الصفحة 78

[ لفـظ الحديث ]

فهو في جامع مسلم، في روايته عن رجاله، عن وكيع(1)، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج، قال: قال لي عليٌّ:

" ألا أبعثك على ما بعثـني عليه رسـول الله (صلى الله عليه وسلم)؟! أنْ

____________

1- هو: وكيع بن الجرّاح بن مليح بن عَدِيّ بن رؤس، أبو سفيان الرُّؤاسي الكوفي، الإمام الحافظ، محدّث العراق.

ولد سنة 128 هـ، وقيل: سنة 129 هـ، وقيل: إنّ أصله من قرية من قرى نيسابور، وقيل: من الصُّفد، وروي عنه أنّه قال: وُلدت بأبة قرية من قرى أصبهان.

كان والده ناظراً على بيت المال بالكوفة.

قال الذهبي وابن حجر: قال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحداً أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع.

وقال الذهبي أيضاً: كان أحمد يُعظّم وكيعاً ويفخّمُه.

وقال أيضاً: قال محمّـد بن سعد: كان وكيع ثقة مأموناً، عالياً رفيعاً، كثير الحديث، حجّة.

وقال أيضاً: قال ابن عمّار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه منه، ولا أعلم بالحديث، كان جهبذاً.

انظر: سير أعلام النبلاء 9 / 140 ـ 168 رقم 48، تهذيب التهذيب 9 / 139 ـ 145 رقم 7695، تهذيب الكمال 19 / 391 ـ 404 رقم 7289.


الصفحة 79
لا تدع تمثالا إلاّ طَمَسْـتَه، ولا قبراً مُشْرِفاً إلاّ سَـوّيتَه "(1).

ونحوه إحدى روايات أحمد ولكنّه بدون لفظ " ألا "(2).

وفي جامع مسلم، في روايته عن يحيى القطّان، عن سفيان، قال: " ولا صورةً إلاّ طمستَها "(3).

وفي جامع الترمذي، وإحدى روايات أحمد: " أبعثك " من دون لفظ " ألا "، وبتأخير " ولا تمثالا إلاّ طَمَسْـتَه "(4).

ونحوه في جامع أبي داود بلفظ: " أن لا أدع "(5).


*  *  *

____________

1- صحيح مسلم 3 / 61 كتاب الجنائز ـ باب الأمر بتسوية القبر.

وأورده النسائي في سننه ـ بشرح السيوطي وحاشية السندي ـ 4 / 88 بلفظ: " ألا أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟! لا تدعَنّ قبراً مُشْرِفاً إلاّ سوّيتَه، ولا صورة في بيت إلاّ طمستَها ".

2- مسند أحمد 1 / 96.

3- صحيح مسلم 3 / 61 كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر.

4- سنن الترمذي 3 / 366 ح 1049، مسند أحمد 1 / 129.

وأورده البيهقي في السنن الكبرى 4 / 3 باختلاف يسير ; فـلاحـظ.

5- سنن أبي داود 3 / 212 ح 3218.


الصفحة 80

[ سـند الحـديث ]

وأمّـا سنده، فإنّه تشترك فيه روايات أحمد ومسلم والترمذي وأبي داود بـ " سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل ".

ولكن الروايات اختلفت:

فتارةً تذكر عن أبي وائل (أنّ عليّـاً قال لأبي الهيّاج) كما في رواية أحمد عن وكيع، ورواية أبي داود عن محمّـد بن كثير، ورواية الترمذي عن محمّـد بن بشّار.

وتـارةً تذكر عن أبي الهيّاج أنّه قال: " قال لي عليٌّ " كما في رواية أحمد عن عبـد الرحمن، ورواية مسلم عن وكيع.

وقد اضطربت رواية وكيع في ذلك.

هذا شأن الحديث في اضطرابه في سنده ومتنه.

