الصفحة 96

[ اتّخـاذ القبور مسـاجد ]

وقـال المُـفـتون:

" وأمّـا اتّخـاذ القبور مسـاجد، والصـلاة فيها، وإيقـاد السُـرُج عليها، فممنوعٌ [ مطلقـاً ] ; لحديث ابن عبّـاس: لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) زائرات القبور، والمتّخذين عليها المساجدَ والسُـرُج. رواه أهل السُـنّة "(1).

رواه أبو داود والنسـائي وابن ماجة(2).

وقال في " زهر الرُبى وفتح الودود ": " واتّخاذ المسـجد عليها، قيل: أن يجعلها قِبلة يُسجد إليها كالوثن "(3).

____________

1- مرّ تخريج الحديث مفصّلا في صفحة 60 هامش رقم 2 ; فـراجـع.

2- سنن أبي داود 3 / 216 ح 3236، سنن النسائي 4 / 94 ـ 95، ولم نجده في سنن ابن ماجة بهذا اللفظ، والذي فيه عن ابن عبّـاس وغيره هو بلفظ: " لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) زوّارات القبور " من دون ذِكر المساجد والسُرُج ; فانظر سنن ابن ماجة 1 / 502 ح 1574 ـ 1576.

والسُـرُج ـ جمع سِراج ـ: المصباح الزاهر الذي يُسْرَج بالليل ; ويُعبّر به عن كلّ مضيء.

انظر: لسان العرب 6 / 228، تاج العروس 3 / 401، معجم مفردات ألفاظ القرآن: 235، مادّة " سرج ".

3- وجدناه في حاشية السندي وليس في " زهر الربى "، وكلاهما مطبوعان بحاشية سنن النسائي ; فانظر سنن النسائي 4 / 94.


الصفحة 97

قلـت:

ولا تختصّ رواية النهي عن اتّخاذ القبور مساجد بمن عنوهم من أهل السُـنّة، فقد روته الشـيعة في جوامعهم، كـ: " الكافي " و " من لا يحضره الفقيه " و " العلل "(1).

وأنّه لا يجـوز السـجود على القبـر ; رواه في " التهـذيب " و " الاحتجـاج "(2).

وعلى وفق هذا النهي جرى عمل المسلمين جميعاً، قديمـاً وحديثـاً، ولـم يتّـخذ المسـلمون مسـجداً عـلى قبـر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبور الأولياء مطلقاً.

____________

1- الكافي 3 / 390 ح 12 و 13 كتاب الصلاة / باب الصلاة في الكعبة وفوقها وفي البيع والكنائس والمواضع التي تكره الصلاة فيها، كتاب من لا يحضره الفقيه 1 / 156 كتاب الصلاة / باب 38 في المواضع التي تجوز الصلاة والمواضع التي لا تجوز الصلاة فيها، علل الشرائع 2 / 56 ح 1 باب 75 العلّة التي من أجلها لا تتّخذ القبور قِبلة.

2- تهذيب الأحكام 1 / 461 ح 1504، الاحتجاج 2 / 583 رقم 357.


الصفحة 98

[ تعـريف المسـجـد ]

أمّا المسجد اللغوي(1):

فهو المحلّ الذي يُسْجَد عليه، ولا ترى في جميع المسلمين من يَسجد على قبر، أو يسجد له أصلا، حتّى في أوباشهم(2).

وأمّـا المسجد الاصطلاحي(3):

فهو العرصة والمحلّ الواسع الذي يُوْقَف للصلاة، وله أحكام شرعية خاصّة به يمتاز بها، فليس في مراقد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأولياء ما جُعِل كذلك، فإنّ الغرض من المراقد مناف للغرض من المسجد، فإنّ المسجد يوقف للصلاة بحيث لا يعارضها شيء.

ومراقد الأولياء تُعَدّ لإعانة الزوّار على قراءة القرآن، وذِكر الله، والدعاء للميّت.

فليس في المسلمين من اتّخذ على القبر مسجداً!

