الصفحة 410

قال (عليه السلام): " وكذلك يفعل بالمستضعفين، والبله، والأطفال، وأولاد المسلمين الّذين لم يبلغوا الحلم ".. الحديث(1).

وذيل الرواية صريح في كون حالهم موقوفاً على المشيئة الإلهية، التي قد فسرت في روايات عديدة بالامتحان، وحاشا لعدله تعالى أن يدخِل النار بغير موجب.

ومثلها رواية الأعمش، عن الصادق (عليه السلام): " أصحاب الحدود فسّاق، لا مؤمنون ولا كافرون، ولا يخلدون في النار ويخرجون منها يوما ما، والشفاعة لهم جائزة، وللمستضعفين إذا ارتضى الله دينهم "(2).

وذيل هذه الرواية دالّ على التمييز بين " أصحاب الحدود " وبين " المستضعفين " في كون " المستضعفين " لا تجوز لهم الشفاعة حتّى يرتضي الله تعالى دينهم، أي حتّى يدينوا بالعقائد الحقّة فحينئذ يكونوا على حدّ فسّاق المؤمنين من صلاح العقيدة لكنّهم أساؤوا العمل ; فهي تدلّ على إقامة الامتحان للمستضعفين، وأنّه بالدرجة الأُولى في تبيان العقائد والإيمان الحقّ، كما مرّ في بعض الروايات أنّهم من: " أهل تبيان الله ".

ومن جـملة هذا النمط من الروايات: رواية الصباح بن سيابة، عن أبي عبـد الله (عليه السلام)، قال: " إنّ الرجل ليحبّكم وما يدري ما تقولون فيدخله الله الجنّة، وإنّ الرجل ليبغضكم وما يدري ما تقولون فيدخله النار "(3)..

____________

1) الكافي 3 / 247 ضمن ح 1، تفسير القمّي 2 / 260، بحار الأنوار 6 / 286 ح 7 و 290 ضمن ح 14 و 72 / 158 ح 3.

2) الخصال: 608 ضمن ح 9، عيون الأخبار 2 / 125 ضمن ح 1، بحار الأنوار 8 / 40 ح 22 و 72 / 159 ح 6.

3) معاني الأخبار: 392 ح 40، بحار الأنوار 72 / 159 ح 7.


الصفحة 411
وهذه الرواية تبيّن مدى أهمّية تولّي أولياء الله، والهلاك في ترك ولايتهم، وإنّ التولّي والتبرّي منشأه من الأُصول الاعتقادية.

وفي بعض الروايات التقييد بمَن أحبّ الشيعة لحبّهم سيّدة نساء العالمين الزهراء فاطمة (عليها السلام)(1).

وفي بعض الروايات الأُخرى أنّ ذلك بعد شفاعة المؤمنين في مَن أحبّهم(2).

وعلى أي تقدير ; ( ولا يشفعونَ إلاّ لمَن ارتضى )(3)، كما في الآية الكريمة، ورضاه بارتضاء دينه، كما مرّ في رواية الأعمش، وفُسّر بذلك في روايات الشفاعة، فيدلّ على أنّ الامتحان الذي يقام للمستضعفين ونحوهم من أفراد الضلاّل القاصرين هو في الديانة واعتناق الإيمان الحقّ.

أمّا كون الشفاعة موردها مَن ارتضى دينه فيدلّ عليه قوله تعالى: ( إنّ الله لا يغفرُ أن يشْرَك به ويغفرُ ما دونَ ذلك لمَن يشاءُ ومَن يُشرِكْ بالله فقد افترى إثماً عظيماً )(4)..

وفي آية أُخرى: ( إنّ الله... ومَن يُشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيداً )(5)، وهو شامل للكفر ; لأنّه ضرب من الشرك.

وقد أُطلق الكفر على جحود ولاية خليفة الله في أرضه، كما في

____________

1) تفسير فرات الكوفي: 298 ح 403، بحار الأنوار 8 / 52 ضمن ح 59.

2) تفسير القمّي 2 / 202، الخصال: 408 ح 6، ثواب الأعمال: 206 ح 1، بحار الأنوار 8 / 38 ح 16 و 39 / 19 و 41 / 26.

3) سورة الأنبياء 21: 28.

4) سورة النساء 4: 48.

5) سورة النساء 4: 116.


الصفحة 412
إبليس لعنه الله، فيعمّ ولاية عليّ (عليه السلام) وولده (عليهم السلام)، كما وردت بذلك روايات عديدة في ذيل الآيتين في تفسيري البرهان و نور الثقلين، فلاحظها.

