ولسان الحديث، كما في رواية زيد بن أرقم: "إنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفونني فيهما"(2). ومقتضى عدم افتراق العترة عن القرآن الكريم، هو بقاء العترة إلى جنب القرآن إلى يوم القيامة، وعدم خلوّ زمان من الازمنة منهم، لانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض.
يقول ابن حجر: "وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم، للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لاهل الارض"(3).
الطائفة الثانية: روايات "لا تخلو الارض من قائم لله بحجّة":
ورد مضمون هذا الحديث بعبارات مختلفة في كلمات الاعلام من الفريقين منهم الاسكافي المعتزلي في المعيار والموازنة، وابن قتيبة في عيون الاخبار، واليعقوبي في تاريخه، وابن عبدربّه في العقد الفريد، وأبو طالب المكّي في قوت القلوب، والبيهقي في المحاسن والمساويء، والخطيب البغدادي في تأريخه وغيرهم(4).
يقول ابن أبي الحديد: "كي لا يخلو الزمان ممن هو مهيمن لله تعالى على عباده،
____________
(1) نفحات الازهار في خلاصة عبقات الانوار في إمامة الائمّة الاطهار، لحجّة التاريخ والبحث والتحقيق الامام السيّد حامد حسين الكهنوي، بقلم علي الحسيني الميلاني: ج 1، ص 185 ـ 186، الطبعة الاُولى.
(2) سنن الترمذي: ج 5، ص 664، ح 3786.
(3) الصواعق المحرقة: ص 149.
(4) المعيار والموازنة: ص 81; عيون الاخبار: ص 7; تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 400; العقد الفريد: ج 1، ص 265; قوت القلوب في معاملة المحبوب: ج 1، ص 227; المحاسن والمساويء: ص 400; تاريخ بغداد: ج6، ص 479; المناقب للخوارزمي: ص 13; مفاتيخ الغيب للرازي: ج 2، ص 192; فتح الباري في شرح صحيح البخاري: ج 6، ص 270، ح 3، وج 1، ص 274، ح 3.
وقال ابن حجر: "وفي صلاة عيسى (عليه السلام) خلف رجل من هذه الاُمّة، مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة، دلالة للصحيح من الاقوال، إنّ الارض لا تخلو من قائم لله بحجّة"(2).
أمّا في المجاميع الحديثيّة الشيعيّة، فقد وردت المئات من الروايات التي تؤكّد هذه الحقيقة، وهي أنّ الارض لا تخلو من حجّة لله تعالى، وأنّها لو خلت لساخت بأهلها. ويمكن مراجعة جملة منها في بحار الانوار، بحيث وصلت إلى حدود (120 رواية) بهذا المضمون أو ما يقرب منه. ومن أمثلة ذلك:
1 ـ عن الامام الصادق (عليه السلام): "ولولا ما في الارض منّا لساخت بأهلها، ثمّ قال: ولم تخلو الارض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله فيها".
2 ـ قال الصادق (عليه السلام): "لو لم يبقَ في الارض إلاّ رجلان لكان أحدهما الحجّة"(3).
الطائفة الثالثة: روايات "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة"، أو ما يقرب من مضمونه، مثل:
"من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة" أو "من مات وليس عليه إمام، فإنّ موتته موتة جاهليّة" أو "من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة".
وتناقلت كتب الحديث السنيّة فضلاً عن الموسوعات الحديثيّة الشيعيّة، هذا الحديث بألفاظ مختلفة، فقد نقله البخاري، ومسلم، وابن حنبل، وابن حبّان، والطبراني، والحاكم النيسابوري، وأبو نعيم الاصفهاني، وابن الاثير الجزري،
____________
(1) شرح نهج البلاغة: ج 18، ص 351.
(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري: ج 6، ص 385.
(3) بحار الانوار: ج 23، باب الاضطرار إلى الحجّة، ح 10 و24.