بل إنّ اتّخاذ المسجد ينافي غرضهم في إعدادها لإعانة الزوّار على الجلوس للتلاوة وذِكر الله والدعاء بالرحمة والرضوان

____________

1- المراد هنا: المسجد لغةً.

2- الأَوْباش ـ جمع: وَبَش أو وَبْش ـ: الأخلاط والسَفِلَة، والضُرُوب المتفرِّقون من الناس.

انظر: الصحاح 3 / 1024، النهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 145 ـ 146، القاموس المحيط 2 / 303، لسان العرب 15 / 200، تاج العروس 9 / 219 ; مادّة " وَبَشَ ".

3- المراد: المسجد اصطلاحاً.


الصفحة 99
لصاحب القبر.

فتأمّل أيّها الناظر إلى قول السائل: " في البناء على القبور واتّخاذها مساجد " وإلى سؤاله عن وجوب هدمها، وإلى جواب المفتين واحتجاجهم بصحّة الأحاديث الواردة في منعه، مع ما رووه عن ابن عبّـاس.

فإنّك تجد من كلّ كلمة معولا رفعوه على قبر رسول الله وقبّته لهدمهما!

فها هم يزعمون أنّ هذه الأبنية على قبر الرسول والأولياء هي مساجد يجب هدمها، ثمّ يضمّون إلى ذلك ما أشاروا إليه من الروايات المذكورة في الجوامع في رواية ابن عبّـاس وأبي هريرة وعائشة، عن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد "(1).

____________

1- صحيح البخاري 1 / 189 و 190 ح 96 و 97، صحيح مسلم 2 / 67، سنن النسائي 4 / 95 ـ 96 باب اتّخاذ القبور مساجد، سنن أبي داود 3 / 214 ح 3227، مسند أبي داود الطيالسي: 88 / ح 634، مسـند أحمد 1 / 218 و ج 6 / 34 و 121 و 255، مصنّف ابن أبي شيبة 2 / 269 ح 6، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 185 ـ 186، سـنن الدارمي 1 / 233 ح 1405، السنن الكبرى 4 / 80، السنن الصغير 1 / 308 ح 1189، جامع الأُصول 5 / 473 ح 3670 و ج 11 / 211 ح 8766، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 8 / 212 ح 6585، الأذكـار ـ للنووي ـ: 499، جامع الأحاديث الكبير ـ للسيوطي ـ 5 / 40 ح 17061 و 17063، كنز العمّال 7 / 236 ح 18762 و ص 344 ح 19188 و 19189.


الصفحة 100
فيـجـعلـون فـتـواهم ومسـتـندهم نصّـاً في هـدم قبـر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبّـته!

فتراهم بهذا قد شحذوا معاولهم ومساحيهم لهدمهما ومحو آثارهما، وعلى الإسلام السلام!

فيا لله لهذا الأمر الفظيع المحدَث في الإسلام والمدينة حرم الرسول، والفادح المشوم على العِلم والأُمّـة!


*  *  *


الصفحة 101

[ إيقـاد السُـرُج ]

وأمّـا إيقاد السُـرُج فليس الغرض منه في قبور الأولياء هو محض إضاءة القبر عبثاً وتنويهاً بذات القبر، وإنّما الغرض منه الإنارة للزائرين وإعانتهم على التلاوة في المصاحف وكتب الأذكار، ولذا تراهم يطفئونها إذا انقطع الزائرون وانقضى وقت الزيارة من الليل.

فيكون إيقادها بهذا النوع وهذه الغاية من نحو التعاون على البرّ المأمور به في الكتاب المجيد(1)، فيمتاز بالرجحان كما يمتاز ما أُهِلّ به لله عمّا أُهِلّ به لغير الله(2).

والأُمور تختلف بعناوينها وغاياتها، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ( إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما )(3) طاعةً لله، ولا يضرّ في ذلك أنّ المشركين كانوا يفعلون ذلك لأجل الصنمين إساف

____________

1- وهو قوله تعالى: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) سورة المائدة 5: 2.