وقوله تعالى: ( لا يملكونَ الشفاعةَ إلاّ مَن اتّخذَ عند الرحمن عهداً )(1)..

وقوله تعالى: ( يومئذ لا تنفعُ الشفاعةُ إلاّ مَن أذِنَ له الرحمن ورضيَ له قولا )(2)، أي: معتقده.

وكذا قوله تعالى: ( وإنّي لغفّار لمَن تاب وآمن وعمِل صالحاً ثمّ اهتدى )(3)، فالآية قيّدت المغفرة بالهداية إضافةً إلى الإيمان والعمل الصالح.

فالهداية هي للولاية ; كما عرّفت في آيات عديدة أنّ الهداية الصراطية للإيصال إلى المطلوب هي الولاية والإمامة، كما في: ( إنّما أنت منذرٌ ولكلّ قوم هاد )(4)، و: ( جعلناهم أئمّةً يهْدون بأمْرنا وأوحينا إليهم فِعْلَ الخيرات )(5)، و: ( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الّذين أنعمت عليهم... )، و: ( أفمَن يهدي إلى الحقّ أحقُّ أن يُتّبَعَ أمَّن لا يَهِدّي إلاّ أن يُهْدى فما لكم كيف تحكمون )(6).

وقد وردت روايات مستفيضة في ذيل الآية في بيان ذلك براهيناً،

____________

1) سورة مريم 19: 87.

2) سورة طه 20: 109.

3) سورة طه 20: 82.

4) سورة الرعد 13: 7.

5) سورة الأنبياء 21: 73.

6) سورة يونس 10: 35.


الصفحة 413
فلاحظ تفسير البرهان(1) و نور الثقلين(2) ; فمقتضى الآية كون الامتحان والتبيان لأهل الأعذار من الضلاّل مستعقب لهدايتهم بالطاعة.

ويدلّ عليه رواية الحسين بن خالد، عن الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَن لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شـفاعتي "، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّما شـفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل "..

قال الحسـين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله! فما معنى قول الله عزّ وجلّ: ( ولا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى )(3)؟ قال: " لا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى الله دينه "(4).

وعمدة الباب ما في صحيحة ابن أبي عمير ; قال: سمعت موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: " لا يخلد الله في النار إلاّ أهل الكفر والجحود، وأهل الضلال والشرك، ومن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر "، ـ ثمّ ذكر (عليه السلام) أنّ الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين ـ..

قال ابن أبي عمير: فقلت له: يا بن رسول الله! فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول: ( ولا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى وهم من خشيته مشفقون )، ومَن يركب الكبائر لا يكون مرتضىً؟!

فقال: " يا أبا أحمد! ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلاّ ساءه ذلك وندم

____________

1) تفسير البرهان 3 / 28 ـ 30 ح 4885 ـ ح 4894.

2) تفسير نور الثقلين 2 / 302 ـ 304 ح 57 ـ ح 63.

3) سورة الأنبياء 21: 28.

4) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 / 136 ح 35، الأمالي ـ للشيخ الصدوق ـ: 56 ح 11، بحار الأنوار 8 / 19 ح 5 و 34 ح 4.


الصفحة 414
عليه، وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): كفى بالندم توبةً. وقال: مَن سرّته حسنة وساءته سيّئة فهو مؤمن ; فمَن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، ولم تجب له الشفاعة، وكان ظالماً، والله تعالى يقول: ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاعُ )(1) ".

فقلت له: يا بن رسول الله! وكيف لا يكون مؤمناً مَن لم يندم على ذنب يرتكبه؟!

فقال: " يا أبا أحـمد! ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلاّ نـدم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقّاً للشفاعـة، ومتى لم يندم عليها كان مصـرّاً، والمصـرّ لا يُغفر له ; لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم، وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار..

وأمّا قول الله: ( ولا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى )، فإنّهم لا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى الله دينه، والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيّئات، ومَن ارتضى الله دينه ندم على ما يرتكبه من الذنوب ; لمعرفته بعاقبته في القيامة "(2)، فإنّه استدلال عقلي لتقييد الشفاعة بمَن ارتضى الله دينه وهو المؤمن، وأنّ الضالّ القاصر لا تناله الشفاعة إلاّ بعد التبيان والامتحان وتعرّفه على حقائق الإيمان فينخرط في زمرة المؤمنين.

