ولكن ممّا يؤسف له أنّنا لم نلمس حتّى الآن ما يشار إليه بالبنان، ولا زلنا نعاني من فتاوىً يصعب هضمها، تتفجّر في قلب الوحدة الإسلامية..
غير إنّا لم نيأس.. فهناك شعور متنام لإقامة مجامع فقهية تضطلع بتدوين موسوعات فقهية تأخذ بنظر الاعتبار آراء علماء المسلمين غير متقوقعة على مجتهد واحد، الذي قد يخطئ ويصيب.
وقد أُنشئ في الأزهر عام 1961 مجمع البحوث الإسـلامية، الخاصّ بتطوير الأزهـر، برئاسة ومسؤولية الأمين العـامّ، على أن يَعقـد هذا المجمـع مؤتمراً عامّـاً يدعـو إليه علمـاء العالم الإسلامي لمناقشة بحوث تطرح على طاولة البحث أمامـه.
وكان هناك علماء أعلام يحملون الهمّ الإسلامي، ويشعرون بالمسؤولية، أمثال الداعية الإسلامي الكبير الدكتور مصطفى السباعي ـ عميد كلّية الشريعة بجامعة دمشق ـ أخذ على عاتقه موسوعة الفقه الإسلامي، الذي تبنّته الكلّية، وصدر بذلك مرسوم جمهوري رقم 1711 بتاريخ 3 / 5 / 1956..
والغاية من الموسوعة جمع التراث الفقهي المتبعثر في كتب الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه، والتي تتضمّن
وقد كان من ثمار الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 اتّصال العلماء بين البلدين(1).
كما وحاولت جمعية الدراسات الإسلامية في القاهرة عام 1965 أن تقوم بعمل مدوّنة فقهية تراعي فيها التبسيط على وفق المذاهب السبعة: مذاهب السُـنّة الأربعة، ومذاهب الزيدية والإمامية والإباضية.
كما وإنّ مشروع الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية كان هامّاً جدّاً، وساهم في كتابته رجال أفاضل من أهل العلم.
وكانت هناك محاولة لم تتمّ في عهد الدولة العباسيّة، وهي أن يطبّق في كلّ الأقطار الإسلامية في ذلك العصر مذهب الإمام مالك، ولكن عدلوا عنه لأمرين:
الأوّل:
إنّه كان لا يزال حيّاً، ولم يرض هو بذلك.
والثاني:
إنّ الفقهاء المعاصرين له لم يجيزوا فرض رأي فقيه على المجتهدين الآخرين.
كما ونقل الدكتور عمر مختار القاضي في مقال له عن
____________
1- تاريخ التشريع الإسلامي.
وقال الدكتور مالك محمّـد عبـد السلام: " لو رجعنا للعهد النبوي الكريم لَما وجدنا سوى إسلام واحد، لا صفة له سوى الاسم بالإسلام لقوله تعالى: ( هو سمّاكم المسلمين )(2).
فإذا كانت السُـنّة هي العمل بكتاب الله تعالى وسُـنّة رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فكلّنا سُـنّة، وأيّ مسلم لا يلتزم بالسُـنّة فليس بمسلم، وإذا كانت الشـيعة هي محبّة أهل البيت والانتصار لهم، فكلّنا متشيّعون لأهل البيت ونحبّهم "(3).
وليس من الحقّ أن يضيّق على أهل العلم والرأي ـ بطريق مباشر أو غير مباشر ـ على أن يعتنقوا آراء معيّنة، ولا يسمح لهم بالعمل على وفق آرائهم فيما إذا كانوا مجتهدين، أو من المقلّدين لمجتهد أوصلهم الدليل إلى يقين الرجوع إليه والعمل على وفق رأيه.
ولعلّ من تلك الأحاديث حديث: " لا تشدّ الرحال " وتدارس مثل هذا وذاك بموضوعية يكون له الأثر الكبير، إن لم
____________
1- رسالة التقريب، الدورة الرابعة، 1417 / 1997.
2- سورة الحجّ 12: 78.
3- صحيفة الشرق الأوسط، الصادرة في 10 / 9 / 1998.
وكلّ ما نسمعه من أئمّة المساجد يتنافى مع شعارات الحجّ الوحدوية، وفلسفته الداعية إلى كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة.
____________
1- سورة البقرة 2: 197.