ولابدّ من الاشارة هنا إلى نكتة، وهي: قد يستشكل البعض على جملة من هذه الروايات التي ترد في مثل هذه البحوث بأنّها ضعيفة السند، إلاّ أنّ هذا الاشكال غير تام بحسب الموازين العلميّة الثابتة في محلّها، لانّ هذه الروايات ليست هي آحاد، حتّى يمكن الاشكال السندي فيها، وإنّما هي من الكثرة بمكان، بنحو إمّا أن تكون متواترة، أو قريبة من ذلك، ومن الواضح أنّه في مثل هذه الحالة لا مجال للبحث السندي فيها، طبعاً مع مراعاة الخصوصيّات والعوامل الموضوعيّة والذاتيّة التي أشار إليها استاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) في نظريّة حساب الاحتمالات، فإنّه مع الاخذ بعين الاعتبار تلك العوامل، فلا ريب في حصول الاطمئنان للباحث المنصف، في صدور كثير من هذه الاحاديث عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
____________
(1) صحيح البخاري: باب الفتن، ج 5، ص 13; صحيح مسلم: ج 6، ص 21، ح 1849; مسند أحمد: ج2، ص 83; الاحسان بترتيب صحيح ابن حبّان: ج 7، ص 49، ح 4554; المعجم الكبير للطبراني: ج 10، ص 355، ح 10687; المستدرك: ج 1، ص 77; حلية الاولياء: ج 3، ص 224; جامع الاُصول: ج 4، ص 7; مسند الطيالسي: ص 259; الكنى والاسماء: ج 2، ص 3; سنن البيهقي: ج 8، ص 156 ـ 157; المبسوط: ج 1، ص 113; شرح نهج البلاغة: ج 9، ص 100; شرح صحيح مسلم للنووي: ج 12، ص 44; تلخيص المستدرك للذهبي: ج 1، ص 77; تفسير ابن كثير: ج 1، ص 517; شرح المقاصد: ج 2، ص 275; مجمع الزوائد: ج 5، ص 218 ـ 219; كنز العمّال: ج 3، ص 200; تيسير الوصول: ج 2، ص 350; ينابيع المودّة: ص 117; خلاصة نقض كتاب العثمانيّة للجاحظ: ص 29.
المحور الثاني
عدد الائمّة
بعد أن ثبت في البحث السابق أنّ الامامة ظاهرة مستمرّة غير منقطعة، نحاول في هذا البحث الوقوف على أنّ الائمّة هل ينحصر عددهم في حدّ معيّن أم لا؟
تبنّى أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) حصر عدد الائمّة بإثني عشر إماماً، تبعاً لما بين أيديهم من الروايات الصحيحة الدالّة على ذلك.
حينئذ قد يثار إشكال على هذا الحصر، مؤدّاه أنّ هؤلاء إنّما اضطرّوا إلى ذلك لاسباب تأريخيّة أو سياسيّة ونحوها، وإلاّ فإنّ مقتضى ما تقدّم من البحث في المحور الاوّل، هو استمرار الامامة وعدم الوقوف بها عند حدٍّ معيّن.
غير أنّ إثارة مثل هذا الاشكال أمر غريب، خصوصاً ممّن يدّعي أنّه يريد الوقوف على هذه الابحاث من خلال الموازين العلميّة بالبحث والتحقيق. وذلك لانّنا عندما نرجع إلى صريح القرآن الكريم، نراه يعبّر عن الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى)(1)، ويقول في حقّه: (ولو تقوّل علينا بعض الاقاويل * لاخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا منه الوتين)(2). ثمّ رتب القرآن على ذلك وجوب الاخذ منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(3). وتأسيساً على ذلك كلّه بيّن دور الرسول الاعظم حيث قال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم ولعلّهم يتفكّرون)(4)، وهكذا قام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيان ما اُمر بإبلاغه للناس، لذا يقول الامام الرضا (عليه السلام): "إنّ الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شيء،
____________
(1) النجم: 3 ـ 4.
(2) الحاقّة: 44 ـ 46.
(3) الحشر: 7.