ونظير الروايات المتقدّمة: ما رواه الصدوق بسنده عن أبي عبـد الله، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ (عليهم السلام)، قال: " إنّ للجنّة ثمانية أبواب... وباب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلاّ الله ولم يكن في

____________

1) سورة غافر 40: 18.

2) التوحيد: 407 ح 6، بحار الأنوار 8 / 351 ح 1.


الصفحة 415
قلبه مقدار ذرّة من بغضنا أهل البيت "(1)..

فإنّ غاية دلالتها: على عدم خلودهم في النار، ولا تنافي ما دلّ على امتحانهم وتوقّف دخولهم الجنّة على إطاعتهم بالإيمان، كما لا تنافي ما دلّ على دخولهم النار حقبة لتطهيرهم ثمّ دخولهم الجنّة ; فهناك فرق بين الخلود في النار وبين الدخول فيها ولو لحقبة منقطعة الأمد، وكذلك بين الدخول في الجنّة ابتداءً وبين الدخول فيها لاحقاً، فحساب الأكثرية والأقلية من الناجـين يختلف بحسب المقامين، وقـد ورد عنهم (عليهم السلام): " الناجون من النار قليل ; لغلبة الهوى والضلال "(2)، والرواية ناظرة للنجاة من النار لا النجاة من الخلود فيها، وقد تقدّم في حديث الكاظم (عليه السلام) أنّ طوائف المخلّدين أربع وما عداهم لا يخلد.

السابعة:

قد دلّت الآيات والروايات المتواترة على أنّ قبول الأعمال مشروط، وصحّتها كذلك مشروطة بعدّة شرائط، لا يثاب العامل على عمله إلاّ بها، وإلاّ يكون مردوداً بالنسبة إلى الثواب الأُخروي، لا سيّما مثل الدخول في الجنّة، بل الأدلّة دالّة على أنّ صحّة الاعتقادات مشروطة بالولاية، نظير قوله تعالى المتقدّم: ( وإنّي لغفّار لمَن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى )، فقد قيّد الإيمان والعمل الصالح بالهداية ; فإنّ المغفرة ـ وهي النجاة من العقوبة ـ إذا كانت مقيّدة فكيف بالمثوبة؟!

____________

1) الخصال: 407 ح 6، بحار الأنوار 8 / 39 ح 19.

2) غـرر الحكم ـ للآمدي ـ 1 / 85 ح 1749، مستدرك الوسائل 12 / 113 ضمن ح 13.


الصفحة 416
وقوله تعالى: ( إنّما يتقبّلُ اللهُ من المتّقين )(1)، والغاية في تعبير الآية: أنّه قد قيّد القبول ليس بوصف العمل بالتقوى بل بوصف العامل بذلك، والصفة لا تصدق إلاّ مع تحقّقها في مجمل الأعمال وأركانها، وهي العقائد الحقّة.

وكذا قوله تعالى: ( أبى واستكبر وكان من الكافرين )(2)، فجعل تعالى أعمال إبليس كلّها هباءً منثوراً باستكباره على وليّ الله وعدم إطاعته لخليفة الله بتولّيه، بل الملاحظ في واقعة إبليس ـ التي يستعرضها القرآن الكريم في سبع سور ـ أنّ كفره لم يكن شركاً بالذات الإلهية ولا بالصفات ولا بالمعاد ولا بالنـبوّة، بل هو جحود لإمامة وخلافة آدم (عليه السلام)، فلم يقبل الله تعالى اعتقاد إبليس، كما لم يقبل أعماله، وأطلق عليه الكفر بدل التوحيد..

والسرّ في ذلك أنّ ذروة التوحيد وسنامه ومفتاحه وبابه هو التوحيد في الولاية ; فإنّ اليهود قائلون بالتوحيد في الذات والمعاد وهو توحيد الغاية، وبالتوحيد في التشريع وهو النبوّة، إلاّ أنّهم كافرون بالتوحيد في الولاية ; إذ قالوا: ( يد الله مغلولةٌ غُلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان )(3)، فإنّهم حجبوا الذات الإلهية عن التصرّف في النظام البشري، وقالوا بأنّ البشر مختارين في نظامهم الاجتماعي السياسي، وأنّ الحاكمية السياسية ليست لله تعالى..

وإنّك وإن أجهدت وأتعبت نفسك فلن تجد ديناً ومذهباً يعتقد

____________

1) سورة المائدة 5: 27.

2) سورة البقرة 2: 34.