2- ما أُهلّ به لله: ما ذُكر اسم الله عليه ; وما أُهلّ به لغير الله: ما ذُبح على اسم صنم ولم يُذكر اسم الله عليه.

3- سورة البقرة 2: 158.


الصفحة 102
ونائلة(1).

وقد روى الترمذي، عن ابن عبّـاس، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل قبراً ليلا فأُسرج له سراج(2).


*  *  *

____________

1- إساف ونائلة: رجل وامرأة فسقا في الحرم فمسخهما الله عزّ وجلّ حجرين، وصُيّرا بعد ذلك وثنين وعُبـدا تقرّباً بهما إلى الله ; وقيل: بل هما حجران نُحتا ومُثِّلا برجل وامرأة وسُمّيا بأسمائهما.

انظر: مروج الذهب 2 / 23.

2- سنن الترمذي 3 / 372 ح 1057 باب ما جاء في الدفن بالليل.


الصفحة 103

[ وقـفـيّـة البقيـع ]

وأمّـا قول السائل: " وإذا كان البناء في مسبّلة كالبقيع، وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبنيّ عليه، فهل هو غصب يجب رفعه لِما فيه من ظلم المستحقّين ومنعهم استحقاقهم، أم لا؟ ".

فيا لَلعجب ممّا فيه! مَن ذا الذي كان مالكاً لأرض البقيع، ثمّ وقفها وسبّلها لدفن الموتى، وبقيد عدم المراعاة لشؤون الأولياء منهم في زيارتهم، والإعانة على البرّ لزائريهم الكثيرين؟!

وليت شعري متى كان هذا الوقف والتسبيل؟! وأيّ تاريخ أو حديث يذكره لكي يصحّ من السائل هذا السؤال؟!

أليس غاية ما يُعرف من أرض البقيع أنّها مباحة باقية على إباحتها العامّة الأصلية، لم يُعلم بتعلّق حقّ بها لإنسان إلاّ بقدر ما تصرّف به منها بدفن ميّت أو بناء، فيكون ذلك حقّاً لا يُعارَض فيه ولا يُتعدّى عليه، على حدّ ما هو المعلوم في الدين من شأن المباحات وحكم التصرّفات بها.

إذاً، فيكون هدم البناء فيها ظلماً واعتداءً على المال

الصفحة 104
المحترم، وتصرّفاً محرّماً، وظلماً للمستحقّين للانتفاع، وضدّاً للتعاون على البرّ، وقطعاً لآثار الخير.

وإنْ لم نعلم ببقاء أرض البقيع على إباحتها العامّة الأصلية إلى حين البناء، فإنّه يكفينا استصحاب الإباحة، واسـتصحاب عدم عروض الملك(1)، وعدم الوقف بالقيد المتقدّم(2).

بل لو علمنا أنّها كانت ملكاً لواحد من الناس لكفانا استصحاب عدم وقفها، وكان علينا أن نحمل أمر الدفن والبناء فيها على الوجه الصحيح كما هو الشأن في أعمال المسلمين.

فالبناء محترم ما لم ينازع المالك ويثبت شرعاً غصب الباني، فإذا هدمه غير المالك للأرض يكون هدمه ظلماً وتعدّياً على المال المحترم.

وإذا كان البناء مسبّلا لانتفاع المسلمين الزائرين وإعانتهم على البرّ وأعمال الخير، كان هدمه ظلماً للمسلمين، وإيذاءً لهم، ومضادّة للتعاون على البرّ، وهتكاً لحرمة الأولياء ولحرمة حرم المدينة.


*  *  *

____________

1- الاستصحاب: هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناءً على ثبوته في الزمان الأوّل حتّى يقوم الدليل على التغيير.

2- تقدّم في الصفحة السابقة.