على أنّ في سنده أبا وائل القاصّ عبـد الله بن بحير، وقد قال ابن حبّان: إنّه " يروي العجائب التي كأنّها معمولة، لا يُحتجّ به، [ وهو أبو وائل ]، وما هو بعبـد الله [ بن بَحِيْر ] بن رسّان(1)،

____________

1- كذا في الأصل ; وفي المصدر: " رَيْـسـان ".


الصفحة 81
ذاك ثقة " كذا في ميزان الذهبي وغيره(1).

ولا يخفى أنّ الجرح مقدّم على التوثيق.

نعـم، رواه عبـد الله بن أحمد في مسند عليّ (عليه السلام) بطريق ليس فيه أبو وائل، ولكن فيه شـيبان أبو محمّـد، وهو قَـدَريّ ; وقال أبو حاتم: " اضطُرّ الناس إليه بأَخَرَة "(2).

ومتنه: " لأبعثـنّك في ما بعثني فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أن أُسوّي كلّ قبر، وأن أطمس كلّ صنـم "(3).

وهذا ممّا يزيد في اضطراب متنه، ويبيّن أنّ المحلّ المبعوث إليه أبو الهيّاج فيه أصنام!


*  *  *

____________

1- ميزان الاعتدال 4 / 65 رقم 4227، كتاب المجروحين ـ لابن حبّان ـ 2 / 24 ـ 25، الضعفاء والمتروكين ـ لابن الجوزي ـ 2 / 116 رقم 1989.

2- تهذيب الكمال 8 / 419، ميزان الاعتدال 3 / 392 رقم 3764، تهذيب التهذيب 3 / 662 ذيل رقم 2911.

وأَخَرَة: أي: آخر كلّ شيء. انظر: الصحاح 2 / 577، لسان العرب 1 / 89، القاموس المحيط 1 / 376 مادّة " أَخَرَ ".

3- مسند أحمد 1 / 111، وسـنده: " حدّثنا عبـد الله، حدّثني شـيبان أبو محمّـد، ثنا حمّاد بن سلمة، أنبأنا يونس بن خبّاب، عن جرير بن حيّان، عن أبيه، أنّ عليّـاً (رضي الله عنه) قال لأبيه:... ".

وجاء في مسند أحمد 1 / 89 بسند آخر ولفظ يختلف قليلا هكذا:

" حدّثنا عبـد الله، حدّثني أبي، ثنا يونس بن محمّـد، ثنا محمّـد، ثنا حمّاد ـ يعني ابن سلمة ـ، عن يونس بن خبّاب، عن جرير بن حيّان، عن أبيه، أنّ عليّـاً (رضي الله عنه) قال: أبعثك في ما بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أمـرني أن أُسوّي كلّ قبر، وأطمس كلّ صنم ".


الصفحة 82

الصفحة 83

وأمّـا مضمون الحديث ومدلوله

فهو أنّه وارد في بعث خاصّ وواقعة خاصّة، فليُعرَف موضوع الواقعة وجهةُ البعث، ثمّ يسري من ذلك إلى أمثاله بفحوى الحكم ; ليُعرف أنّه هل كان البعث إلى قبور المشركين وآثار الجاهلية؟! التي يلزم أن تطمس آثارها ولا كرامة لها، كما يشير إليه ذِكر الصنم والتمثال، وإنْ أباه لفظُ التسوية وإطلاقه، كما سيأتي إن شاء الله!

أو أنّه بعثه إلى قبور مسـنَّمة لكي يردّها إلى سُـنّة التسـطيح؟!

فإنّ إهمال مورد الحديث الوارد في واقعة خاصّة يوجب الوهم في أخذ الحكم، وتبدّل الأحكام الشرعية.

ألا ترى أنّه رُويت أحاديث في أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله، وجرى التشديد بالمنع لنساء المسلمين عن البكاء؟!(1).