3) سورة المائدة 5: 64.


الصفحة 417
بحاكمية الله تعالى السياسية والتنفيذية كحاكميته تعالى في التشريع والقانون، كما كان حال حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته السياسية، التي يستعرضها القرآن الكريم ; فإنّ الحاكم السياسي الأوّل في حكومته (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو الباري تعالى في المهمّات والمنعطفات في التدبير السياسي والعسكري والقضائي، وقد اختفت حاكمية الله تعالى هذه في عهد الخلفاء الثلاثة ثمّ عاودت الظهور في عهد الأمير (عليه السلام)، فإنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) محالّ مشيئة الله تعالى وإراداته، فتصرّفاتهم منوطة بإرادته المتنزّلة عليهم.

فهذه الحاكمية التوحيدية لا تجد لها أثراً في مذاهب المسلمين، فضلا عن الأديان الأُخرى المحرّفة، سوى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فمن ثمّ كانت الإمامة والولاية هي مظهر ومجلى التوحيد في الولاية، وكان الاعتقاد بها هو كمال التوحيد وذروته وسنامه ; إذ أنّ تجميد التوحيد في الذات أو في الصفات أو في التشريع أو في المعاد ـ إنّ إليه الرجعى والمنتهى ـ تعطيل له، ولا تظهر ثمرته إلاّ بظهوره في الولاية والحاكمية في مسـيرة البشـر.

ويمكن ملاحظة اشتراط الولاية في صحّة الاعتقاد، فضلا عن الأعمال، في جلّ الآيات الواردة في ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك في كثير من الروايات..

  • أمّا الآيات:

    فنظير قوله تعالى: ( يا أيّها الرسولُ بلّغْ ما أُنْزِلَ إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالتَهُ واللهُ يعصِمك من الناس إنّ الله لا يهدي

    الصفحة 418
    القومَ الكافرين )(1)..

    فإنّه تعالى قد نفى تبليغ الرسالة ـ من الأساس ـ مع عدم إبلاغ ولاية عليّ (عليه السلام) للناس، وهو يقتضي عدم الاعتداد بتوحيد الناس للذات الإلهية وبإقرارهم بالمعاد والنبوّة من دون ولاية عليّ (عليه السلام)، أي أنّ التوحيد في جميع أبوابه وأركانه وحدة واحدة: توحيد الذات، وتوحيد الغاية والخلوص، وتوحيد التشريع، وتوحيد الولاية.

    ولازم الكفر والإشراك في مقام من مقامات التوحيد هو الكفر والإشراك الخفي المبطّن في بقية المقامات، وذيل الآية صريح في ترتّب الكفر على ذلك في مقابل الإيمان، لا ما يقابل ظاهر الإسلام ; إذ الظاهر مترتّب على الإقرار بالشهادتين لساناً.

    ونظير قوله تعالى: ( اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضِيتُ لكم الإسلامَ ديناً )(2)..

    فإنّ الإكمال يستعمل في تحوّل الشيء في الأطوار النوعية من نوع إلى نـوع، والإتمام يسـتعمل في انضمام الأجزاء الخارجية بعضها إلى بعض، ففي التعبير عناية فائقة في كون الدين لم يكتمل طوره النوعي التام إلاّ بالولاية، وأمّا النعمة الدنيوية فلا تتمّ أجزاءها إلاّ بها أيضاً، وإن كان للأجزاء قوام مستقلّ، كمَن امتنع عن المحرّمات والفواحش فإنّه يتنعّم بالوقاية من مفاسدها الدنيوية، وهذا ممّا يبيّن الاختلاف الماهوي بين الإسلام في ظاهر اللسان وبين الإيمان في مكنون القلب ومقام العمل وهو الإسلام بوجوده الحقيقي.

    ____________

    1) سورة المائدة 5: 67.

    2) سورة المائدة 5: 3.


    الصفحة 419
    ثمّ إنّ في الآية تقييد رضا الربّ بكون الإسلام ديناً بالولاية، فالإسلام من توحيد الذات والتشريع (النبوّة) والمعاد وتوحيد الغاية معلّق رضا الربّ به بشرطية الولاية، فضلا عن العمل بفرائض الفروع.

    ونظير ذلك: ما في سورة الحمد (الفاتحة)..