(4) النحل: 44.
ومن الواضح أنّ أهم ما ينبغي بيانه في أمر الامامة التي بها كمال الدين وتمام النعمة، بل هي التي عبّر عنها القرآن الكريم: (يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته)(3)، بعد أن بيّن (صلى الله عليه وآله وسلم) دوامها وعدم انقطاعها، هو بيان عددهم وتعيين أشخاصهم. وهذا ما نحاول الوقوف عليه في الابحاث اللاحقة.
ذكر المحقّق آية الله الصافي في كتابه القيّم (منتخب الاثر) أنّ الروايات التي ذكرت أنّ الخلفاء من بعد النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هم إثنا عشر، قد تصل إلى ما يتجاوز (270 رواية) من طرق الفريقين(4).
ولعلّ العدد أكثر من ذلك بكثير، كما يقول في (معجم أحاديث الامام المهدي) أنّ: (مصادر حديث أنّ الائمّة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إثنا عشر، وأنّهم من قريش أو من أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة، وقد أفرد لها بعضهم كتيّباً خاصّاً، وقد جمعناها فرأيناها تبلغ مجلّداً كاملاً، لذلك اخترنا منها هذه النماذج فقط، وقد نوفّق لاكمال تحقيقها من
____________
(1) المائدة: 3.
(2) الاُصول من الكافي: ج 1، ص 199، باب نادر جامع في فضل الامام وصفاته.
(3) المائدة: 67.
(4) منتخب الاثر في الامام الثاني عشر: ص 10، الطبعة الثالثة.
وكنموذج على ذلك فقد خرّج مضمون هذا الحديث كلّ من، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، والمعجم الكبير للطبراني، وحلية الاولياء، ومستدرك الحاكم، وصحيح مسلم بشرح النووي، ومشكاة المصابيح، والسلسلة الصحيحة للالباني، وعون المعبود فى شرح سنن أبي داود، والصواعق المحرقة، وتاريخ الخلفاء، وكنز العمّال، وغيرهم كثير(2).
ومن هذه الروايات: أخرج البخاري بسنده عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "يكون إثنا عشر أميراً ـ فقال كلمة لم أسمعها ـ فقال أبي: أنّه قال: كلّهم من قريش"(3). وفي صحيح مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش"(4). ويقول أحمد بن حنبل في مسنده عن مسروق، قال: كنّا جلوس عند عبدالله بن مسعود وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن! هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم يملك هذه الاُمّة من خليفة؟ فقال عبدالله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: "إثني عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل"(5).
____________
(1) معجم أحاديث الامام المهدي (عج): ج 2، ص 265، تأليف ونشر مؤسسة المعارف الاسلاميّة.
(2) صحيح البخاري: كتاب الاحكام، باب الاستخلاف، ج 4، ص 164; صحيح مسلم: ج 2، ص 119، كتاب الامارة، أخرجه بتسعة طرق; مسند أحمد: ج 5، ص 90 و93 و97 و106 و107; سنن الترمذي: ج4، ص 501; سنن أبي داود: ج 4، ص 106، ح 7279 و4281; المعجم الكبير للطبراني: ج 2، ص 238، ح1996; حلية الاولياء: ج 4، ص 332; مستدرك الحاكم: ج 3، ص 618; صحيح مسلم بشرح النووي: ج12، ص 201; مشكاة المصابيح للتبريزي: ج 3، ص 327، ح 5983; السلسلة الصحيحة للالباني: ح376; عون المعبود في شرح سنن أبي داود: ج 11، ص 262، شرح الحديث 4259; الصواعق المحرقة: ص12; تاريخ الخلفاء: ص 10; كنز العمّال: ج 13، ص 27.
(3) صحيح البخاري: ج 4، ص 164، كتاب الاحكام، باب الاستخلاف.
(4) صحيح مسلم: ج 2، ص 119، باب الناس تبع لقريش، أخرجه من تسعة طرق.
(5) مسند أحمد: ج 5، ص 90.