الصفحة 105

[ التوجّـه إلى القبـور ]

وقـال المُـفـتون:

" وأمّا التوجّه إلى حجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الدعاء، فالأَوْلى منعه كما هو المعروف من فقرات كتب المذهب ".

ويا لَلعجب! كيف يقال هذا وكتاب الله بين أيدينا ينادي في سورة البقرة: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم )(1).. واسع الرحمة، يريد التوسعة والتيسير على عباده، وهو عليم بنيّاتهم ودعائهم؟!

وقد صحّ واستفاض في الحديث أنّ النبيّ كان يصلّي النافلة على الراحلة(2) حيث توجّهت به في مقاصده (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في مسند أحمد والجوامع السـتّة وغيرها(3).

____________

1- سورة البقرة 2: 115.

2- الراحلة: كلّ بعير نجيب، سواء كان ذكراً أو أُنثى، وجمعها رواحل. انظر: لسان العرب 5 / 170 مادّة " رحل ".

3- مسند أحمد 2 / 7 و 20 و 38 و 75 و ج 3 / 73 و 378، صحيح البخاري 2 / 106 ح 127 و 128، صحيح مسلم 2 / 149 ـ 150، سنن ابن ماجة 1 / 379 ح 1200 و 1201، سنن أبي داود 2 / 9 ح 1224 ـ 1227، سنن الترمذي 2 / 182 ـ 183 ح 351 و 352، سنن النسائي 2 / 61، سـنن الدارقطـني 1 / 309 ح 1462 و 1463، السـنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 2 / 4 و 5، مصابيح السُـنّة 1 / 463 ح 953.


الصفحة 106
وقـال الترمـذي: " والعمـل عليه عند عامّـة أهل العلـم، [ لا نعلم بينهم اختلافاً ] لا يرون بأساً أن يصلّي الرجل على راحلته تطوّعاً حيثما كان وجهه، إلى القِبلة أو غيرها "(1).

قلـت:

وإلى الآن لم نسمع في الإسلام أنّ أحداً منع الداعين من التوجّه إلى غير القِبلة ; فكيف يُمنع الداعي إذا توجّه إلى الله برخصة الكتاب المجيد، وحُجّتِه، وسِعَةِ رحمة الله حينما يتوجّه إلى الله ويقصد تقديم قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بين يديه للاستشفاع بالنبيّ إلى الله في دعائه.

فإنّ النبيّ بشر متحيّز في مكان وجهة، فينبغي في أدب خطابه، والاستشفاع به، وطلب الشفاعة منه على القرب، أن يتوجّه إلى جهته ولا يُترَك جانباً أو ظِهْرِيّاً ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم )(2).

فكيف تُعارَض توسعةُ الله وتيسـيره، ويُمنع مَن يأخذ برخصة القرآن وحُجّته؟!

____________

1- سنن الترمذي 2 / 183 ذ ح 351.

2- سورة البقرة 2: 115.


الصفحة 107

[ التبـرّك والاسـتـشـفاع والتمسّح ]

وقـال المُـفـتون:

" وأمّا ما يفعله الجُهّال عند الضرائح من التمسّح بها، والتقرّب إليها بالنذور، ودعاء أهلها مع الله، فهو حرام، ممنوعٌ شرعاً، لا يجوز فعله أصلا ".

فنقـول:

[ الاسـتشـفاع: ]

أمّـا التقـرّب إلى الضـرائح بالنذور ودعاء أهلها مـع الله، فلا نعهد واحداً من أوباش المسلمين وغيرهم يفعل ذلك، وإنّما ينذرون لله بالنذر المشروع، فيجعلون المنذور في سبيل إعانة الزائرين على البرّ، أو للإنفاق على الفقراء والمحاويج، لإهداء ثوابه لصاحب القبر، لكونه من أهل الكرامة في الدين والقربى.

وكلّ من يزور هؤلاء يعرف أنّهم عباد الله الّذين لم يكن لهم محلّ عند الناس إلاّ بطاعتهم لله في دينه، وأنّهم عباد الله الّذين لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً.


