـيّه على ما أخبرت به وما همّوا بـه من قتله، ( عرّف بعضه ) أي: أخبرها وقال: " ولمَ أخبرت بما أخبرتك " به؟(1).
____________
1- تفسير القمّي 2 / 360.
صالح المؤمنين وأطراف المواجهة:
روى محمّـد بن العبّـاس، بسـنده عن الصادق (عليه السلام): " قال: إنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله) عرّف أصحابه أمير المؤمنين (عليه السلام) مرّتين، وذلك أنّه قال لهم: أتدرون من وليّكم من بعدي؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنّ الله تبارك وتعالى قد قال: ( فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو وليّكم بعدي..
والمرّة الثانية يوم غدير خمّ، قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه "(1).
وقد تقدّم أنّ مقتضى الحادثة وتنازع الأطراف فيها يقتضِ هذا التوزيع في طرفي المواجهة، وقد مرّ جملة من روايات أهل سُـنّة الجماعة في كون " صالح المؤمنين " هو عليّ (عليه السلام)..
ولا يخفى سرّ التعبير بالمفرد المضاف إلى الجمع ; إذ أنّه يختلف عمّا لو كان: " صالح من المؤمنين "، أو: " صالحـو المؤمنين "، فإنّه يقتضي التساوي في الصلاح والإيمان، فإفراده من بين مجموع المؤمنين وإدراجه في سلك انتظام جبرئيل الروح الأمين والملائكة قاض بعلوّ درجته.
وروى في الدرّ المنثور، قال: " وأخرج الطبراني، وابن مردويه، بسند ضعيف عن ابن عبّـاس، عن النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم، قال: السبّق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب يس، والسابـق إلى محمّـد صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم عليّ بن
____________
1- تأويل الآيات 2 / 669 ح 3.
وأخرج ابن عساكر من طريق صدقة القرشي، عن رجل، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم: أبو بكر الصديق خير أهل الأرض إلاّ أن يكون نبيّ، وإلاّ مؤمن آل ياسين، وإلاّ مؤمن آل فرعون. أي أنّه دون الثلاثة.
وأخـرج ابن عـدي، وابن عساكر: ثلاثـة ما كفروا بالله قط: مؤمـن آل ياسين، وعليّ بن أبي طالب، وآسية امرأة فرعون.
وأخرج البخاري في تاريخه عن ابن عبّـاس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم: الصدّيقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجّار صاحب آل ياسين، وعليّ بن أبي طالب.
وأخرج داود، وأبو نعيم، وابن عساكر، والديلمي، عن ابن أبي ليلى، قال: قال رسـول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم: الصديقون ثلاثة: حبيب النجّار مؤمن آل ياسين، الذي قال: ( يا قوم اتّبعوا المرسلين )(1)، وحزقيل مؤمـن آل فرعون، الذي قال: ( أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله )(2)، وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم "(3).
ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بعدّة طرق(4).
ورواه أحمد في فضائل عليّ (عليه السلام) من فضائل الصحابة(5).
____________
1- سورة يس 36: 20.
2- سورة غافر 40: 28.
3- الدرّ المنثور 5 / 262.
4- شواهد التنزيل 2 / 304 ـ 305.
5- فضائل الصحابة 2 / 628 و 656..
ورواه ابن المغازلي في مناقبه: 245، والروض النضير 5 / 368 عن ابن النجّار، وأبي نعيم في المعرفة، والسلفي في المشيخة البغدادية الورقة 9 ب و 10 ب، والدارقطني في عنوان " خربيل " من كتاب المؤتلف والمختلف 2 / 770.
ورواه السيوطي في الجامع الصغير 2 / 50 ورمز له بالحسن، وبطريق آخر ضعيف، ورواه أيضاً المناوي في فيض القدير 4 / 238 ; وقال: ورواه ابن مردويه والديلمي.
وروى مثله السيوطي في الدرّ المنثور، قال: " وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عبّـاس:... " وذكر مثله..
وقال: " وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في قوله: ( والسابقون السابقون )، قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجّار الذي ذكر في يس، وعليّ بن أبي طالب، وكلّ رجل منهم سبق أُمّته، وعليّ أفضلهم سبقاً "(3).