خصائص هذه الروايات:
تمتاز هذه الروايات التي ذُكرت بهذه الكيفيّة، وهذا العدد من الاسانيد والطرق من الصدر الاوّل إلى يومنا هذا، بمجموعة من الخصوصيّات هي:
الخصوصيّة الاُولى: إنّ هذه الروايات لا يمكن لاحد أن يتهم أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بوضعها واختلاقها، بعد أن آمنوا بأنّ عدد الائمّة إثني عشر، وذلك لورودها في أهم الصحاح والمسانيد السنيّة قبل ذكرها في المصادر الشيعيّة، وأنّ جملة من طرقها تعد موثوقة لديهم حسب الموازين الرجاليّة عندهم، مضافاً إلى أنّ هذا العدد ذُكر قبل أن يكتمل عدد الائمّة عند مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
وقد أشار إلى هذه الحقيقة جملة من المحقّقين، منهم سيّدنا الشهيد الصدر (قدس سره)حيث يقول: (قد أحصى بعض المؤلّفين روايات هذا الحديث النبوي الشريف عن الائمّة أو الخلفاء أو الاُمراء بعده، أنّهم إثنا عشر، فبلغت الروايات أكثر من (270 رواية)، مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة، بما في ذلك البخاري، ومسلم، والترمذي، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم على الصحيحين. وليست الكثرة العدديّة لهذه الروايات هي الاساس الوحيد لقبولها، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحّتها، فالبخاري الذي نقل هذا الحديث، كان معاصراً للامام الجواد (عليه السلام)، والامامين الهادي والعسكري (عليهما السلام)، وفي ذلك مغزى كبير، لانّه يبرهن على أنّ هذا الحديث قد سُجِّل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يتحقّق مضمونه، وتكتمل فكرة الائمّة الاثني عشر فعلاً، وهذا يعني أنّه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثّراً بالواقع الامامي الاثني عشري وانعكاساً له، لانّ الاحاديث المزيّفة التي تنسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخّر زمنيّاً، لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث، ذلك الواقع الذي يشكّل انعكاساً له.
الخصوصيّة الثانية: إنّ عدداً كبيراً من هذه الروايات من طرق الفريقين شبّهت هؤلاء الائمّة والخلفاء، بأنّهم كنقباء بني إسرائيل، كما في رواية أحمد، والحاكم النيسابوري، وغيرهما. أخرج أحمد عن مسروق قال: كنّا جلوس عند عبدالله بن مسعود، يقرئنا القرآن، فسأله رجل، فقال: يا أبا عبدالرحمن، هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم يملك هذه الاُمّة من خليفة، فقال عبدالله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "إثني عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل"(2). وفي رواية اُخرى لابن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يكون بعدي من الخلفاء عدّة أصحاب موسى"(3).
وقد ورد في التراث الشيعي عشرات الروايات التي تؤكّد الحقيقة السابقة، وشبهتهم بأنّهم عدّة نقباء بني إسرائيل أيضاً، يمكن الرجوع إليها في معجم أحاديث الامام المهدي(4).
ومقتضى هذا التشبيه كما يقول اُستاذنا السيّد محمّد تقي الحكيم، أن يكون هؤلاء الاُمراء معيّنون بالنص، وذلك لقوله تعالى: (ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا
____________
(1) بحث حول المهدي: آية الله السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر، ص 54، معاونيّة الرئاسة للعلاقات الدوليّة في منظمة الاعلام الاسلامي.
(2) مسند أحمد: ج 5، ص 90; الصواعق المحرقة: ص 12; تاريخ الخلفاء: ص 10.
(3) كنز العمّال: ج 13، ص 27.
(4) معجم أحاديث الامام المهدي: ج 2، ص 262.
الخصوصيّة الثالثة: إنّ هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الاسلامي، أو حتّى تقوم الساعة، كما هو مقتضى هذه الرواية التي جاءت في مسند أحمد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يزال الدين قائماً حتّى يكون إثنا عشر خليفة من قريش"(2).