الصفحة 108
ولكنّ المذنب يجعل العبد الصالح وسيلة إلى الله في الدعـاء، فيدعو الله متوسّلا إليه بحرمة الصالح وقرب منزلته لعلّما يوافق ذلك رضا الله بشـفاعته، وارتضائه لتوسّل المسـتـشـفع.

  وقد صحّ في الحديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علّم ضرير البصر أن يقول: " اللّهمّ إنّي أسالك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة.

يا محمّـد! إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتقضى.

اللّهمّ فشـفّعه فيّ ".

أسنده أحمد(1) عن عثمان بن حنيف(2)، وكذا ابن

____________

1- مسند أحمد 4 / 138.

2- هو: عثمان بن حُنيف بن وهب الأنصاري الأوسي القُبائي، أخو سهل بن حنيف، ووالد: عبـد الله، وحارثة، والبَراء، ومحمّـد.

شهد أُحداً وما بعدها، ولاّه عمر السواد، ثمّ ولاّه أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) البصرة، فلم يزل حتّى قدم طلحة والزبير، فقاتلهما، ثمّ توادعوا حتّى يقدم عليّ (عليه السلام) ، ثمّ كانت ليلة ذات ريح وظلمة، فأقبل أصحاب طلحة، فقتلوا حرسه ودخلوا عليه، ودعوه للخروج على عليّ (عليه السلام) فامتنع، فنتفوا لحيته وجفون عينيه، وسجنوه ثمّ أطلقوا سراحه، فلحق بعليّ (عليه السلام) وحضر معه معركة الجمل، ثمّ سكن الكوفة، وتوفّي في زمان معاوية.

انظر: سير أعلام النبلاء 2 / 320 ـ 322 رقم 61.


الصفحة 109
ماجة(1)، والترمذي وصحّحه(2)، والحاكم وصحّحه على شرط مسلم والبخاري(3)، وصحّحه السيوطي أيضاً في جامعه(4).

  وفي جامع البخاري: عن أنس(5)، أنّ عمر بن الخطّاب كان إذا قحطوا استسقى بالعبّـاس، وقال: " اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبـيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبـيّنا فاسقنا.

قال: فيُـسْـقَـوْن "(6).

____________

1- سنن ابن ماجة 1 / 441 ح 1385.

2- سنن الترمذي 5 / 531 ح 3578.

3- المستدرك على الصحيحين 1 / 458 ح 1180.

4- جامع الأحاديث الكبير 2 / 83 ح 4049.

5- هو: أنس بن مالك بن النضر، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجّاري، خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، خدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سنين، وقيل: ثمانية، وقيل: سبعة.

قـال البـلاذري: قال عليّ على المنبر: نشـدت الله رجلا سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خمّ: " اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه " إلاّ قام وشهد ; وتحت المنبر أنس بن مالك، والبراء بن عازب، وجرير بن عبـد الله، فأعادها، فلم يجبه أحد، فقال: " اللّهمّ من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها، فلا تخرجه من الدنيا حتّى تجعل به آية يُعرف بها ".

قال: فبرص أنس، وعمي البراء، ورجع جرير أعرابياً بعد الهجرة.. الخبر.

هو آخر من توفّي بالبصرة من الصحابة، بين سنتَي 90 ـ 93.

انظر: أنساب الأشراف 2 / 386، أُسد الغابة 1 / 151 رقم 258.

6- صحيح البخاري 2 / 75 ح 52.


الصفحة 110
  وأسند أبو داود الطيالسي(1)، وسعيد بن منصور في (سـنـنه)(2)، وأبو نعيـم في (الدلائـل)(3)، والبـيـهقي في (الدلائل)(4)، وابن عساكر(5)، والحاكم ـ وصحّحه على شرط مسـلم والبخاري ـ(6)، عن ابن عمر، ما ملخّـصه:

إنّ آدم قـال: يا ربّ أسألك بحقّ محمّـد إلاّ غفرتَ لي.