____________

1- صحيح البخاري 2 / 172 ـ 174 ح 47 ـ 51، صحيح مسلم 3 / 41 ـ 45، سنن أبي داود 3 / 190 ح 3129، سنن الترمذي 3 / 326 ـ 329 ح 1002 ـ 1004 و 1006، سنن النسائي 4 / 15 ـ 19، مسند أحمد 1 / 41 ـ 42 و ج 2 / 31 و ج 6 / 281، الموطّـأ: 226 ح 37، مسند البزّار 1 / 215 ح 104.


الصفحة 84
ولكنّ عائشة أبانت وجه الخطأ في ذلك بأنّ الراوي لم ينظر إلى مورد ما رواه، فقالت: " إنّما مرّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) على يهودية يُبكى عليها، فقال (صلى الله عليه وسلم): إنّهم لَيبكون عليها وإنّها لَـتُعذّب في قبـرها ".

وفي رواية أُخرى قالت: " رحم الله عمر، والله ما حدّث رسـول الله: إنّ الله لَيعـذِّب المـؤمنَ ببكـاء أهله عليه، ولكنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: إنّ الله لَيزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله [ عليـه ]..

وقالـت: حسـبكم القـرآن ( ولا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أُخرى )(1) ".

ذكر ذلك البخاري في جامعه، في كتاب الجنائز، في باب " يعذّب الميّت بـ [ بعض ] بكاء أهله [ عليه ] "(2).

وكذا النسـائي(3).

وكذا الترمذي وصحّحه، وذكر أنّ عائشة قالت في شأن ابن عمر: " غفر الله لأبي عبـد الرحمن، أمَا إنّه ما كذب(4)،

____________

1- سورة الأنعام 6: 164، سورة الإسراء 17: 15، سورة فاطر 35: 18، سورة الزمر 39: 7.

2- صحيح البخاري 2 / 172 ـ 173 ح 47 و 48.

3- سنن النسائي 4 / 17 ـ 18.

4- في المصدر: " لم يكذب ".


الصفحة 85
ولكنّه نسي أو أخطأ "(1).

وروى ذلك أيضاً أحمد في مسنده، في مسند عمر وابنه وعائشة(2).

وذكر أبو داود في سـننه نحو الحديث الأوّل، وفي الرواية أنّ عائشة قالت: " وَهِـلَ " بفتح الواو وكسر الهاء، أي: غلط وسَها، تعني ابن عمر(3).

وفي رواية " الموطّـأ " أنّ عائشة ذُكِر لها أنّ عبـد الله بن عمر يقول: " إنّ الميّت ليعذَّب ببكاء الحيّ.

فقالت: يغفر الله لأبي عبـد الرحمن، أمَا إنّه لم يكذب، ولكنّه نسي أو أخطأ، إنّما مرّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنّكم لَتبكون عليها، وإنّها لَـتُـعَـذَّب في قبرها "(4).


*  *  *

____________

1- سنن الترمذي 3 / 328 ـ 329 ح 1006.

2- مسند أحمد 1 / 41 ـ 42 و ج 2 / 31 و ج 6 / 281.

3- سنن أبي داود 3 / 190 ح 3129.

ووَهِلَ أو وَهَلَ: غلِطَ ونسيَ وسَها ووَهَمَ.

انظر: الصحاح 5 / 1846، الفائق في غريب الحديث 4 / 85، النهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 233، لسان العرب 15 / 416، تاج العروس 15 / 787 ـ 788، مادّة " وَهَلَ ".

4- الموطّـأ: 226 ح 37.


الصفحة 86

وأمّـا ألفـاظ الحديث

فلا يخفى من اللغة والعُرف أنّ تسوية الشيء من دون ذِكر القرين المساوى معه، إنّما هو جعل الشيء متساوياً في نفسه، فليس لتسوية القبر في الحديث معنىً إلاّ جعله متساوياً في نفسه، وما ذلك إلاّ جعل سطحه متساوياً.

ولـو كان المـراد تسـوية القبـر مع الأرض، لكان الواجـب ـ في صحيح الكلام ـ أن يقال: إلاّ سوّيته مع الأرض ; فإنّ التسوية بين الشـيئين المتغايرين لا بُـدّ فيها من أنّ يُذكَر الشـيئان اللذان تراد مساواتهما.