ترجمة الشـيخ البـلاغي(1)
نسـبـه:
هو: الشيخ محمّـد جواد بن حسن بن طالب بن عبّـاس ابن إبراهيم بن عبّـاس بن محمّـد علي البلاغي النجفي الربعي.
مولـده:
وُلد فى مدينة النجف الأشرف سنة 1282 هـ، الموافق لسنة 1865 م، من أُسرة علمية رفيعة العماد، توارثت المكارم كابراً عن كابر، وعُرفت بالفضيلة والكمال، ولمع في سماء هذه الأُسرة أفذاذ يشار إليهم بالبنان.
نشـأتـه:
ترعرع وشبّ واكتهل في محافل النجف الأشرف، التي هي مدارس في الفقه والأُصول والفلسفة، ونواد في الأدب
____________
1- اقتبسناها من ترجمته في مقدّمة تحقيق رسالته " الردّ على الوهّابية ".
لذا كان شاعراً مطبوعاً، ينشد التاريخ روائعه ـ التي سوف نتحف القارئ العزيز بمقاطع منها ـ، وقد ساهم في تأجيج الثورة في العراق، وإثارة العواطف ضدّ الإنكليز، والدعوة إلى الاسـتقلال.
كان شخصية موسوعية، له في كلّ علم مِغرفة، فكان المؤلّف الناجح، صاحب القلم المبارك الثرّ الذي لا ينضب، وقف بكلّ مراس وقوّة وبأس ضدّ التبشير المسيحي الذي استشرى في العراق وفي خارجه من البلدان العربية والإسلامية، فكانت له كتب قيّمة ومنها ما هو على شكل حواريّات.
وعندما أُذيع خبر وفاته زُيّنت الكنائس ابتهاجاً برحيله عن هذه الحياة الدنيا، فقد كشف الزيف والتحريف في الديانة المسـيحية.
أسـاتذتـه:
تتلمذ على أكابر من علماء عصره، كالشيخ محمّـد طه نجف، والشيخ محمّـد رضا الهمداني، والشيخ الآخوند محمّـد كاظم الخرساني ـ صاحب " كفاية الأُصول "، والسيّد محمّـد
وقد تَعْجَب عندما أقول لك: إنّ شيخنا المترجَم يتحدّث وبكلّ طلاقة بأربع لغات في ذلك العصر: العبرانية، والفارسية، والإنكليزية بالإضافة إلى لغته الأُمّ العربية ; وذلك عامل مهمّ دعاه أن يفهم الأناجيل وباللغة التي كُتبت فيها، فأبطل كلّ دليل يملكونه، وأسقط كلّ برهان اعتمدوه.
تلامذتـه:
تتلمذ على يده عدد كثير من أعيان الطائفة وعلمائها الّذين كانوا يحضرون مجلس درسه، وأذكر منهم:
1 ـ الشيخ مرتضى المظاهري النجفي، المتوفّى سنة 1414.
2 ـ السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي، المتوفّى سنة 1413.
3 ـ السيّد شهاب الدين محمّـد حسين الحسيني المرعشي النجفي، المتوفّى سنة 1411.
4 ـ الشيخ مجتبى اللنكراني النجفي، المتوفّى سنة 1406.
5 ـ الشيخ ذبيح الله بن محمّـد علي المحلاّتي، المتوفّى سنة 1405.
7 ـ الشيخ محمّـد المهدوي اللاهيجي، المتوفّى سنة 1403.
8 ـ الشيخ نجم الدين جعفر العسكري، المتوفّى سنة 1397.
9 ـ السيّد محمّـد هادي الحسيني الميلاني، المتوفّى سنة 1395.
10 ـ الشيخ علي محمّد البروجردي، المتوفّى سنة 1395.
11 ـ السيّد صدر الدين الجزائري، المتوفّى سنة 1394.
12 ـ السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المتوفّى سنة 1390.
13 ـ الشيخ محمّـد رضا آل فرج الله، المتوفّى سنة 1386.
14 ـ الشيخ محمّد علي الأُوردبادي، المتوفّى سنة 1380.
15 ـ الشيخ جعفر باقر آل محبوبة، المتوفّى سنة 1378.
16 ـ الميرزا محمّـد علي التبريزي المدّرس، المتوفّى سنة 1373.
17 ـ الشيخ مهدي بن داود الحجّار، المتوفّى سنة 1358.
19 ـ الشيخ إبراهيم بن مهدي القريشي.