وهـذه الروايات(4) من طرقهم قاضـية بأنّ: " صالح المؤمنين " هو
____________
1- سورة الواقعة 56: 10.
2- تفسير ابن كثير 4 / 304.
3- الدرّ المنثور 6 / 154.
4- وممّن روى أنّ " صالح المؤمنين " هو عليّ (عليه السلام): الآلوسي في روح المعاني 28 / 135، وابن كثير في تفسيره 4 / 389، والسيوطي في الدرّ المنثور 6 / 244، والشوكاني في فتح القدير 5 / 246، وابن بطريق في العمدة عن تفسير الثعلبي: 152، والگنجي الشافعي في كفاية الطالب: 53، والقرطبي في جامع الأحكام 18 / 189، والأندلسي في البحر المحيط 8 / 291، وابن الجوزي في التذكرة: 267، وابن همام في حبيب السير 2 / 12، والحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل 2 / 259، وذكر محمّـد بن العبّـاس في تأويل الآيات 2 / 698 اثنين وخمسين حديثاً من طرق الخاصّة والعامّة.
كما أنّ الأشخاص المعنيين بالخبر المفشى تقتضي السورة والآيات بتقابلهم وتباينهم مع موقع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والدين وصالح المؤمنين، وأنّ " صالح المؤمنين " مولى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووليّه يلي أمره في الدين، ومن ثمّ كانت هذه الآيات في السورة معلنةً لولاية " صالح المؤمنين "، وأنّه وليّهم بعـد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبال موقع الطرف الآخر صاحب المكيدة والتدبير على الدين والرسول الأمين (صلى الله عليه وآله).
الملحمة القرآنية والإسرار النبوي:
الحديث الذي أسرّ به النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى حفصة ـ كما تشير إليه سورة التحريم ـ قد سبق وأن أنبأ به القرآن الكريم في سورة البقرة وفي سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله)، والأُولى من أوائل السور المدينة نزولاً، والثانية متقدّمة نزولاً على سورة التحريم أيضاً..
ففي الأُولى: ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهِدُ اللهَ على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصامِ * وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسـدَ فيها ويُهلكَ الحـرثَ والنسلَ واللهُ لا يحبّ الفسادَ * وإذا قيل له اتّقِ اللهَ أخذتْهُ العزّةُ بالإثمِ فحسْبُهُ جهنّمُ ولبئس المِهادُ *
الملفت للانتباه أنّ في هذه الآيات جرى التقابل بين طرفين وموقعين في مجرى الأحداث في مسار الأُمّة، وها هنا الطرف الثاني الذي تتعرّض له الآيات بالمديـح والثناء، وبيان أنّه المؤهّل لولاية الأمر من قبله تعالى ; بقرينة تقريع الآيات للطرف الأوّل، الذي تتوقّع استيلاءه على مقاليد الأُمور، وتذكر له العديد من الصفات، مثل: حلاوة المقال مع عداوة القلب، وخصامه الكثير ولجاجه، وقساوته عند تولّيه الأُمور بتغريب النتاج المدني البشري، والإبادة للطبيعة البشرية.
وها هنا الآيات لم تصف النسل البشـري بصـفة خاصّة، ممّا يعطي أنّ التقريـع للإبادة مـوردها الطبيعة البشـرية من حيث هي محترمـة كخلق لله تعالى، بغضّ النظر عن الحرمة من جهة الإيمان أو الإسلام، وهذا مؤشّر على موارد وقوع هذه الصفة المُتنبَأ بها في الآيات، وقد مرّت الإشارة إلى هذا البحث في حلقات سابقة.
والحاصل إنّ الطرف الثاني الذي تمدحه الآيات هو في مقابل الطرف الأوّل المذموم لتولّي الأمر..
والممدوح ها هنا كما هو معروف من الروايات ولدى المفسّرين هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ; إذ فدّى نفسـه للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في ليلة المبيت على فراشـه.
____________
1- سورة البقرة 2: 204 ـ 207.