وهـذا ظاهـرٌ لكـلّ من يعـطي الكـلام حقّـه من النـظر، فلا دلالة في الحديث إلاّ على أحد أمرين:

أوّلهمـا: تسطيح القبور وجعلها متساوية برفع سنامها(1)، ولا نظر في الحديث إلى علوّها، ولا تشـبّث فيه بلفظ " المُشْـرِف " فإنّ " الشَـرَف " إنْ ذُكِر أنّه بمعنى " العُلُوّ "(2) فقد

____________

1- قبر مُـسَـنَّـم: إذا كان مرفوعاً عن الأرض ; وتسنيم القبر خلاف تسطيحه. انظر: لسان العرب 6 / 394 ـ 395 مادّة " سنم ".

2- القاموس المحيط 3 / 162، الصحاح 4 / 1379، النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 462، لسان العرب 7 / 90 ـ 91، تاج العروس 12 / 296 ـ 297، مادّة " شَرَفَ ".


الصفحة 87
ذُكِر أنّه من البعير سَنامه، كما في " القاموس " وغيره(1).

فيكون معنى " المُشرف " في الحديث هو: القبر ذو السَـنام ; ومعنى تسويته: هدم سَنامه.

ثانيهمـا: أن يكون المراد القبور التي يُجعل لها شُرَف من جوانب سطحها ; والمراد من تسويته أنّ تُهدَمَ شُرَفُه ويُجعَل مسطّحاً أجمّ، كما في حديث ابن عبّـاس: " أُمرنا أن نبني المدائن شُرَفاً، والمساجد جُمّـاً "(2).

وعلى كلّ حـال، فلا يمكن في اللغة والاستعمال أن يُراد من التسـوية ـ في الحديث ـ أن يُسـاوى القبرُ مع الأرض، بل لا بُدّ من أن يُراد منه أحد المعنيَـيْن المذكورَيْن.

وأيضـاً: كيف يكون المراد مساواة القبر مع الأرض مع أنّ سيرة المسلمين المتسلسلة: على رفع القبور عن الأرض؟!

____________

1- القاموس المحيط 3 / 162، لسان العرب 7 / 91، تاج العروس 12 / 297، مادّة " شَرَفَ ".

2- كنز العمّال 8 / 314 ح 23076.

والجُمّ ـ جمع أَجَمّ ـ: وهو البنيان الذي لا شُرَفَ له.

انظر: الصحاح 5 / 1891، الفائق في غريب الحديث 1 / 234، النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 300، لسان العرب 2 / 367، تاج العروس 16 / 121، مادّة " جَمَمَ ".


الصفحة 88
وفي آخر كتاب الجنائز من جامع البخاري، مسنَداً عن سفيان التمّار(1)، أنّه رأى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مُـسَـنَّماً(2).

وأسند أبو داود في كتاب الجنائز، عن القاسم، قال: " دخلتُ على عائشة فقلت: يا أُمّهْ! اكشفي لي عن قبر رسول الله وصاحبَيه.

فكشـفتْ [ لي ] عن ثلاثة قبور لا مُشْـرِفة ولا لاطِـئة "(3).

وأسند ابن جرير، عن الشعبي، أنّ كلّ قبور الشهداء

____________

1- هو: سفيان بن دينار التمّار، أبو سعيد الكوفي.

قال ابن حجر والمزّي: قال إسحاق بن منظور، عن يحيى بن معين: ثقة.

وقال أبو زرعة: ثقة.

وقال النسائي: ليس به بأس.

وقال ابن حجر أيضاً: ذكره ابن حبّان في " الثقات ".

انظر: تهذيب التهذيب 3 / 395 ـ 396 رقم 2513، تهذيب الكمال 7 / 346 ـ 347 رقم 2383، الثقات 6 / 402 ـ 403.