وفاتـه ومرقده:
لقي ربّه رضوان الله عليه في النجف الأشرف ليلة الاثنين 22 شعبان 1352 هـ، الموافق 9 / 12 / 1933 م، وما أن انتشر خبر وفاته حتّى هبّت النجف الأشرف تبكي هذه المدرسة السيّارة، والسيّارة المدرسية التي أوصدت أبوابها، وظلّ تلامذتها حيارى.
مؤلفاتـه:
دبّج يراعه المبارك الكثير الكثير من المعارف والعلوم، حُرمنا فائدة بعضها الذي لم يطبع، وقد يوفّق الله من يتبرّع بطبعها، ومنها المطبوع، والذي ما أن يطبع حتّى ينفد، ولا أُريد أن آتي على كلّها، بل على نحو المثال لا الحصر نذكر منها:
1 ـ الهدى إلى دين المصطفى، في الردّ على النصارى.
2 ـ الرحلة المدرسية، في الردّ على النصارى.
3 ـ المسيح والأناجيل، في الردّ على النصارى.
4 ـ البلاغ المبين، في الإلهيّات.
6 ـ نصائح الهدى، في الردّ على البابية.
7 ـ داروين وأصحابه.
8 ـ أجوبة المسائل البغدادية.
9 ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن.
10 ـ تعليقة على مباحث البيع من كتاب " المكاسب " للشيخ الأنصاري.
11 ـ رسالة في الـبَـداء.
ومن شعره الجزل قصيدة في ذكرى مولد الإمام المهديّ المنتظَر (عليه السلام) ، مطلعها:
حيِّ شعبان فهو شهر سعودي | وَعدُ وصلي فيه وليلةُ عيدي |
وله من قصيدة في ذكرى مولد الإمام الحسين (عليه السلام) في الثالث من شعبان:
شعبان كم نعِمَت عينُ الهدى فيهِ | لولا المحرّم يأتي في دواهيهِ |
وأشرق الدين من أنوار ثالثه | لولا تغشّـاه عاشور بداجيهِ |
وارتاح بالسبط قلبُ المصطفى فرحاً | لو لم يَرُعه بذِكر الطفّ ناعيهِ |
رآه خيرَ وليد يستجار به | وخير مستشهَد في الدين يحميهِ |
قرّت به عين خير الرسل ثم بكت | فهلْ نهنّيه فيـه أم نعـزّيـهِ؟! |
وله قصيدة عالية المعاني في معارضة عينية ابن سينا، قال فيها:
نعمتْ بأنْ جاءت بخلق المبدعِ | ثمّ السعادة أن يقول لها: ( ارجعي ) |
خُلقت لأنفع غاية، يا ليتها | تبعت سبيل الرشد نحو الأنفعِ |
اللهُ سوّاها وألهمـهـا، فهـل | تنحو السبيل إلى المحلّ الأرفعِ؟! |
تغمّد الله الشيخ الجليل البلاغي برحمته، وأسكنه فسيح جنّته، وإن خفي عنّا عياناً، فهو بيننا علماً وعرفاناً، فنحن دوماً نتحدّث معه، فكتبه مرآة تعكس شخصيّته الفذّة.
ترجمة الشيخ الأُوردبادي(1)
هو: الشيخ محمّـد علي بن أبي القاسم الغروي الأُوردبادي.
وُلد في النجف الأشرف في 21 رجب 1312 هـ، الموافق 17 / 1 / 1895 م.
والنجف وادي العباقرة، ومدينة العلم، وريحانة الأدب، ونرى المكتبة العربية الإسلامية تلمع بدرر وغرر أُولئك العظام.
أكمل مقدّماته على فضلاء عصره، وانضمّ إلى حلقة تدريس والده رضوان الله عليه، وكان يتمتّع بذكاء وألمعية ممّا أهّله أن يرقى في درسه إلى الحضور عند الأساطين من فطاحل تلك الحقبة، مثل: الحجّة شيخ الشريعة الأصفهاني، الذي لازمه سنين عديدة.
وبعد وفاة هذا الأُستاذ آثر شيخنا المترجَم الحضور عند
____________
1- انظر: شعراء الغريّ 10 / 95 ـ 104.
وقد أجازه في رواية الحديث أكثر من ستّين عالماً، وقد جمع الشيخ الأُوردبادي بين فضيلتَي العلم والأدب.