    فالمصلّي عندما يقرّ لربّه في النصف الأوّل من السورة بالتوحيد في الذات ( الحمد لله ربّ العالمين )، والصفات ( الرحمن الرحيم )، وفي الغاية والمعاد ( مالك يوم الدين )، وفي التشريع ( إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ) في جميع الأُمور في الحياة الفردية والاجتماعية ; فإنّه يعود في النصف الثاني من السورة ليطلب الهداية إلى الصراط المستقيم ( اهدنا الصراط المستقيم ).

    فإنّ كلّ ما تقدّم من إقراره وتسليمه بالعقائد الحقّة لم يكفه حتّى يثمر ذلك في طيّه صراط التوحيد المستقيم، وهو صراط ثلّة في هذه الأُمّة ومجموعة موصوفة بثلاث صفات: ( صراط الّذين أنعمت عليهم ) أي منعم عليهم بنعمة خاصّة لهم دون سائر الأُمّة وهي نعمة الاصطفاء والاجتباء، كما في الاستعمال القرآني لاصطفاء الأنبياء والأوصياء.

    وفي هذه الأُمّـة قد أنعم الباري تعالى على أهل البيت (عليهم السلام) قربى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتطهير الخاص بهم، وأنّهم الّذين يمسّـون ويصلون إلى الوجود الغيبي العلوي للقرآن في الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ.

    والصفة الثانية: ( غير المغضوب عليهم )، وهي العصمة العملية، فلا يغضبون ربّهم قطّ.

    والصفة الثالثة: ( ولا الضالّين )، وهي العصمة العلمية..

    فجعل الولاية لهؤلاء ثمرة لإقرار المصلّي بالتوحيد في المواطن

    الصفحة 420
    الأربعة في النصف الأوّل من السورة.

    ونظير ذلك قوله تعالى: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى )..

    فإنّه جعل مودّة واتّباع وتولّي قربى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عدل كلّ الرسالة المتضمّنة لتوحيد الذات والصفات والتشريع والغاية لبيان أنّ توحيد الولاية هو ثمرة التوحيد في سائر المقامات، وهو الذروة والسنام، وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه للمسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم: " أخذوا بالشجرة وضيّعوا الثمرة "(1).

    وكذلك سائر الآيات الواردة في ولايتهم (عليهم السلام) تبيّن هذه الحقيقة الدينية..

  • وأمّا الروايات:

    فقد روى الفريقان مستفيضاً عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: " لو أنّ عبـداً عبـد بين الركن والمقام ألف عام ثمّ ألف عام ولم يحبّنا أهل البيت أكبّه الله على منخريه في النار "(2).

    وأخرج الطبراني في الأوسط، أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " الزموا مودّتنا أهل البيت، فإنّه من لقى الله عزّ وجلّ وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبـداً عمله إلاّ بمعرفة حقّنا "(3).

    ____________

    1) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة.

    2) شرح إحقاق الحقّ 9 / 491.

    3) المعجم الأوسط 3 / 26 ح 2251 ; وذكره الهيثمي في مجـمع الزوائد 9 / 172، وابن حجر في الصواعق، والنبهاني في الشرف المؤبّد: 96، والحضرمي في رشفة الصادي: 43.


    الصفحة 421
    وفي كثير من طرق العامّة: " وكان مبغضاً لعليّ بن أبي طالب وأهل البيت [ أو: آل محمّـد ] أكبّه... "(1).

    نعم، في غالب الطرق الوارد فيها: " مبغضاً " جعل الجزاء دخول النار، وفي الطرق الوارد فيها: " عدم محبّتهم "، أو: " عدم معرفتهم "، أو: " عدم ولايتهم " جعل الجزاء عدم قبول عمله وصيرورته هباءً منثوراً.

    وهكذا فـي طرقنا ; ففي صـحيح محمّـد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " كلّ مَن دان الله عزّ وجلّ بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضالّ متحيّر، والله شانئ لأعماله... وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق..

    واعلم يا محمّـد! إنّ أئمّـة الجـور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضـلّوا وأضـلّوا، فأعمالهم التي يعملونها ( كرماد اشـتدّت به الريحُ فـي يوم عاصف لا يقدِرون ممّا كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد )(2) "(3).

    وفي رواية عبـد الحميد بن أبي العلاء عن أبي عبـد الله (عليه السلام) في حديث، قال: " والله لو أنّ إبليس سجد لله بعد المعصية والتكبّر عمر الدنيا ما نفعه ذلك، ولا قبله الله عزّ وجلّ ; ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عزّ وجلّ

    ____________

    1) لاحظ: شرح إحقاق الحقّ 9 / 492 ـ 494، و 15 / 579، و 18 / 448، و 20 / 290 ـ 315، المستدرك على الصحيحين 3 / 149، الغدير 2 / 301، و 9 / 268..