2- صحيح البخاري 2 / 212 ح 145.

3- سنن أبي داود 3 / 212 ح 3220، وفيه: " النبيّ " بدل " رسول الله ".

وأورده البيهقي في السنن الكبرى 4 / 3.

ولاطئة: أي لازقة بالأرض. انظر: الصحاح 1 / 71، القاموس المحيط 1 / 28، لسان العرب 12 / 280، تاج العروس 1 / 245، مادّة " لَطَـأَ ".


الصفحة 89
مسـنَّمة(1).

وأيضـاً: عن جعـفـر بن محـمّـد، عن أبيـه (عليهم السلام)، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رُفِـع قبرُه من الأرض شبراً(2).

وروي نحوه في " قرب الإسناد " و " العلل " و " التهذيب " من جوامع الشـيعة(3).

وفي حاشية جامع الترمذي، قيل: " السُـنّة أن يُرفَع القبرُ شـبراً "(4).

وقد روى ابن حبّان أنّ قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك(5) ; قاله الشيخ في " اللمعات "(6) ; انـتـهـى.

فهذه الروايـات تردّ رواية أبي الهيّاج لو أمكن حمل التسوية فيها على التسوية مع الأرض!

____________

1- كنز العمّال 15 / 736 ح 42932.

2- كنز العمّال 15 / 735 ح 42924.

3- قرب الإسناد: 155 ح 568، علل الشرائع 1 / 357 باب 255 العلّة التي من أجلها يُرشّ الماء على القبر ح 2، تهذيب الأحكام 1 / 469 ح 1538 في تلقين المحتضرين.

4- تحفة الأحوذي 4 / 128 و 130 ح 1054 باب 55 ما جاء في تسوية القبـر، وانظر: شرح صحيح مسلم ـ للنووي ـ 4 / 32 باب 31 الأمر بتسوية القبر.

5- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 8 / 218 ح 6601.

6- اللمعات الفريدة:، وانظر: معجم القبور 1 / 21.


الصفحة 90
ولأجل ذلك ذُكر في شرح جامع الترمذي عن شرح الشـيـخ، أنّ المـراد في الروايـة مـن تسـوية القبـر، تسـطيحه، لا تسويته مع الأرض، جمعاً بين الأخبار(1).

وحاصل الأمر ـ مضافاً إلى السيرة المتقدّم ذِكرها ـ: أنّك لا تكاد تجد مفتياً معتدّاً بفتواه يفتي بوجوب تسوية القبر مع الأرض، بحيث يجب هدمه وإزالة أثره لو كان مرتفعاً ; فإنّ الشافعي ـ المتعرّض للكراهة ـ جوّز ارتفاع القبر بمقدار يُعرف أنّه قبـر(2).

وقال النووي في شرح حديث أبي الهيّاج من جامع مسلم: " فيه: أنّ السُـنّة أنّ القبر لا يُرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، ولا يُسـنّم، بل يُرفع نحو شبر ويسطّح، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه.

ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أنّ الأفضل عندهم تسـنيمها "(3).

____________

1- تحفة الأحوذي 4 / 130، عن شرح صحيح مسلم ـ للنووي ـ 4 / 32 باب 31 الأمر بتسوية القبر.

2- سنن الترمذي 3 / 367 ذ ح 1049، وانظر مؤدّاه في: الأُمّ 1 / 458 كتاب الجنائز / باب الخلاف في إدخال الميّت القبر.

أقـول: للشافعي ـ نفسه ـ قبر مشاد في مدينة القاهرة بمصـر، يزوره الناس ويتبرّكون به!

3- شرح صحيح مسلم 4 / 32 باب 31 الأمر بتسوية القبر.


الصفحة 91
فلا تكاد تجد مفتياً معتنىً به يخالف السيرة والإجماع ويفتي بوجوب تسوية القبر مع الأرض وهدمه إذا كان أعلى منهـا.