وأصرح من ذلك روايته الاُخرى، عن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لايزال الامر في قريش ما بقي من الناس إثنان، قال: وحرّك اصبعيه يلويهما هكذا"(3).
الخصوصيّة الرابعة: إنّ هذه الروايات جميعاً أكّدت أنّ هؤلاء الخلفاء من قريش، بالاضافة إلى أنّ هناك عدد كبير من الروايات ذكرت خصائص اُخرى لهؤلاء الخلفاء والائمّة، إلاّ أنّها لم تأتِ في مصادر التراث السنّي، ولعلّنا نوفّق للاشارة إليها بعد ذلك.
لكن يبقى هناك تساؤل ملفت للنظر، هو أنّه بحسب الروايات التي وردت في الصحاح والمسانيد السنيّة، أنّ الاُمّة سكتت ولم تستوضح من النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مَنْ هم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر؟ خصوصاً وأنّ النبي الاعظم، في مواضع متفرّقة وأماكن مختلفة كان يؤكّد على هذه الحقيقة، بالنحو الذي لم تدع مجالاً للمحقّق المنصف، أن يشكك في مضمون هذه الروايات، وإنّما نجد أنّ جملة من أعلام القوم صاروا بصدد توجيهها بما يتلاءم مع الواقع التأريخي الذي وُجِد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن هنا تضاربت أقوالهم في توجيه هذه الروايات وبيان المراد منها.
____________
(1) المائدة: 12.
(2) مسند أحمد: ج 5، ص 86; صحيح مسلم: ج 6، ص 4.
(3) مسند أحمد: ج 2، ص 29.
ونتيجة لهذا التضارب لجأ القندوزي الحنفي إلى بعض المحقّقين حيث قال: (قال بعض المحقّقين: إنّ الاحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) إثنا عشر، قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان، عُلم أنّ مراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديثه هذا: الائمّة إثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه، لقلّتهم عن إثني عشر، ولا يمكن أن نحمله على الملوك الامويّة لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلاّ عمر بن عبدالعزيز، ولكونهم غير بني هاشم، لانّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كلّهم من بني هاشم، في رواية عبدالملك عن جابر، وإخفاء صوته (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا القول يرجّح هذه الرواية، لانّهم لا يحسنون خلافة بني هاشم)(3).
ولنرجع إلى التساؤل الذي أثرناه، وهو أنّه لماذا لم يسأل الاصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هم هؤلاء الخلفاء والائمّة، وهنا توجد عدّة احتمالات:
الاوّل: أنّ الاُمّة لم تهتم بذلك، على الرغم من الاهتمام الخاص الذي أولاه الرسول لبيان هذه الحقيقة، من خلال العشرات بل المئات من الروايات التي بيّنت أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
____________
(1) تاريخ الخلفاء: ص 12.
(2) الاُصول العامّة للفقه المقارن: ص 180.
(3) ينابيع المودّة: ج 3، ص 105، باب 77، في تحقيق حديث (بعدي إثنا عشر خليفة).
الثاني: أنّهم سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّ الرسول لم يهتم ببيان ذلك لهم، وهذا أيضاً لا يمكن قبوله، لانّه خلاف ما صرّح به القرآن بالنسبة إلى رسوله الامين، حيث قال: (وما هو على الغيب بضنين)(2)، بل هو مأمور ببيان ما نزل إليه من الامر الالهي (لتبيّن للناس ما نُزِّل إليهم) خصوصاً، أنّ ذلك الامر يرتبط بكمال الدين، بل بأساسه، لقوله تعالى: (وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته).