هذه الآيات تشير إلى وقوع استيلاء على مقاليد الأُمور من قبل فئة من المسلمين، وهم: ( الّذين في قلوبهم مرض )، وهذا العنوان قد أشار القرآن الكريم إلى وجوده بين صفوف المسلمين منذ بداية نشأة الإسلام، كما في سورة " المدّثر "، رابع سورة نزلت على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مكّة في أوائل البعثة..
وهذا التقارن بين سورة المدّثر وسورة محمّـد (صلى الله عليه وآله) دالّ على أنّ هدف هذه الفئة من الدخول في الإسلام منذ أوائل عهده هو الوصول إلى مسند القدرة وزمام الأُمور بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، كما هو طمعٌ وهدفٌ أُعلن على لسان كثير مـن القبائل التي كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يدعوها للدخول في الإسلام ; فقد كانت مشارطتهم للدخول في الدين استخلافهم على زمام الأُمور بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يرفض هذا الشرط، ويجيب بأنّ ذلك ليس له، بل لله عزّ وجلّ ربّ العالمين.
ومع انضمام سورة التحريم إلى السور السابقة يتّضح جليّاً مفاد الإشارة في السور القرآنية، وتتبيّن أوصاف مَن تُعرّض به الملحمة القرآنية.
____________
1- سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله) 47: 20 ـ 23.
فقد روى البخاري، عن عمر بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد: " قال: أخبرني جدّي، قال: كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالمدينة ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدّق يقول: هلكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش، فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان بني فلان لفعلت..
فكنت أخـرج مع جـدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهـم غلماناً أحـداثاً قال لنا: عسـى هؤلاء أن يكونوا منهم. قلنا: أنت أعلم "(1).
قال ابن حجر في شرحه: " قال ابن بطّال: جاء المراد بالهلاك مبيّناً في حديث آخر لأبي هريرة أخرجه علي بن معبد، وابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة، رفعه: (أعوذ بالله من إمارة الصبيان. قالوا وما إمارة الصبيان؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم ـ أي في دينكم ـ وإن عصيتموهم أهلكوكم، إن في دنياكم بإزهاق النفس، أو بإذهاب المال، أو بهما)..
وفي رواية ابن أبي شيبة: (إنّ أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول: اللّهمّ لا تدركني سنة سـتّين ولا إمارة الصبيان)، وفي هذا إشارة إلى أنّ أوّل الأُغيلمة كان في سنة سـتّين، وهو كذلك ; فإنّ يزيد بن معاوية استُخلف فيها.
ـ إلى أن قال: ـ تنبيه: يتعجّب من لعن مروان الظلمة المذكورين مع
____________
1- صحيح البخاري: كتاب الفتن ب 3 ـ فتح الباري 13 / 9.
وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جـيّد "(1).
وكذا ما رواه البخاري في الباب الثاني من كتاب الفتن ـ وعنونه: باب قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): " سترون بعدي أُموراً تنكرونها " ـ: " وقال عبـد الله بن زيد، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): اصبروا حتّى تلقوني على الحوض "!!
ثمّ روى البخاري أحاديث في الباب تدعو إلى السكوت عن سلاطين الجور والإطاعة لهم، وهي أشبه بنصوص السلطة من النصوص النبوية..
قال تعالى: ( والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضهم أولياء بعض يأمرونَ بالمعروف وينْهَوْنَ عن المنكر )(2)..
وقال تعالى: ( المنافقونَ والمنافقاتُ بعضهم من بعض يأمرونَ بالمنكر وينهوْنَ عن المعروف )(3)..
وقال تعالى: ( ولا ترْكنوا إلى الّذين ظلموا فتمَسّكُمُ النارُ )(4).
وبمثل هذه الملحمة القرآنية والإسرار النبوي ما رواه البخاري أيضاً في كتاب الفتن: الباب الأوّل والرابع من اقتراب الفتن بعده (صلى الله عليه وآله)، وإحداث
____________
1- فتح الباري 13 / 10 ـ 11.
2- سورة التوبة (البراءة) 9: 71.
3- سورة التوبة (البراءة) 9: 67.
4- سورة هود 11: 113.
وكلّ ذلك خارج مخرج التحذير والإنذار.. ( حكمةٌ بالغةٌ فما تُغنِ النُذُرُ )(1).
____________
1- سورة القمر 54: 5.