وزيادة على ما دلّ على جواز الارتفاع ـ من السيرة العملية، والإجماع، والفتوى، والأحاديث المتقدّمة ـ أنّ حديث أبي الهيّاج ـ كما تقدّم إيضاحه ـ لا ربط له بتسوية القبر مع الأرض، بل لا يدلّ إلاّ على هدم سَنامِه أو شُـرَفِه.

ومهما تكن في هذا الحديث من دلالة، فإنّها لا مساس لها بالسقوف والقباب المبنيّة على حجرات القبور المحترمة لأجل انتفاع المسلمين المتقرّبين إلى الله بزيارتها، والسلام على أهلها، وتلاوة القرآن الكريم، وذِكر الله عندها، ووقايتهم من حرّ الشمس وصدمة البرد والمطر وأعاصير الرياح.

يزورونها لأجل جواز الزيارة ورجحانها والتسليم على الأموات، حسب ما ثبت بالسيرة والإجماع والأحاديث المتكاثرة المنـتـشـرة فـي المسـانيـد والجـوامـع، ومنهـا السـتّة المعروفـة و " الموطّـأ "(1).

____________

1- صحيح البخاري 2 / 171 ح 44، صحيح مسلم 3 / 63 ـ 65، سنن ابن ماجة 1 / 500 ـ 501 ح 1569 ـ 1572، سنن أبي داود 3 / 215 ـ 216 ح 3234 ـ 3235 و 3237، سنن الترمذي 3 / 370 ـ 371 ح 1054 ـ 1055، سنن النسائي 4 / 89 و ج 8 / 311، الموطّـأ: 232 ح 57، مسند أحمد 1 / 452 وج 3 / 38، مسند الشافعي ـ مع كتاب الأُمّ ـ 9 / 508، مصنّف عبـد الرزّاق 3 / 569 ح 6708 و ص 570 ـ 572 ح 6709 و 6711 ـ 6714 و ص 573 ـ 576 ح 6716 ـ 6723، الجعديات 2 / 61 ح 2007 و ص 92 ح 2098، مصنّف ابن أبي شيبة 3 / 223 ـ 225 ح 1 ـ 10، مسند أبي يعلى 1 / 240 ح 278 و ج 6 / 371 ـ 374 ح 3705 ـ 3707 و ج 9 / 202 ح 5299، مسـند الشاشي 1 / 395 ح 397، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 2 / 19 ح 1152 و ص 94 ح 1419 و ج 5 / 82 ح 4648 و ج 11 / 202 ح 11653 و ج 23 / 278 ح 602، عمدة الفقه: 40، السنن الكبرى 4 / 76 ـ 77، شعب الإيمان 7 / 14 ـ 22 ح 9287 ـ 9319، فردوس الأخبار 1 / 423 ح 3159 و 3162، جامع الأُصول 3 / 364 ذ ح 1682 و ج 11 / 152 ـ 157 ح 8666 ـ 8673، التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة: 145، الأذكار ـ للنووي ـ: 260 ـ 261، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 2 / 163 ح 977، الترغيب والترهيب 4 / 152 ـ 153 ح 1 ـ 5، جامع المسانيد والسـنن 27 / 376 ح 756، مجمع الزوائد 3 / 58 ـ 60 و ج 4 / 27، موارد الظمآن: 201 ح 792، جامع الأحاديث الكبير 3 / 232 ح 8343 و ج 6 / 463 ح 15991 و 15992، الجـامع الصـغير: 400 ح 6430 و 6431 و ص 528 ح 8715 ـ 8718 و ص 555 ح 9285 و 9286، كنز العمّـال 5 / 858 ـ 859 ح 14561 و ج 15 / 646 ـ 649 ح 42551 ـ 42568 و ص 651 ـ 657 ح 42582 ـ 42584 و ح 42586 ـ 42602، مـنـتـخـب كـنـز الـعـمّـال ـ بهامش مسند أحمد ـ 6 / 273 ـ 275.