الثالث: أنّ الاصحاب سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبيّنه لهم، من خلال بيانات متعدّدة وفي مواقع مختلفة، وبأساليب متنوعة لكن الاجهزة الحاكمة حالت دون ذلك ومنعت عن تدوين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل وأمرت بإحراق كل ما كتب في هذا المجال، ونهت عن تدوين ما هو في صدور الاصحاب، وليس غريباً أن تقف السلطات التي أرادت أن تتسلّط على رقاب الاُمّة باسم خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتمنع من هو منها كالقطب من الرحى، دون نشر مثل هذه الاحاديث التي بيّنت أحقيّة الامام علي وأولاده بالخلافة والامامة من بعده، ومن هنا نستطيع الوقوف على جواب تساؤل طالما أشار إليه جملة من أعلام السنّة المتقدّمين، وردّدته بعض الاقلام المعاصرة، أنّه لو كانت الخلافة والامامة لعلي وأولاده من الاُمور التي أكّد عليها النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فلماذا اُصيبت بمثل هذه الضبابيّة والابهام، وصارت منشأ للنقض والابرام.
هو أنّ السلطات الحاكمة وأجهزتها الاعلاميّة، كانت تعمل بكلّ ما وسعها من
____________
(1) المائدة: 101.
(2) التكوير: 24.
المحور الثالث
تعيين مصاديق الائمّة
الواقع أنّ الاحاديث التي أشارت إلى أنّ الخلفاء اثنا عشر، عيّنت بنحو واضح، من هم اُولئك الخلفاء؟ وهذا هو مقتضى القاعدة في المسألة، لانّه من الطبيعي عندما يصرّح الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ خلفاءه من بعده اثنا عشر، لابدّ أن يذكرهم مباشرة أو بعد السؤال على الاقل، وهذا ما نجده واضحاً في التراث الشيعي الذي تكلّم عن هذه الحقيقة، ونحاول هنا الوقوف على بعض النماذج من هذه الروايات الكثيرة في المقام.
عن سلمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "الائمّة بعدي إثنا عشر، ثمّ قال: كلّهم من قريش، ثمّ يخرج قائمنا فيشفي صدور قوم مؤمنين، ألا إنّهم أعلم منكم فلا تعلّموهم، ألا إنّهم عترتي ولحمي ودمي، ما بال أقوام يؤذونني فيهم، لا أنالهم الله شفاعتي"(3).
____________
(1) الانفال: 30.
(2) الصف: 8.
(3) كفاية الاثر: ص 44، باب ما جاء عن سلمان الفارسي.
وبسند آخر، عن أبي ذر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل، وفيه: "... وبعلها سيّد الوصيين وإبنيها الحسين والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، وإنّهم إمامان إن قاما أو قعدا، وأبوهما خيرٌ منهما، وسوف يخرج من صلب الحسين تسعة من الائمّة معصومون قوّامون بالقسط، ومنّا مهدي هذه الاُمّة، قال: قلت: يا رسول الله فكم الائمّة بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل"(2).
وعن أيّوب الانصاري، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "أنا سيّد الانبياء، وعلي سيّد الاوصياء، وسبطاي خير الاسباط، ومنّا الائمّة المعصومون من صلب الحسين، ومنّا مهدي هذه الاُمّة. فقام إليه إعرابي فقال: يا رسول الله، كم الائمّة من بعدك؟ قال: عدد الاسباط وحواري عيسى ونقباء بني إسرائيل"(3).
وهذا الذي ذكرته الاحاديث ينسجم تماماً مع الخصوصيّات الاربع التي استفدناها في البحث السابق، وهي أنّهم إثنا عشر، وأنّهم معيّنون بالنص، وموجودون ما بقي الدين قائماً، وكلّهم من قريش، وبهذا تجد تلك الروايات تفسيرها الصحيح، بلا حاجة إلى ما تكلّفه السيوطي وغيره في بيان المراد منها.
على أنّنا في غنى عن هذه الروايات وغيرها، بحديث الثقلين نفسه، فهو الذي ترك بأيدينا الضابط الذي على أساسه يمكن معرفة خلفائه (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنّه جعل المقياس فيهم هو عدم افتراقهم عن القرآن الكريم حتّى يردا عليه الحوض، إذن فلنمسك بأيدينا هذا المقياس ونسبر به الواقع السلوكي لجميع من تسمّوا بالائمّة
____________
(1) كفاية الاثر: ص 35، باب ما جاء عن أبي ذر.