فقال الله تعالى: كيف عرفتَ محمّـداً ولم أخلقه بعد؟

قال: رأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلاّ الله، محمّـد رسول الله.

فقال الله تعالى: وإذ سألتني بحقّه فقد غفرتُ لك(7).

ومن المعلوم في الدين أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له الشفاعة والوسيلة، وقد تواتر في المعنى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ صلاة المصلّين عليه تُعرض عليه وتبلغه ويسمعها ويردّ السلام، وأنّ عِلمه بعد

____________

1- لم نعثر عليه في طبعتنا.

2- لم نعثر عليه في طبعتنا.

3- لم نعثر عليه في طبعتنا.

4- دلائل النبوّة 5 / 489.

5- لم نعثر عليه في طبعتنا.

6- المستدرك على الصحيحين 2 / 672 ح 4228 باختلاف يسير وبسنده عن عمر بن الخطّاب، وفيه: " هذا حديث صحيح الإسناد ".

7- انظر أيضاً: البداية والنهاية 2 / 256، وفاء الوفا 4 / 1371، كنز العمّال 11 / 455 ح 32138.


الصفحة 111
موته كعِلمه في الحياة.

ومن أراد الاطّلاع على شيء من ذلك فلينظر ـ أقلاًّ ـ إلى الجزء الأوّل من " كنز العمّال " في الصلاة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).

وروى ابن سعد أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تُعْرَض عليه الأعمال بعد وفاته، ويسـتغفر للمذنبين(2).

وقد دلّ القرآن الكريم والأحاديث المتواترة في المعنى

____________

1- كنز العمّال 1 / 488 ح 2139 ـ 2141 و ص 489 ح 2147 و ص 491 ح 2161 و ص 492 ح 2165 و ص 494 ح 2178 و 2181 و ص 497 ح 2193 و ص 498 ح 2195 ـ 2200 و ص 499 ح 2202 و ص 503 ح 2225 و ص 504 ح 2227 و ص 506 ح 2235 ـ 2237 و ص 507 ح 2242.

وانظر أيضاً:

مسند أحمد 4 / 8، سنن ابن ماجة 1 / 345 ح 1085 و ص 524 ح 1636 و 1637، سنن أبي داود 1 / 274 ح 1047 و ج 2 / 89 ح 1531، سنن النسائي 3 / 91، المستدرك على الصحيحين 2 / 457 ح 3577 وصحّحه على شرط الشيخين، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 3 / 249، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 1 / 216 ـ 217 ح 589، كتاب الصلاة على النبيّ ـ لابن أبي عاصم ـ: 49 ـ 50 ح 63 و 64، الصِلات والبِشر في الصلاة على خير البَشر: 50 ـ 52 ح 27 ـ 31 و ص 53 ـ 54 ح 33 و 34.

2- الطبقات الكبرى 2 / 149، وانظر: البداية والنهاية 5 / 209، مجمع الزوائد 9 / 24، الصِلات والبِشَر: 76 ح 91، جامع الأحاديث الكبير 4 / 241 ح 11337، الجامع الصغير: 229 ح 3771، كنز العمّال 11 / 407 ح 31903، إتحاف السادة المتّقين 9 / 177.


الصفحة 112
على أنّ للأموات ـ بعد الموت ـ حالةَ إدراك وشعور على اختلاف أحوالهم(1)، يُسألون في قبورهم، ويَسمعون مناديهم،

____________

1- فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون) سورة البقرة 2: 154.

وقال جلّ شأنه: (ولا تحسبنّ الّذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل...) سورة آل عمران 3: 169 ـ 171.

وقال تبارك وتعالى: (إنّ الّذين تَوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها...) سورة النساء 4: 97.

وقال عزّ اسمه: (حتّى إذا جاءتهم رسلُنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلّ عنّا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين) سورة الأعراف 7: 37.

وقال جلّ جلاله: (ولو ترى إذ يَتوفّى الّذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق) سورة الأنفال 8: 50.