الصفحة 92
وأمّـا ما رواه مسلم والترمذي، عن جابر: " نهى رسول الله أن تُجصَّص القبورُ، وأن يُبنى عليها، وأن تُوطَـأ "(1).

____________

1- صحيح مسلم 3 / 62، سنن الترمذي 3 / 368 ح 1052.


الصفحة 93
فإنّ النهي أعمّ من الكراهة التنزيهية، وضميمة الوطء شاهد لإرادتها.

والظاهر من البناء عليها هو البناء على حفرتها بالحجارة، لا بناء السـقف على حجرتها.

ويحتمل أن يكون المراد بناء الخيمة والفسطاط لإقامة الحِـداد وتعظيم المصيـبة، كما قيل إنّه من أعمـال الجاهلية التي لا غاية لها إلاّ إظهار الجزع من قضاء الله(1).

فلا نهيَ في الحديث عن بناء السقف لوقاية المؤمنين الزائرين، المتقرّبين إلى الله بزيارة القبور والدعاء للأموات وذِكر الله وتلاوة القرآن، حينما يتذكّرون الآخرة ويعملون لها عند زيارة القبور، ولإعانة هؤلاء على الخير والبرّ.

ففي " كنز العمّال " ومنتخبه، رواية الديلمي، عن جابر، عن رسول الله: " لا برّ أفضل من برّ أهل القبور، ولا يَصِلُ أهلَ القبور إلاّ مؤمن "(2).

____________

1- انظر مؤدّى ذلك في صحيح البخاري 2 / 199 ـ 200 باب الجريد على القبر، إرشاد الساري 3 / 510، فتح الباري 3 / 286، عمدة القاري 8 / 183.

2- كنز العمّال 15 / 656 ح 24600، منتخب كنز العمّال ـ بهامش مسند أحمد ـ 6 / 274، كلاهما عن فردوس الأخبار 2 / 446 ح 7939.


الصفحة 94
وفي (المنتخب) عن الرافعي، عن عليّ: " من مرّ على المقابر فقرأ فيها إحدى عشرة مرّة ( قل الله أحد ) ثمّ وهب أجره الأمواتَ، أُعطي من الأجر بعدد الأموات "(1).

وفي سنن أبي داود، عن ابن عمرو، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : " [ إنّه ] لو كان مسلماً فأعتقتم عنه [ أو تصدّقتم عنه ] أو حججتم عنه، بلغه ذلك "(2).

إذاً، فما ظنّك بالجلوس لذِكر الله، وقراءة القرآن، وإهداء الثواب للأموات الّذين لهم الحقّ الكبير في الإسلام، لكونهم من أهل السابقة والقربى من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والعلم، والصلاح، والدعوى(3) إلى الهُدى؟!

أفلا يكون إعداد المكان لهؤلاء الزائرين، لهؤلاء الأولياء لله، من التعاون على البرّ الذي أمر الله به، كما هو المقصود المعلوم من بانيها؟!

____________

1- منتخب كنز العمّال ـ بهامش مسند أحمد ـ 6 / 274، وانظر: كنز العمّال 15 / 655 ح 42596.

2- سنن أبي داود 3 / 118 ذ ح 2883.

3- الدَعْوى: أي الدُعاء، ومنه قوله تعالى: (وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين)، ودَعاه دُعاءً ودَعْوىً ودَعْوةً، والدَعْوة: المرّة الواحدة من الدعاء.

انظر: لسان العرب 4 / 359 ـ 360 مادّة " دعا ".


الصفحة 95
ومَن ذا الذي يريد ببناء السقوف والقباب غير ذلك، وقد بناها رجال مسلمون؟!

فلا ينبغي أن يُحمل أمرهم على غير الراجـح شرعاً(1)، ولا يجوز رميهم بالظنون السـيّـئة.


*  *  *

____________

1- الراجح شرعاً هنا هو حمل البناء على القبور على أنّه من الأُمور التي جوّزها الشارع ولم ينه عنها، وإلاّ لَما أقدم عليه المسلمون.