    وأخرجه الطبراني والسيوطي والثعلبي والنبهاني، وابن حجر في الصواعق: 172. وغيرهم.

    2) سورة إبراهيم 14: 18.

    3) الكافي 1 / 140 ح 8، الوسائل 1 / 118 ح 297.


    الصفحة 422
    أن يسجد له، وكذلك هذه الأُمّة العاصية، المفتونة بعد نبيّها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد تركهم الإمام الذي نصّبه نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم، فلن يقبل الله لهم عملا، ولن يرفع لهم حسنة، حتّى يأتوا الله من حيث أمرهم، ويتولّوا الإمام الذي أُمروا بولايته، ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله ورسوله لهم "..

    وفي رواية ميسر: " ثمّ لقى الله بغير ولايتنا لكان حقيقاً على الله عزّ وجلّ أن يكبّه على منخريه في نار جهنّم "(1).

    وفي رواية أُخرى: " ولم يعرف حقّنا وحرمتنا أهل البيت لم يقبل الله منه شيئاً أبداً "(2)، ومثلها رواية المفضّل(3).

    وفي صحيح آخر لمحمّـد بن مسلم، عن أحدهما (عليه السلام)، قال: قلت: إنّا لنرى الرجل له عبادة واجتهاد وخشوع ولا يقول بالحقّ، فهل ينفعه ذلك شيئاً؟!

    فقال: " يا أبا محمّـد! إنّـما مثل أهل البيت مثل أهل بيت كانوا في بني إسرائيل، كان لا يجتهد أحد منهم أربعين ليلة إلاّ دعا فأُجيب، وإنّ رجلا منهم اجتهد أربعين ليلة ثمّ دعا فلم يستجب له، فأتى عيسى بن مريم (عليه السلام) يشكو إليه ما هو فيه ويسأله الدعاء، قال: فتطهّر عيسى وصلّى ثمّ دعا الله عزّ وجلّ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا عيسى بن مريم! إنّ عبدي أتاني من غير الباب الذي أُوتى منه، إنّه دعاني وفي قلبه شكّ منك، فلو دعاني حتّى ينقطع عنقه وتنتثر أنامله ما استجبت له. قال: فالتفت إليه عيسى (عليه السلام) فقال: تدعو ربّك وأنت في شكّ من نبيّه؟! فقال: يا روح الله

    ____________

    1) عقاب الأعمال: 250 ذيل ح 16، الوسائل 1 / 123 ذيل ح 312.

    2) علل الشرايع: 250 ح 7، الوسائل 1 / 123 ذيل ح 310.

    3) عقاب الأعمال: 244 ذيل ح 3، الوسائل 1 / 124 ح 314.


    الصفحة 423
    وكلمته! قد كان والله ما قلت، فادع الله لي أن يذهب به عنّي. قال: فدعا له عيسى (عليه السلام) فتاب الله عليه وقبل منه وصار في حدّ أهل البيت "(1).

    وقد جعل تعالى مودّة ذوي القربى سبيلا إليه فقال: ( ما أسألُكم عليه من أجر إلاّ مَن شاء أن يتّخذَ إلى ربّه سبيلا )(2)، وقد قال تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلةَ )(3)، فلم يكن التعبير: " فابتغوه " بل: " ابتغوا الوسيلة إليه "، وقال تعالى: ( ولله الأسماءُ الحُسْنى فادْعوهُ بها )(4)، فجعل الأسماء أبواباً لدعوته، والاسم آية للمسمّى وليس عينه.

    الثامنة:

    في تحديد معنى المستضعف وذوي العذر من الضلاّل القصّر ; فقد وردت عدّة آيات في تحديده:

    في قوله تعالى: ( إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا * فأُولئك عسى اللهُ أن يعفوَ عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً )(5)، فالآية تعدّد عدم قدرتهم على الوسيلة، وعدم دركهم السبيل إلى الحقّ.

    وقوله تعالى: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخرَ سيئاً عسى الله أن يتوبَ عليهم إنّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ )(6).

    ____________

    1) الكافي 2 / 294 ح 9.

    2) سورة الفرقان 25: 57.

    3) سورة المائدة 5: 35.

    4) سورة الأعراف 7: 180.

    5) سورة النساء 4: 98 ـ 99.

    6) سورة التوبة (براءة) 9: 102.