وقال عزّ وجلّ: (إنّ الّذين تَتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألْقَوا السَلَمَ ما كنّا نعمل من سوء بلى إنّ الله عليم بما كنتم تعملون *... الّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين يقولون سلام عليكم) سورة النحل 16: 28 و 32.

وقال سبحانه: (فكيف إذا توفّتهم الملائكةُ يضربون وجوههم وأدبارهم) سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) 47: 27.


الصفحة 113
فريق منهم في النعيم فرحين، يسـتبـشرون بالّذين لم يلحقوا بهم، يَسألون مَن يجيئهم من الأموات، ويقولون في الميّت الذي لم يجئهم: " هوى "، ويعرفون زائريهم، ويردّون عليهم السلام، ويأنسـون بهم.

كما تكاثر ذلك في جوامع الحديث في أبواب شتّى، فلينظر ـ أقلاًّ ـ إلى كتاب الموت في الجزء الثامن من " كنز العمّـال "(1).

وهذا كلّه بديهي في الدين، ولا يجحده إلاّ من يجحد بقاء النفس بعد الموت من غير أهل الأديان.

وقد صحّ في الحديث أنّ في هذه الأُمّة المرحومة شفعاء

____________

1- كنز العمّال 15 / 646 ح 42556 و ص 649 ح 42567 و ص 656 ـ 657 ح 42601 ـ 42606 و ص 683 ـ 685 ح 42736 ـ 42741.

وانظر أيضاً:

المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 4 / 129 ـ 130 ح 3887 ـ 3889، تاريخ بغداد 6 / 137 ح 3175، تاريخ دمشق 27 / 65 ح 5743، التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة: 145، مختصر تاريخ دمشق 12 / 27 رقم 34، مجمع الزوائد 2 / 327، الجامع الصغير: 492 ح 8062، الحاوي للفتاوي 2 / 170 ـ 171، جامع الأحاديث الكبير 3 / 171 ح 7965، إتحاف السادة المتّقين 10 / 394.


الصفحة 114
إلى الله، وأنّ منهم من يشفع لأكثر من ربيعة ومضر، وللفِئام(1)، وللقبـيلـة.

ومن ذلك ما رواه أحمد وابن ماجة والحاكم ـ وصحّحه عـلى شـرط مسـلم والبـخـاري ـ، عـن الـحـارث بـن أُقَيْـش، عنـه (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).

وأحمد والترمذي، عن أبي سعيد(3).

ومَن هو أحقّ بالشفاعة من الرسول وآله والأولياء؟!

إذاً، فأيّ مانع يمنع من الاستشفاع إلى الله برسوله وآله وأوليائه؟!

ولا يخفى انفتاح باب المجاز في اللغة ودورانه في الكلام، وخصوصَ المجاز في الإسناد(4)، فإنّك إذا استشفعت

____________

1- الفِئام: الجماعة الكثيرة من الناس، لا واحد له من لفظه. انظر: الصحاح 5 / 2000، النهاية في غريب الحديث والأثر 3 / 406، لسان العرب 10 / 169، تاج العروس 17 / 30، مادّة " فَأَمَ ".

2- مسند أحمد 4 / 212، سنن ابن ماجة 2 / 1446 ح 4323 ولم يذكر فيه ربيعة، المستدرك على الصحيحين 1 / 142 ح 238 ولم يذكر فيه ربيعة، وصحّحه على شرط مسلم فقط.

3- مسند أحمد 3 / 20 و 63، سنن الترمذي 4 / 541 ح 2440.

4- المجاز في الإسناد: هو المجاز العقلي، وهو إسناد الفعل أو ما في معناه ـ من اسم الفاعل، أو اسم المفعول، أو المصدر ـ إلى غير ما هو له في الظاهر من حال المتكلّم، لعلاقة مع قرينة تمنع من أن يكون الإسناد إلى ما هو له.

راجع: جواهر البلاغة: 308.