كان يحمل همّ الأُمّة الإسلامية، يدافع عنها بكلّ ما أُوتي من حول وقوّة، وقد منحه الله يراعة ثرّة تصدّت للدفاع عن حياض العقيدة، والذود عن معالم الإسلام الذي واجه هجمات شرسة قاسية لا ترحم ولا تلين.
وهو فقيه نيّر، شهد باجتهاده الأكابر من أهل العلم، وشاعر مبدع طرق كلّ الأغراض الشعرية في شبابه ـ كما هو معروف على ألسنة معارفه ـ ولكنّه اشتهر في تراجمه كأحد شعراء أهل البيت، أو الشاعر الملتزم ; وها أنا أعرض عليك قارئي العزيز نموذجاً واحداً من شعره، وهي مقطوعة يستنهض بها الأُمّة الإسلامية تحت عنوان " بني الدين ":
بني الدين حتّامَ هذا الفشلْ | عداه المُنى من عداه العملْ |
ألا نهضة من مهاوي الخمو | ل أم سبق السيف فينا العذلْ |
أكلت من العلم أقلامنا | أم الشعب في راحتَيه شللْ |
صبونا ولكن بلا مهجة | لصفر الحواجب زرق المقلْ |
عداكم بني أُسرتي رشدكم | فما هكذا يوردون الإبلْ |
فلا يستخفنّـكم زهوها | فرُبّ شهيّ يجرّ العللْ |
أَمُشْتارَها عسلا فالحذار | سمام تداف بصافي العسلْ |
أُولئك رهطي وفيهم أَصول | إذا ناب دهر وخطب شملْ |
وأنتم بكم أرتجي حظوة | بدرك الأماني ونيل الأملْ |
هذا الكتاب والعمل فيه
وهذا الكتاب هو أوّل الكتابين اللذين ألّفهما الشـيخ البـلاغي (قدس سره)، يحاور فيهما علماء المدينة المنوّرة في أفكار طرحوها، وحملوا السلاح لتطبيقها، وقد ذكر هذين الكتابين في عداد مصنّفات الشيخ البلاغي (قدس سره) كلّ من ترجم له.
أمّا ثانيهما، فهو الكتاب المطبوع أوّلا في النجف الأشرف طبعة حجرية سنة 1345 هـ، والذي حقّقه السيّد محمّـد علي الحكيم، ونُشر مرّةً تحت عنوان " الردّ على الوهّابية " في مجلّة " تراثنا " العدد 35 ـ 36، السنة التاسعة، ربيع الآخر 1414 هـ، ومن ثُمّ أعادت مؤسّـسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث طبعه مستقلاًّ، وبنفس العنوان، ضمن سلسلة "ذخائر تراثنا " برقم 6.
ونُشر مرّةً أُخرى مستقلاًّ وبتحقيقه أيضاً، تحت عنوان " الوهّابية وأُصول الاعتقاد " ضمن سلسلة " على مائدة الكتاب والسُـنّة " برقم 17، غفلا عن مكان الطبع وتاريخه.
وبالرغم من أنّ الكتاب الأوّل ـ الذي بين يديك ـ كان قد طبع في النجف الأشرف سنة 1344 هـ، طبعة حروفية، إلاّ أنّ نسخه كادت أن تكون في عداد المفقودات التي لا أثر لها، وما
فقمنا بتقطيع نصّ الرسالة وتوزيعه بما يقتضيه الأُسلوب الفنّي الحديث، وخرّجنا الروايات والمنقولات على مصادرها الأصلية وعضّدناها بغيرها، كيما تكون الحجّة أقوى والبرهان أجلى.
وما أضفناه بين القوسين المعقوفتين ] [ هو إمّا من المصدر، أو من الكتاب الثاني للشيخ البلاغي (قدس سره) " الردّ على الوهّابية " ; لتتميم بعض المطالب وتوضيحها، وربّما كان ما أضفناه لضرورة السياق والنسق، ولم نشر إلى كلّ ذلك في الهامش لوضوحه.
وختـاماً:
لا يسعني هنا إلاّ أن أُقدّم شكري الجزيل إلى كلّ من أعان على إحياء هذا الأثر النفيس، وإخراجه بهذا الشـكل الجـديد،
اللّهمّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، ليعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والضلال من لهج بـه.
وهو الموفّق وبه نستعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّـد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.
محمّـد عبـد الحكيم الموسوي الصافي
9 / 3 / 1420 هـ