(2) كفاية الاثر: ص 36 ـ 38.
(3) كفاية الاثر: ص 113 ـ 114.
1 ـ دلالته على عصمة العترة:
وبيان ذلك يتم من خلال النقاط التالية:
أوّلاً: "اقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه، ومن البديهي أنّ صدور أيّة مخالفة للشريعة سواء كانت عن عمد أو سهو، أم غفلة، تعتبر افتراقاً عن القرآن في هذا الحال، وإن لم يتحقّق انطباق عنوان المعصية عليها أحياناً، كما في الغافل والساهي، والمدار في صدق عنوان الافتراق عنه، عدم مصاحبته لعدم التقيّد بأحكامه، وإن كان معذوراً في ذلك، فيقال فلان مثلاً، افترق عن الكتاب وكان معذوراً في افتراقه عنه، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتّى يردا الحوض.
ثانياً: على أنّ تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم، تجويز للكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أخبر عن الله عزّ وجلّ بعدم وقوع افتراقهما، وتجويز الكذب عليه متعمّداً في مقام التبليغ والاخبار عن الله في الاحكام وما يرجع إليها من موضوعاتها وعللها، مناف لافتراض العصمة في التبليغ، وهي ممّا أجمعت عليها كلمة المسلمين على الاطلاق، حتّى نفاة العصمة بقول مطلق.
يقول الشوكاني بعد استعراضه لمختلف مبانيهم في عصمة الانبياء: (وهكذا وقع الاجماع على عصمتهم بعد النبوّة، من تعمّد الكذب في الاحكام الشرعيّة، لدلالة المعجزة على صدقهم، وأمّا الكذب غلطاً، فمنعه الجمهور وجوّزه القاضي أبو بكر)(1).
ولا إشكال في أنّ الغلط لا يتأتّى في هذا الحديث لاصرار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تبليغه
____________
(1) إرشاد الفحول: ص 34.
2 ـ دلالته على تمييزهم بالعلم بكل ما يتصل بالشريعة وغيرها:
كما يدل على ذلك اقترانهم بالكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، لقوله تعالى:(ما فرّطنا في الكتاب من شيء)(2)، وقوله تعالى: (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء)(3). لذا ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم".
يقول ابن حجر: تنبيه: (سمّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن وعترته، وهي بالمثنّاة الفوقيّة، الاهل والنسل والرهط الادنون، الثقلين، لانّ الثقل كلّ نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كلّ منهما معدن العلوم اللدنيّة، والاسرار والحكم العليّة، والاحكام الشرعيّة، ولذا حثّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم، وقال: "الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت"، وقيل: سمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما. ثمّ إنّ الذي وقع الحث عليهم منه، إنّما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيّده الخبر السابق، "ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم"، وتميّزوا بذلك عن بقيّة العلماء، لانّ الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وشرّفهم بالكرامات الباهرة، والمزايا المتكاثرة، وقد مرّ بعضها)(4).
إذن، فهذا النص المبارك يثبّت لنا ضرورة عصمة العترة، مضافاً إلى عشرات الادلّة القرآنيّة والروائيّة التي لا مجال للوقوف عليها في هذه العجالة.
نعم، قد يقال: أنّ العترة عنوان عام يمكن أن يشمل غير الائمّة الاثني عشر، الذين تمسّك بهم الشيعة الاماميّة، لانّه كما ثبت في محلّه، أنّ القضيّة لا تثبت
____________
(1) الاُصول العامّة للفقه المقارن: ص 166.
(2) الانعام: 38.
(3) النحل: 89.
(4) الصواعق المحرقة: ص 149، مطبعة دار الطباعة المحمدية بمصر.
ولكن هناك طرق عديدة من خلالها يمكن تعيين مصاديق العترة وأهل البيت نعرضها بإيجاز:
الطريق الاوّل: وهو الطريق المباشر لتعيينهم من خلال الروايات المنقولة عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي تنص عليهم بأسمائهم.
منها: ما ذكره في (ينابيع المودّة) عن كتاب (فرائد السمطين) بسنده عن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: قدِم يهودي يقال له نعثل، فقال: يا محمّد أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين، فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك. قال: سل يا أبا عمارة. فقال: يا محمّد، صف لي ربّك. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز العقول أن تدركه، والاوهام أن تناله، والخطرات أن تجده، والابصار أن تحيط به، جلّ وعلا عمّا يصفه الواصفون..." ـ إلى أن قال السائل ـ: صدقت. فأخبرني عن وصيّك من هو؟ فما من نبي إلاّ وله وصي، وإنّ نبيّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ وصيّ علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمّة من صلب الحسين"، قال: يا محمّد، فسمّهم لي، قال: "إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجّة محمّد المهدي"(2).
____________
(1) الامام الصادق: ص 199.
(2) منتخب الاثر: ص 97، الباب الثامن، فيما يدل على الائمّة الاثني عشر بأسمائهم.
وقد أحصى الصافي الگلپايگاني في كتابه (منتخب الاثر) أكثر من خمسين رواية في هذا المجال، وقال بعد ذلك: (النصوص الواردة في ساداتنا الائمّة الاثني عشر، بلغت في الكثرة حدّاً، لا يسعه مثل هذا الكتاب، وكتب أصحابنا في الامامة وغيرها مشحونة بها، واستقصاؤها صعب جدّاً)(2).
الطريق الثاني: وهو طريق نقلي أيضاً، ولكنّه طولي، ونعني به: أنّ النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يعيّن بعضاً من هؤلاء الائمّة من بعده، ثمّ يقوم كلّ واحد من هؤلاء بتعيين الخليفة الذي يأتي بعده وهكذا، ومنها:
أ ـ الروايات الكثيرة التي نصّت على عصمة الامام علي (عليه السلام) وهي متواترة بين الفريقين، مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار"(3)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمّار: "يا عمّار إن رأيت عليّاً قد سلك وادياً، وسلك الناس وادياً آخر،
____________
(1) إكمال الدين: ج 1، ص 252، باب 23، ح 2.
(2) منتخب الاثر: ص 145.
(3) شرح نهج البلاغة: ج 18، ص 72، باب 77.
من هنا قال أبو القاسم البجلي وتلامذته من المعتزلة: (لو نازع علي عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلّ سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدّم عليه، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنّه مالك الامر وصاحب الخلافة، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لانّه قد ثبت عنه في الاخبار الصحيحة أنّه قال: "علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار"، وقال له غير مرّة: "حربك حربي وسلمك سلمي")(2).
لذا قال (عليه السلام) عن نفسه في مواضع متعدّدة من النهج: "اخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله... وأنّ الكتاب لمعي، ما فارقته مذ صحبته"(3). ونعلم جميعاً أنّه صحب الكتاب وهو دون العاشرة.
وقال أيضاً: "أيّها الناس، إنّي قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الانبياء بها اُممهم، وأدّيت إليكم ما أدّت الاوصياء إلى من بعدهم، وأدّبتكم بسوطي، فلم تستقيموا، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا، لله أنتم، أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق، ويرشدكم السبيل"(4).
وقال أيضاً: "والله ما كتمت وشمة، ولا كذّبت كذبة"(5).
وقال أيضاً: "فاتقِ الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني الله منكم لاعذرنّ إلى الله فيك، ولاضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلاّ دخل
____________
(1) كنز العمّال: ج 11، ص 613 ـ 614، ح 32972.
(2) شرح نهج البلاغة: ج 2، ص 297، باب 37.
(3) نهج البلاغة: خطبة رقم 122.
(4) نهج البلاغة: خطبة رقم 182.
(5) نهج البلاغة: خطبة رقم 16.